مقدمة الطبعة الثانية

وضعتُ هذا الكتاب من إحدى عشرة سنةً،١ ولو استوى له أحد عشر قرنًا، ثم كُتبتْ له يومئذٍ مقدمة، لكان هو هو كما أصفه اليوم، كتابٌ ليس له قبلُ وليس له بعدُ؛ فهو دائر مع النهار والليل على معنًى آخِرُه في الإنسانية أولُه، معنى إذا قلت فيه إنه يجيء مع كل مولود، فقد قلتَ إنه لا يموتُ مع أحد من الموتى.
ستقرأ في الكتاب وصفَ «الشيخ علي» الذي أسندت إليه الكلام، وجعلته فيما أستوحيه كالخيط من شعاع السماء تهبط عليه تلك المعاني التي خلدَ عليها جمالُ الخلد؛ «فالشيخ علي» هذا هو رمزٌ في كل دهر لثبات الجوهر الإنساني على تحوُّل الأزمنة في أشكالها المختلفة؛ ومن ثمَّ تعيش مع الإنسانية معاني هذا الكتاب، فهو من روحها صورةً وحِليةً وجاذبيةً. ومن عجيب الحكمة أنه ما من نبي أو حكيم أو شاعر يترجم إلى لسان الحياة ما هو أسمى من الحياة، إلا استمد ذلك من مساكين الحياة خاصةً؛ هم أبدًا السحابة المستوية المخيلة لمطر العواطف٢ على جَدْبِ الروح الإنسانية في الأرض، ولعلهم لذلك يتراكمون في الحياة من سوادٍ كالغمائم، ويتشققون من نارٍ كالبُروق، ويُجلجِلون برعودٍ يئنُّون فيها، ويتبجَّسون بمطر يبكون به.٣
وأعجبُ من ذلك أنك لا تجد من شيء يُحدِث من ذي نفسه مثل هذا الأثر،٤ إلا أجملَ الجمالِ في أقوى الحبِّ، فكأن أعظمَ البؤس وأعظمَ الجمال صورتان لحكمة إلهية واحدة وإنْ اختلفَ منظر ومنظر، والسماء تغبرُّ بلون التراب في رأيِ العين حين لا تحمل إلا ماء المُزْنِ الصافي.

•••

يزعمون أننا في عصر العلم وفي دهر القانون، ويريدون أن يسلبوا الناس إيمانهم، كأن الإيمان هو مشكلة الإنسانية، مع أنه لا حلَّ لمشكلتها إلا به. إن مسألة الغنى والفقر وما كان من بابهما لا يحلُّها العلمُ ولا القانونُ؛ إذ هي من مواد القضاء والقدر في إنشاء الآلام والأحزان وأضدادها التي تقابلها، وما دام فوق الإنسانية من السماء قوةٌ لا تُحدُّ، وتحت الإنسانية من القبر هُوَّةٌ لا تُسدُّ، فلا نظامَ إلا على تصريف النفس أمرًا ونهيًا، وتأويلِ الحياة معنًى وغايةً، فإنْ لم يكن الشأن في ذلك مقرَّرًا في الغريزة على جهة الإيمان، فلن يكون العلم والقانون على ظاهر النفس إلا ثورةً بما في باطنها، ولن يبرحَ الناسُ على ذلك بعضُهم من بعض كالهارب منه وهو مضطرٌّ إليه، أو كالمضطرِّ إليه وهو هاربٌ منه، وكل من كلٍّ في معنى من معاني النفس لا إنسانيةَ فيه.

ما زاد العلماء على أن خلقوا في ساعدَي الحياة هذه العضلةَ البخاريةَ، وذلك العصب الكهربائي، فمَن لم يستطع أن يتوقَّى ضربةَ الحياة المدنية بعُدَّةٍ من قوةٍ وعتادٍ من المال، طاحَتْ به فدكَّتْه دكَّ الخسف، ووضعته من الناس موضع الحبَّة من الرحى الدائرةِ، فما بينه وبين أن ينهارَ موضعٌ يستمسك عليه، وإنما هذا الموضع هو إيمان المؤمن؛ إذ يعطف على الضعفاء، أو يُسعد أو يبرُّ بما كُتِبَ عليه أن يرقَّ لهم من ذات نفسه ويتحنَّى ويتوجَّع.

ومتى كان العلمُ والدينُ يقومان جميعًا على تنظيم الطبيعة في مادتها وإنسانيتها، لم تجرِ الإنسانيةُ إلا على ناموس بقاء الأصلح في الجهتين، فإذا تخلَّى بها العلمُ وحده، فلن تجريَ أبدًا إلا على ناموس بقاء الأصلح في ظاهرها لإيجاد الأفسد في باطنها.

لن يفلح الإنسان للحياة الطيبة — ما دام بهذا التركيب الذي لن يتغير — إلا إذا وازَنَ بين بيئته التي هو يُوجِّهها وبين طباعه التي هي تُوجِّهه؛ فقيَّد أشياء في قيودها، وأطلق أشياء من قيودها، وجمع في متبوَّأ نفسه حدًّا بحرية ودينًا بعلم. بَيْدَ أن طغيان العلم في هذه المدنية قد مَرَدَ على طباع٥ الإنسان وشمائله في كل موضع من الحياة لا تكافئه فيه قوة الدين، فإذا هو يزيِّن الشهوات، وإذا الشهواتُ تُطوِّع المغامَرَة، وإذا المغامَرَةُ تجلب المنازعة، وإذا المنازعةُ تدفع إلى الحرص، وإذا الحرص يتصرَّف بالحيلة، وإذا الحيلة تُهلك التقوى؛ وكان في تقوى الإنسان إيمانه، وكان في إيمانه رحمته، وكان في رحمته الأثيرُ الإنسانيُّ الذي تعيش فيه الروح؛ وعلى ذلك يقع في الإنسان من النقص بمقدار ما يزيد له العلم، فإذا هو منحدرٌ إلى السقوط، مُقبِلٌ على المحْقِ، راجِعٌ إلى الحيوانية بأكثرَ مما يحتمل تركيبه منها؛ أَوَلا يرى الناسُ أن تفوُّقَ أمةٍ على أمةٍ لم يَعُدْ في هذه المدنية إلا معنى من معاني القدرة على أكلها!
ومضى العلم على شأنه ذاك حتى جعل الإنسانَ آلةً من آلاته التي غمَرَ بها الدنيا، فأصبح مَن لا إيمانَ له يتعسَّفُ خسائسَه٦ لا يدري أين يؤمُّ منها؟ وأين يقف؟ فلا يتسفَّل بقوة إنسان ولا بضراوة وحش، ولكنْ بقوة آلةٍ من الآلات الكبرى ودقَّتِها وسرعتها وإتقانها … حتى لا رذيلةَ من رذائل هذه المدنية إلا هي مفنَّنةٌ في تركيب على نسَقِ الأمور المخترعة، وكأنَّ الآلات العمياء ما زادت إنسانَها شيئًا إلا أن قالت له كُنْ أعمى! وكأنَّ المدنية الملحِدة ما عَدَتْ أن جعلت الوحشيةَ تعمل أعمالها الفظيعةَ بتأنُّقٍ وتمدُّنٍ!
نسى الناس الإيمان أو انسلخوا منه، فإذا أيديهم تَمُوج بأسباب الفضائل٧ لا تُحكِمها ولا تَضبِطها، وما كان الإيمان الصحيح إلا التقوى،٨ ولا كانت هذه التقوى إلا عملًا من أعمال الإرادة، غايتُه إيجادُ الغرائز العليا في الإنسان بالأسلوب الذي لا تخلق الغريزةُ العمليةُ في النفس إلا به، وعلى النحو الذي لا تصلح في الحياة إلا عليه.
أظهرُ آثار الإيمان٩ تحديدُ الغايات الإنسانية وتنسيقُها والملاءمة بينها، فإن إطلاق الغاية لكل إنسان على شأنه وسبيله كيف درَّتْ معيشتُه١٠ وكيف دارت أهواؤه؛ يجعل طُرُقَ الناس متداخلةً متعاديةً فيقطع بعضُها على بعض، ويقوم سبيلٌ في وجه سبيل، فلا تُحَلُّ عقدةٌ إلا من حيث تُقرَض أختها، ولا يتخلص خيط من خيوط اللذات الملتبسةِ المتشابكة إلا قاطعًا متقطعًا معًا، وأنت إذا بحثت عن الوحدة التي تحاول ضمَّ الإنسانية المتنافرة وردَّها إلى مرجع واحد، لم تجدها في غير إيمان المؤمنين؛ فهو أبدًا يقابل في كل نفس ما تطغى به الحياة على أهلها، ولا عمل له إلا أن يحذف الزيادات الضارَّةَ بالإنسان من بيئته، وبالبيئة من إنسانها، وهو بهذا حائلٌ في كل مجتمع بين أن تنقلب أسبابُ السموِّ العقليِّ فتعودَ من أسباب الدناءة والخسة.

وإنما محلُّ الإيمان من أهله فوق محل الحكومة ممَّن تحكمهم! فهو الأمر والنهي بلغة الدم والعصب، وهذه الغايات التي تتألف من أجلها الحكومات، كأمن الناس ونظامهم وحريتهم وسعادتهم، هي أنفسُها محكومةٌ بمسائل تأتي من ورائها في طبائع الناس وعاداتهم ومعايشهم ومصالحهم، فإنْ لم تكن في النفوس من الدين أصولٌ تأمرُ وتحكم، وفي الطباع من اليقين أصولٌ تستجيب وتخضع؛ رجعت الحكومة في الناس أداةً مسلطةً لا تُغني كبيرَ غَنَاءٍ في الخير والشر؛ إذ يحتاج الخير أبدًا إلى قوتها تحميه، ويحتال الشر أبدًا على قوتها تستنقذه، ومتى لم يكن الخير إلا بالقوة فاحتياجه إليها شرٌّ، ومتى لم يكفَّ الشر عن القوة فاحتياله عليها شرٌّ مثله؛ فإذا تضعضعت من الأديان هذه الدعائم الرأسية، وفَرَطَ من الإنسانية هذا الفارطُ الذي ليس في الأرض كِفاءٌ منه؛ لم تجد حسنةً في حكومة من الحكومات إلا معها من طبيعتها سيئةٌ، ولم تجد سيئةً إلا هي سيئتان، فلن تكون الحياة حينئذٍ إلا تعقيدًا أشد التعقيد من طغيان القادرين عليها بالمال والغنى، ومن حِقد العاجزين عنها بالفقر والحاجة.

والغنيُّ القادر على مُتَعِ الحياة ولذَّاتِها هو دائمًا في فلسفة العاجز قادرٌ بلا قدرة، كما أن الفقير الضعيف هو دائمًا عند نفسه عاجزٌ بلا عَجْز، ولا أدلَّ على ذلك من تعبيرهم عن معناه بالكلمة التي تُشبِه أن تكون هي أيضًا معنًى بلا معنًى؛ وهي الحظُّ. فلا بد للناس من الحدود التي تبني بين كل ضدين من أحوال الإنسانية جدارًا يعطف نفسًا على نفسٍ بالرحمة، ويردُّ قوةً عن قوةٍ بالصبر، ويكفُّ عاديةً عن عاديةٍ بالتقوى، ويحقِّق عوامل التوازن بين أسباب الاضطراب في الجماعات المتصادمة؛ ليُقِرَّ كلَّ مضطربٍ في حيِّزٍ إنْ لم يمسكه فيثبتَ فيه لم يُفلِته فيعدُوَ على سواه.

فإذا عملَتِ المدنيةُ على هدم هذه الحدود، وتركَتْ قوةَ الإيجاب في طبيعة الحياة بغير قوة سلبيةٍ من الإيمان في طبيعة النفس، كشفَتْ للإنسان عيوبه ببلاغةٍ من تعبير شهواته فزادتها رسوخًا فيه، كما تقول للص: إنك لتسرق وستصبح غنيًّا تمرُّ يدك في الذهب، تنفق وتستمتع على ما تشتهي … فما يراك قلتَ له: لا تكن لصًّا وتعفَّفْ. بل قلتَ له: كُنْ غنيًّا واستمتع. ويومئذٍ يغبرُّ البؤسُ ويقشعرُّ الفقرُ كما نرى لعهدنا في الأمم التي فشا الإلحاد فيها، فليس من بعدُ إلا أن يتحوَّل الفقر عن صورته البيضاء في سكب الدمع إلى صورته الحمراء في سفك الدم، وكان سؤالًا فيعود اغتصابًا، وكان الأسفلَ فيرجع الأعلى، وكان يفرِضُه الحقُّ فإذا هو الحق نفسه، واللهِ لكأنَّ المسكين في هذه المدنية هو الجزء اللئيمُ الذي طرده الغني من نفسه وتبرَّأ منه وأمات ما بينه وبينه، فإذا هما اعترضا في مذهب من مذاهب الحياة، نفرَ الغني كأنما يرى قبره يدنو منه، وأطبق عليه البائس بمعاني النقمة واللعنة يقول له: ما أنا إلا لؤمُكَ أنت!

إن من الشجر شجرةً تنبت في القفر تعتصر ماءَها من بين رملٍ وحجرٍ، وتمتص غذاءها من لؤم الجدب، فإذا حان أن يُزهِر عودُها شوَّكَ فلا يكون في عُقده ونبره١١ إلا شَوكٌ شوكٌ؛ فإذا ازدرعوها في الخِصْب وخَضَّلها الماء١٢ وساغت لها الطبيعة، ثم حان أن يزهر عودُها مَلَّسَه كرَمُ الأرض١٣ فإذا في موضع كلِّ شوكةٍ زهرةٌ كأنها كلمة الحد، وكذلك مثَلُ الفقير بين الملحد والمؤمن!
تُرَى أيخرج الإنسان في هذه المدنية من عصر العقل إلى عصر القلب، أم هو منحدرٌ من عصر عقله إلى عصر معدته، ثم إلى١٤ …؟

وكان على هذه الأرض أغنياء مؤمنون فيهم من كرم الحس شِبْهُ الفقر، ومساكينُ مؤمنون لهم من كرم الصبر شِبْه الغنى، فهل تنقلب المدنيَّةُ من الغنى المحض والفقر المحض إلى مادة تخلق اللحمَ الحيَّ، وأخرى لا تخلق له إلا الظُّفْر الحيَّ …؟

وكان اختراع الإنسان في المادة الجامدة؛ أَفتراه يجيء يومٌ على الناس يكون أعظم اختراع فيه للإنسان الأخير أن يُعِيدَ إلى الأرض إنسانَها الأول الكريم؟

مصطفى صادق الرافعي

هوامش

(١) كتب المؤلف هذه المقدمة سنة ١٩٢٩.
(٢) الممتلئة التي يؤمل فيها المطر.
(٣) جلجلة الرعد: دويه، وتبجُّس الماء: تفجُّره، واستعماله في المطر هنا مبالغة في انتزاع الوصف.
(٤) يقال: فعل كذا من ذي نفسه ومن ذات نفسه: أيْ طبعًا لا تكلُّفًا.
(٥) أي مرن عليها واستمر وبلغ بها الغاية التي تُخرِجها من جملة ما عليه الطبع الإنساني الكريم.
(٦) يتخبَّطُ فيها على غير هدًى.
(٧) ماجت اليد بالشيء: إذا اضطربت به، كأن أيديهم لا تضبط أسبابَ الفضائل من ضَعْفها عنها.
(٨) الإسلام كله في كلمة التقوى كما بيَّنَاه مفصَّلًا في كتابنا «إعجاز القرآن» فانظره. وكلمة التقوى من معجزات هذا الدين، ولقد قال «هكسلي» قسيم دارون الشهير: «إن الدين هو إجلال المثل الأعلى من الأخلاق، ومحبة العمل على تحقيقه في الحياة.» وكل هذا من قول أستاذ القرن التاسع عشر، وكل ما سبقه به الفلاسفة والحكماء، وكل ما جاء وما سيجيء هو من معاني «التقوى» في الإسلام، لا تضيق الكلمة عن شيء منه.
(٩) سيأتيك فيما تقرأ من الكتاب كلام كثير عن الإيمان وفلسفته.
(١٠) كناية عمَّا تتفق به أسباب العيش وتجتمع وتزكو.
(١١) النبر: النتوء الذي في العود.
(١٢) بَلَّهَا الماء.
(١٣) نعَّمته وأدمجته وأزالت نتوءه.
(١٤) تحت المعدة: الأمعاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤