يوسف غصوب

في قفصه وعوسجته

غفا الأدب العربي بعد بديع الزمان إغفاءة خرساء لم يتخللها حلم، ولولا فارياق الشدياق لم يكن لنا أثر عربي في تلك القطعة من الزمان. ثم كان عصر المقالة والرواية فبرز كتاب طواهم الدهر مع آثارهم فأفاق أدبنا المريض من غيبوبته. ولاح جبران فكان فجرًا بهيًّا لنهار جميل في قصصه ومقالاته. وكان للأدب العربي عهد جديد.

كان للنهضة الحديثة رواد قبل جبران، أولهم ذلك الأعمى المفتح القلب فرنسيس فتح الله مرَّاش. ثم تنفس في القاهرة أحمد شوقي فقال: خدعوها بقولهم حسناء. فدارت على ألسنتنا في ذلك الزمان حتى ضجت جدران مدرسة الحكمة من عقيرة الشيخ رشيد تقي الدين الذي كان يرددها بصوته العريض. وارتفع في لبنان صوتان: شبلي الملاط في شعره القصصي، ونقولا فياض في خطبه التي كان يقدم لها بشيء من شعره الحديث كقوله في القلب البشري: «حير الناس فقالوا عصبي.» أضف إلى هؤلاء خليل مطران الذي تأثر بالفرنجة وعمل الشعر على طرازهم. ولكن كل هؤلاء شوقي ومطران وفياض وشبلي؛ أمسكوا بطرفي الحبل فلم يخرجوا من صيرة القدماء إلا ليقفوا قدام الباب هنيهة، ثم عادوا إلى ما وراء السياج، إلا الدكتور فياض فكانت له مؤخرًا انتفاضة من باب رجوع الشيخ إلى صباه.

أما في النثر فكان الريحاني في طليعة الروَّاد بكتبه وفصوله، يجمع بين الفلسفة والشعر، يقدم «بذورًا للمزارعين» ويسأل ربة الوادي أن تداويه وتشفيه. أحدث كتابه «المحالفة الثلاثية» صدى بعيدًا أكثر من لاعنيه ومريديه. ثم جاء جبران يتمرد على القديم، وألف مجمعه — الرابطة القلمية — فالتف حوله الشاعر والناثر، فأفلحت مدرسته في النثر أكثر منها في الشعر. تفننوا في الأغراض وترفعوا عن المديح الذي كان يتلهى به الشعراء عندنا، واقتفوا أثر الأندلسيين محررين أدبهم من قيود القافية، فنيَّروا شعرهم وأسدوه بخلاف غيرهم وإن حاكوا على النول القديم. فكان لهم أتباع ومقلدون في الشرق، فعافوا نقنقتهم وحاولوا أن يقولوا شعرًا.

وكتب جبران في النثر صفحات لا قرابة بينها وبين القديم، وإذا صنفنا الشعر العربي قديمه وحديثه كان نثر جبران أول بابة، فهو أبو المدرسة الشعرية الحديثة التي نسميها اليوم رمزية.

فالاتجاه الجديد المستقل استقلالًا ناجزًا في أدبنا أبواه الريحاني وجبران. أما الريحاني فاتجه في صوب جديد. صار ابن بطوطة جديدًا يدرس الأقطار والأقاليم العربية ويصورها في اللغتين الإنكليزية والعربية. أما جبران فركب رأسه وطمح إلى أبعد ما يطمح إليه الناس، طمح إلى الذي أمسى لا شيء عند الريحاني، فظل يكتب للناس أجمعين لا لفئة خاصة منهم، فكان أثره أبعد؛ لأنه خاطب النفس. أما فيلسوفنا الريحاني فملَّ التدروش في زمن المادة فألقى الكوز والكشكول وألوى على العقل يسوطه بقوة ليخلق من الشرقي رجلًا غير هلاميٍّ. خاطبه بلغة الحساب متنازلًا لجبران عن نبرات أشعيا واهتزازات أرميا وأحلام دانيال. ونبت ميخائيل نعيمة على جذع جبران فكان سكرتير العميد. قال شعرًا وكتب في النثر صفحات باقية — «الجندي المجهول» — حتى إذا انطوت صفحة صفية نشر ميخائيل تفاسيره وتعاليقه في زاد المعاد على فلسفة صاحبه وانزوى اليوم في بسكنتا كتولستوي في آخر العمر، ولكن صاحبنا نعيمة بكَّر، وسيأتيك الحديث الخاص بهؤلاء فأمهلني رويدًا.

والذي يعنينا الآن هو نهج هذه الفصيلة وتجديدها. إن ملامح القديم ضئيلة فيها وليس لها من بضاعتهم إلا الألفاظ، وهذا يتفاوت عندهم ثلاثتهم، ولكن لهذا الثالوث مؤمنين بلاهوته على ما بين الثلاثة من فرق في اللاهوت والناسوت. نعى عليهم عباد القديم ضعفًا في التركيب وخروجًا على لسان العرب وهذا ما يعنينا نحن حين ننظر إلى التطور في أدبنا. كانت الحرب الكبرى فاتجهت الآداب العالية بعدها اتجاهات عديدة، بلغنا آخر مدها فجرفنا التيار الذي تلاشت قواه عند غيرنا، واتسعت دائرة ثقافتنا فنهض الشباب متأثرين بالفواعل الخارجية فكانت ألوان أدب جديدة. كانت القصة حلمًا سعوا إلى تحقيقه، فبانت بواكير طيبة فيها اللون المحلي المرغوب فيه، وإن لم تنضج كل النضج. وتلون الشعر غير الألوان الأندلسية، فصار لكل شاعر لون خاص اتسم به غير اللون القديم العام الذي نراه في شعر بشارة الخوري وأضرابه. حاول الشباب أن يخلقوا أفقًا شعريًّا جديدًا، فدانت لشاعريتهم ألفاظ موسيقية خلابة مرحة، فأخرجوا الشعر العربي من الحصار الذي ضرب حوله قرونًا، ولكنهم وقفوا عند تخوم معلومة في هذا الفتح، فعسى أن تنفتح لهم آفاق أخرى جديدة تغمر العقل العربي بالظلال والأنوار.

وكانت المشادة عنيفة بين اللبنانيين دعاة التجديد والمصريين المفطورين على عبادة القديم، فهبَّ كبار كتاب هؤلاء يصقلون ما صدئ من لسان العرب وأخرجوه فيما كتبوا كأنه الجديد بعينه، ولما خمدت ثورتنا جنح أصحابنا إلى الفرعونية. أما المدرسة الشعرية اللبنانية فتوغل أثرها في مصر والشام والأقطار كلها، فبانت سيماؤها في النشء الجديد، وما يسلم من الإيمان بها غير شعراء تجاوزوا عهد الشباب. فكانت هذه الموجة الشعرية التي تفيض بها صحف مصر ومجلاتها، مشت إليهم من شاطئنا الأزرق وطارت من جبالنا إلى تلك السهول والغوط، فأحيت ما هناك من أرض موات، ومن أحيا أرضًا مواتًا فهي له كما قالت جارية الرشيد لضرتها. وهذا يبشر بمستقبل باهر للشعر إن اعتصم ذووه بالإبداع.

تجاوز الشعراء والنقاد الحد في تحديد الشعر فاتخمت الناس بنظرياتهم. والظاهر أن الشعر ككل ما لا يرى لا يحدد تحديدًا يحصره تحت الكم والكيف، بيد أن الإبداع أول شروطه، والشعر شعران: شعر يولده ويركبه العقل، وشعر مركب في النفس. والذي يبدو من آراء النقاد العرب أن العقل يهمهم أولًا، فحاموا في شعرهم حول المعاني حى تداولوها جميعًا، فأخلقت تلك الثياب ولم تجدد. يحب العرب في شعرهم الجهود العقلية، فكلما أكثر شاعرهم منها كان متفوقًا. ومن هنا يجيء تقديمهم المعري مع أنه لا يبالي بشيء من الفن. أما الشاعر فهو من اتبع غريزة الجمال أكثر من العقل ليتغلغل في نفس الكون الخفية كما يقول رنان. ومن جهة ثانية نراهم يضعون الجمال بعد الحقيقة في الفن فقالوا: أعذب الشعر أكذبه. فكان للشعر عندهم كفَّتان: المعنى والتركيب. إن لغة العرب لغة شعرية تمكن الشاعر المطبوع من إخراج الأصوات التي يريدها إذا أدرك أسرار أبجديتها. ولئن أعار الأجانب حروفهم الصوتية أهمية في نظمهم الشعر، فلكل حرف عربي مثل هذه الأهمية لو تنبه إليها شعراؤنا ولم يصبوا قواهم على الأبحر ليملَئوها بالألفاظ كيفما اتفقت.

إن جوهر الشعر العربي القديم لا يتعدى المحسوسات، على حين أن ما يرى هو رمز، عند الشعراء، إلى ما لا يرى. فالحدود التي تفصل الدنيا المادية عن الدنيا المعنوية ليست عندهم، فأعينهم تدرك العلاقات البعيدة التي تربط الأشياء ببعضها وتولجنا في أعماق جمالها الجذاب. فالكلام يتجسد متى نفخت فيه الروح الملهمة الخالقة حياة. والتجسد الشعري هو الشعر كله. وهذا ما يحاول أن يخلقه شعراء اليوم في أدبنا العربي، فالشاعر هو من يرى في الأشياء أشياء غيرها.

نحا شعراء اليوم نحو شعراء العالم حتى في تسمية دواوينهم مثل: القفص المهجور، والعوسجة الملتهبة، وأرجوحة القمر، وأفاعي الفردوس، والروافد … إلخ.

نبدأ بيوسف غصوب؛ لأن نوبته جاءت، فديوانه أُهدي إلينا منذ أربع سنوات. لقد طال انتظاره عند الحوض كما طالت محاولتي درسه على سراجين: «اللاوعي» عن يميني، و«البناء» عن شمالي، ولكنني لم أبصر شيئًا فأطفأتهما ورجعت إلى قنديلي المعهود.

ليوسف غصوب، كما لكل شاعر، مقاييس لم يسعدني فهمي على إدراكها، ولكنني فهمت أن الرجل يعلم ما يجب أن يتم في المنظوم ليكون شعرًا طيبًا، وإن لم تسعده قريحته على الذي يريد، وهذا ما لا يستطيع يوسف غصوب أن يعمله ولو علمه. إن في شخصية يوسف غصوب نفس شاعر مخضلة لم تتألَّب حولها الظواهر الجوية لتتكون لآلئ بديعة في غصون الشعر، وقد رأيت صاحب القفص المهجور، في كتابه «أخلاق ومشاهد»، أشعر منه في ديوانيه، على ما فيهما من شعر نفيس.

هذي أناشيد موقعة
أنغامها الحرَّى على كبدي
لا حكمة فيها ولا عظة
بل صورتي صورتها بيدي
حالات نفس في مسرتها
أو في كآبتها ولم أزد

بهذه الأبيات قدم غصوب ديوانه الجيد، وهي حد جامع مانع للشعر الرومنطيكي، قال زعيمهم هيغو: إذا حدثتك عن نفسي حدثتك عن نفسك. غير أن يوسف غصوب أمهر في تصوير الناس منه في تصوير نفسه — وما أصعب على الإنسان معرفة نفسه!

أؤيد زعمي بحكاية: دعونا عام ١٩٢٦ الأستاذ يوسف السودا للخطابة في جامعتنا الوطنية فأجاد وأفاد، وقوطع بالتصفيق الحاد. وازدهى الأستاذ قبل أن حلت به نكبة لم تكن في الانتظار. خطب أحد صغار التلاميذ — في ذلك الوقت — قطعة من كتاب «أخلاق ومشاهد» عنوانها «المسيو لبنان»، فجاءت الصورة كأنها الأستاذ بعينه، فاحمر وجه السودا حتى كاد يزرق، ثم هدأت الزوبعة وشاعت في وجهه ابتسامة عليلة.

أما القفص المهجور فوحدة كاملة، والناس تعجبهم الوحدة في هذه الأيام. وكان هذا الديوان مهيأ «لمرفأ السلام»، القصيدة التي نعدها ترنيمة الفوز والحياة للشاعر الحائر. وما استراح شاعر القفص المهجور حتى حمي من جديد في العوسجة الملتهبة واتجه اتجاهًا جديدًا حتى في التعبير، فواكبته ربة الشعر فجنى من العوسج تينًا. رأيته يتعرض لعلم النفس ويجيد التطبيق، مصورًا الاختلاجات الخفية بلغة قليلة الرواسم، ولكنه غير غنية بالإبداع الفني لولا التشبيه الذي هو غايته القصوى، وقد برع فيه وأجاد، وإن استعار للأحلام غاربًا في مطلع ديوانه.

أما الجو الشعري الذي توحيه مجموعة شاعرنا فجو أغبر، ففي قلبه صوفية تذيبه، وشعاره كشعار أولئك المساكين: لذاتنا في الشوق لا في الوصال. ولعل الكبت يؤدي بهم إلى التسامي.

قالت مدام دي ستال: كل ما فعله الإنسان مدين به لعاطفته الأليمة نحو ما قُدر له وكُتب. وإذا كانت «الأنا» هي كل شيء في الشعر كما يزعم الكثيرون من نقاد الغرب كان غصوب شاعرًا كبيرًا جدًّا؛ لأن كل ديوانه «أنا». وهي تطفو على شعره، ولكنها لا تخرج من ذات عميقة بل قريبة الغور ذات وتر واحد.

إن يوسف غصوب واقف على مفرق الطرق يتأبى الشعر المبتذل الرخيص، ولا يتأتى له الطريف إلا بكد وعناء، فهو ليس من شعرائنا الرمزيين الذين يجسدون كائنات هوائية، ولكنه يحس بروعتها ويدعها وشأنها. فالشعراء الرمزيون يسيحون في جو عجيب الاضطراب ولا يذهبون توًّا إلى الأشياء، فهم لا يعاينونها ولا يلمسونها بحركاتنا ذاتها. عيون حائرة وأيد تتلمس، فتغرق «الصيغ» التي يعبرون بها في ضباب كثيف، أما يوسف فواضح جلي يسمي الأشياء بأسمائها. إنه واقعي لأن في نفسه مثلًا أعلى كما يقول برغسون. ليس للأرض قيمة في نظره، فهو متجه صوب السماء، ولهذا غلبت رائحة المبخرة ونافذة الشهر المريمي على شعره.

القفص المهجور

يوسف غصوب أديب موَّلته المطالعة، وشاعر أثرى من السفرات البعيدة في آداب الأمم، يكاد يكون أول شاعر ألف ديوانًا في غرض واحد. إن ضربه على وتر واحد لا يخلو من جمال، ففيه إيقاع بطل المقامة المكفوفية. أرانا الشعراء، في أولى قصائد ديوانه، أرواحًا تعبر بحار النور، ومن أعاجيب هذه البحار «ذرى بعدها ذرى» يرقاها الشاعر ترقي الصوفيين في مقاماتهم وأحوالهم، فيملأ صدره عبير الخلد، «ويسمع تسبيح الملائك في العلى»، «وتلثمه الأرواح في خطراتها» تقبيل الأحباب بعد الغياب.

إن أحبابنا الشعراء مفتونون بالشيطان والملاك، حفيدي زرواستر. وهم يرون، وحدهم، هذه الأرواح السوداء والبيضاء ساعة يحبون، حتى صارت التوابع والزوابع من مكملات حياة الشعراء، وإلا فلا يكون الشاعر شاعرًا. ثم يمسي الشعراء في نظر الأستاذ غصوب «فاطميين» بل كونًا كاملًا فيه الطور وفيه سينا وفيه حراء:

وحلت بنا روح الإله فقلبنا
كمهبط وحي فاض بالنور والهدى

وأخيرًا يطهر الشعراء من كل ريبة، ولا يبقى إلا أن تشق قلوبهم وتغسل وتزال منها النطفة السوداء. ولا يعدو الشاعر شيء من الحسن في الورى فيحدثنا يوسف في «قصته» الجديدة عن هذه المواهب:

غنى دونه جاه الملوك وعرشهم
وكل نفيس من ثراء ومن ثرى

وفي الثرى والثراء خيرات لا تحصى دونها كنوز فرعون وإن لم تصلح منجمًا للشعر. ويجيء دور رب يوسف الذي ولاه خزائن مصر فنطق:

وقال كثير ما وهبتم وإنما
تذوقون من جراء نعمائه الشقا

وهذا مصداق لقول القائلين: إن الدنيا تعطي وتأخذ، كأم سيبويه، فهي لا تهب بلا مقابل. ويغدق يوسفنا عطاياه على الشعراء حتى يضع أخيرًا الجام في عدل بنيامين:

فتجلى لهم قبل الممات غوامض
يحاربها من لا يرى فوق ما يرى

كما أصاب أخاهم أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه. اقرأ حكايته في روايات الأغاني لتعلم كيف شق الطائر قلب أمية، ثم رده في موضعه، وكيف أنذره الغراب بالموت ومات لساعته. ومتى عرفت هذا أدركت أن يوسف مقتصد في وصف نعم الله التي يسبغها على إخوته الشعراء.

ويرافق غصوب الشعراء إلى ما بعد اللحد، فيصيرهم بهائيين «ينعدمون في ذات الوحدانية» ولكنه يحولهم إلى نار، والحمد لله على أنها تضيء ولا تحرق، فيقول عن نفسهم:

تقرب حتى تستحيل شرارة
تضيء مع الأنوار في منبع السنا

وهل نسي أن في الشعراء من لا يحلو له أن يستحيل نارًا، بل يود أن يظل آدميًّا بلحمه ودمه، ولو عاش في آخر جنة المعري مع الخطيئة؟!

أولئك هم الشعراء في قصيدة غصوب التي يذكرني اصطدامي بها بالمقصورة الدريدية، وتائية ابن الفارض، فوقع قوافيها كقطة القلم، وأسوأ القوافي وقعًا في نفسي المقصورة منها، وشر البحور الرجز.

أما الجو الشعري الذي حمنا فيه مع الشاعر المحلق فحسبك تحديدًا له ما ذكرناه لك من عوالم، فيها ما يرى وما لا يرى. إن بودلير، معشوق شعراء شبابنا اليوم، يرشقنا بأول زهرة من زهور شره — بعد المقدمة — عنوانها «بركة» فيرينا كيف خلق الشاعر بمرسوم خاص صدر من ديوان ذي القدرة الجبار. جدفت أمه من حنقها وتطلعت إلى فوق بيد متشنجة كأنما اعتادت ضرب البوكس. أسفت كيف تغذي هذه الهزأة — أي الشاعر — ولعنت كأيوب ليل الملذات الزائلة الذي ألقى في مستودعها هذه «الكفَّارة». وقالت وقالت غير فاهمة ما يعده لها القدر الدائم.

ويعيش ابنها هذا في رعاية ملاك — وسيان في الإيمان بالملائكة الشعراء الملعونون كبودلير، والشعراء الطوباريون كيوسف غصوب — فيأكل شاعر بودلير طعام آلهة الأولمب، كهومير، ويشرب الكوثر الفضي، ويلعب مع الرياح، ويحدث الغمام، وينتشي مترنمًا بألحان درب الصليب. ويبكي الملاك — حفيد زرواستر — الذي يتبعه إذ يراه مرحًا كعصفور الغاب.

إن شاعر بودلير متزوج، وشاعر غصوب عزب، فتقول زوجه أشياء من وحي دليلة. وأخيرًا يرفع الشاعر يديه نحو السماء، كالقديس أنطونيوس إذ ظهرت له الشياطين في أشكال شتى، ويهتف:

تباركت يا ربي، يا من تعطينا الألم دواء إلهيًّا لرجاستنا، وكأحسن وأطهر إكسير يهيئ الأقوياء لاقتبال الملذات المقدسة. أنا أعلم أنك تعد مكانًا للشاعر في مصف الطوباويين وبين الجوقات المقدسة، وإنك تدعوهم إلى عيد العرش الأزلي … إلخ. وأعلم أن الألم هو السمو الوحيد الذي لا تعجم عوده الأرض والجحيم، وإن ضفر إكليلي الإلهي يقتضي استهلاك جميع الأزمنة والكائنات.

ثم يبحث شاعر بودلير عن جميع اللآلئ الضائعة، فيراها كلها لا تكفي التاج الواجب صنعه «لجلالته» من النور الصافي المقتبس من موقد الأشعة الأولى المقدس.

تتساءل عما دعاني إلى هذا. إنني أتوب توبة داودية فلا أعود إلى هذا فيما بعد حين أعرض للشعراء الآخرين، ولكن لكل شاعر حديثًا عن الشعر والشعراء، فكأنه يضع لنا هذه الأقيسة في مطلع ديوانه ليسد علينا الباب. آفة الشعراء في كل ملة وزمان أنهم يرون أنفسهم من طينة عليا، مزاجها من ماء نهر الكوثر وجابلها غير أفدع كما كانت حاله بعد «المجبل» الكبير الذي جبلنا منه.

لم يتفق بودلير وغصوب في وضع سفر تكوين الشاعر، ولكنهما تواضعا على تأليهه وجعله من عالم غير عالمنا. أما أنا فالشاعر في نظري «خالق» ولكنه بشري مثلنا، وهذه آيته الكبرى التي أُومِنُ بها. لا وحي هناك ولا ضرائب سخنة، ولكنه محرك (موتور) يستطيع التحليق في أجواء بعيدة، والشعر كلام فلا وحي ولا إلهام. ولكن الكلمة في الشعر الغالي تحمل فوق طاقتها، كما رأينا في قصيدة بودلير. أما شعار الشعر الرخيص فهو: ما كلف الله نفسًا إلا وسعها. في الشعر الغالي لا تدخر الكلمة شيئًا من جهدها لتدخل ملكوت الفن، وهي الآلة الكاشفة لأسرار المياه والمعادن المحتجبة في بطن الأرض، وساعة يوقفنا الشاعر عند فتح نقدره نحن ونقدر نتائجه يكون شاعرًا فقط لا عبقريًّا. فالشعر خلق لا صلاة، ومن يعتقد غير هذا فليصلِّ، ولكنه في لاهوتي من الهالكين ودعوته لا تستجاب؛ فلنخلق.

«القفص المهجور» هو النشيد الثاني من ديوان القفص المهجور. إننا نحب حتى الحزن هذا الغناء اليوسفي الذى نجى صاحبه من الجب ليسير مع القافلة في صحراء التيه. إن قصيدة القفص المهجور موحشة، وقد يكون عنوانها سبب هذه الوحشة، ويزيد الطين بلة ورود الموت والقبر في مطلعها. أما «وحشة القلب» على ما أولت لفظة «حنظلت» مطلعها من مرارة وخشونة، ففيها شعر طلق:

لا تقل بَاسم فربَّ ابتسام
كسراج يضيء في كوخ بؤس
طفح القلب بالهوى وهواه
ضائع كالشموع في نور شمس
أو كعين تفجر الماء منها
فوق جدباء لم تحل بغرس

إن هذه الأرض الجلحاء تفقأ حصرمًا في عين الهواء القالع، فليمر فيها بترتيب أو بغير ترتيب.

برأ الله أنفس الناس أزوا
جًا تداعى فكل نفس لنفس

المعنى متداول، ولكن ما الحيلة والشاعر يريد أن يقول هذا ويفتش عن شقيقة نفسه، فليته يصون شعره في قابل عن هذه الأذيال كقوله: «تداعى»، ثم: «فكل نفس لنفس». قد بلغنا الغاية عند «أزواجًا»، فما ضره لو كفانا القتال ونحن مؤمنون بشاعريته؟! وإذا تنطسنا قليلًا قلنا ليته قال: برأ الله أنفس الخلق، فالناس أضيق من أن تسع الجنسين، والشاعر يترجم هنا قول التوراة: ذكرًا وأنثى خلقهما …

ويدخل الشاعر قصر الحب، ويتكئ في قاعة «الانتظار» حتى يطول عليه ويؤلمه فيقول شعرًا طريفًا:

قربت ساعة اللقاء وغاضت
في دجى الليل كبرياء النهار
أرقب الحب خاشعًا كنبيٍّ
يرقب الوحي في ظلال الوقار

ليته استعار لهذا النبي مسوحًا بدلًا من ظلال فتجد كبرياء النهار شقيقة نفسها كما وجد الشاعر بعد هذا الانتظار شقيقة نفسه. وتنبري التشابيه عند الشاعر بروعةٍ شعرية عذبة تتجلى فيها أمامي لأول مرة شاعرية يوسف غصوب الخصبة في قفصه المهجور. لا أواخذه إلا على «ساري» فمن حقها النصب، وليس من حقه أن يقف عليها. ولو خلت هذه القصيدة من بعض هنات هينات، لتمت كنعمى بني أمية عند أخطلهم. وهي عندي مع ذلك من خير الشعر العربي. ويوسف الذي لا يصرِّع قلَّما يأبه للمطلع، ولكن قصيدة «الانتظار» جيدة الاستهلال رائعة الختام، وليس أجمل من: آية اليأس في جبين النهار …

وفي «نجوى» صورة طريفة أيضًا حيث يقول للتي ناجاها متهددًا بالاستشهاد:

هلا عطفت عليه
فإن في مقلتيه
تضرعًا وملامه

إن هذا التضرع والملامة الهازئة لا يفارقان عيني شاعرنا. ويقبل يوسف قبلة، إخالها الأولى من نوعها، فيحس أنها تركت في موضعها طيبًا يعطر أيام الشاعر وأحلامه، ويعدها زادًا — غير «زاد المعاد» — يشدد من ضعفه، وبينما هو في هذه الفورة، في عز حبه إذا به يحدثنا عن الأمل ويصفعنا بهذه الحكمة المريضة: وأثبت ما بنى الإنسان قبر … قر … يا يوسف. استعجلت. ما لهؤلاء الشعراء لا يفكون ريقهم بما يسند قلبهم حتى يستجيروا بالقبور، غفر الله ذنوبك يا مدام دي نواي …

وعلى ذكر القبر أقول إن أروع ما أوحاه القبر للمتقدمين والمتأخرين قول الشاعر أبو شبكة في رثاء صديقه فليكس فارس:

تراب القبر أهنأ من فراش
على جنبيه ثعبان وحوت

أرأيت؟! هنا ضالتنا المنشودة، هنا حمل الكلام جبالًا وما ناء تحتها ولا أشفق منها. وفي قصيدة الخريف الجيدة لا بد من لفت الشاعر إلى بيت متداع. وقع فيه يوسف بفخ الوزن فاستغاث «بتلكما» حيث قال:

يا صاحبيَّ إذا قضيت فكفنا
جسدي النحيل بتلكما الورقات

فآه من «صاحبيَّ» العفنة! وألْف آه من «تلكما»! فهي لا تقع في حوز شاعر يرتضيها مادة لشعره، ولا خوف من انقراض نسل الكلام لنفعل كبنات لوط.

أما «ذكرى» يوسف فما نفعتني شيئًا، وما رأيت فيها إلا تشابيه مألوفة تدل على أن للشاعر عينًا ثاقبة تحسن النقل وقلما ترينا شيئًا «فوق ما يرى»، وكذلك «رؤياه» فما وفقت إلى تأويلها، وقد يكون علمها عند ابن سيرين وفرويد. أما «جنة الأحلام» فهي حديقة شعر، وحسبك منها هذا الضياء الذي جمده يوسف في هياكل الأجسام، كأنه وجد حجر الفلسفة المنشود. قال يعنف فؤاده الأعمى:

يا فؤادي ألا ترى غانيات
بارزات من مكمن الآجام

مع أن ولوج الآجام والكمون فيها يصعب على سيدات:

عاريات كأنهن ضياء
جامد في هياكل الأجسام
يتثنين كالظلال خفافًا
ما يضرن الأعشاب بالأقدام

قلنا إنها حديقة شعر، والحدائق لا تخلو من الطفيليات، فلا بد من تنقيتها، فما الذي اضطر الشاعر إلى القول: «كلما مرت النواسم فيه …»؟ في مكنته أن يقول «النسيمات» فما دعاه إلى هذا التعسف؟ اللهم إن لم يكن يحاول التجديد عن طريق الجموع وبعض الصيغ كأصحابنا المصريين، حرسهم الله.

ويرى يوسف العذارى يستحممن فيدعو قلبه إلى الإقامة عندهن، كما تمنى بطرس على سيده في طور طابور. أدهش يوسف المشهد فلم يكن فاتكًا كامرئ القيس، ودعا قلبه فما لبَّاه، بل سار به إلى مرفأ السلام.

«مرفأ السلام» خاتمة القفص المهجور. يسأل فيه يوسف الحبيبة التي وجدها، بعد أن يعترف لله الأب الضابط الكل، ولها بجميع خطاياه لتحله منها وتطهره، فيصور لنا ما قطع من الأودية حتى تحسبه تأبط شرًّا. القصيدة صورة حاله إذ كان كالابن الشاطر. ولو فصل فيها ما أطعم الأصدقاء وما سقاهم، لقلت إنها أخت قصيدة الواساني التي وصف فيها ما جرى عليه في الدعوة التي عملها في قرية «خمرايا» من أعمال دمشق. قال ذاك في أصحابه الذين خربوا بيته ولعنوا أباه:

رحلوا من بيوتهم ليلة المـ
ـرفع من أجل أكلة مجان
قصدت هذه الطوائف خمرا
يا لهتكي وذلتي وامتحاني
قلت ما شأنكم، فقالوا أغثنا
ما طعمنا الطعام منذ ثمانِ
أفقروني وغادروني بلا دا
رٍ ولا ضيعة ولا بستان

ومما أكلوا:

أكلوا لي من الجداء ثلاثيـ
ـن قريصًا بالخل والزعفران
أكلوا لي كشكية قرحت قلـ
ـبي وهاجت لفقدها أشجاني
أكلوا لي سبعين حوتًا من النهـ
ـر طريًّا من أعظم الحيتان
ومن البيض والمخلل ما تعـ
ـجز عن جمعه قرى حوران
فتتوا لي من السفرجل والتفـْ
ـفَاح والرازقيِّ والرمان
والرياحين ما رهنت عليه
جبتي عند أحمد الفاكهاني
ذبحوا لي بالرغم يا معشر النا
س ثمانين من معيز وضان

أكلوا أكلوا …

ثم قالوا هلم شيئًا فناديـ
ـت غلامي: قم ويك فاخبأ حصاني!

القصيدة فكهة جدًّا، وهي مؤلفة من ١٩٦ بيتًا تجدها في اليتيمة الأولى ص١٦٦ طبعة دمشق.

ثم لاذ يوسف بظل هذه الصديقة فغفرت له جميع ذنوبه وخطاياه، ونضحته بالزوفى فابيض أكثر من الثلج — حسب قوله:

وبات قلبي أنقى
من مائه في الصفاء

يريد ماء هذا المرفأ العظيم الذي ألقى فيه مرساته وربط مركبه:

تضيء عيناك فيه
كالأنجم الزهراء
فطهريه بحب
صاف وصدق وفاء

ويهتف ختامًا:

يا ملجئي يا ملاذي
يا بلسمي ورجائي

قلت: ولعل اسمها مريم، فتتضرع لأجله، وتتشفع فيه، وتتحنن على موتاه. آمين!

العوسجة الملتهبة

ألقى الشاعر غصوب أنجره — ياطره — في ذلك الثغر المطمئن الهادئ، الصافية مياهه كعين الديك. وتطهر صاحبنا فصار قلبه كمائه البلوري في الصفاء. وما قلنا استراح المركب في الميناء، حتى رفع المرساة وأقلع «الفلك» العجيب.

التهبت العوسجة ونار العوسج حامية. وقديمًا اشتعلت العلِّيقى وكلم موسى ربه منها واختاره كليمًا. أما يوسفنا فمكلوم لا كليم. انفجرت عاطفته من جديد، واستيقظ قلبه بعد غفوة غير كاملة، وكذلك قلوب الشعراء والنساء لا تخمد فيها ثورة حتى تشب أخرى في إحدى زواياها فيتقد البيت. لطا صاحب القفص المهجور في المرفأ عند هبوب العاصفة ثم حل المراسي، وسار فلكه، وباسم الحب مجراه، وإذا به يقول لنا:

أعددت فلكًا للهوى عجبَا
بالطيب والأنوار منتقبَا
علقت في أمراسه سحبَا
حمراء تحسب موجها لهبَا

وصفات هذا الفلك أشكال وألوان، فهو كسفينة جبران المرقشة. ولكن قصيدة غصوب غير جوفاء كتلك، وإن خاب ظننا في توقع نهاية أروع لهذا الفلك النوحي الجديد الذي «تجاوز الآفاق والقطبا»، ولم يستوِ لا على الجودي، ولا على أراراط.

إن الشاعر غصوب في عوسجته الملتهبة أغزر خيالًا وأرصن تعبيرًا منه في القفص المهجور. فهو فيها يخوض وسط المعمعة. رأيته يتطور تطورًا محسوسًا جدًّا كتطور الفراشة. ففي «شبهات رؤى» شعر طيب، وإن لم يخل من الرواسم كقوله:

والزهر المنثور من حولنا
رصعه بالدر طل الحياء

ولا من الركاكة كقوله: «كل شيء أضاء»:

ونظرة باسمة في الضحى
تفوق نورًا كل شيء أضاء

وفي «الجنازة الحمراء» تطل علينا أشباح بودليرية راعبة كأننا نرى «جيفته». ويوسف يحذو حذوه في «اللازمة» فيعيد بيتًا أو بيتين أحيانًا في هذه، ثم في قصيدة «المساء» التي تليها.

وفي «عودة الربيع» تراجعنا ذكرى «خمصانة» المتنبي، رحم الله أبا الطيب فقد كان ذلك الرجل من ذوي الذوق السليم. كانوا في زمانه يحبون أكثاب الرمل، وكلما سمنت الحبيبة وغزر لحمها وتهدل، عظم حسنها كأنما تؤخذ إلى المسلخ، أما المتنبي فتناهى في الرقة حتى قال: كل خمصانة أرق من الخمر …

أما «النغمة العذراء» فرديئة الموسيقى، لا آهات فيها ولا رنات. كل ما فيها تعاظل وابتذال، اللهم في الفن الشعري. وفي «نور الفؤاد» يتجلى لنا ما يشبه رؤى سيلي بريدوم. رأى يوسف نفسه مسجى في نعش — سلامة قلبه من هذه النومة!

تضيء من حولي شموع التقى
معقودة أعناقها بالحداد

أي لابسة «كرافات سوداء»، والحجرة يغالب النور عليها السواد. وهناك دمع يبل جسده الذي امتد فيه الفساد. والخلاصة كان مأتمه حامي الوطيس عندنا، والعرس في السبع الطباق الشداد كما يقول الشاعر العربي.

ويقول يوسف حكمة بعد الموت فيعير الناس أطماعهم ويتمنى أن لا يوقظ من هذا الحلم:

لا توقظوني إن أكن حالمًا
فقد أضاء الموت «نور الفؤاد»

أما نحن فنهنئه بالرجعة قائلين: «صح النوم.» إن هذه القصائد كلها جيدة الأول، أما ختامها فخال من «الزخم»، وهذا ما أنعاه عليه. فبدلًا من أن تلم قصيدته شملها كقصائد هيغو وأبي نواس إذا بها تتفلطح.

لم نذكر سيلي بريدوم عبثًا فغصوب من شعراء اليوم كسيلي بريدوم من شعراء عصره، فهو لم يطفر طفرتهم اللفظية، وبينه وبين الشاعر الغربي قرابة دموية في التصورات والخيال والرؤى. أما توارد الخواطر بينه وبين الفرد دي ميسه فقد سقطت عني مئونة بحثه، اقرأ «الباب المرصود».

ويسمع يوسف في «نداء» صوتًا يسترعي انتباهه فيحدثنا قائلًا:

كل يوم تصيخ نفسي لصوت
هابط من عوالم خافيات
فهي تهفو إلى المنادي وترقى
كبخور إليه أو كصلاة

وتخطر بباله الفلسفة فيتبعها بقوله:

أترى هذه النفوس الحيارى
في اغتراب عن عدنها مبعدات
فإلى عدنها تذوب اشتياقًا
وحنينًا إلى قديم الحياة

وكما قال المسيح لبطرس: أنت رأيتني وآمنت فطوبى لمن لا يراني ويؤمن. طوبى لك يا يوسف فإيمانك أكثر من حبة خردل.

وأحب الأستاذ الفلك والسفن والمرافئ كثيرًا فشبه نفسه بمركب، حتى أرانا في قصيدة «نداء» دنيا بأسرها. فيها أفكار مختلفة، وفيها أوزان شتى، وفيها أساليب متنوعة فكأن هذا المركب سفينة نوح التي وسعت الأجناس كلها. وفيها شعر أيضًا، فشاعرية يوسف في تقدم مستمر، كما تشهد بذلك قصائده الطيبة التي أذاعها بعد هذا الديوان النفيس.

ويستمر الشاعر في العلو صعدًا حتى يبلغ «سدرة المنتهى» فيفتش تلك الآفاق فيجد العلم تيهًا والمجد لفظًا، وفيما هو يغلي في هذه الرحلة العنيفة:

وإذ بروض ماؤه من مدام
ودوحه مسحورة كلما
تمايلت غنت نشيد الغرام

فيدعو نفسه للاستراحة في ظل «سدرة المنتهى» فتقر زمانًا، ثم تستفيق مذعورة وقد راجعها داؤها، والنكسة ويل وبلاء.

حنت إلى عهد الليالي العذاب
في صحبة الأحلام تسعى إلى
أوطانها العليا وراء السحاب

يا ليت شعري، أين تكون سدرة منتهى شاعرنا التي رآها؟ فالمعلوم أنه ليس فوقها فوق، وما وصل إليها أحد بعد، غير بشارة الخوري. وأخيرًا يلقي حبل نفسه على غاربها في ذلك الربع الخالي:

فقلت عودي واسرحي والخيال
في أربع ما خاب روادها
لذاتها في الشوق لا في الوصال

تلك حياة الأبرار والصديقين، متَّعنا الله بها مع يوسفنا العفيف، ووقانا صرامة اللاهوتيين الذين يقاصون الناس بالهلاك الأبدي من أجل خطيئة الفكر.

ها قد بلغنا «صلاة راهب». إن تكن القصيدة صلاة فهي من أروع الشعر وأطيبه، يجول فيها شاعرنا والبحتري في حلبة واحدة — شعرًا وفنًّا وتصويرًا — يصب فيها هذا الراهب النقي سخطه على حواسه الخمس وأصغريه، فيصير المجموع سبعة، بينما الراهب الأصلي — جرمانوس فرحات — تشكى من أربعة فقط:

إني بليت بأربعٍ لم يخلقوا
إلا لشدة بلوتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى
كيف الخلاص وكلهم أعدائي؟!

وكأني براهبٍ غصوب هذا هو بولا أول الحبساء، فآلامه كثيرة جدًّا، والدنيا كلها متألبة عليه فهو القائل:

رب رحماك ما تريد فإني
كدت في وحدتي أصاب بمس

قد عودتك الحكايات، فحكاية القديس بولا غريبة عجيبة، دلَّ عليه القديس أنطونيوس وحش كان نصفه شكل إنسان ونصفه الآخر شبه فرس. وكان الغراب يأتي القديس بولا كل يوم بنصف رغيف، ولكنه جاءه برغيف كامل حين زاره القديس أنطونيوس. وعند موت بولا رأى القديس أنطونيوس نفسه صاعدة إلى السماء ما بين الملائكة والأنبياء. وبولا مات وظل واقفًا على قدميه، كما خبر القديس أنطونيوس الذي دفنه يعاونه على حفر قبره أسدان، وبعد حفر القبر ركع الأسدان أمام مار أنطونيوس فصلى على رأسهما قائلًا: إلهي، يا من بدون عناية حكمته لا يسقط عصفور على الأرض ولا ورقة واحدة، امنح هذين الأسدين ما يناسبهما (مروج الأخبار ص٤٢).

وفي «صلاة راهب» يلتقي يوسف مع دي فيني في قصيدته «موسى» ولكن راهب غصوب غير جسور كموسى دي فيني فلا يمن على الله بشيء.

وينتقل يوسف إلى «العذارى» فكنَّ حقًّا مسك الختام، ففي هذه القصيدة الرائعة يلتفت شاعرنا الواقف على «مصلبة» الطرقات صوب الشعر الجديد، فيحلم الروض بالربيع، وينتشي الفجر، وتنعس الروابي، وترقد الوهاد، وهلمَّ جرًّا. ويسجل يوسف أخيرًا إيمانه البريء في هذا البيت من القصيدة وهو ختام ديوانه فيقول:

تخسف الأرض بالخطيئة لولا
شافع الطهر في العذارى الصغار

فهو يريد أن يقول: لولا طهر العذارى الصغار لخسفت الأرض بسبب الخطيئة، ولكن قوله جاء عكس ما يريد. ولو تم ما قال لاسترحنا من الخطايا كلها، وغابت عن وجهنا في قلب الأرض، واسترحنا حتى من الخطيئة الأصلية، التي جعلت النفس تحن إلى عدن الذي خرجت منه، كما جاء في شعر غصوب.

انتهت جولتنا في هذا الديوان الخصب الذي نعد صاحبه همزة وصل تربط القديم المتحجر بالجديد الطافر، فهو أول شعراء الشباب الذي فكر بالاستقلال الناجز مع المحافظة على ما تجب المحافظة عليه.

يقول تين: إن الأثر الفني تعمله ثلاثة عوامل: الجنس والمحيط والزمان: وقد نسي التربية الأولى التي عملت في شعر غصوب ما نلمسه لمسًا. يعجب الناس لكثرة الشعراء المجيدين في هذا الجيل؛ لأنهم لم ينتبهوا إلى هذه العوامل. ولو أمعنوا الفكر قليلًا في الغناء اللبناني العامي الذي تنام عليه أطفالنا، وتستيقظ عليه فتياتنا، لأدركوا سر شاعريتنا. فكل ما في لبنان شعر.

قد فكر العرب في الوراثة فقالوا: أمُّ عمر بن أبي ربيعة حميرية، ومن هناك أتاه الغزل (أغاني جزء ١ ص٣٠). واللبناني وارث غير سفيه، أنمى تلك الثروة التي ورثها، وزاد عليها من مربح الأسفار فأصبح أدبه الذي ترى وتسمع، وصار الشعر على كل شفة ولسان، حتى صرنا نرى شعراء الزجل يقيمون سوق عكاظ حيث يجتمع منهم اثنان أو ثلاثة.

إن يوسف غصوب هو ابن هذه البيئة الموسيقية يمثلها أحسن تمثيل في فكرته وتعبيره. وديوانه أول أنشودة تمثل شاعرًا بلحمه ودمه. والشعر كما يفهمه يوسف «بناء»، وقد بنى صاحبنا مدماكًا في قصر الشعر فعلى الذرية أن تعمل ما عندها، فأدب الأمة لا يبنيه واحد وحده. وإن كان ذلك فتلك غضاضة من قدر الملة والشعب وشاهد على العقم. تعجبني لغة يوسف النقية فهو على تأثره بالعجم عربي اللسان، وقد جمع في ديباجته السهولة والقوة، وإن أتت قوافيه أحيانًا كأنها «غلق». والقافية في نظري زاوية لا غلق، ولكنها بخلاف نمط البناء توضع عند نهاية المدماك، وهي تخلق القوة في البيت كله.

إن وثبات يوسف قليلة، والوثبات هي التي تعمل الشاعر الكبير، فإذا خلا منها الشعر يحق لنا أن نقول مع بوفون: شعر مثل النثر الجميل. والشاعرية العظيمة تظل دائمة الإشعاع حيث ترى، فكأنها الحباحب في ليل الفكر. لا بد للشاعرية من الوميض كل حين، وهذا ما لمحته عند غصوب في العوسجة التي هي خير من القفص. كما أنني قرأت له شعرًا، بعد الديوان، كان أعظم وقعًا في نفسي من شعره الأول.

والجمال الفني عند شاعرنا عام، ولكنه غير باهر ولا فاتن. أعني بالعام جمال الغرض والعاطفة والشعور والصيغة. ولكن ليس في شعره كله قصيدة تدور على الألسنة لتخلد صاحبها، وإنْ طلبْنا ذلك فقد نجده في بعض مقطوعات نشرها في المكشوف، بعد طبع الديوان. وإذا صحت نظرية جول ليمتر: «إن الشعراء كبارًا وصغارًا لا يقرؤهم إلا الشعراء الآخرون»، بطلت نظريتنا هذه، وكان ديوان الأستاذ غصوب مقروءًا من الأدباء جميعًا، وسيقرأ دائمًا؛ لأنه جميل طريف وصاحبه يقدس نظرية الفن للفن، كما يبدو لي من عمله العنيف في شعره. فأكثر شعره معمول «توصية» أو قل أراد الشاعر أن تكون له قصيدة فكانت.

أما فضل غصوب الذي لا ينسى فهو هذا العمل الفني الحر الذي كان خير أمثولة للشباب حفظوها عن ظهر قلب. أطلق الشعر من قيوده ولم يقل قصيدة في موضوع غير شعري يوم كان الشعر يعمل غب الطلب. فأين الشعر مثلًا في قصيدة بشارة الخوري الأخيرة «عودوا إلى تلك القرى» فهو لو حبَّرها مقالة لكانت أروع.

وإذا كان فلان شاعر كذا وفلان شاعر كذا، فيوسف غصوب شاعر الشعر أولًا.

حياه الله كشافًا مباركًا، أو رائدًا أعجبته خضرة الدمن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤