المسرح في الصالات

بعد انتهاء زمن الغناء الجميل للشيخ سلامة حجازي، تطلَّع فريق من جمهور المسرح إلى البديل، فلم يَجِد أمامَه غير منيرة المهدية وإخوان عكاشة. ولكن غناءهما كان أقرب إلى طريقة الشيخ سلامة، وكأنه نوع ممسوخ من الأصالة القديمة دون تجديد أو ابتكار يواكب العصر. وبعد شيوع الأنواع الكوميدية من قِبَل الفِرَق الكبرى، أمثال: الريحاني وعلي الكسار، وغيرهما من الفِرَق الصغرى أمثال: فوزي منيب، ومحمد كمال المصري، ويوسف عز الدين … إلخ هذه الفِرَق؛ لم يجد فريق من الجمهور المتطلِّع إلى الغناء الأنواع الكوميدية الخفيفة الممتزجة بالغناء.

وأخيرًا وجد هذا الفريق بغيته في الصالات والكازينوهات، التي كانت تُقدِّم جميع الأنواع والأشكال الترفيهية، ومنها التمثيل المسرحي القائم عَلَى الكوميديا والغناء، والإسكتشات المُفعَمة بالمنولوجات الخفيفة، والاستعراضات القائمة عَلَى الإبهار البصري والسمعي، الممتزجة بجميع الأنواع الراقصة عربيًّا وأجنبيًّا. وهكذا استطاعتِ الصالات والكازينوهات أن تجذب فريقًا كبيرًا من جمهور المسرح، خصوصًا في أوقات أزمات المسارح والفِرَق الكبرى، وأيضًا في أوقات الحروب، وبالأخص الحرب العالمية الثانية. هذا بالإضافة إلى أن أسعار دخول هذه الأماكن أقلُّ بكثير من أسعار دخول المسارح.

ومن الجدير بالذكر أن المسرحيات والإسكتشات التي كانت تُقدَّم في هذه الصالات والكازينوهات لا يستغرق عرضها أكثر من ساعة، وأقل من ذلك في أحيان كثيرة، وأن أغلب موضوعاتها كانت اجتماعية كوميدية خفيفة، وفي أحيان كثيرة كانت خيالية لا تمتُّ للواقع بصلة، وهذا هو النوع المطلوب لروَّاد هذه الأماكن، الذين ينشدون التغييب عن واقعهم، فلا يريدون إيقاظ العقول بقدْر إمتاع النفوس والشهوات. وفي بعض الأحيان نجد أغلب الموضوعات المقدَّمة في هذه الأماكن هي موضوعات مأخوذة بتصريف من المسرحات الطويلة التي كانت تُمثَّل من قِبَل الفِرَق الكبرى، ومن ذلك موضوعات صالة ببا عز الدين التي كانت مأخوذة من مسرحيات نجيب الريحاني.

وعلى الرغم من شيوع هذه الصالات والكازينوهات فترة طويلة من الزمن، إلا أن ظهورها لاقَى هجومًا مضادًّا منذ البداية. فقد كافح عبد الحميد سعيد، رئيس جمعية الشُّبَّان المسلمين في مصر عام ١٩٢٨، ظهور هذه الصالات،١ وبالأخص ما تقدِّمه من رقص خليع لا يتناسب مع عاداتنا الشرقية ومعتقداتنا الدينية. ولكن محاولته هذه لم تُكلَّل بالنجاح؛ لأن تيار هذه الصالات بمساعدة جنود الاحتلال، وبعض الجاليات الأجنبية، كان أقوى بكثير من إمكانيات الجمعية.
أمَّا المحاولة الثانية، فكانت عام ١٩٣٣، عندما لاحظت لجنة الرقابة المسرحية بوزارة الداخلية أن هذه الصالات تُقدِّم بعض المسرحيات دون أن تأخذ تصريحًا من الرقابة عَلَى تمثيلها، أسوة بالمسرحيات الطويلة للفرق المسرحية؛ لذلك خصَّصت الداخلية بعض الموظفين لمراقبة ما يحدث في هذه الصالات، وتقديم التقارير لما يُخِلُّ بالآداب فيها.٢

ولكن هذه المحاولة وغيرها لم تستطع أن تَقِفَ أمام تيار هذه الصالات الجارف، الذي كان يبتلع كل محاولة لإيقافه، وذلك بمساندة الأعيان والأثرياء والشخصيات السياسية والثقافية التي كانت من روَّاد هذه الأماكن. واستطاعت هذه الصالات أن تؤثِّر سلبًا عَلَى بعض الفِرَق المسرحية الكبرى، التي كانت متزامِنة في العمل معها. بل واستطاعت أن تجذب من هذه الفرق رموزها وأعمدتها الفنية كما سنرى. وإحقاقًا للحق فكانت لهذه الصالات والكازينوهات إيجابية خاصة، تمثَّلت في ظهور بعض النوابغ في التمثيل والغناء، ما كان يظن المرء منَّا أن بدايتها أو نهايته الفنية كانت في هذه الأماكن!

١  انظر: مجلة «المصور» ٢ / ٣ / ١٩٢٨.
٢  انظر: جريدة «المقطم» ١٠ / ٢ / ١٩٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤