الفصل السابع

سحق اللؤلؤة

قال «الشيخ علي»: وإني محدِّثك الآن حديثًا يشفي نفسك من الخبر، ويفتح عليك أبوابًا من العبرة والموعظة، ويُحضرك طرفًا من الدنيا بأقداره وعلله ومذاهب حكمة الله فيه كأنما أنت شاهد أمره؛ فَلْتعلَمن أن في المال مشغلةً عما سوى المال، وأن الحرص عليه حقَّ الحرص لا يداخِلُ أمرًا من أمور الحياة فيعترض بين ورده وصدره إلا ساء أحدهما أو كلاهما،١ وفسد الأمر، فعسى أن يتصل بما هو أجلُّ منه خطرًا وأسنى منزلةً، فلا يكون ذلك الحرصُ إلا مضيعةً، ولا تكون الرغبة فيما يستخلف إلا سببًا في ذهاب ما لا يستخلف.

وَلْتعلمن أن المال شيء غيرُ الحياةِ، وأن الحياةَ شيء غير المال، وأن ما يختدع الإنسان فيتلوَّن له من سراب هذه السعادة إنما يكون أكثر ما هو كائن من بريق المال يحسبُه شيئًا حتى إذا جاءَه لم يجده شيئًا، وعسى أن لا يكون فيما أقبل من نعيم الدنيا إلا ما يُدبِر بصاحبها، وأن لا تصيب فيما زوِيَ عنك من حظها إلا ما يُقبل بحظ نفسك على نفسك.

ثم لتعلمَنَّ أنه إنْ كانت للقدَر فترة عن رجل من الناس فقيرًا أو غنيًّا أو بين ذلك، فما هي غفلةٌ ولا مَعجزة، ولعل الرجل إنما يُمَدُّ له في الغي مَدًّا طويلًا، حتى إذا جاء يومه انفجر عليه بما لا يطيقُ له سدًّا ولا يستطيع له ردًّا؛ وأنه رُبَّ كلمةٍ تعارَفَ الناس معناها وأَجْرَوها على مذهبها في كلامهم، فإذا هي نزلت بعض منازلها من الحياة كان لها معنى آخَر لا تفسره إلا الحياة نفسُها، ثم لا تفسره إلا على ضد مأخذهم ومقصدهم؛ فيقول الناس: «فلانٌ الأمير.» ومعنى ذلك فيما نراه من حوادث الحياة وأقدارها فلان النَّذل، ويقولون: «هذا الغني.» ومذهب الحياة أنه الشقي بغناه، وفلان أعزه الله وإنما هي أخزاه الله بعزه، ويحسدون فلانًا إذ يرون أن الله — عز وجل — قد مكَّنَ له وآتاه من بسطة المال والجاه، فهو يستعد للحياة بأفضل عُدَّتها، ثم تقع الواقعة ويتغشَّى فلانًا هذا ما شاء الله من الحوادث والأقدار، فإذا هو إنما كان يستعدُّ للموت بأقبح عُدَّته!

وَلْتعلمن كذلك أن الغايةَ من هذه الحياة كمالُ الحي في جسمه ونفسه، فإن تمَّ بالفقر فذلك غناه، وإن نقص بالغنى فذلك فقرُه، ولا شأن لاصطلاح الناس فيما هو خاص بين المرء وذات نفسه، وهذا معنى بسطْتُه لكَ آنفًا ولكني متلقِّيك بمثاله من رجل وامرأةٍ، ولا عليك أن لا تسمع حديثًا عن الباشا و«هانمه»، أو أبي زيد وأم الخير، ولا عليَّ أن أجيئك بالمثالين على باخرة٢ أجعلُ ذلك من صَرْفِ الكلام وتزيينه،٣ وما بلادنا من هذه المخازي بمنتزحٍ، ولكني أردتُ إمتاعك من لذة الحديث على مقدار إمتاعك من حكمة الحادثة؛ والكلام عن رذائل الحياة في بلادنا هذه كلامٌ غثٌّ يتجافى عن الرقة في أكثر مناحيه، وإذا وجَّهته إلى أكثر قومك فإنما أنت تشتمهم به أو هم يتلقَّونه من هذه الجهة، ولا مناصَ أن تقعَ بك ظِنَّة السِّباب وإنْ كنتَ واعظًا، ويقال عاقٌّ وإن كنتَ برًّا، وغاش وإن كنتَ من الناصحين.

الرجل البخيل

أما فلانٌ هذا فهرِمٌ بخيل، لو مُسِخَ حجرًا لتحطَّمت من غيظها الأحجار، ولو كان على بخله حديدًا لما لان الحديد في النار، ولو صوَّره الله طينًا أجوف لما طنَّ في يد أحدٍ على نقر، ولو خلقه مرة أخرى من تراب لما جُمع هذا «التراب» إلا من ثياب أهل الفقر.

وهو نبيُّ أمةِ البخل، أما معجزته فهي قدرته على أن يستنبط غير المألوف من المألوف، ويستغل الصفر فيُخرِج منه أَلْفًا إلى ألوف، وإنه على ذلك لآية، فما رآه المؤمنون إلا قالوا: اللهم غفرًا. ولا رآه الجاحدون إلا زادوا عتوًّا وكفرًا.

وكم تمنَّى وهو يتهالك حرصًا أن يكون كإبليس في أنه لا يموت إلا متى هرم الدهر، ولا يذهب من الأرض إلا حين لا يبقى في تاريخ الأرض عام ولا شهر، وإذا خوَّفتَه الموتَ والحسابَ قال: ويلك دع عنك. وإذا عَلم أنه سيُعطَى كتابَ أعماله في الآخرة، قال يا ليت صُحُفه من «ورق البنك»!

على أن درهمه في أيدي الناس همٌّ، واسمه في أفواههم سمٌّ، وكم لأمواله من قتيل، فمَن «استلف» فقد ذهب به التَّلف، ومَن اقترض فقد انقرض! وكم من بائس قشعت غمامته، ثم غالت هامته،٤ وقضت دَينه، ثم أبكت عينه؛ فوالذي نفسي بيده إن دراهم هذا الخبيث لَتُعد من اللصوص، وإنها للئيمةٌ على العموم، أما هو فلئيم على الخصوص؛ يُرسِلُ الدرهم في يد المحتاج فيذهب فيه دينارُه، ويقدحُ فِكرَه الملتهب فلا تقع إلا في بيوت الفقراء نارُه؛ ولو كان مخلوقًا يوم عرضَ الله الأمانة على السموات والأرض والجبال فأَبَيْن أن يحمِلنها، لحمل وحده الأمانة، وإذا كان مبلغ القول في وصف كل غني كريم أنه «صرَّاف» في خزانة الله، فجُهدُ القولِ في هذا اللئيم أنه لص الخزانة!٥

وهو على غِناه كأنه في الناس بُؤسُ المفلس في القمار، وكأنه لحقارته ذيلُ الحمار؛ إن طلع عليهم فطالعُ زحل، وإنْ غاب عنهم فوباءٌ رَحل، ومتى ذكروه فكأنهم نكروه، وإذا قُضي عليهم أن يُسَمُّوه فكأنما شتموه، وإذا وصفوه قالوا وجعُ الأظفار، وذنبٌ بلا استغفار، اللهم قنا عذاب النار!

أما وجهُه فلو أنزل الله مرآةً من السماء فنظر فيها لَصَدِئتْ من قبح خياله، كصدأ ذلك المخزون من ماله؛ وأما روعتُه فلو خرج على الحسان لابتلاهن بما يفجئ الظباء من رؤية الفهد، وامتلكهن بما يعتري المرضعَ إذا كشفت عن طفلها فأبصرت الثعبانَ في المهد؛ وأما جهامته فلو نظر إليه البدر لَغرَب، ولو اطلع عليه الفجر لهرب؛ وأما روحه الخفيفة فلو بُعِثتْ في خلق آخَر لما كانت إلا بَقة صيف في رقبة ضيف، أو بعوضة تلسع العاشقَ المهجور فتوقظه وقد ظفر بالطيف، وحياتُه كالبلاء المحتوم، وغناه كالكنز المختوم، وأما هو فكالقبر الكتوم.

وأحسب لو رسَمَه أمهرُ المصورين فأبدع في خُططه٦ وألوانه، وأنطقه من عينه وعنوانِه،٧ وجعله آية فنه وافتِنانه، وترك مَن يراه لا يحسب إلا أن المصور قد سرقه، أو أن الله تعالى مسخه على ورقةٍ؛ لبقي مع ذلك في رسمه مغمزٌ لا تُصلِحه إلا يد الشيطان الرجيم، ولا تلوِّنُه إلا شعلة من نار الجحيم. ومَن للمصوِّر بشرارتين من الصاعقة يُنزلهما في الرسم لتظهر بهما عيناه، ومَن له برقبَتَيِ البخل والرذيلة يطبق عليهما يسراه ويمناه، ومَن له بلونين من غضب الله ونقمته يُظهِر بهما في الصورة معنى فقره وغناه؟

ولستُ أطيل في القول، فما أنا ببالغٍ من القول بعضَ صفاته، وهيهات أن يصفه على الحقيقةِ إلا مَن يعلم لغةَ الملائكة، فينقلَ إلى لغة الناس كتابَ سيئاته.

•••

قال «الشيخ علي»: ذلكم هو «الكونت فيكتور»؛ رجل أملق أموال الناس وزادها في ماله، وجمع بين سوء حمل الغني وسوءِ حمل الجاه، وعرفَ النعمة ونسيَ المنعم بها، فكأنما فتحَ الله عليه من هذه الدنيا، ومكَّن له في أبوابها، وأفشى جاهه ونعمته على ما ابتلاه به في خاصة نفسه من المحق؛ ليجعله واحدًا من أولئك الذين يُخرِجُ للناس من تواريخهم قصصًا في الأخلاق محكمة السَّبك، في نسق التأليف الإلهي المعجز الذي يأتي بالحادثة إلى موضعها حيةً وميتةً، ويُنزلُ الكلمة في مستقرها من الموعظة، ولو أن فيها ذهابَ نفس وإدبارَ نعمة، ويدير المثل والفلك بأسلوب واحد.

وقد أسند هذا الرجل في حدود السبعين وكادت تحطمه السن، ولا يزال متأبِّدًا٨ لم يستر سقفُ بيته امرأةً، ولا ضحكت الشمس فيه على وجنةِ طفلٍ يتبسم، وقد نشأ على أن حُبَّ المال لا يستقيم إلا ببغض النساء؛ لأنه أكثر ما يُجمع لهن، وأكثر ما يُنفَق عليهن، ولا يرى المرأة إلا أنها «ثورة مالية»، «وسوق في البيت» و«أزمة يحتالُ الرجلُ للخلاص منها بالوقوع فيها»، ويقول إنها منذ أكلت من الشجرة الملعونة في السماء جعلت الرجل شجرتها الملعونة في الأرض، فهو ما عاش ينبت وينمو، وهي ما عاشت تحصد وتأكل. وقال مرة: إن الرجل لا يزال عقلًا حتى يتزوج، فإذا هو فعل فقد صار من زوجه وأولاده سلسلة بطون. فقيل له: ولِمَ لا يكون يومئذٍ من زوجه وأولاده سلسلةَ عقول؟ قال: إلى أن يصبح أطفالُه القدماء رجالًا يكون هو قد صار طفلهم القديم!
وجاءه يومًا سمسار يساوِمُه في أرض له، وجعل يراوغُه ويترقى إلى خديعته بما أُوتِيَ السماسرة من خبث ودهاء، ويُقبِل به مرة ويدبر به مرة، والكونت في كل ذلك يعبث به ويُنمي له،٩ ثم صرفه على طمع كاليأس، فلما ذهب مُدبرًا قال: ويحي! لو أن هذا السمسار كان امرأة جميلة إذن لأدارني في يده كما يرقص الدينار على الظُّفْر؛ فالحمد لله إذ خلق النساء على نظامٍ رحيم، فجعل في هذا الشر المحتوم موضعًا للهرب!

ولما بلغ الخمسين — بعافية من الله — قال: أحسبني لو كنتُ متزوجًا يومًا فإن امرأتي في هذه الساعة تلتقم ثديَ أمها؛ فسأنتظر حتى تصلُحَ لي! فأجابه بعضهم: وحتى تصلُح لها أيضًا!

وتواصفوا عنده الجمال مرة، وأفاضوا في حديث النساء والنعمة بهن — وقد تعالم الناس ذلك البغض منه — فلما أضجروه قال: حسبكم يا قوم، ما أراكم إلا تخلقون إفكًا؛ إنَّ هذه المرأة في حقيقتها غيرُ تلك المرأة في وهم الرجل، فهي هي حتى يبعث عليها وهمه ويصبغَها بألوان نفسه وتستضيء به، فكأنها منه أمام الفانوس السحري! إن المرأة خصمٌ عنيدٌ لا يقتل بالغضب ولكن يقتل بالضحك، وشرُّ ما فيها أنها إن لم يكن منها قتلٌ فليس معها حياة.١٠

تقولون إن الرجل محتاج إلى المرأة! فقد كان ذلك أيام كانت المرأة كأنها في عملها للرجل رجلٌ آخَر؛ فتلك حاجة اليد إلى اليد، وحاجة الظَّهير إلى الظَّهير، ولَهِيَ مناقلة طبيعية في الجنسين بين قوَّة تحتاج إلى ضعف يُخفف من سَورتها، وبين ضعفٍ يحتاج إلى قوة تشُدُّ منه؛ فلو كان للعالم كله رجالًا إذن لَطالت أنيابهم كثيرًا، ولما وُجِد على الأرض مَن يخترع مقصًّا للأظافر!

أنا لستُ أنكر أن المرأة شيء طبيعي، وما هي بِهُولةٍ من الهُوَل١١ ولا مسخ من المسوخ، ولا أنا آسِفٌ على خروج آدم من الجنة بذنبها؛ فإني رجل اقتصادي، ولقد كان من هذا الذنب رأس مالٍ كبير، فإياكم وإياي، لا تظنوا أني أكابر أو أماري، ولا تحسبوني جِلفًا يكره الجمال، ويريد أن يكون للمرأة بديلًا من رأسها النحيف المكلل رأسُ جاموسه، وبدلًا من يدها الرَّخصَة الناعمة ظِلفُ بقرة!١٢ حسبكم يا قوم — حسبكم الله — لا أُطيق هذا العبث بي، ولكني أسمعكم تقولون المرأة، وتصفون المرأة، ولا أرى المرأة نفسها كما تحدِّثون وتصفون، بل أرى مخلوقة غريبة الأطوار في هذه المدنية، وأرى خرقاء إنْ لم يكن معها الإفلاس فلا أقلَّ من أن يكون معها الندم أو الغيظ أو السخط، وربما كانت بلاءً ماحقًا يُزَفُّ إلى الرجل يوم زواجه باحتفال، يخيَّل إليها من الفكر في المال أن الرجل هو مال أيضًا، وتريد أن تتزوج، ولماذا؟ لأن المحراث لا يلتمع نصله إلا بعد أن يجدوا له الثور!

امرأة متأنقةٌ لا تريد إلا أن تطلع الشمس كلَّ يوم على زيٍّ جميل، ليكون لزوجها كل يوم هَمٌّ جميل، ثم هي أحسن ما تكون حين تخرج من بيتها، كأن بيتها مُنْخُلٌ لا يمسك منها إلا الحثالة!

إننا يا قوم لقاء المرأة لا تِلقاء معجزة من معجزات الأنبياء، فنحن نستطيع أن نقول هذا خطأ فيها وهذا صواب منها، ولكنها على أي أحوالها لا تريد أن نكون معها أبدًا إلا على حالة واحدة؛ تريد أن تشبه نفسها لأنها لا ترى أكمل من نفسها، أما الرجل فهو إذا رأى فيها نقصًا، فذلك عندها لأن عينه عين رجل، وتكاد أهدابها تكون من شعر اللحى والشوارب؛١٣ فمن ههنا لا يرى الخبيث تلك الحسنات النسائية التي تترقرق من المرأة في كل شيء صافيةً جميلةً كنور القمر.

ترى هذه المرأة أن كل حَسَن في أعمالها لا يكون إلا أحسنَ شيء، لأنها حسناء، ولكنها لا تُقِرُّ أبدًا أن كل قبيح في أعمالها ينبغي أن يكون أقبح شيء، ولماذا؟ لأنها حسناء أيضًا!

هذه المرأة الجميلة قد ظنت عند نفسها أنها شيء مقدس؛ ولذلك لا تريد أن تعمل عملًا كبقرة البراهمة، فيا ليت الرجل كان شيئًا مقدسًا أيضًا، كعجل المصريين القدماء! ولكن البقرةَ المقدسةَ في المرأة لا تعرف العجل المقدس في الرجل!

يا هؤلاء، إنما الرجل مخلوقٌ قويٌّ، ولكن معظم قوته منصرفٌ إلى حواسه، فمن ثَمَّ كان في يد المرأة ضعيفًا؛ لأنها على ضعفها ينصرفُ ما فيها من القوة إلى عواطفها، فلا يلتقي الخصمان إلا كانت الهزيمة على الرجل، وقد كان لولا سِفاهُ رأيه في منظرٍ عن هذا ومُستمَع،١٤ فما رأيتُ قطُّ رجلًا يهوى امرأة إلا اعتدَّ سلطانه في أنه يشعر بسلطانها عليه، وكان رضاه في أنها راضية عنه، فهكذا هكذا.
جعل الرجل حاجته الكبرى في المرأة، وبالَغَ في توهُّم هذه الحاجة، وافتن في تصويرها ألوانًا وضروبًا؛ فجعلت المرأة حاجته إليها سببَ كل حاجة لها، وبالغت في الطلب، واحتكمت فيما تطلب، وانصاع الرجل في يدها كالبهيمة السائمة، وجعله التمدنُ الفاسدُ في رأيها كآلةِ الساعة، علامة ضبطها وإتقانها «أن لا تقدِّم ولا تؤخِّر»! وإن تعجبْ فعجبٌ أن هذا الرجل نفسه إذا هو كبحها مرةً عن حاجة تطلبها، أرضاها بحاجة أخرى لم تطلبها؛ فكأن هذا المسكين إذا تعبَّدَ لها يأبى إلا أن يكون عبدًا بشهود وأدلة. وتحسب المرأة اليوم أنها غير المرأة من قبلُ، وغير ما كانت حالها، كأنها رُقى في التاريخ، فقد غيَّرت نفسها بالفنون والعلوم والأزياء، وبهذا التحكم الباطل وبهذه الدعوى الفارغة، وأنا أول المؤمنين أنها غيَّرتْ نفسها، ولكن هل غيَّرَتْها الطبيعة؟١٥

أيها السادة، إن مع كلمة «هات» كلمة «خذ»، لولا كلتاهما لخربت الدنيا وتقاصرت الأمور والأحوال، وكل عمل وكل عامل يتركب منهما؛ فالدنيا كلمتان «هات، وخذ»، والحياة كلمتان «هات، وخذ»، والمرأة التي تصفونها كلمتان أيضًا، ولكنهما «هات، وهات»!

قال «الشيخ علي»: ومَرَّ هذا الكونت في فلسفته يمضغها مضغ الماء، وربما أصاب شيئًا، ولكن ماذا تنفع كلمةُ الحق يُراد بها الباطل؟ وهذا رجل يتكلم كأنه ابن شجرة لا ابن امرأة! على أنَّ مَن تعلَّق شيئًا من أمور الحياة وُكِلَ إليه، وهو بعدُ لم يعرف غير المال يجمعه ويدخره، وقد خلقه الله رجلًا ماليًّا، ويَسَّرَه لما خُلِق له، وكثيرًا ما رأى وجهه في المرآة؛ فكان يعجبه من مَنْخِرَيه أنهما في تَفَرْطُحهما «كحافِرَيْ حصان الجنيه الإنجليزي»!

ولما استوفى عمرَ السبعين وأصبح في يبسه وموته كأنه جِذرُ قرنٍ من الزمن، خرج في عيد مولده إلى سواد المدينة١٦ منحدرًا إلى قرية يملكها، وانطلق يَجتلي مناظرَ الطبيعة، فكان لا يرى في السائمة والطير والنبات والأزهار إلا شبابًا وطفولة، وكان وحده منظر الهرَم المستميت في هذه الطبيعة كلِّها، وأعجبته شجرة قائمة على مسيل الماء، وأعجبه أن يتفيَّأ ظلَّها وقد تَحَفَّى بروحه المتعبة بردُها ونسيمها، فانطرح يتثاءب هنيهةً وأحبَّ أن يسافر إلى شبابه البعيد على مطية النور، فكبس رأسه على ذراعه فإذا هو نائم كأنما جرع السمَّ، فخمده من فوره.

ورأى فيما يرى النائم كأنَّ الأرض ترَقِّصه على أعشابها لتمسح عن أعضائه التعب، ثم أبصر السماء في مثل تحاسين الطاووس من ألوانها وأصباغها، كأنما أشرَفَ على الأرض فجرُ يومٍ من أيام الجنة، ثم نظر فإذا ضوءٌ رطبٌ يتندى وقد ترقرق فأصاب شفتيه الذابلتين، ولمح على إثره وجه حسناء كأنها فِلقة القمر، فكان ذلك الضوء قبلتها وابتسامتها، وكان على قلبه «بردًا وسلامًا»، فنصب لها يديه يتناولها فإذا هي تتخطى الغمامَ هابطةً إليه، وإذا هي على الأرض نحوه مقبلة، وإذا هي أمامه ضاحكة، وإذا هي ملء صدره وذراعيه؛ فارتجف جسمه رجفةً شديدة كأن فيها شوق سبعين سنةً من الهجر، وما لبثت عقدة أجفنه أن انحَلَّتْ، فنظر فإذا يدُ فتاةٍ قروية ناعمة تهزه برفق!

فانتهض الكونت كأنما نشط من عقال، ولما تصحُ عيناه من سكرة الحلم، فكان يُخَيَّل إليه أنه يرى جمال السماء والأرض معًا في طلعة هذه الفتاة وعلى غُرتها، ثم كشف لها عن رأس كفَرْوَةِ الأرنب البيضاء، وانحنى متأدبًا، وقال بلطف: أشكرك يا سيدتي!

أما هي فابتسمت له، وقام في نفسها أنها هي ردت عليه روحه، وأنها لو لم تنبهه لما انتبه آخِرَ الدهر، كأنما حسبته ميتًا، وظهر هذا الفكر في ابتسامتها فأكسبها شيئًا من قوة روحها، وجعل لشفتيها الحمراوين جمالًا كجمال الشفق إذا افترَّ عن نور الفجر.

وتأمَّلها الرجل بمبلغ ما في نفسه من لذة الحُلم، وما في صدره من ضجعة تلك الحورية التي تلوَّت عليه وتقلَّبَتْ فيه؛ «وبعث عليها وهمه، وصبغها بألوان نفسه، واستضاءت به فكأنما منه أمام الفانون السحري!» وما خلق الله لذةً أهنأ للنفس من لذة الأحلام، فكأنما ترى فيها النفس شيئًا من تحقيق المستحيل، وإن في أعقاب هذه اللذة بعد اليقظة ما يُشعِرُ المرء بالأمانيِّ كيف جاءت وكيف ذهبت، فكأنما كان في حياة أخرى، وكأن نفسه تتمسك بهذه الحياة ولا تريد أن تُسلِمها، فتكون ذكرى الحلم أروح للنفس من الحلم نفسه على الحقيقة؛ لأنها نتاج ما بين لذةٍ لم تكن شيئًا ولذةٍ صارت شيئًا.

وثبتت صورة الفتاة في عينه على ما اشتهى، وكانت زهراء اللون، حوراءَ العينين، ساجية الطرف، أسيلةَ الخد، باسمة الثغر، حسنة التكوين كأنها ريحانةٌ تَرِفُّ رفيفًا، وتكاد من فرط رقتها تتكلم ابتسامًا حتى لا يحسب مَن رآها أن الشمس طلعت يومًا على أبدع من ثغرها واللؤلؤ، ولا أحسن من خدها والورد، وكأن الطبيعة يعتريها أحيانًا من سوء الحرص وسوء الخوف وسوء الحيلة بعضُ ما يعتري الشحيح الذي يخبأ أنفس ذخائره في أخس الأمكنة وأقبحها منظرًا، وفيما لا حفل به من الأداة والمتاع، فكانت «لويز» على ما وصفنا من الجمال والظرف، ولم تكن مع ذلك إلا قروية!

أما صاحبها فما أشبهه بعُنُق النس؛ شيخ مضعوف، كالعرق المنزوف، والعظم الملفوف، ممسوح العضدين،١٧ ناسل الفخذين، كأنما يتوكأ منها على عصَوَيْن، غير أن له عينًا يتوقد فصُّها ويستنفض الناس طرفها،١٨ فلا يملك مَن تقع عليه أن يضطرب، وكذلك اضطربت الفتاة، وما كاد الرجل يلمح اضطرابها حتى طبع الله على بصيرته، فحسب ذلك معنًى من الغزل، وانطلق وراء خياله يمرُّ به على آمال الشباب الفانية، وكان لحظُ الفتاةِ ينساب في عروقه دمًا يغلي، فحسب أن جسمه قد ثاب إليه،١٩ وأنه بُعِث خلقًا جديدًا لهذا الحب الجديد.
ويبالغ في التظرف ويجلس قريبًا منها يستنبئها، وهي تُطرف له من أخبارها،٢٠ فعلم من روايتها أنها شريفة النسب خالصةُ العِرْق، وقد نبا بها المنزل وانحطَّ الدهر على أهلها، فهي ذاهبة إلى المدينة تلتمس حياة التقوى في دير العابدات، وعلمت هي من رؤيته أن في هذا الموت الماثل أمامها حياةً، وأنه لا مذهب لها من ورائه إذا هي أفلتته إلا مذهب القدر المجهول، ورأته كأنما يتشرب لفظها ولا يسمعه، وأبصرت هواها في حماليق عينيه؛ فجعلت حينًا تبسم له وتلحظه، وحينًا تلحظه وتبسمُ له، وما تلفظ من أنه في بث حزنها إلا أحس المسكين أنها نَقرة على أوتار قلبه، ولعل الإنسان لا يمكنه أن يحب إلا إذا هيَّأت له الطبيعة مجلسَ الحب على ما يشتهي، وعلى ما هو مذهب الحب في نفسه!
وقد مَذَعَتْ له الفتاة من خبرها،٢١ وكتمت عنه أنها طريدة منبوذة، استزلها فتى من عشيرتها على أن يتحللها وكان منها معقِد فؤادها زمنًا، ثم طوَّح بها عارُه وغدرُه ولؤمه جميعًا، فخرجت هائمةً على وجهها، ولفَظَها قومُها كما تُطْرَحُ الثمرةُ إذا دبَّ فيها الفساد من عبثِ الطير!

قال «الشيخ علي»: وانقلب الاثنان كلاهما صيد وصائد؛ أما هي فأصابت رجلًا مجنونًا بها يحبها حبَّ الجدِّ والأب والزوج والعشيق، فإنْ ثاب إليه عقله من جهةٍ بقي مجنونًا من ثلاث جهات، وحسبت أن الموتَ مُصْبِحُه أو مُمْسِيه، فهو همُّها عشيةً أو ضحاها، ولقد كانت من الضائقة والعوَزِ وشدة الاختلال بحيث لو عُهِد إليها أن تغسل الزنجي حتى يبيضَّ لقاء درهمين لطمِعَتْ فيهما! وأما هو فقد ظفر في زعمه بالمرأة الطبيعية التي نبتت مع الأزهار، وطلعت في سماء الحياة مطلع ضوء النهار، وحسب أن هذه الفتاة التي تناهز العشرين إنما هي زيادة عشرين سنة في عمره ينتهبها من القدر انتهابًا، ويقضي بها دَيْنَ الحب طفولةً وشبابًا. ولستُ أدري كيف عزب العقل عنه، ولا كيف خذله رأيه، ولا كيف وَهَى ركن فلسفته وكان من قبلُ وثيقًا، ولا كيف أحبَّ منذ الساعة وقد كان يتصاون عن النساء، ويحسب أن بغضهن عقدٌ لا يحله إلا مَن يحل عقدة نفسه!

ولكن الحب يا بني لا يكون عجيبًا بلا شيء يعجب منه، وكثيرًا ما يتملأ الرجل بغضًا ليحب بعد ذلك بمقدار ما أبغض،٢٢ فمَثله كمثل مَن يبحث عن البرهان بطريقة من طرق المغالطة التي لا تؤدي إليه، فمتى أصابه كانت قوة البرهان بطريقة استخراجه العجيبة أشدَّ منها في البرهان نفسه.

وهي الأرواح ما يزال بعضها يتسلط على بعض، وما إن يزال في كل روحٍ معنًى هو الوسيلة إلى هذا التسلط ومنه مساغه ومأتاه؛ فلو قلتُ إن في مسلاخ ذلك الرجل معنى الحمار لما كان في الفتاة إلا معنى العصا، وكذلك انطلقت وهي تسوقه في طريق مصائبه، وعند العصا تفرغ حيلة الحمار، ولو كان الحمار أبيًّا.

في الحب

من هذه الهيفاءُ التي تستميل ولا تميل، وقد استبدَّت بالجمال فلا يُرى في غيرها شيء جميل، طالعةٌ كالضحى فكلُّ نجمة من ضوئها كاسفة، لاهيةٌ كالنسيم وفي كل قلب من حبها عاصفة، وقد عَبَدَها العشَّاق باطلًا كما يعبدُ المجوس الشمس، وتمنَّوا في دلالها المحال كما يتمنى المرء من أمس، وكتب عليهم هواها المحتوم: «جندٌ ما هنالك مهزوم»!

وكم تمنَّوا لو أن لين أعطافها، يتعدى إلى انعطافها، ولو أن بعض ابتسامها يشرق على ظلمات اليأس من غرامها، وهي تقتل منهم برضاها وغضبها على السواء، كأن حبها الموت متى قضي جاء به الداء، وجاء به الدواء!

في الحفلات

ومَن هذه الطالعة في غلائلها، المعروفة في الحسن بدلائلها، المشرقة كالبدر في ظلمة الحلك، الضاحية كالشمس في قُبَّة الفلك، تعترف بالهوى في ألحاظها، وتنكره في ألفاظها، وتُقبِل بعينها سائلةً عمَّا بين جنبيك، وتلتفت بجيدها مائلةً عن جواب عينيك، وقد حَسَرت عن زَندَيها، ووضعت رمزًا للحب تلك الوردةَ على نهديها، فلاحت للمحبين كأنها رُوح القبلات من خديها؟

في الرقص

ومَن هذه الزهراء كالنار المشبوبة، الحسناء كالدمية٢٣ المنصوبة، المشرقة في زينتها كغرة الدينار، اللائحة في ميناء الدموع كما يلوح المنار، وقد شفَّ قلبُه عن الجوى كما يشفُّ الزجاج، وتدافعت من طرب الهوى كما تتدافع الأمواج، وهي ترقص على حركات القلوب في الضلوع، وتسترسل في سهولةٍ كأنها جسم خُلِق من الدموع، والأبصارُ قائمةٌ على قوامِها، والنفوس حائمةٌ منها على حمامها، وما هي في عين المحب إلا خطرات الطيف، أو رقة نسمات الصيف، ولا رقصها إلا معركة في الحب قام فيها اللحظ مقامَ السيف؟

في الموسيقى

ومَن هذه الباسمة كالأزهار، الساجعة كالأطيار، التاركة عشاقها كالشمس بين طرفي الليل والنهار، القائمة كالكأس في اليد، الناعمة كالحمرة في الخد، وهي تحيي بالصوت لأنه يخرج من صدرها، وتسكر باللفظ لأنه يمر من ثغرها، ويكاد يخلق من سحر نغماتها القلب المفتون، ومن حركات أناملها العقل المجنون؛ إذا صَدَحتْ فحمامة، وإذا رقصت فغمامة، وإذا أرسلت من يدها «صيحةَ» الأوتار أقامت للطرب «القيامة»؟

•••

تلك هي درة الصدفة المطروحة على ساحل الموت، وهي حمامةُ ذلك القفص البالي المصنوع من العظام، وهي خطيبة الكونت فيكتور!

وتلك هي «لويز» القروية الساذجة؛ كانت نبتةً في الطين، فأصبحت زهرةً في وعاء ثمين، ولأن تكون نبتة مهملة وتنمو، خير من أن تكون زهرة مرعيةً وتجف.

ولقد رأى الكونت — أخزاه الله — أن أحسن ما يكون الاستمتاع بالجمال حين يكون الجمال فنًّا وفتنة؛ فأما الفتنة ففي عيني لويز وجمالِ تكوينها، وأما الفن فلا سبيل إليه من هناك ولا من فلسفته، وليس إلا أن يبسط يده كل البسط حتى تنبت له تلك الزهرة من أغصان الذهب والجوهر؛ فأنفق واتسع في الإنفاق، وجعل آمالَ شيخوخته كلَّها مقترحاتٍ في زينة الفتاة؛ فبرعت البراعة كلها في الرقص والموسيقى، وأحسنت من الفن النسائي في أساليب الظرف والجمال والزخرف على جسمها، ما ترك هذا الهرم المتصابي المفتون يفاخر الناس كافةً بأنها خارجةٌ من قريحته.

وأعجبُ ما في أمره أنه على كثير ما أنفق وطائِل ما بذل، لم يكن يرى أنه أنفق على لويز ما لا بد منه لمثل لويز! وهو منذ أصبحت في كنفه استبدلَ من الحرص على المال بالحرص على الحياة، وعرف أنه لا بد في الحب من وسيلة، وأن قلب المرأة ليس في يد أحدٍ، ولا في يد المرأة نفسها، بل هو يحتكم فيما يختار، ويختار على ما يحتكم؛ وأنه ليس أشد عنفًا من هذا القلب، فهو إن لم يُحيِ قَتَلَ؛ يحبُّ المرأة عاشقٌ غير محبوب منها، ويريد مراغمتها على حبه، فيقتله قلبها لوعةً وضنًى بما يطوع لها من صده أو بغضه، وتحب المرأة ثم يمنعها قومها ويرغمونها على غير مَن تحب، فلا يقتلها إلا قلبُها!

وإن «فكتور» ليعرف أنه فارغ الخِلقة من وسائل الحب كلها، ويعرف أنه في أحمض أنواع الهوى لا يعدل أكثر مما تعدلُ قشرة الليمونة المعتصرة، فكيف به في الثمر الحلو، وكيف به في حب لويز!

لم يَبْقَ إذن إلا أن «يخرج الوسيلة من يده»، والمال أضعف الوسائل في الحب الصحيح، وإنْ كان أقواها في الحب المكذوب، على أنه لا يجعله قويًّا من ضعفٍ إلا أن يظل يمد بعضه بعضًا، فإذا أنفضت اليد أو أمسكت، فلأن يقبض المحبُّ على الريح أيسر من أن يضع يده على ظبية شاردة.

ومن أجل ذلك توسَّع الكونت في البذل حتى كأنه كيسٌ مخروق، ولم يعرف لها طلبًا إلا بلغ فيه رضاها، وحسب أن في رضاها محبتها، فكان يأتي بالحاجة التي تطلبها والحاجة التي لم تطلبها، ويجعل كل شيء شيئين، «وأبى إذ تعبَّد لها إلا أن يكون عبدًا بشهود وأدلة»!

وبقيت «لويز» تتربص به الأجل، فكانت له كحرف التسويف، ولا تزال تدافعه عن نفسها، وتروضه على الصبر، وتمنِّيه أنها تستتمُّ فنون الجمال من أجله، وأن هذا القمر متى تمَّ فسيدخل معه في المِحاق لا محالة، وتظن باطلًا أنه لم يَبْقَ منه إلا كما بقي من ذَنَب الوزغة٢٤ تضرب به يمينًا وشمالًا ثم تموت، بَيْدَ أن الموت لم يستنقذها منه، وإنْ كان يرأف بها أحيانًا، وتدخله الرقة عليها فيُنيب عنه «الروماتزم»٢٥ ليريحها بضعة أيام!
وكان الرجل يخشى غضبها، ويطمع في رضاها؛ فكان يستعين ببعضه على بعضه، ويعلم أنها ترى الصبر أحسن ما فيه، فيترك أقبح ما فيه جانبًا ويصبر، فلما استوت فتنتُها ولم يَبْقَ من باطلها ما تتعلل به أو تمتلق به علةً، ورآها قد أخذت زخرفها وازَّينت واهتزت وربت؛ صار منها كحرف الجر٢٦ لا يريد إلا أن يكون الجار والمجرور «متعلقين»، وفرغ صبره واستيقن أن له آخرةً، وأن صاحبته لا تزال في أول دلالها، وكانت تحسب الدهر نائمًا عنها، فإذا عينه قد انتبهت في أجفان هذا الشيخ، فنظر إليها نظرةً لا صوابَ فيها.

وباغتها الرجل فخيَّرها بين أمرين خيرهما شر: إما طريق إلى صدره، وإما طريقة من غَدره؛ ومع الأولى الوصية بالمال، ومع الأخرى أن تذهب في الحال!

وكذلك غلبها على أمرها، وانتصر في معركة كان لا بد أن يخر فيها أحدهما صريعًا، وقد استحال أن يكون المغلوب غيرها، وإن عثرةً تنتهض منها بعد حين خير من عثرة لا تستقِيلُها؛ ورأت الظبية أن لا مناص، فوقعت في يد القنَّاص.

يا ليل

الليل منسدلٌ كأنه حجاب مضروب بين الحياة والأحياء، مجتمعُ الظلمة كأنما هي ذنوبُ الناس في نهارهم جعلت الملائكة ترسلها إلى السماء، وتغشَّى الأرض معنًى من خشية الله فنفرت له دموع المساكين، وأقبلت عليه أنفاس المحزونين، وبرزت له في آثار الظلم دعوات المظلومين؛ وقد ارتفع إلى الله صوتٌ يتقطع زفرات، ويتلهب حسراتٍ، ويسيل من الدمع قطرات، وكان صوت «لويز» وهي تزفر الزفرة تكاد تنشقُّ لها، وترسل الأنَّة تكاد تُدفَن فيها؛ وما بها الغيظ فتسكته عنها، ولا بها الحزن فتمسحه بدمعها، ولا بها الهم، ولا بها الغضب، ولا أمر مما يتواصفه أهل البلاء ويبثونه في شكوى أحزانهم، وإنما ذلك شيء إنْ يكن من الحياة فليس بالحياة، وإنْ يكن من الموت فليس بالموت، ولعله منازعة الحياة والموت على قلبها!

ما بكِ يا لويز وقد بِتِّ زوجَ الكونت الذهبي، وهو عمَّا قليل آخِذٌ ما أمامه وتارك ما وراءه، وما بك أيتها المسكينة وقد كنتِ فقيرةً بائسةً لا تملكين قوت يومٍ فقبضت على أعناق سبعين سنةً تجمع المال وتكنزه، وما بكِ — عمرَكِ الله — وقد خرجت من الكوخ إلى القصر، وصعدت من العريش إلى العرش، وإن كانت حواء قد طُرِدتْ من الجنة فقد طُرِدتِ أنت إلى الجنة، وفي الجنة قوم يُقَادون إليها «بالسلاسل»!

قالت المرأة وهي تناجى ربَّها: إلهي! ماذا قضيْتَ عليَّ؟ لقد وضعتَ الدنيا على راحتي، وكأن مملكة آمالي مرسومةٌ في كفي، ولكن أي فرق بيني وبين تمثالٍ من الذهب الخالص في منزل هذا الرجل! لقد رددتني من فقري وذلتي إلى رجل رددته أسفل سافلين،٢٧ فما يريني الدنيا التي أعرفُ أنها الدنيا، ولكنه يريني الآخرة!

يا ويلتا! إنْ لم يخجل الرجل من شيء أفلا يخجل من أنه لا يخجل؟ أبى هذا الموت لشقائي إلا أن يتخذني زوجته، وكنتُ خليقة أن أجعله أسعد رجل في الدنيا لو اتخذني ابنته!

اللهم إنك رزقتني العافية في كل جوارحي، ولم تُصِبني إلا في القلب!

يا ويلتا! ما أنا إلا لعبةٌ في يد هذا الطفل، لا يلذه شيء أكثر من تحطيمها في طرق لذته، وقد خلقتَ يا رب مَن يحطم القلوب الصحيحة ولم تخلق مَن يستطيع أن يجبر القلوب المكسورة، وإنه ليس فيما برأتَ وذرأتَ مخلوقٌ أشدُّ تعبًا ممَّن يفتش في قلبه عما ليس في قلبه، وهل في الممكنات أو في أشباه الممكنات أن أجد في ناحية من قلبي حبَّ هذا الزوج؟

لقد عرف الناسُ أن قلب المرأة كثير العبث، وهذا الذي يسمونه دلالًا ويحبونه في الحب إنما هو شيء من عبثه، وأن هذا القلبَ إنما خُلِق ليحب؛ ولذلك أُعطي قوةً يخلق بها الحبَّ من العدم، غير أنهم جهلوا فيما يجهلون من أسرار المرأة أن ذلك القلب إنما جاءه العبث بالرجال من أنه لا يطيق أن يعبثَ به أحدٌ من الرجال، ومتى وجد من هؤلاء مَن يريده بنادرته، ويجعله من هزله معرض السخرية وموضع العبث، لم يكن في الدنيا أحد أبغضَ إلى المرأة منه، وإنْ كانت الدنيا كلها في طلعته، وإن كان مخلوقًا من رونق الشمس.

أليس النساء يُحببنَ حتى الكلاب ويُرفِّهنها ويغالين بها ويُنزلنها منزلة الولد في الحب والانعطاف والتوجُّع والتحزُّن؟ فسبحانك اللهم! إن هذا القلب الذي يسع حبَّ الكلب يضيق عن حب كثير من الرجال؛ إذ يحبون المرأة حبًّا ليس فيه شيء من روحها — حب الزينة أو الاستمتاع أو الخدمة — فكأنهم بذلك يبغضونها بغضًا فيه كل روحها.

يا ويلتا! أعجزت أن أجد في هذه العاجلة نفسًا أرى فيها نفسي؟ وهل حُرِّمَتْ عليَّ كلمةُ الحب فلا يفيض بها صدري ولا ينطلق بها لساني؟ وهل خُلِقْتُ لؤلؤةً لأكون في عِقْد من الحصى، ووسمني الله بهذا الجمال ليعذبني بهذا القبح؟ وما عسى أن ترُدَّ عليَّ هذه النعمة ما دمتُ لا أجد لها سبيلًا إلى قلبي، وما دام هذا القلب لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يُعامَل بالمال!

ضلَّ ضلالكم أيها الناس إذ تحسبون النعمة حقَّ النعمة في الغنى وحده، وتمضون الأمر على ما تخيلتم من ذلك، ولا تدرون أن الله ينتقم بالغنى أشد مما ينتقم بالفقر؛ فلو أني ابتليتُ بالمصيبة، وأنا امرأة خاملة لاحتملتُها وقلتُ خمول عرفته فما يبلغ بي ولا يزيدني بنفسي ولا بنفسه معرفة، ومن رحمة الله بالفقراء الخاملين أن في كل بلاء يعتريهم ما يُعينهم على حمل بلاءٍ أشدَّ منه، ولكن الضربةَ اليوم لا تصدعُ الصدَفة بل تسحق اللؤلؤة؛ فاللهم لا قوة إلا بك!

وما أشبَهَني إذ قَتَل هواي هذا الكونت، بزنجيٍّ من زنوج أمريكا اغتال سيدًا من البيض، فلم يجدوا له عذابًا إلا أن يشدوا قتيله في وثاقه، وتركوه يبلى تحت عينيه، ويسيل جوفه تحت أنفه، ويتناثر لحمه على صدره! وهكذا يقتله القتيل وحده بالرُّعب والجنون قِتْلةً لا وصف لها في لغة الحياة.

ولقد كنتُ بائسةً يطير بها القضاء ويقع، فلا تزال دهرها تحت جناح مخفوض من رحمة الله، أو فوق جناح منشورٍ من الأمل في رحمته؛ فلما وجدتُ الغنى واستشرفتُ للسعادة، شغلني الله بهمِّ نفسي، فشغلتني نفسي عن النعمة، فلا تزيدني النعمة إلا همًّا! وقد كتب الله عليَّ أن يقتلني بغض هذا الرجل، فوهبني الغنى من يده وحسب الناس أن ذلك لكيما أستمتع به، وعلم الله أن ذلك لكيما أتصل بقاتلي! فاللهم قد أحيط بي وليس ورائي منفسحٌ؛ فمن حيثما التفت لا أرى غير ما قضيتَ عليَّ أن أرى؛ وهذا امتحان أينما أتوجَّه في الحياة لا تقابلني الحياة إلا بمسألة من مسائله المعضلة!

إن كلمات القضاء لا تُقرَأُ لأنه لا ينزل بالناس إلا معانيها، على أن الكلمة الأزليةَ التي يكون معناها هذا الزواج وهذا الزوج، لا بد أن تكون جملة كاملة من غضب الله في السماء، لا يقابلها إلا سيرةٌ كاملةٌ من ازدراء الناس في الأرض.

•••

قال «الشيخ علي»: ونفرتْ دموع هذه المرأة تخفِّف من يأسها، وإنه ليأسٌ أكبر مما تحتمل نفسها من الصبر لو أنه من وجه ذلك الزوج وحده، فكيف به ومع ذلك الوجهِ شبابُها الهالكُ، وآمالها الضائعة، وغُصَّةٌ من شماتة الناس وازدرائهم، وبلاءٌ من نعمةٍ سابغة ستنقلب فضيحةً وسخرية؟

واهًا لكِ أيتها المسكينة! إن مصيبة الأغنياء لتكشف نفسها فهم يحملونها ويحملون آراء الناس فيها، وإن المصيبة لتكون واحدةً ولكنها ترتد إليهم من قلوب الشامتين من أعدائهم والمتربصين من حسادهم والمتوجِّعين من سائر الناس، وكأنها مصائبُ كثيرة لا تُعَدُّ.

والمرءُ لا يأخذ من الله بشرط ولا يعطيه الله على شرط؛ فإنْ كان في الغنى تلك النعمة ففي الغنى هذا الهمُّ، وما رأيت أيسر اضطرابًا من الماء الراكد قُذِف بحجرٍ، إلا الغنيَّ الغافل قُذِف بمصيبة!

ويحكم أيها الأغنياء! متى رأيتم ثمرةً لا تسقط أبدًا من غصنها الأخضر، وثمرةً تسقط من الغصن ثم تُرَدُّ إليه فتعلَق به وتنضج عليه، فاعلموا يومئذٍ أن غناكم هذا نعيم لا رزيئة فيه ولا مصيبة؛ لأن هذا الكون حينئذٍ يكون فوضى لا نظام له ولا قرار.

•••

وانصدع الفجر، وأقبلت الحياة تتنفس من مباسم الأزهار، وتتغنى بألسن الأطيار، والفتاة موجسةٌ أن ترى طلعة شيخها، وكأن هذه الطلعة صُبْحٌ غيرُ الصبح، وودَّت لو وقف الزمن، فإن لم يمكن فوقوفُ الأرض، فإن لم يمكن فوقوف قلب هذا الشيخ، وخُيِّلَ إليها أنها ستقرف بإثم منكرٍ إذا هو بادرها قبلة الصباح على مثل شفق الشمس من خديها، وأنها لا تُرمَى بمسبَّة أوجع ولا أمضَّ من قوله حبيبتي! وانسلخ الليل، وطارت الأحلام، وأفصحت الحقيقة، واستيقظ الكونت.

على المائدة

زهراتٌ ناضرةٌ كأنما اختبأت فيها ابتسامة الفجر، عاطرة كأنها رسالة اللقاء بعد الهجر، بديعة التنميق تحسبها قصيدةً من شعر الألوان، متفتحةٌ للحب وكأنها لكتاب الحب عنوان، متلائمة مصففة، متلاثمة كالشفة على الشفة، قائمة في جلالها وحسنها كأنها في خِلقة الجمال آية، وكل زهرة في لونها كأنها لدولة من دول الحسن راية؛ وقد جلست إليها غادةٌ فتانة كأنها في رقتها روحُ النسيم، وفي نضرة شبابها روح الحديقة، ولاحت الأزهار كأنما هي خيالات جمالها، وظهرت الغادة كأنها هي الحقيقة.

تلك هي «لويز» في صبيحة عُرسها على المائدة، وقد أثبتت في كل زهر لحظًا من لحاظها، ولا يشك مَن رآها في تلك الحال وهي ترتقب ظهور زوجها أنها تنفَس على هذه الأزهار شبابها ونضرتها وحسنَ ملاءمتها، وتحسدها على أن ليس فيها أعواد من الحطب تُفسد نظامها وتُنكِّر بهجتها وتغض من حسنها، كما ابتليت هي بزوج من عود.٢٨

وإنها لكذلك؛ إذا خَفقُ أقدام وضوضاءُ وموكبٌ وشيء كالموسيقى، فما لفتت جيدَها حتى أبصرت الكونت داخلًا يتوكأ على خادمين وله نغمٌ مختلف، وآهات وأنَّات، ومع هذا النغم سعال كقرع الطبل، وكان «الروماتزم» قد دبَّ دبيبه في مفاصله تلك الليلة، وبات يفتل في عروقه وأعصابه، ووعكته الحمَّى، واجتمعت إليه علل الشيخوخة كلها تهنئه بالزفاف، غير أنه لم يَنْسَ مع هذا البلاء كله أن عروسه ترتقبه على المائدة، فحفزه الشوق وعاوده الصِّبَى، فطار إليها بجناحين من خادميه.

ولما بلغ ظلها أفلتَ الخادمين ثم ارتمى عليها يقبِّلها رياءً ومصانعة، ثم تمسَّك بها يستند إليها، ثم انحطَّ إلى يمينها، وما كادت تناوله قدح اللبن يرتضعه، حتى غمره الألم وهاج داؤه، ففتح فاه وصدحت الموسيقى بنغم مختلفٍ من آهات وأنَّات، ومع هذا النغم سعال كقرع الطبل.

ورأت «لويز» ذلك فرقصت أحشاؤها! فلم تملك المسكينة أن اقتلعت جسمها من الكرسي، وانكفأت هاربة إلى حجرتها، وانطرحت في غمرة أخرى من الألم، وبقيت هناك ملقاةً يدار بها، وكانت لم تغتمض في ليلها، فاصطلح على جسمها همُّ الليل والنهار!

فصل خامس في السنة

وزالت هذه الغَشية عن الكونت بعد أيام، كانت العروس فيها من روح الأمل كالمختلعة٢٩ إذا أخذت كتاب طلاقها، أو الأَمَة إذا وُعِدت بعتاقها، وكان دعاؤها لله كلماتٍ لا تعدوهن، تقول: اللهم رحماك! فأنت المصيب وأنا المصابة، تلك قوتك وهذا ضعفي!

وكانت إذا حمدت الله تواردت مع زوجها فيما يَحمَد الله به من حيث لا يشعر أحدهما أو كلاهما، كأن للحب الشديد والبغض الشديد لغةً واحدةً؛ فكان هو يقول: الحمد لله إذ لا تراني! وتقول هي: الحمد لله إذ لا يراني!

وباغتها الرجل منصبًّا عليها، فلو أن ميتًا طالعها من قبره ما كان أروع لها عنه؛ قلبٌ حيوانيٌّ يسكن من أضلاعه الخربة في شقوق، وظهرٌ كالقوس يحمل من روحه سهمًا ليس له إلا المروق، وعروق ناشرةٌ كأنها في جلده المتغضن خيوطٌ في خروق … ودخل عليها كما يدخل الشتاء بكلوحه وبَردِه، على الروض النضر والبقية الضعيفة من ورده، ونظرت إليه فلم يقع من نفسها إلا موقع الهموم على الهموم، ولم يكن في عينها إلا كما يكون الحلمُ في رأس المحموم!

وجلس إليها الشيخ يتطفل ويقترح، وكانت لويز تعرف أن السنة أربعة فصول، أما سنتُها هذه فكانت فصولها بعد اقتراح هذا البغيض خمسة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، وشهر عسل الكونت! فقد لجَّ الرجل في عناده وأبى إلا أن يكون له ولها «شهر عسل»، ومما زاده لجاجًا وعتوًّا أنه كان يخشى أن ينسلخ الشهر، فقد ذهب نصفه في تجرُّع «الدواء»، ولم يَبْقَ «للعسل» إلا ريثما يمحق القمر أيامًا معدودات!

ثم انصرف من لدنها على أن تُرصِدَ للسفر أُهْبَتَه، وأن ينطلقا على جناح غراب.٣٠
واستقبلت العروس ليلتها، وجعلت تقلِّب وجهها في السماء، وترنو إلى النجوم بعينين قد ثبت في إنسانيهما خيالُ ذلك الرجل كما يثبتُ خيال القاتل في عين المقتول،٣١ فلم تر في هذه النجوم إلا هَرَم الدهر وتحجُّر الأيام، وقد استيقنت أن نجمها طامسٌ لا محالة٣٢ وكأنما خرج عن الفلك، وضل في ذلك الحلك!

وما هي إلا خطرةُ الفكر حتى لاح في مرآة نفسها خيالُ ذلك الشاب الذي اختلبها أيامًا بالهوى، وكان لها منه الداءُ وكان له منها الدواء، وأغواها في عرف الناس ولكنه هو ما ضل وما غوى، وكان هذا الفتى قرويًّا فحلًا، ظريفَ الهيئة، مستويَ القامة، عريضَ الصدر، تامَّ الخِلقة، وثيقَ التركيب قد ارتوت مفاصله، واستحكم نسجه، وله مع ذلك خِلابة، وفي لسانه دُعابة، فما أطلَّ حديثه وأنداه! وما أحلى خبره إذا كان من الغزل مبتداه!

وقد أحب الفتاة أكثر مما أحبته، ولكنها كانت غريرةً لا تتبين منزلةَ ما بين الحب والاستسلام، وبين ما يعدُّه الرجل وعدًا بالفعل وما يراه وعدًا بالكلام، ولم تعرف أن هذا الحب سلاحٌ ذو حدين، فالمرأة تقتُل به من ناحية الرجل، فإن غفلَتْ مرةً عن نفسها قُتِلت هي به أيضًا من ناحيتها؛ وأن حبَّ الرجل حب مجنونٌ بطبيعته، فإذا لم يكن حبُّ المرأة عاقلًا، انقلب كلاهما حيوانًا طامس القلب٣٣ لا يبالي ما جنى على نفسه؛ وأن الرجل يقاد من رغبته ما دامت أملًا في قلبه، فهو يَعِدُ المرأة ما شاءت وشاء لها الهوى، حتى إذا انقطع هذا الزمام انقطع ما بين لفظ الوعد ومعناه، فأخذ منها ما أخذ وترك في يدها ما أعطى، وما عسى أن يكون قد أعطاها إلا آمالًا ومواعيد وغرورًا من زخرف القول؟ وكذلك أمرُ الرجل والمرأة؛ تحسب الفتاة إذا هي أحبت فاستأسرت لصاحبها أنها تبذل في مرضاته أعزَّ ما تملك، وتنوِّله خير ما استؤمنت عليه، وتعطيه ما لا تستعيضُ منه آخر الدهر؛ وأن ذلك أحرى أن يُؤدم بينهما،٣٤ وأن يكون ميثاقًا للحب غير منقوض، ويحسب الرجل أنها لم تنله إلا شيئًا هينًا قريب المنالة، هو عندها وعند كل امرأة؛ فإن كان سَرِيُّ الخلُقِ نبيل النفس، رثى لها مما صارت إليه، وندمَ كما يندم على الإثم، ولا يكون همه إلا أن يلتمس المخرجَ من أمرها، فإن طارحته حديثَ الزواج رأى أن مَن فرطت له حَرِيَّةٌ أن تُفرط فيه، وبهتها بهذه الكلمة٣٥ وسلم وقد مات الذي بينهما؛ وإن كان لئيمَ الطبع خسيس النفس شدَّ على رقها، واتخذ من ضعفها قوةً ومن خوفها أمنًا، حتى إذا ملَّها تنكَّرَ لها ثم أنكرها، فإن استقضته ما وعد من زواجها رأى أن الزواج قد سبق أوانه؛ فلم تَعُدْ تصلح له ولا يصلح لها، وكلا الرجلين سافلٌ دنيء زَمِرُ المروءة،٣٦ وإن قال الناس فيهما سَرِيٌّ ولئيم.

فالسحابة تنهلُّ بمائها، ثم تجتمع مرة أخرى في سمائها، والزهرة تُقطَف لحسنها، ثم تنبت مرة أخرى في غصنها، ولكن العذراء حين تفرِّط في خِدْرها، وتضع نفسها دون قدرها، لا تبرح شقيةً حتى تنزل في قبرها.

وهكذا لا يزال الرجل في عُتُوِّه وظُلْمه كالساحل، ولا تزال المرأة في ضعفها ولينها كالموجة، فلو أن ألف موجةٍ عاتيةٍ يصدمن الساحل لاستباحهن وما سلبنه مقدار شبر من الرمل! وما اعترك رجل وامرأة في خُلُق العفَّة إلا كانت هي الساقطة وحدها في الاعتبار؛ لأن العفة إنما عُرِفت بالمرأة من أصل الخِلْقة، وإنما يتصاونُ الرجل تشبُّهًا وتقليدًا، فإنْ هو زلَّ مرةً وقارف الإثم فقد أخطأ في التقليد ولم يفقد شيئًا من طبيعته، ولكن المرأة متى فعلت ذلك فقدت من نفسها، وغيَّرت في تكوينها، وأخطأت في الأصل الذي بُنِيت عليه طبيعتُها، وقامت به شرائع الله ومرَّ فيه نظام الأمم؛ فلا جرَم كان عقابُها على الخطأ عقابًا نفسيًّا، يجمع من شدة الطبيعة إلى عَنَتِ الشرائع إلى قسوة الاجتماع؛ ولهذا كان شرُّ عيوب المرأة ما عاب فضيلتها الخصيصة بها.٣٧

قال «الشيخ علي»: وانطلقت نفسُ «لويز» لمسرى خيالِ حبيبها، وكانت تُبغضه دون البغض؛ إذ هو مُسْعِدها ومُشْقِيها، فصارت بعد زواجها تحبه فوق الحب؛ إذ لا ترى لها مسعدًا غير ذكراه، ولا تعرف على ظهر الأرض مَن أشقاها غير الكونت!

ولما ذكرته انهملت دموعها، فجعلت تبكي حتى انحلَّت سحائبُ همها، ثم أشرقت كما تصحو السماء في أعقاب المطر، فلو رآها أشعرُ الناس في ذلك الجمال المشرق الحزين الذي تورَّد حتى الْتَهَبَ؛ لَوقف عندها وقفةَ العابد في المحراب يشعر بالقوة الأزلية ولا يحسن أن يصفها. وأي شاعر تحيط نفسه بهذا الشقاء الذي رفعه جمالها الساحر من بين آلام الأرض وألحقه بذلك الألم المنفصل من السماء، الذي لم تشهده الأرض إلا مرةً واحدةً، يوم جلست حواء تبكي أول بكائها بعد خروجها من الجنة؟

ويا لله ما أروع الجمال حين يتألم ويحزن ويحضُر الجميلة همها! إن مَثَلَ مَن يحاول أن يصف دموع هذه الجميلة وحسراتها وصفًا ناطقًا يتنفس به القلب، كمَثَل مَن يريد أن يخلق من سحر البيان زلزلةً ترجُف بها الأرض حين يبالغُ في وصف الزلزلة؛ وما اللغة إلا أداةٌ، فكيف — ويحك — تستعمل هذه الأداة في صفة قوة تعجز عندها كلُّ وسيلة، حتى الشعور الذي أبدع اللغة؟

لقد جمعت المقاييس بين أقطار الأرض، وطوت ما بين الأرض والسماء، وداخلت ما بين أنجم السماء بعضها من بعض، ولكن أية أداةٍ تعيِّن لنا درجة الإحساس بين نفس عاشقة مُدْنفةٍ تشهد آلام نفسٍ معشوقة، وبين عينَيْ شاعر غزلٍ وثَّاب الخيال تنظران في عيني امرأة جميلة باكية، وبين ألم جامدٍ جافٍّ يضطرب في نفس الرجل، وألم سائلٍ متدفق تضطرب فيه نفس المرأة؟

إن هذه الأنفس إنما تشعر بمقدار ما فيها من الإحساس، لا بمقدار ما في الحقيقة من مادة الشعور. وكأيٍّ من رجل أبلهٍ متغفَّل يدور مع الآلام والأوجاع دوران الغبار في العاصفة، فإذا رأيْتَه توجَّعْتَ له وداخلتْكَ الرقةُ عليه وثارت نفسك من أجله ثورةَ السخط على هذا الاجتماع الإنساني، وتمر بالرجل ثم تنساه، ولكنَّ هناك طفلة، طفلةً صغيرة قريبة العهد بالغيب٣٨ قد ضلت بيت أبويها في المدينة المترامية، فمشت ذليلةً ضائعةً يتحيَّر الدمع في عينيها كما تتحيَّر الألفاظ بين شفتيها، وقد ساورها الخوف، وتوثَّبَتْ نفسها فزعًا لهول ما هي فيه، وجعلت عيناها تتوسلان إلى الناس بالبكاء، ولسانها يتلجلج بألفاظ مرتعدة كأنما ينتفض عليهن قلبها الصغير، وهي في ذلك لا تبرح تتمثل أبويها فتضطرب اضطراب الفرخ إذا سقط من وكره ولم ينتهض، وترى أن المصيبة قد انحصرت فيها وحدها من دون الناس، فتبكي بكاءً تكاد تنشقُّ له، ثم تعود إلى التوسل بعينيها الدامعتين وبألفاظها المتلجلجة؛٣٩ فانظر وأنت أبو مِثلها ما عسى أن ينزل بك من الحسرة ويتغشَّاك من الهم، إذا رنَتْ إليك هذه الطفلة من وراء دموعها تسألك أن تدلها على بيت أبويها الماثل في رأسها الصغير، وهي تحاولُ بذلةٍ ومسكنة أن تنقله إلى نفسك وتبنِيَه فيها بألفاظها وإشاراتها الضعيفة لتهتديَ أنتَ إليه؟

فالمصيبة ليسَتْ مصيبةً بمادتها، ولكن بما يقابل هذه المادة من نفوسنا؛ ومن ثَمَّ فهي لا تؤثر فينا بنفسها، ولكن بالكيفية التي نقابلها بها.

قال «الشيخ علي»: ثم سكنت «لويز» هُنيهة لذكرى أيامها الأولى، وهي تعلم أن لا رُجعى لها، فقد استيقنت أن هذا الغنَى ضرب بينها وبين الفقر حجابًا، ولكنه رفع بينها وبين الشقاء حجابًا آخَر، كان ذلك الفقر وحده هو الذي يمنعها منه؛ وكأنَّ القدر لما اختطَّ لها التعاسةَ، رسم هذه الخطة بقلم من ذهب!

واستشرفت نفسها لخاطرٍ غريب ألمَّ بها فأضحكها على ما بها من الهمِّ؛ فقد أحضرت خيالها ذلك الحبيب الأول في شبابه الغض، وقوته الثائرة، وفورته العنيفة، ونشاطه المهزوز، وأرادته على حب امرأةٍ في أرذل العُمُر — وهو عمر «الكونت» — يلوحُ وجهُها في العين كما تلوحُ القِفَار، ويمتد أنفها بين الوجنتين كأنه جُحْرٌ في أحجار، ويضحك ثغرها الأدرَدُ٤٠ فلا تشك أنه في تلك الصحراء «غار»؛ وقد ثابرت عليها الأوجاع والأمراض، حتى أصبح جسمها بين يدي الموت كالخيط بين شِقَّي المِقْراض!
ثم جعلت ذلك الحبيب يتزوج منها لمالها وغناها، وقد أصاب عندها ملء أطماعه ذهبًا وفضة، ثم وصلت بين شعلة فؤاده الملتهب هوًى وشبابًا وبين هذا الجسم الفاني الذي يشبه حطام اليبيس،٤١ ثم أرادته على أن يعتقد أنها «السُّكرةُ» التي وُضِعت في كأس حياته لتُحليها، ثم نظرت لترى ما يكون من أمره وأمرها في الحب حين لا يكون الحبُّ إلا مراغمة وإكراهًا؛ فإذا الحُلُمُ قد انهال، وإذا الوهم قد استحال، وإذا الشاب لا يحبُّ تلك المرأة ولا في الخيال.

فجهدت أن تذكر في تاريخ الناس مَن يكون قد امتُحِن بمثل هذه المصيبة، وصبرَ لها كما يصبر من ذات نفسه على آفةٍ أو عاهةٍ أو مُثلةٍ، فأبى عليها الواقع أن يُخرِج لها مثالًا واحدًا!

فكدَّتْ ذهنَها في تصوُّر هذه الحال وتقليبها على وجوه مختلفة، فلم تستقم لها صورة صحيحة، وثبت عندها أن حب شاب قويٍّ في الثلاثين لعجوز هالكةٍ سبعين هَلْكَةً،٤٢ أمرٌ يكاد يكون في استحالة الجمع، كطرح السبعين من الثلاثين في حساب العدد!

وعجبتْ أن يستأثر الرجل وحده بهذه الأنفة، ويلتمس لنفسه في هذا الباب ما ينكر على المرأة أن تستنكره، كأن هذه المرأة عجماء لا تبالي من صاحبها إلا العلف، ولو انتهى بها إلى التلف؛ وكأن كل امرأة إنما هي اسم على جسم؛ فليس على الرجل إلا أن يختار اسمًا ثم يُثبتَه في وثيقة الزواج بعد أن يُساوِم عليه، أو كأن المرأة بلغت من الجفاء وضعف التمييز بحيث لا تأبى أن تتخذ أعواد فرشها من أعواد نعشها، وأن نقيم لها قبرًا في البيت، وتنظر كلَّ صباح في وجه ميت، وإلا فكم من فتاة كالقمر أخفاها نهارُ المشيب! وكم من عروسٍ للحب زُفَّت إلى غير حبيب! وكم من وجهٍ صبيح يقبِّله ثغر قبيح! وكم من كَعَاب سال عليها اللعاب! وكم من حسن هو رمز الحياة قَرَن به الموت رمزه! وكم من قدٍّ أهيف كالألف لا يرى إلا شيخًا أعجف كالهمزة!

وهنا انتبهت «لويز» إلى زوجها المتهدم الذي هو همزة القطع، وإلى تصابيه المضحك وحماقته العمياء وحبه الأخرق؛ فانتفضت من الغيظ وكاد بعضها يحطم بعضًا، وجعلت خواطرها تنبض في رأسها كلمح البرق، وأخذت تلتمس الوسيلة لردِّ هذا البلاء عنها أو مدافعته، بَيْدَ أنها كلما ابتدأت فكرًا انتهى بها إلى قولها: ما عسى أن أصنع؟!

هي لا تفكر إلا فيما ينبغي أن تصنعه، ولكن الفكر يُفضي بها إلى هذا السؤال بعينه، فكأنها من الهم والحيرة منعزلة عن نفسها، وقد نفَر منها فكرُها وقلبها وحظها جميعًا، ولم يَبْقَ معها إلا روحها المعذبة، وهي كذلك بينها وبين زوجها وبين القدر!

ولبثت زمنًا لا تجد من رأيها إلا قطعًا وأشلاء، حتى لمحت من نافذة القصر مركبةً تدرُجُ في الطريق، ورأت سوط الحوذيَّ يتلقى الأمر منه إلى الجوادين، فلا ينزل عليهما إلا انطلقا ملءَ العنان، كأنما يحاولان الهرب منه ولا يعلمان أنهما يهربان به؛ فرثت المسكينة للبهيمتين، ثم كأنما حُشِرت لها كلُّ مركبة على الأرض في صعيدٍ واحد، فلم تذكر أنها رأت قطُّ سائقًا ليس في يده سوط ما دام بين يديه حيوان!

وظلَّتْ واجمة عند هذا الخاطر هنيَّة؛ لأنها ما برحت تتلقى من ضربات القَدَر وهي تعدو في الحياة عدوًا فيه من السرعة بمقدار ما في هذه اللذعات من الألم! ثم قالت: تُرَى أيُّ حيوان في مِسلاخ٤٣ هذا الهرم؟ وما كذبت أن قلبت الخاطرَ على وجهه الآخَر، فتناولت السوط، واستوت على مركبة الأقدار، ولم يَبْقَ أمام عينيها إلا سبيل الحياة وظهر الكونت!
وكذلك فاءت من غضبها إلى رضا أقبحَ من الغضب، ورأت أنَّ هذا الشيخ المأفونَ الذي يتطاوع٤٤ للصبي وقد جاوز السبعين وهلك في الدهر، ثم لا يستحي أن يجعلها مُثلةً على أعين الناس، وأن يكون لها مخزية ولا كالمخزيات، جديرٌ به أن يجد منها كِفاءَ ما وجدت منه، وجديرٌ بها أن تُبدِله من شهر العسل شهرًا هو أحق به وأهلُه، وهو على ذلك أقرب الأشياء من العسل؛ لأنه … «شهر النحل»!

قال «الشيخ علي»: هكذا يُفسِد الرجلُ المرأةَ وهو يدري أو لا يدري، فهو يبتغيها متاعًا ويريدها مَلهاةً، ثم لا يقدر فيها غير الطاعة لما ابتغى وأراد، كأن الطينة الإلهية التي جُبِل منها الرجل شديدًا متماسكًا، بقيت منها بعده هنةٌ ضعيفة فتُرِكت حتى ركَّت وانسحقت، ثم خُلِقت منها المرأة ذليلة طائعة! وإنَّ أقذر خلق الله ليكون معه الدرهم فاضلًا عن حاجته، فلا يجد ما يمنعه أن يبتاعَ به الزهرة الناضرة، ولكن العجيبَ من أمره أنه إذا احتازها لا يلويها بين أصابعه ولا يدنيها من أنفه إلا بعيدًا بعيدًا وقليلًا قليلًا، بل إنه ليستحي لقذره من طهرها، ولنتنه من عطرها؛ فلا يحملها حتى يتجمل لها، ولا يظهر بها حتى يكون في الجمال أهلَها، وما أدري كيف أدَّبَتْه الطبيعة هذا الأدب مع شبه الجمال، ولا تؤدبُ مثلَ ذلك الهَرِم الأحمق مع الجمال نفسه؟

ويعمدُ الرجل متى أصاب مالًا إلى الطيبات من صُنوف الطعام وملذات الشراب، فيتضلع ويتملأ، وليس في ذلك من حرج؛ إذ هو ماله ينمو في باطنه، فإن ربح أو خسر فإنما «المضاربة» في مَعِدته! ثم يعمدُ أقبح خلق الله وجهًا وأظلمهم سنةً وأشأمُهم طلعةً، بذلك المال نفسِه إلى أجمل النساء فيُرخي عليها أستارَ بيته،٤٥ ويُساهِمها قبحه وجمالها، وإنما هي في رأيه بعض الطيبات، وصنفٌ شهيٌّ من طعام القلب، فتُرَى في أي جهة ينمو هذا المال الذي بذله وتندَّى به، فإني لا أرى له نموًّا في قلبه ولا في قلب تلك الحسناء؟
أما هو فما إن يزالُ يعرفُ منها البغض، وأما هي فما إن تزال ترى فيه القبح؛ وأحسب لو أنفقت ما في خزائن الأرض كلها على التأليف بين الحسن المبغض وبين القبح المحب، ما ألفتَ ذاتَ بينها، ولا زدت كل واحد إلا من طبعه.٤٦

وكيف يرى هذا الدميمُ أن مرآة بيته التي اشتراها وبذل فيها واختارها على عينه، لا تُظهِره أبدًا إلا دميمًا، وهو كلما بالَغ في رونقها وصقلها بالغت هي في إظهار قبحه ودمامته، ثم يريد أن لا تراه امرأته الحسناء الفاتنة إلا جميلًا فاتنًا، ولا تكلمه إلا في الحب، ولا تُقبِّله إلا قبلة الهوى كأنه هو الذي خَلَقَ لها عينين ولسانًا وشفتين!

ولعمرُ الله لو أن في أضلاع هذه المرأة قلبَ رجل من صيارفة اليهود، قد جثم على منكب الطريق وسرَّح الذمة والدين، والظن واليقين، وجنود إبليس أجمعين؛ في طلب الدرهم يأكله سُحتًا، وينحتُه من أيدي الفقراء نحتًا، لما رأته على ذلك المال وذلك القبح إلا كالخِرقة فيها دينار، فهي هي لم تُخرِجها قيمة الذهب الغالية عن كونها في اليد والعين خرقةً بالية!

أيريد الرجل لسعادته امرأةً لا نفسَ لها ولا قلب؟ لعله يحاول ذلك، ولكن كيف تسعده إذن؟ إني رأيت في معاشَرَة الحزين للحزين شيئًا من الفرح يتنفس به الحزن على الحزن، فليت شعري أي مهنأ٤٧ أكثر لذةً وأحسن إمتاعًا من معاشرة اثنين كلاهما يهنأ الآخَر؟

أيها الهَرِم الأحمق الذي يستبدُّ بالجميلة الفاتنة! إنك تعبث بذنَب السفينة فإذا انحرفت هنا وهنا زعمتَ أنها تضل الطريق لسوء تركيبها، أَلَا فاعلم — ويحك — أنك لا تصلح أن تكون رُبَّان هذه السفينة، وإذا كنتَ تستطيع أن ترفع شراعًا أو تحرِّك مجدافًا، فما أنت وهذه الباخرة؟ ماذا تصنع — ويلك — في آلات هذا القلب الذي صنعته يدُ الله ليخوض لجج الحب في بحر الشباب إلى ساحل السعادة، وليس بينه وبين الهلاك إلا أن يرتطم في ذلك البحر بصخرة الموت التي لا تكون أكثر ما تكون إلا من رأس رجلٍ هَرِم.

عسيت تقول إنك غنيٌّ ملء الأمل الواسع، وإن هذه الحسناء ستُفضِي من طريق مالك إلى طريق حبك؛ لأن المال — زعمتَ — أوسع طرق الحياة وأطولها، وفيه منفذٌ إلى كل طريق شئتَ أو شاء الهوى، فلعمري إن هذا المال كما تزعم، ولكن لا يذهبنَّ عنك أنك لا تعرف إلا فاتحة الطريق إلى هذه الحسناء، وأن خُطَطَ الآمال ليست من «شوارع التنظيم» أو الطرق السلطانية التي يفضي كل منها إلى جهة بعينها، أو جهاتٍ لا يخطئها مَن انطلق بسبيلها؛ فقد تبدأ تلك الحسناءُ من طريق هذا الغني الذي تفتحه لها، ثم لا تلبث أن تنعطف إلى مذهب من مذاهب قلبها، ثم تأخذ من هناك في ناحية من نواحي مصائبك؛ لأن سبيل حبها وسعادتها من تلك الناحية، ثم تفضي من كل ذلك إلى طريق من الحياة، إذا هي أبصرتك فيها رأتك وليس من ورائك للبغض مذهب، ورأت وجهك ثمَّةَ كأنه صفيحة مما تُكتَب عليه أسماءُ الطرق، وقد كُتِبَ عليها «شارع المقبرة»!

أنت أيها الأحمق استنقذتَ هذه الحسناءَ من الفقر، ثم جعلت تباعِدُ ما بينك وبينها، فأخذتها خادمةً وجعلتها سيدة، وبصَّرْتَها بما كانت تجهلُ من فنون الجمال وأساليب الهوى، ثم جعلتَ غاية كل ذلك إمتاع جسمك الفاني ولذة قلبك الخرب، فنسيت نفسك بادئ الرأي ولم تذكر إلا الفتاة فاتخذتك صديقًا، ثم نسيت الفتاة آخِرًا ولم تذكر إلا نفسك فاتخذتك عدوًّا، فلولا تركتها على جهلها وغَرارتها ما دام العلم بالحب لا يكشف منك للحب إلا عن خُرافة؟

ويا عجبًا من غرام الشيوخ بالفتيات! فإن أكثر من أنت واجدٌ من المحبين وأهل العشق، متى أصابه الكِبَرُ وذكر حوادث حبه، رأى فيها ما يسميه جهلًا، وما يسميه حماقةً، وما يسميه غفلةً، وما يسميه خطيئةً؛ كأن الهرم يجعل الأشياء نفسها هَرِمةً؛ إذ ينزع منها أوهامَ الشباب وغروره، فلا تظهر من ثمَّ إلا حقائق مخلصةً؛ فما عسى أن يرى الشيوخ فيما يسمونه غرامًا؟ بل ما عسى أن يرى الحب في هؤلاء الشيوخ «المتطفلين»٤٨ إلا ما يُسمَّى حماقةً وجهلًا وغفلةً وخطيئة؟
يحب الفتى الناشئُ حبًّا طاهرًا يستوجِف قلبه،٤٩ فيقول أكثرُ الناس: أحبَّ قبل زمن الحب!

ويعشق الرجلُ الهَرِمُ عشقًا فاسدًا يستوقِدُ ضلوعه، فلا يرضى أن يقول مرة واحدة، ولا أن يقول عنه أحد إنه أحب بعد زمن الحب، مع أن الفتى رجلٌ يُبنَى، والهَرِم رجلٌ يُهدَم؟

ولو لم يضرب الله على بصره لعلم مما تشرع الطبيعة أن أحق الناس بالخيبة رجلان؛ رجلٌ وُجِدَ قبل زمنه فلا يحسن أن ينفع أو ينتفع، ورجل أتى بعد زمنه فلا يحسن أن ينتفع أو ينفع!

متى كان الرجل حقوقًا فقط، وكانت المرأة واجباتٍ لا غير، فقد خلا الرجلُ من العقل وخَلت المرأة من القلب، وخلا الاثنان من هذا المعنى الروحي الذي يُسمَّى الحب؛ فإن لم يستطع ذلك العاشق الهَرِم أن يسترد لنفسه الصِّبى الذاهب حتى تحبه تلك الحسناء طائعةً، فَلْيسترجع لتاريخ الأرض وحشيته الأولى حتى تلوذ به تلك المرأة كارهةً!

ويلٌ للإنسان من هوى نفسه، فلولا هذه الحماقة فيه لما وجد على الأرض خطأ؛ لأن كل إنسان حين يخطئ فإنما يريد حقيقةً من الحقائق، غير أنه يجعلُ مركزها في رأسه ولا يعتبرها إلا من هناك، مع أن مركزها في العالم.

شهر النحل

قال «الشيخ علي»: كل خطب عَظُم مدةً هان بعدها، إلا خطب المرأة فإنه متى عظم لا يزال يعظم، وما رأيتُ في أصناف البلاء كالمرأة السَّليطةِ إذا هي استكْلَبَتْ،٥٠ فكأنما جعل الدهر الجائر أيامَها خطًّا من خطوط مداره، واتخذ من دار زوجها متحفًا، ثم أودعه تلك المجموعة من آثاره. ويا رحمةً لهذا الزوج! فهو كلما خرج من بيته خرج خزيان يتنقب، وكلما انقلب إليه انقلب خائفًا يترقب، ولا تزال تعرف في عينه نظرةً مغلوبةً وأخرى مسلوبة، وفي قلبه مصيبةً مستقرةً وثانيةً مجلوبة، وترى على وجهه سمة استخذاء٥١ كأنها مسحة استهزاء، ولروحه ظلًّا على فمه كأنه ظلُّ النَّخوة الهاربة من دمه؛ ولا يزال مع امرأته المكابرة كأنها ذنب وكأنه ندامة، وقد جمعت عليه الدنيا والآخرة، فكأنه من خوفها في موتٍ ومن لسانها في «قِيامه».

وما في خلق الله أعظم من المرأة، فهي طبيعةٌ وحدها، غير أنها الطبيعة الدقيقة الحسِّ، وليس يدرك الرجل حقيقة نفسه قبل أن يخلطها بنفسه؛ فإذا رأيتها خاملةً مغمورة، أو ساقطة مزجورة، أو ميتةً في الأحياءِ مقبورة، فلا ترَيَنَّ أنها مغلوبة للرجل ولكنها مغلوبة لاحساسها، وقد وفَّر الله عليها من القوة ما شاء، ولكنه غمز منها موضعًا دقيقًا فخرجت بحيث تراها أقوى الأشياء، وترى هي نفسها كأن لا قوة فيها، وهذا سر من نظام الطبيعة؛ فإن أشجع الناس الذي لا يخاف شيئًا يخاف أشياء كثيرة من نفسه، فلولا أثرُ يد الله في إضعافها ما قامت للرجل معها قائمة.

وهذا الموضع الذي أسلمها ضعيفةً مستخذيةً إنما هو جهلها بتصريف إحساسها، فليست القوة إلا شيئًا طبيعيًّا في هذا الوجود كائنة ما كانت، وإنما الشأن كله في العلم بطريقة استعمالها، وما من رجل يداري المرأة نوعًا من المداراة فترضى عنه وجهًا من الرضا، إلا رآها في يده أضعف ما خلق الله هيِّنة لينة سَمْحة مطمئنة، إن كانت دون الملائكة فهي فوق الناس؛ إذ هو إنما يستولي على إحساسها فيأمن أن تصرفه في غير مرضاته ومحبته، ومن ثَمَّ تصبح كأنها صورة من إرادته، وكأن في نفسها نفسه.

فإن جهل الرجل كيف يُداريها، وانقطعت الأسباب المختلفة بينه وبين رضاها، ولم يكن أهلًا منها لما هي أهلُه منه، استوقد إحساسَها وبصَّرها كيف تناله؟ ومن أين تأتيه؟ فابتلي منها بفتنةٍ ما تهدأ وقْدَتُها؛ فما السابح في البحر إذا أراد أن يقيِّد الموجة العاتية بالحبال، ولا المصروع إذا حاول أن يدفع بيده ما أفزعه من جِنَّ الخيال، ولا الطفل يبتغي أن يُمسِك القمر في الماء، ولا المجنون يتطاول فيقتلع النجم من السماء؛ بأقدر ممَّن تُبغضه المرأة إذا زعم القدرة على إرغامها وتصريف زمامها؛ ومَن تمضغُه المرأة إذا زعم القدرة على إسكانها، والسلامة من بركاتها، ومَن تحقِّره المرأة إذا زعم القدرة على ردِّها وإرجاعها دون حدها، ومَن تصول عليه المرأة إذا ادَّعى القدرة على إسقاطها، والقوة على التقاطها!

فليس يعجز الرجل في سلاطة المرأة إذا هي سُلِّطَتْ عليه ما يكون من حدة جِنانها، وشدة عِنانها، وشِرَّةِ لسانها؛ فكل هذه وأمثال هذه إنما هي ضروبٌ مما تحاول من إظهار عظمتها الطبيعية المغلوبة، ومن أجل ذلك قلَّما كانت المرأة السليطة إلا غالبة؛ إذ هي نفس منفجرة.

ولقد يعجز الإنسان أحيانًا كثيرة أن يكون نفسَه؛ إذ لا تنقاد له الطريقة التي يغلب بها على الحوادث أو يجاريها أو يُنبِّه لها الحذر، ومن ثَمَّ ينكر نفسه كأنها غيرُ التي يعرف من قبلُ، ولكن المرأة متى ثارت لا تعجز أبدًا أن تكون نفسها، وما نفسها إلا أعظم ما في الخليقة من الخير والشر!

قال «الشيخ علي»: كذلك صارت «لويز» مع زوجها، وانحازت إليها طبيعته الغالبة؛ فكانت قوية به وبنفسها، وكان ضعيفًا بها وبنفسه.

أَلَا وإن أخلاق المرء إنما هي أعصاب أعماله، فانظر — ويحك — ما عسى أن يكون في البغض أشدُّ من أعمال امرأة أبغضت بعقلها وبقلبها، ولحاضرها ومستقبلها، وصارت حياتها كلها من الشر والسوء كأنها لعنة يصبُّها الله على رأس هذا الهرم؟

وكذلك اندمج في إرادتها كما يندمج الثعلب في فروته الجميلة الناعمة؛ ترميه بالنظرة حين يتكلم فتقف الكلمة بين حلقه والوريد، ويجيئها وقد أجمع النية أن يأمرها فلا تأخذه عينها حتى يسألها ما تأمره؟ ويجهد أن تعلم أنه زوجها ثم ينقلب وهو يتمنى لو تعلم أنها زوجته، ويوسِعُ قلبه عزمًا أن يفعل ويفعلَ، ثم يراها فيخشى أن تكون اطَّلَعت على أن في قلبه شيئًا من العزم!

وهو لا يعلم بزعمه كيف أنكرته وكيف تغيَّرَتْ عليه وكيف تنكَّرَتْ له، ولكنه يريد أن يسأل كلَّ شيء عن ذلك إلا وجهه، ذلك الوجه الذي جعله الحب أقبح ما عرف من دائه، وأشد ما خاف من أعدائه، وما أفضى إليها مرةً وهو يحمله، إلا عرف أنه من ذنبه في حبها، وأنه من عذرها في بغضه؛ فيطرق إطراقةً يتكلَّفها ويحسبها تشفع له عندها، لأن فيها ذل الشيبة، وألم الخيبة، وشدة الهيبة، ولكن وجهه يُظهِره وقتئذٍ مظهرًا ليس في معنى السماجة أسمج منه؛ إذ يكون كاللص الذي لا ينكر على ملأٍ من الناس أنه سارق، وهو مع ذلك يحرص على أن لا يُؤخَذ منه ما تجشَّم في سرقته. وقد عرفت المرأة أنها لا تغمز منه إلا مكاسِرَ عظمِه الواهن، ولا تطأ منه إلا كل مفصلٍ مرضوض، ولكنها عرفت كذلك أنه ظالم لنفسه؛ إذ حمَّلها ما ليس في طاقته، وظالمٌ لها إذ أرادها على ما ليس في طاقتها؛ فهو ظالم أشبه بمظلوم، وما مثله في حبها إلا كمثل الفراشة، لا ترجع دون المصباح إلا أن تخالِط ناره، فما تحتال من حيلة إلا أحست منها حتفها وتلفها، غير أنها لا تزال تنزع من ذلك إلى ما ينبغي أن تنزع عنه، وكلما تهافتت انحصَّ جناحها من ناحية؛ ومع هذا كله لا تسكنُ ما دامت فيها حركةٌ تنبعث.

وما من شيء إلا وقد جعل الله فيه النفعَ والضرر، فمَن التمسه على حالةٍ منهما لم تؤدِّه إلى الأخرى، وما تُغني الإنسانَ معرفةُ الأشياء على حقائقها إلا إذا عرف مع ذلك فُروقَ ما بينها، وتبيَّنَ الحدود الفاصلة بين الشيء والشيء الآخَر، وبين الحالةِ والحالةِ في الشيء الواحد؛ فقد يكون الإفراط من الدواء داءً مع الداء، وقد يجتمع من طعامين بلاءٌ لا يكون من جوع يومين!

والمرأة هي هي في حاجة الرجل إليها، ولكن كلَّ امرأة تكاد تكون جنسًا بعينه في حاجتها إلى الرجل؛ فمن ههنا أحبت وأبغضت.

ولو أن هذه المرأةَ مما تُنبت الأرضُ وتَسقي السماء، لقد كانت تصلُح مع كل رجل كما تصلح لكل رجل، ولكن لها قلبًا، وحسًّا مع هذا القلب، ونفسًا مع هذا الحس، ورقة مع هذه النفس، فهي إن لم تحب الرجلَ من هذه الجهات الأربع، لا تكون قد أحبته ذلك الحبَّ الروحيَّ العجيبَ الذي يُوصَف بأنه حب المرأة.٥٢

قال «الشيخ علي»: وقد رأت «لويز» أن زوجها خَرِبٌ من كل جهاته، وأكبر ما فيه أنه كالأرض الفضاء؛ إذا ضُرِب عليها سور وجُعِل في هذا السور باب، ووُضِع على هذا الباب قفل … فما غناه العريض، ولا ماله الكثير، ولا اسمه في أهل الغنى، إلا كتلك الحدود المضروبة على ما وراءها من الفراغ والفضاء!

وكانت ترتاع لذلِّه وترقُّ لخضوعه، وتود لو استطاعت أن تراه غيرَ مَن هو، فتعرفَه غيرَ ما عرفته وتجزيَه غير ما جزته، ولكنه لم يكن يجيئها أبدًا إلا باديَ المقتَل، ولا يريد مع ضعفه أن يعدِل عن محزِّها، وما أماتت من نفسه نزعةً إلا انبعثت فيها نزعة أخرى، كأنه رأى في غضبها جمالًا لم يره في رضاها، وأحس من سَوْرة شبابها وفَوْرة غيظها ما يعالج منه خمودَ الهَرَم وبَرْدَ الموت في عظامه؛ فاعتاد منها ما تجزيه، واعتادت منه ما يخزيه، ومرَّا على ذلك دهرًا مات فيه الوفاء، ومرض الحياء؛ فإذا تاريخ هذه المرأة كلُّه لعنات، وإذا عِرْضُ ذلك الرجل كله طعنات، وأصبحت مَلِكَةً عليه، وأصبح معها كما قال ذلك الحكيم: «مَن أراد مصاحبة الملوك، فَلْيدخل كالأعمى وَلْيخرُج كالأخرس!»

وبعد …

فإن آلام النَّزْع وإن لم تكن هي الموت ولكنها أشد منه، حتى إن الموت ليكون راحةً منها، وقد مد الله في نزع «الكونت» مدًّا طويلًا، فكان يقظان العين نائم الروح وكأنه مقبورٌ في جلده، وكانت زوجه لا تألُوه موتًا، فليس يراه أحد إلا ظنَّ أنه لمِا به،٥٣ ولكنه لا يموت؛ لأن أيامه كانت بعضَ ما كُتِب في الأزل من تاريخ هذه البائسة، وقد حمله الله على الأمل، والأمل مطيَّةٌ دائبة لا تكلُّ ولا تنقطع، ولو ذهبت تقطع مسافة ما بين الضدَّين لتجمع أحدَهما بالآخَر، فما يزال يحسب أن لزوجته فيئةً بعد شِرَّةِ الصِّبى، وأنَّ تقادُمه في الهَرَم وتقدُّمها إليه سيُصلحان ما أفسد الدهر منهما جميعًا، وليس في الناس أحمق ممَّن يدفع نفسَه إلى ما يظن، في حين تدفعه نفسُه إلى ما يستيقِن!

أما هي فرأت أن لا سبيل إلى انهزامها أو تراجُعِها بعد ما أنزلت أخلاقها إلى المعركة، كأنها ماتت قبل أن تموت فليس يضرها أن تقع في هذه المعركة هالكةً، وليس ينفعها أن تخرج منها حية، وكل شيء تستدرك منه الحيلة إلا ما أفاتت المرأة من شرفها النسائي، فإنه إن فرَط منه فارطٌ لم يُستدرَك، فبسطت عنانها في يد الأقدار وانطلقت على أثرها صاغرةً!

وقطَع الفلك في دورته عشر سنوات حتى تفرَّى الليل عن صبح لم يشهده «الكونت»،٥٤ فترك لامرأته ما جمع، وترك فيها ذلك الموت الحي، وتركها في تلك الحياة شجرة مرداء،٥٥ غير أن اللذات لم تُبْقِ عليها بعده، فقد لا تقتل الآلام إذا أسرفت على النفس، ولكن اللذات لا بد قاتلة، وكأنَّ الطبيعة فرضت على الإنسان أن لا يلذَّ بالعيش إلا حيث تكون لذته اختلاسًا، فإنما رُكِّب على أن يشدَّه ما يُؤلمه، ويبنيَ منه ما يحسبُ أنه يهدِمه؛ فإن هو حمل نفسه على لذَّتِها، وأطلق لها ما بين هواه ورأيه، فقد أراد لبنيته الضعيفة وضعًا ليس في هندسة الحياة، فلا تترك فيه اللذات إلا أمراضًا، ولا تحمل منه الأرض إلا أنقاضًا! ولو لم تكن هذه اللذة المسرفة سببًا إلى الموت، لما رُكِّب في غريزة الإنسان كره الموت من حب الاستمتاع بها، والحياة في «عمليتها الجراحية» المؤلمةِ لا تَحزُّ إلا بأسلحة الآلام الحادة واللذات الحادة!
وبِيعَ ذلك القصرُ وما ضمَّه، وكان فيما يحويه بعض رفوفٍ من الكتب يباهي الأغنياء بتنسيقها، ليظهر من ألوان جلودها رسمٌ ليس في الحائط، فاشتراها أديبٌ تأدَّى إليه خبرُ الكونت وامرأته، فإنه ليقرأ منها ذاتَ يوم في كتاب يصف البأساء والضراء من هموم الحياة، إذ ندرت ورقةٌ كانت بين صُحُفه، فالتقطها فإذا فيها رُوحان تعتلجان٥٦ بين هذين السطرين:

الفقرُ خلوٌّ من المال، ولكنَّ أقبحَ الفقرِ الخلوُّ من العافية.

فيكتور

والغنى أن تملك من الدنيا، ولكنَّ أحسنَ الغِنى أن تهنأ في الدنيا.

لويز

هوامش

(١) أي الورد والصدر، وهما كناية عن مبدأ الأمر وغايته.
(٢) من خارج البلاد؛ لأن الرواية عن «فكتور ولويز».
(٣) صرف الكلام: أن يزاد فيه ويحسن.
(٤) أي قتلته، والمعنى أنها تنفس كرب المحتاج حينًا، ثم تكون له كربًا لا نفس فيه؛ لأنها دراهم تأكل دنانير، ودنانير تأكل أرضًا.
(٥) الغني الكريم الذي يعرف حق الغني عليه إنما يعرف أنه مؤتمن على مال الله لانفاقه في وجوه الخير على نفسه وعلى الناس، ولكن البخيل يدَّخِر ولا ينفق، وقد ظن بعضهم أن «الصرَّاف» عامية عربيتها «الصيرف»، ولكنهما صحيحتان فصيحتان.
(٦) أي الخطوط.
(٧) أي جعل خفيات نفسه ودخائل طباعه ظاهرة في نظره ومعارف وجهه من الصورة، وعنوان الشيء: ما استدللت به مما يُظهِرك على حقيقة هذا الشيء.
(٨) يقال تأبَّدَ: إذا طالت عزوبته وقَلَّ أربه في النساء، ويقال حطمته السن: إذا أبلاه الهرم.
(٩) يتركه في قليل الخطأ حتى يبلغ أقصى الخطأ.
(١٠) يريد بالتي لم يكن منها قتلٌ المرأةُ لا تكون جميلة فاتنة، فإذا هي لم تكن جميلة لم تطب معها الحياة في رأيه.
(١١) الهولة: كل ما يُفزع به الصبيان.
(١٢) انظر كتابنا «السحاب الأحمر».
(١٣) مبالغةً في خشونة الرجال؛ لأن اللحى والشوارب من خصائصهم، فكأن العين التي هي من أسرار الجمال في الجنسين هي في الرجل أيضا خشنة.
(١٤) المراد بعيدًا عنه.
(١٥) انظر في كتاب «السحاب الأحمر»، رأينا في مثل هذا من مثل هذه.
(١٦) ريفها وما حولها من القرى.
(١٧) ليس عليهما لحم، وكذلك ما بعده.
(١٨) إذا رأوها أرعدوا هيبةً.
(١٩) رجع إليه بعد الهزال مما أثَّر في أعصابه ودمه.
(٢٠) تذكر له طرفًا منها، وتخفي عنه ما بقي مما لا تحب أن يظهر عليه.
(٢١) ذكرت له قطعة منها دون سائرها.
(٢٢) انظر فلسفة الحب والبغض في «رسائل الأحزان»، و«السحاب الأحمر».
(٢٣) التمثال الجميل.
(٢٤) هي دويبة معروفة، وهي وسام أبرص جنس واحد، ولكن سام أبرص كباره، وهذا الأخير هو ما يسميه العامة «البرص»، وإذا قتلت الوزغة حرَّكتْ ذنبها قليلًا ثم ماتت.
(٢٥) هو في العربية الرَّثْية «بفتح الراء وسكون الثاء»، ولكنا آثرنا هذه اللفظة لموضعها.
(٢٦) سبق أنها كانت له كحرف التسويف.
(٢٧) أي بلغ الغاية من الهرم أو الضلال أو ما إليها.
(٢٨) في المثل «زوج من عود، خير من قعود»، وقد أصابت الكلمة حقها في هذا الموضع الذي وضعناها فيه.
(٢٩) هي التي تكره الرجل فتختلعه لتتزوج بغيره، وهذه الكلمة في الأصل يراد بها الطلاق ببدل.
(٣٠) أي باكرًا جدًّا.
(٣١) اكتشفوا أن صورة القاتل تثبت في إنسان عين المقتول، حتى ليمكن علاجها ونقلها بآلة التصوير!
(٣٢) أي ذاهب الضوء قد مات وانطفأ، فلا حَظَّ لها.
(٣٣) لا يعي شيئًا.
(٣٤) المراد المحبة والاتفاق.
(٣٥) اتهمها في وجهها.
(٣٦) قليل المروءة.
(٣٧) انظر فلسفة هذا الباب في فصل «الربيطة» من كتابنا «السحاب الأحمر»، والربيطة: المرأة تقوم مقام الزوجة Maitresse.
(٣٨) كناية عن صغر سنها وحداثة عهدها بالوجود.
(٣٩) انظر في كتاب «السحاب الأحمر»، الفصل الذي عنوانه «الطفلان»؛ فإن فيه بقية هذه المعاني، وقد بُنِي على طفلين ضَلَّا بيتهما.
(٤٠) الذي سقطت أسنانه.
(٤١) كالتبن ونحوه من يبيس النبات.
(٤٢) كناية عن بلوغها السبعين.
(٤٣) أي جلد.
(٤٤) يتكلَّف حتى يستطيع.
(٤٥) كناية عن البناء بها أو احتظائها.
(٤٦) تشذ الطبيعة في هذا المعنى أحيانًا، فيكون من بين النساء مَن لا تعشق إلا القبيح الخِلْقة، ثم لا تهواه إلا لقبحه، وذلك واقع ولكنه نادر، وله تعليل لا محل له في هذا الموضع.
(٤٧) هو ما يعبِّر عنه الناسُ بلفظ الهناء، ولم يَرِد الهناء في منقول اللغة بهذا المعنى الذي يُستعمَل فيه، ولكن المولَّدِين أجروه في أدبهم، وفشت الكلمة بينهم في النظم والنثر.
(٤٨) من التطفُّل، أو تكلُّف الطفولة.
(٤٩) يذهب به.
(٥٠) يقال استكلبت المرأة واستسعلت: إذا أشبهت الكلاب والسعالي، والمراد البذاءة والشر وسلاطة اللسان.
(٥١) هو الذل والخضوع.
(٥٢) نحسب أننا استوفينا كثيرًا من معاني الحب وأوصافه الجميلة في كتاب: «رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب»، وصِنْوه: «السحاب الأحمر».
(٥٣) أي في الموت، كأن ما به لا بد آخذه.
(٥٤) كناية عن موته.
(٥٥) لا ورق فيها.
(٥٦) تصطرعان وتقتتلان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤