الشعر والمسرح

يُسمَّى عهد الملكة — اليصابات أحيانًا — بعصر الغناء أو بالعصر المُغنِّي، ويصدق عليه هذا الوصف لأنه العهد الذي وجد فيه روح العصر أغنيته التي تناسبه من منبعه الذي انبثقت منه دعوة الإنسانيين وما يتصل بها من الدعوة إلى إحياء العلوم والفنون.

فليس عهد الملكة اليصابات بالعهد الذي وُلدت فيه المنظومة الغنائية كما لا يخفى، ولا هو — على كثرة الأغاني فيه — بالعهد الذي يفوق العهود التي سبقته كثرة في أنواع النشيد؛ لأن تلك العهود لم تخلُ من أنواع للأناشيد يتغنى بها العامة أو الخاصة ويشيدون فيها بأبطال الأساطير أو كرامات القديسين أو أحاديث العشاق على ضروب شتى من الأوزان والأساليب.

ولكن عهد اليصابات كان في إنجلترا أول عهد راجت فيه «الموشحة» الإيطالية كما نظمها بترارك أكبر الشعراء الإنسانيين، ونترجم هذا الضرب من الأغاني Sonnet بالموشحة، وقد يترجم بالزجل لتشابه الموشحة والزجل في القوافي والأغصان والنوبات والخرجات والأقفال على اصطلاح الوشاحين والزجالين، غير أن الموشحة أقرب دلالة من الزجل؛ لأنها وُضِعت في الأصل للمنظومة التي تتكرر فيها القوافي اثنتين اثنتين تشبيهًا لها بالعقد الموشح ذي السمطين، وهذا هو الغالب على أغنية عهد اليصابات كما اقتبسها الشعراء الإنجليز.
وقد اقتبس هذا الوزن من الإيطالية شاعران شابان هما توماس ويات Wyatt (١٥٠٣–١٥٤٢) وهنري هوارد (١٥١٧–١٥٤٧) فنقل أولهما طريقة بترارك بغير تصرف فيها واتبع زميله هذه الطريقة ببعض التصرف في ترجمة شعر فرجيل، ثم شاعت هذه الأغاني الجديدة ونظم فيها سياسي من حاشية اليصابات هو الوزير الأديب سير فيليب سدني كما نظم فيها بعده شكسبير وغيره من معاصريه.
ولما نهض التأليف المسرحي نظمًا ونثرًا في اللغة الإنجليزية بقيت له، بطبيعة الحال، صبغته الواقعية الحسية التي استمدها من البيئة والتاريخ، وبقيت له معها صبغته الدينية الأخلاقية التي استمدها من تقاليد القرون الوسطى وعُرف الفروسية، ولكنه احتفظ من ناحيته الفنية بصبغة الدعوة التي ابتعثته من غيابة النسيان فاتخذ قدوته وقالبه من فن رومة القديمة، وتداول المعنيون بالمسرح روايات أديبين من مؤلفي التمثيليات كان لهما حظ الشهرة إلى عصر الميلاد في اللغة اللاتينية السهلة ولغة اللهجة الدارجة التي كانت تستخدم يومئذ في كتابة الملاهي والفكاهات على الخصوص، فانبعث اسم بلوتوس Plautus (٢٥٤–١٨٤ق.م) واسم سينكا (٤–٦٥م) كأنهما من مؤلفي الجيل.

وكانت اللاتينية بلهجاتها أعم اللغتين القديمتين بين الإنجليز؛ لأنها لغة الدولة الرومانية التي كانت إنجلترا جزءًا منها في بعض تاريخها، ولأنها لغة الكنيسة الغربية التي تبعتها الأمة الإنجليزية إلى أن حدث الانقسام بينها وبين البابا في عهد هنري الثامن أبي الملكة اليصابات، بيد أن اللغة الإغريقية لم تكن مجهولة بين الإنسانيين؛ لأنهم في جملتهم من زمرة المثقفين أو طبقة العلية التي توسعت في دراسة الإغريقية وآدابها بالجامعات، ونظرت إلى ثقافتها كأنها حلية لا غنى عنها من شمائل الرفعة والجاه.

ومن الواضح أن حركة الإنسانيين لا تقوم في مبدئها بمعزل عن أنصار المعرفة وأنصار الإقبال على الحياة، فهي في بواعثها ووسائلها حركة من حركات العلم واليسار، ويكفي أن نُلِمَّ بأسماء بعض القائمين علياه لنعلم أنها رسالة المعرفة في عصر الفتح والإقدام والتطلع إلى المستقبل على ثقة ورجاء، فقد كان الشابان اللذان نقلا الموشحة من أرفع طبقات النبلاء المثقفين، وكان رائدهما الأول — سير فيليب سدني — وزيرًا من كبار وزراء المملكة، وعناه من أجل هذا أن يكتب رسالته المشهورة في الدفاع عن صناعة القريض، وكان مما قاله فيها: إن اسم الشاعر باللغة اللاتينية كفيل أن يدل على قداستها في نظر الأقدمين؛ لأنه اسم يشير إلى الإلهام والنظر أو النبوءة، وقريب منه في جلالة شأنه اسم الشاعر باللغة الإغريقية؛ لأنه يفيد معنى الصانع ويُشبِه معنى الخلق في مجاراة الطبيعة والتفوق عليها، واستطرد من الكلام على الشعر في اللاتينية والإغريقية إلى الكلام على الشعر المقدس في العبرية، فذكر منه المزامير، وقال إنها من الكلام الموزون، فلا يجوز الغضُّ من صناعة تختارها لغاتُ الحضارة والعقيدة للتعبير عن أشرف المقاصد وأرفع الأفكار.

ولولا قوة الإنسانيين في المجتمع الحديث لما تسنَّى لسلطان الدولة برُمَّتها أن يعزِّز الدعوة إلى إحياء الفنون والعلوم والإقبال على الحياة في وجه الجامدين المتعصبين للتقاليد بين شعب مشهور بالمحافظة عليها والتريث في تبديلها، أو في وجه المجددين الذين أرادوا التجديد في شعائر الدين؛ سخطًا على رذائل البذخ والفساد التي استرسل فيها فريق من أقطاب الدين قبيل عصر النهضة وفي إبان ذلك العصر المتناقض العجيب.

ولقد كاد مجلس المدينة يتمرد على أوامر الملكة لما أذنت للممثلين أن يعرضوا صناعتهم داخل أسوار العاصمة، فإن التمثيل كان عند المحافظين المتشددين محسوبًا من صناعات الخلاعة والابتذال، وكان الممثلون يُسلَكون في عداد الأفاقين والشُطَّار واللصوص، ويطاردهم الشرطة ما لم تكن في أيديهم شهادة بالانتماء إلى أحد النبلاء وذوي الأقدار يقبلهم للتمثيل في قصره بين خاصته وذويه، وظل الحال كذلك إلى ما قبل نهاية القرن السادس عشر بقليل، ولعل المحافظين لم ينكروا تلك الصناعة اعتسافًا في أيام المتطهرين وما قبلها؛ لأن التمثيل إنما كان نوعًا من أنواع التهريج والشعوذة والألعاب البهلوانية قبل أن تستقل الرواية المهذبة بفن المسرح بزمن طويل، وكان المشتغلون به يرودون المدن والقرى متنقلين في الفرق الجوالة ولا تؤمن طائلتهم إذا سنحت لهم غرة من سكان الحضر والريف.

على أن المثقفين من دعاة الإحياء والإقبال على الحياة لم يكن في طاقتهم أن ينهضوا بهذا الفن لو كان قصارى الأمر فيه أنه دعوة من دعوات المعرفة والذوق تروجها فئة من السادة والعلماء. وإنما نجحوا في دعوتهم لأنها صادفت رغبة قوية بين سكان مدينة تمتلئ عامًا بعد عام بألوف الوافدين من أنحاء المملكة في طلب العمل واللهو الجديد، ويكاد أن ينحصر في فن التمثيل وأن يكون في هذا الفن تلبية لشوق الوطن كله إلى تمثيل مفاخر القوم وتصويرها على المسرح في صور المجد والبطولة، وكان هذا الباب من أبواب الرواية المسرحية فنًّا تمليه رغبة الجمهرة الغالبة من العامة والسواد؛ إذ لم يكن معهودًا في روايات الإغريق والرومان، ولم يكن مما يشتغل به هواة الفن في الجامعات والقصور، وهم الذين اشتهروا يومئذ باسم أذكياء الجامعة University wits وعالجوا التمثيل كما عالجوا التأليف.

ويصح أن يُقَال إن العلية والسواد معًا كانوا يدًا واحدة في تشجيع هذا الفن الجديد، وإن معارضيه من المتطهرين لم يخذلوه بمعارضتهم بل أضافوا إلى لذَّات الإقبال عليه لذة الثمرة المحرمة التي لا تُبَاح كل الإباحة ولا تُحرَّم كل التحريم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤