المؤلف

وُلدت المسرحية الإنجليزية قبيل مولد شكسبير في منتصف القرن السادس عشر، وسُمِّيت بالمسرحية الحديثة لأنهم نظروا إليها نظرة المقابلة بين الفن الوطني الناشئ والفن الروماني العتيق في أواخر أطواره، عند زوال الدولة الرومانية.

وكانت المسرحية الحديثة فتحًا كسائر الفتوح التي تتحقق بين المقاومة والرغبة، فلم تكن طريقها ممهدة سهلة، بل كانت هي التي فتحت الطريق ومهدته ولم تستغرق في ذلك وقتًا يزيد على نصف قرن؛ لأن عوامل الإقبال كانت أكبر وأقوى من عوامل الإدبار، فظهرت المسرحيات الأولى حوالي سنة ١٥٥٠ ولم يبدأ القرن السابع عشر حتى أوفت على التمام، فلم تزحزحها من مكانها إلا مسرحية جديدة أخرى جاءت في إبان عصر العلم الحديث، بين أواسط القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

كان التجديد في القرن السادس عشر غلابًا ماضيًا في طريقه بين محافظة المتطهرين وطلاقة الإنسانيين، وكان التمثيل كله رجسًا منبوذًا في رأي الأولين لا يبالي هذا الإنكار من جانبهم؛ لأنه كان على ثقة من مؤازرة العصر المقبل وعلى رأسه صفوة العلية النبلاء، وهم قادة العصر بفضل المعرفة وقادته بفضل الجاه في وقت واحد؛ فلم تعوقه مقاومة المتطهرين بل كانت من أسباب سرعته وانطلاقه، كأنها جذبة السهم من الوتر المشدود، تشده إلى الخلف لتدفعه إلى الأمام، ولولا ذلك لما بلغت المسرحية تمامها في ذلك الزمن الوجيز.

كان الكاتب المعاصر جوسون Gosson (١٥٥٤–١٦٢٤) لسان حال المحافظين المتشددين، وكان شعاره في حملته على المسرحية الجديدة أنها فن بلا روح، أو أنها فن أضاع روحه؛ لأن جوسون كان يلتمس روح الفن في القداسة التقليدية، ولم يكن لهذه القداسة محل ظاهر في المسرحية الجديدة التي تتناول الإنسان على سجيته أو على علاته، وتكشف عنه ألفافًا بعد ألفاف من حجب الرياء التي طوته فيها موروثات العرف والعقيدة.

وكان مارلو رائد المسرح في عصر شكسبير لسان حال الغلاة من المجددين يقول: إن الدين لعبة … وإنه «لا خطيئة أقبح من الجهالة.» وشعاره المفهوم أن المسرحية الجديدة قد وجدت فكرها ولم تضيع روحها؛ لأن الروح لا تضيع مع المعرفة، وإنما مضيعة الروح الجهالة الجهلاء.

وكان العصر بحاجة إلى مذهب قوام بين المذهبين، فكان قوامه في عالم المسرح مذهب شكسبير معتدلًا متوسطًا بين الإيمان بالمعرفة والإيمان بالغيب؛ لأن في الأرض والسماء أمورًا لا يحلم بها عقل الإنسان، وعقل الإنسان مع هذا موفور الحق مسموح له بدعاوى القوة والعظمة وأعذار الضعف والقصور.

ولعل المعرفة لم تكن وحدها كفؤًا لمناضلة العادات المتراكمة من بقايا القرون الوسطى لو لم تصاحبها الحماسة الوطنية وتتجه معها إلى وجهتها في تلك الحقبة من نشأة المسرحية الجديدة، فإن هذه المسرحية نشأت في إبان يقظة الأمة والدولة واتجاههما معًا إلى مطاولة المجد الروماني في مظهره القديم ومظهره الجديد، فلهج العصر كله بمساماة رومة القديمة في السيادة واتساع السلطان، ولهج العصر كله بحق الكنيسة الوطنية في وجه الحق المطلق من جانب أحبار رومة وأئمة الدين المرسَلين من قبلهم إلى الأقطار الأجنبيَّة؛ وأصبح «الاستقلال» بالفن فخرًا وطنيًّا ونزعة نفسية تمتزج بالأنفة وحب المعرفة فتعصف بعقبات العادة والعرف كلما اعترضتها في سبيلها، وراق للناقد ميرز Meres أن ينظر إلى نهضة الفن في بلاده من هذه الناحية، فقال: «إذا عُدَّ بلوتس وسينكا أبرعَ كُتَّاب اللاتين في الملهاة والمأساة، فإن شكسبير أبرعُ من كَتَب للمسرح في هذين الفنَّيْن.»١
ومن ظواهر هذه النزعة المستقلة أن القوم سلكوا في مسرحهم المسلك الذي يوافقه ويوافقهم ولم يتقيَّدوا بشروط المسرح القديم في قواعد التأليف أو التمثيل، وكان الكاتب الإيطالي كسَتلڨترو Caslivetro (١٥٧٢) قد اقتبس من كتاب أرسطو شرط الوحدة في الحادث والوحدة في الزمن، وأضاف إليهما شرط الوحدة في المكان لأنه لم يرد في النسخة المحفوظة من كتاب أرسطو الذي وصل إليه، وتناقل المترجمون إلى اللغات الأوروبية هذه الشروط؛ فقيَّدوا مدة المسرحية بيوم أو ما يزيد على اليوم بقليل، وقيَّدوا موضوعها بحادث متصل الأجزاء لا ينفصل جزء منها عن سائرها دون إخلال بزبدة الرواية أو غايتها، وقيَّدوا مجال الحادث بمكان واحد أو بمجال تزدحم فيه الوقائع في أضيق الحدود كما جاء في الفقرة السادسة والعشرين من شعريات الحكيم اليوناني القديم، ونُقِلت هذه القواعد إلى اللغة الإنجليزية واطلع عليها العارفون باللغات في مراجعها من اللاتينية واليونانية، ولكنها أُهمِلت في بيئة المسرح كما أُهمِلت آراء الحكيم في بيئة العلوم التجريبية، وجاء الشاعر الناقد درايدن Dryden (١٦٣١–١٧٠٠) بعد جيل شكسبير، فقال: إن الحكيم لم يشاهد من التمثيل غير مسرح بلاده، ولو أنه شاهد روايتنا لغيَّر ما رآه.

وقد ذكر ميرز اسم شكسبير فريدًا بين المؤلفين الذين ضارعوا كتَّاب الرومان المشهورين في ذلك العصر؛ لأنه أجاد فن المأساة وفن الملهاة وكان وحده ندًّا لبلوتس وسينكا في هذين الفنين، ولكن ميرز ذكر معه أكثر من ثلاثين مؤلفًا تخصص بعضهم للمأساة وبعضهم للملهاة، وجاءت في كتب تاريخ الأدب أسماء ثلاثين — أو نيف وثلاثين — آخرين عاشوا في عصر شكسبير بين سنة ١٥٥٠ وسنة ١٦٢٥، ويُضاف إليهم المؤلفون المجهولون ممن بقيت رواياتهم ونُسِيَت أسماؤهم وهم لا يقلون عن عشرة على حسب أسماء الروايات، وهذه جمهرة من مؤلفي المسرح لم تجتمع في أمة واحدة وفي حقبة واحدة قبل ذلك العصر ولا بعده إلى هذا العصر ولا بعده إلى هذا العصر الحديث، ولا شك أن المسرحية الجديدة لم تلقَ هذا الإقبال العميم لأنها جديدة وحسب، وإنما لقيته ووجدت الإقبال عليه من المؤلفين والممثلين والنظارة والرعاة الحماة؛ لأنها تنبئ عن ميلاد جديد في حياة الإنسان، ولأنها ترجمان جيل قد اهتدى إلى روحه ولم يضيعها كما قال جوسون أديب جماعة المتطهرين.

على أن الإقبال العميم كفيل بسعة الانتشار وكثرة المؤلفين ولكنه لا يكفل — حتمًا — أن يرتفع فن المسرحية إلى ذروته العليا في جميع العصور ومنها العصر الذي نشأت فيه، إنما يكفل هذا عبقرية تعطي العصر فوق ما أخذت منه وتنتمي إلى جميع الأجيال ولا تنتمي إلى فرد جيل أو قبيل، وقد كانت المسرحية الجديدة خليقة أن تبلغ مداها من سعة الانتشار على أيدي أولئك المؤلفين الذين بقيت أسماؤهم أو نُسِيَت في زمانهم، ولكنها كانت بحاجة إلى مؤلف واحد — يفوق زمنه — ليرتفع بها إلى ذروتها العليا عند النظر إلى القمم الإنسانية في تواريخ الآداب، وقد وجدته يوم وجدت شكسبير، ولو كان وجوده اختيارًا مدبَّرًا لما كان أوفق منه لهذا الاختيار؛ لأنه أقل الكاتبين يومئذ فائدة في عصره وأكثرهم إفادة لذلك العصر وما تلاه من عصور، ولو كان بلوغ الذروة من الفن ثمرة لا تستفاد في غير إبانها لكان غيره أحجى بها وأسبق إليها، ولكن العبقرية الإنسانية لها هذه العلامة، وهي المزية التي تنتمي إلى جميع الأزمان.

وبدأ اسم شكسبير في الظهور بين أسماء المؤلفين المسرحيين بعد هجرته من قريته بنحو خمس سنوات حوالي سنة ١٥٩٢، ولعله فكر في التأليف المسرحي قبل هجرته من القرية؛ لأن المثابرة على شهود المسرح سنوات توحي هذه الفكرة إلى ذهن الشاب الموهوب المستعد لهذه الصناعة فهو لا محالة متنبه إلى التمييز بين الرواية الناجحة والرواية المخفقة، وبين المنظر المقبول والمنظر المستهجن أو الضعيف، وبين الموقف المؤثر والموقف الفاتر، ويخطر له — ولا ريب — أن يستبدل موقفًا بموقف وأن يحذف بعض الحوار أو يزيد عليه، ولعل تدرجه في التنبه لدقائق هذا الفن كان أسرع وأقوم من تدرج زملائه الذين اشتغلوا به على غير استعداد مطبوع أو رغبة صادقة، وربما خطر له أن يمارس التأليف قبل ممارسة التمثيل لقلة القيود التي تحيط بصناعة القلم أو تغض منها في عصره، إلا أن التدرج السريع لا يجديه في هذه الصناعة ولا يغنيه عن التدرج في علاقته بأصحاب المسارح وحماتها بين العلية وذوي الأخطار من زمرة النبلاء المثقفين، وأقرب إلى المألوف في أمثال هذه الأحوال أن يبدأ المؤلف الناشئ بمساعدة أصحاب المسارح على إصلاح الخلل في الروايات المؤلفة المهجورة، وأن يعرض عليهم بعد ذلك روايات يؤلفها بإشراف الأعلام المشهورين سواء اشتركوا في كتابتها أو عاونوه بالتوجيه والاقتراح، وهذا في اعتقادنا أقرب الفروض إلى تفسير قول القائلين إنه ألف روايته الأولى بمشاركة مارلو أو جونسون أو غيرهما، وإن أسلوبه في بعض تلك الروايات مشوب بالاختلاف والاختلاط من أثر التنقيح أو التبديل الكثير في المواقف والعبارات.

ولم يهتم شكسبير بطبع رواياته في حياته، وإنما كانت تُطبَع متفرقة لذمة المسارح التي ينزل لها عن حقوقه، فلما نشرت مجموعته الأولى بعد وفاته بسبع سنوات كان فيها ثماني عشرة رواية من ست وثلاثين لم يسبق نشرها ولم يراجعها للنشر في حينها، ولا تزال هذه المجموعة الأولى التي اشتهرت باسم السجل الأول “First foho” أوثق المراجع لتصحيح الروايات التي تُنسَب إلى شكسبير، وقد أُضِيفت إليها في مجموعات تأليفه عدة روايات مشكوك فيها أو مقطوع بنفي نسبتها إلى الشاعر أباح الناشرون الملفقون لأنفسهم أن يستغلوا شهرة الشاعر بعد رواج كتبه فنسبوها إليه، ولم ينخدع بها النقاد والقراء طويلًا فسقطت من طبعاته المعتمدة بعد قليل.

وتُعزِّز السجلَّ الأوَّلَ وثائقُ من عصره وردت فيها أسماء الروايات من تأليف شكسبير وطابقت أسماء الروايات في السجل كما أثبتها زملاء الشاعر في التمثيل والتأليف مشفوعة بأسماء الممثلين الذين قاموا بأداء أدوارها في حياته وفقًا لرغبته واختياره، وأوثق المراجع التي عززت السجل الأول وثائق الرخص المثبتة باسم المؤلف شكسبير لنحو تسع عشرة رواية، وعناوين الروايات الثماني عشر التي ظهرت في طبعات متفرقة، وإحصاء «ميرز» المتقدم ذكره وهو من مطبوعات سنة ١٥٩٨، وإشارات إلى المؤلفات في أقوال المعاصرين، يتبين منها جميعًا أن شكسبير نُسِبت إليه في زمنه ست وثلاثون مسرحية على ثلاثة أقسام: قسم الملهاة، وقسم التاريخيات، وقسم المأساة، وهذا بيانها مقرونة بأسمائها التي عُرِفت بها عند صدورها.

فالملهيات تحتوي أربع عشرة هي بترتيبها في السجل الأول أي طبعة المجموعة الأولى:

(١) العاصفة The tempest
(٢) السيدان من ڨيرونا The two Gentlemen of Verona
(٣) زوجات وندسور المرحات The merry wives of windor
(٤) دقة بدقة Measure for measure
(٥) ملهاة الأغلاط The comedy of Errors
(٦) لجاج في غير طائل Much ado about Nothing
(٧) عناد الحب الضائع Love’s labour’s lost
(٨) حلم منتصف ليلة صيف Midsummer Night’s Dream
(٩) تاجر البندقية The merchant of Venice
(١٠) كما تهوى (أو كما تهوون) As You like it
(١١) ترويض السليطة The Taming of the shrew
(١٢) العبرة بالخواتيم All’s well that ends well
(١٣) الليلة الثانية عشرة Twelfth Night
(١٤) نادرة ليلة الشتاء The Winter’s Tale

ويحتوي قسم التاريخيات عشر روايات هي:

(١) حياة الملك جون وموته The life and death of king john
(٢) حياة ريتشارد الثاني وموته The life and death of Richard the second
(٣) الملك هنري الرابع: جزء أول The First part of king Henry the Fourth
(٤) هنري الرابع: جزء ثان The second part of king henry the fourth
(٥) حياة الملك هنري الخامس The life of King Henry the Fifth
(٦) الملك هنري السادس: جزء أول The First Part king henry the sixth
(٧) الملك هنري السادس: جزء ثالث The Second Part of King Henry the sixth
(٨) حياة ريتشارد الثالث وموته The life and Death of Richard the third
(٩) حياة الملك هنري الثامن The life of king henry the eighth

ويحتوي قسم المآسي اثنتي عشرة رواية هي:

(١) مأساة كريولينس The tragedy of Coriolanus
(٢) تيتس أندرونيكس Titus Andronicus
(٣) روميو وجولييت Romeo and Juliette
(٤) تيمون الأثيني Timon of Athens
(٥) حياة يوليوس قيصر وموته The life and Death of Julius Caesar
(٦) مأساة ماكبث The tragedy of Macbeth
(٧) مأساة هملت The tragedy of Hamlet
(٨) الملك لير King lear
(٩) عبد الله مغربي البندقية Othello. The moor of Venice
(١٠) أنتوني وكيلوبترة Anthony and Cleopater
(١١) سمبلين ملك بريطانيا Cymbeline King of Britain
وأُضِيفت أثناء الطبع مأساة ترويلس وكريسيدا Troilus and Cressida بعد أن قُدِّمت «أولًا» للطبع في مكان مأساة تيمون الأثيني.
ومما لوحظ كثيرًا أن رواية بركليس Pericles لم تُطبَع في السجل الأول وأُضِيفت إلى مجموعة مؤلفاته لأول مرة في السجل الثالث الذي صدر سنة ١٦٦٤ بعد وفاة شكسبير بخمسين سنة، ولكنها طُبِعت منفردة مرتين في حياته، وثلاث مرات بعد موته، أولها سنة ١٦١٩ وآخرها سنة ١٦٣٥، واشتملت الطبعة الخامسة على أسماء الممثلين الذين قاموا بالأدوار وهو بقيد الحياة.

وتلاحقت الطبعات التامة بعد السجل الأول فأُعِيد طبع المجموعة التامة ست عشرة مرة بين أوائل القرن السابع عشر وأوائل القرن التاسع عشر في سنة ١٨٢١، وكثر الاختلاف بين الطبعات المتلاحقة بين طبعة تزيد وطبعة تنقص، وطبعة تتحرى ترتيب تواريخ التأليف، وأخرى تتحرى تقسيم الموضوعات وارتباطها بالعناوين.

وفي القرن التاسع عشر، نشأت مذاهب النقد التحليلي ومذاهب الدراسات النفسية في أوقات متقاربة، فجاءت بحوث النقد التحليلي وبحوث النقد النفساني بنتائجها القيِّمة في تمحيص الحقائق عن آداب عصر النهضة وفنونه، وصح عند الباحثين المحدثين أن البراهين المستمدة من موضوع الكتابة ومن التعمق في تحليل الشخصية أولى بالاعتماد عليها من الأسانيد المنقولة عن أقوال الرواة المعاصرين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وما حولهما، لما ثبت في كثير من الأحوال من قلة اكتراث القوم بتصحيح الأسانيد وانصراف عنايتهم إلى العمل الفني دون التفات لتحقيق أسماء المؤلفين وأصحاب الأعمال.

وعلى هذه القاعدة قام البحث من جديد عن مؤلفات شكسبير وعن الشكوك التي تساور القارئ من اختلاف الطبعات وتردد الناشرين في إسناد بعض الروايات إليه.

لماذا أسقط الناشرون رواية بركليس من المجموعة الأولى؟ ألم يكن تصديرها باسم شكسبير في طبعتها المنفردة كافيًا لتصحيح نسبتها إليه؟

ولماذا وضعوا رواية ترويلس وكريسيدا ثم رفعوها ثم عادوا إلى وضعها بعد إثبات رواية تيمون الأثيني في مكانها الأول؟

ولماذا عاد الناشرون في المجموعة الثالثة، فأثبتوا رواية بركليس وأثبتوا روايات أخرى حذفها الناشرون بعد ذلك؟

عاد البحث على أساس النقد الموضوعي والنقد النفساني إلى جميع مؤلفات شكسبير وفي مقدمتها الروايات التي كانت موضع التردد بين الناشرين في مختلف الطبعات.

فانجلى البحث عن شك قليل في بعض مناظر بركليس، ورجح عند الثقات النقاد أن فصولها من الثالث إلى الخامس شكسبيرية لا موجب للتردد في نسبتها إليه، وفيها مقطوعات من الشعر كأجود ما نظم الشاعر في مسرحياته، مع المشابهة بينها وبين عامة شعره في «الروح» ومناهج التعبير.

والاختلاف على رواية بركليس يسير بالقياس إلى الخلاف الواسع على رواية أخرى يقبلها أناس على مضض وينفيها آخرون كل النفي من أدب شكسبير، وهي رواية تيتس أندرينكس التي لا ينجلي البحث فيها من وجهة الموضوع ولا من وجهة التحليل النفساني عن رأي حاسم، فمن قال إنها شكسبيرية فهو يقولها على تردد وتحفظ ولا يزعم أنها «دعيَّة» في نسبتها، ولكنه يزعم أنها عمل غير صالح، ولا ينسى أن يستدرك قائلًا إنها في الحق من أسوأ ما صنع شكسبير، ومن نفاها وأصر على نفيها قال إنها لن تكون شكسبيرية إلا على فرض واحد يسوقونه على سبيل الظن والتخمين، فهي عندهم رواية مجهولة النسب اضطر صاحب المسرح إلى تمثيلها، فألقى بها إلى الشاعر ليعمل فيها قلمه ويداري من عيوبها المسرحية ما استطاع أن يداريه قبل عرضها في أجل محدود، ومن ثم جاءت حيرة النقاد والناشرين في أمرها؛ لأنها لا تتجرد من طابع الشاعر — ولا تمتاز بحسنة من الحسنات التي تشفع لعيوبه فيما ينزل به عن مستواه.

وتناول الشك روايات وفصولًا شتى غير هاتين الروايتين، وأشد الروايات تعرضًا للظن والنقد رواية هنري السادس بأجزائها الثلاثة، فإن المناظر الفرنسية والمناظر الإنجليزية في الجزء الأول لا تنمان على روح واحدة، والمناظر الإنجليزية منها ليست بالشكسبيرية الخالصة في تعبيراتها وأسلوب أدائها، ولعل الشاعر كتبها في أيام تلمذته على مارلو بإشراف أستاذه.

وليس في الجزء الثاني مثل هذا التباين في الروح والمنهج، إلا أن المؤلف يبدو فيها مقيدًا بتنسيق للفصول والمناظر لا يرتضيه، مما يرجح عند بعض الشراح أن شكسبير وجد أمامه رواية قديمة أجرى فيها قلمه وأكثر من التنقيح فيها، مع إبقائه على تقسيم فصولها ومناظرها، وهي فكرة يوحي بها بحث الدكتور إسكندر بيتر أستاذ الأدب بجامعة جلاسجو وصاحب الرسائل الحديثة في ترقيم شكسبير وتقسيم فصوله (١٩٤٥).

وتتلخص الآراء عن الجزء الثالث في كلمات الشاعر الناقد جون ماسفيلد الذي يقول في كتابه الوجيز عن شكسبير: «إن هذه النسخة قد تكون من تأليف جرين وبيل ومارلو مشتركين أو متعاونين على نحو من توزيع العمل بينهم وتراءى أثر شكسبير في مواضيع منها ولكنها غير كثيرة، وقد نُقِّحت الروايةُ بعد نسخها الأولى ووسعت بقلم مجهول وتخللتها لمسات من قلم شكسبير.»

وتساءل جيمس سبدنج “Spedding” في مقاله بمجلة الجنتلمان (أغسطس سنة ١٨٥٠) عمن كتب رواية هنري الثاني؟ وأجاب سؤاله بأنها من عمل جون فلتشر إلا القليل منها، وربما اشتركت فيها يد ثالثة على شيء من الخبرة بفن الإخراج المسرحي، ولكنها محدودة القدرة على تمثيل العظائم في عرض الحوادث وتصوير الرجال.

أما رواية ترويلس وكريسيدا التي تردد الناشرون المعاصرون لشكسبير في ضمها إلى المجموعة، فالأستاذ ماسفيلد يقول عنها: «إنها مسودة حوار بقيت في انتظار الإتمام، وقد تضاربت الأقوال عن تمثيلها في حياة شكسبير، وحدث أنها نُشِرت على نحو غامض قبيل عودته إلى قريته، وفيها منظر أو منظران تم تأليفهما ولكن مناظرها الأخرى ظلت على أسلوب التخطيط الساذج خلوًّا من الصقل والجمال، وتُعَدُّ مناظرها التامة من أعظم ما تصوره شكسبير، إلا أنها عظمة الفكر لا عظمة الأداء.»

•••

وبعد أكثر من مائتي سنة من صدور المجموعة الأولى ظهرت مسرحية باسم توماس مور تشتهر الآن باسم المسرحية المخطوطة؛ لأنها ظلت من عهد كتابتها في أواخر القرن السادس عشر محفوظة بخطوط النساخ لم تُطبَع قبل سنة ١٨٤٤ حين وصلت إلى أيدي الجماعة الأولى التي تألفت لإحياء آثار شكسبير، وهي الآن تلحق بمجموعاته في الطبعات الأخيرة، ولا تثبت لها صلة به غير اشتمال مسوداتها على كلمات بخطة كما تبين من تحقيقات الخبير المختص بالخطوط «موند تومبسون». وتدور فصول المسرحية على ترجمة الفيلسوف المؤرخ الوزير توماس مور صاحب المدينة الفاضلة ورائد البحث عن المدن الفاضلة في العصور المتأخرة، وقد كان من المعارضين للملك هنري الثاني في دعوى الرئاسة الروحية والدنيوية، وموضوع حياته وموته جدير بقلم شكسبير، ولكنه لا يطرد مع طريقته في اختيار أدوار المسرحيات التاريخية وعناوينها.

•••

وعلى هذا المثال تناولت مدرسة النقد التحليلي ومدرسة النقد النفساني مسرحيات الشاعر، وأفاض الشراح من المدرستين في تناولها إفاضة موفورة الأسباب والأمثال تستعصي على الحصر في هذا الكتاب، وأسفرت هذه الدراسات — التحليلية النفسانية — عن ثروة نفيسة من أسرار اللغة وبواطن المعاني ودقائق الفهم والاستدلال، وثبت من محاولاتها العصية أنها مسبار من التحقيق لا غنى عنه في تقويم المؤلفين وتواليفهم، وإن لم يأتِ بالنتيجة القاطعة في جميع الأحوال، وزاده صعوبة في دراسة شكسبير أن الشكوك كلها قائمة على فوارق التعبير وفوارق التنسيق، وأن الشراح والنقاد لم يتيسر لهم إقامة الحد الواضح بين الفروق الضرورية التي لا بد منها والفروق العارضة التي تُوجَد في أحوال ولا يلزم أن تُوجَد في سائر الأحوال.

فمن الفروق الضرورية أن تختلف البواكير والنهايات في أعمال كل مؤلف كبير المواهب متعدد الجوانب يتطور سريعًا وترتبط أطوار التقدم والنضج عنده بمطالب المسرح ودواعيه الفنية، مع ما يقترن بها من دواعي الإدارة والانتقال من فرقة إلى فرقة ومن موضوع إلى موضوع … ولقد وجدت فوارق البواكير والنهايات في أعمال كل شاعر وكاتب من الأقدمين والمحدثين، وكانت هذه الفوارق على أوسعها وأغربها بين أوائل شكسبير وخواتيمه، فامتلأت مؤلفاته الأولى بالكناية والنزوع إلى الإشباع والتركيز وتحميل العبارة غاية ما تطيق من القصد والإيحاء، وغلب عليه التكلف في هذا الطور الأول على ديدن المبتدئين الذين يدفعون الظنة عن قدرتهم على مجاراة الفحول من نظرائهم المنافسين، فبالغ في إثبات تلك القدرة وصمد على أسلوب الإشباع سنوات، ثم تحول عنه فلم يتركه كل الترك، بل ترك الإطناب والتفخيم ولم يترك تحميل الكلمات غاية ما تطيق من معانٍ وإشارات؛ لأن أفكاره بطبيعتها تزيد على وعائها من الألفاظ والتراكيب.

هذه الفوارق الضرورية بين البواكير والنهايات تأتي في سنوات طويلة أو قصيرة ويسهل استقراؤها باستقراء التواريخ والأدوار، إلا أن المؤلف قد تلازمه الفوارق الضرورية في الحقبة الواحدة وفي موضع بعد موضع من العمل الواحد، وتلك هي الفوارق بين حالات الإجادة والإلهام وحالات الإهمال والركود، أو هي الفوارق بين المؤلف على أحسنه وأجوده والمؤلف نفسه على أردأ حالاته وأبعدها عن الإجادة والإتقان، وشكسبير من المؤلفين الذين يعظم التفاوت بين أعماله في الحالتين.

وهناك الفوارق المقصودة التي يتبين في روايات عدة أن شكسبير كان يتعمدها ويختارها للتوفيق بين الموقف وما يقتضيه من الحماسة أو الخشوع أو الإيمان أو المرح أو الأبهة والروعة، ويقول بهذا الرأي في تعليل الفوارق كتَّابٌ محدثون من أعرف الشراح بالشاعر وبدواته وعادات ذهنه وقلمه في تنويع عباراته، ومنهم نوتني Nowottny مقدم مجموعته في طبعة أودهام التي صدرت منذ سنتين، فهو يشير إلى الاختلاف بين أسلوب الفواتح التي تمهد للروايات وبين أسلوب اللغة المعدة للإلقاء على ألسنة الممثلين، ويشير إلى الاختلاف بين أسلوب القصة على لسان الجندي في رواية ماكبث وبين أسلوب الرؤيا وسائر الأقوال في رواية «سمبلين».

ويجتهد أصحاب هذا الرأي في إبراز الفوارق بين أساليب التعبير في المؤلفات التي لا يتطرق الشك إلى نسبتها، ولا سيما المنظومات المتفق على تأليفها، فإنها لا تطَّرد على نسق واحد ولا تخلو من الفوارق التي يتعهدها الناظم كلما تحول من شخصية إلى شخصية أخرى أو من موضوع إلى موضوع على حسب اختلاف الباعث وموقع التأثير.

وكذلك نخرج من بحث الفوارق بمسبارين صحيحين بدلًا من مسبار واحد: أحدهما يشكك في تأليف شكسبير والآخر يؤكده وينفي الظنة عنه، فإن لم نسقط حساب الفوارق جملة واحدة فلا مناص من التسليم بأنها — فيما بلغته حتى الآن — مفتاح يفتح أبواب الظنون والشكوك، ولكنه لا يوصدها على يقين.

•••

إلا أن اليقين الذي نملكه — حتى الآن — يكفي لدراسة شكسبير، فمهما نأخذ أو ندع من تلك الظنون والشكوك فنحن على يقين من كيان العبقرية التي ندرسها باسم شكسبير، وعلى يقين من كفاية الآثار التي يقوم عليها ذلك الكيان، ولا يتحتم لإثباته أن يكتب شكسبير كل سطر منسوب إليه في المسرحيات، فإن المشكوك فيه إنما هو وضع النقص منها، لاعتقاد المتشككين أنه دون الطبقة الممتازة التي يرتفع إليها الشاعر على أحسنه وأتمه وأعلاه، ومهما يثبت من مواطن النقص فهناك مواطن للكمال تثبت ويثبت معها كيان العبقرية التي أخرجتها وتمثلت في وحدة طابعها وتناسق أجزائها، وهي باقية وراء تلك الشكوك بيقين لا شك فيه.

١  (١٥٩٨) palladis Tamia.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤