إلياس أبو شبْكة

١

فرغت من قراءة كتاب «الأدب المقارن» فانسدت الدنيا عليَّ. كدت أنام على كدر لولا كتاب ألف ليلة وليلة. من أجل هذا الكتاب، وحده، حشرنا المؤلف في زمرة قادة الفكر الإنساني والعاملين على تغيير مجاري الخيال البشري. فأحرِ بنا أن نقيم لصاحبه أثر «الأديب المجهول».

فما قول المتحمسين للطبع على غرار الجاهلية، في كتاب ازدروه فصار كالحجر الذي رذله البناءون رأسًا للزاوية؟ لقد أيأسنا شعرنا من كل خير طلبناه عنده. أطبقت عليه حمى التقليد دهورًا. والتقليد إذا اجتزئ على كتاب لغة واحدة وسلالة واحدة، كما فعل السلف الصالح، يصبح ضامرًا خسيسًا. اعتدَّ العربي بشعره اعتداده بنفسه حتى قال أبو الأدب العربي: وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب. أما مع «شعراء اليوم» فقد تنازلنا عن تلك العنجهية العارمة، وصاهرنا الأجانب، عن غير طريق الولاء، فكانت لنا ذرية أدبية جديدة ليست كلها على نمط واحد كمصنوعات «القبازك».

قد تعددت القوالب واختلفت السحن، وتغذى الأدب بدم جديد فانتعش بعد تواتر أعصابه وتصلب شرايينه. فاستلهام الآداب الأخرى كاستنشاق هواء جديد يكسب النشاط والعافية، على شرط ألا نلهمس ما على موائدهم. فجديد الأدب المتشابه لا يعمر طويلًا، ولا يخلد منه إلا ما كان فيه غذاء الذرية، ولكل ذرية مجاعة، ولكل مجاعة قوت.

بدأ طلابنا يحسون أن حاجات نفوسهم ليست — مثلًا — عند البحتري في وصف القصر الذي «ذعر الحمام وقد ترنم فوقه …» فأينما مروا اليوم، فهناك بيوت أشمخ وأرفع منه عمادًا. وليست أيضًا في ذلك الغزل المكرور الذي لا يدل إلا على أنه شعر.

ومن أولى من شعراء اليوم بالنفوذ في هذا المضيق، فلكل دولة رجال. وها هم يخرجون الشعر من دهاليزه ليتشمس وتعاوده نضارة الشباب فينقى دمه الماصل وتزخر فيه كريات الحياة. إن التطعيم يرقي الأجناس وينوعها، فلنطعم وإلا فجنينتنا تظل بانًا وأراكًا وغضًّا وبهارًا وعرارًا، بينما البساتين الأخرى تحفل بمئات الأجناس. فلنغرس! فلنطعم! وليتهمنا من يشاء بما شاء إن كان في هذه التهمة حياة أدبنا وإخراجه من كهوفه، أما ملننا علك المصطكى؟

لا يستحي الإنكليزي والروسي والألماني والفرنسي أن يدلنا على العناصر الأجنبية في أدبه، أما نحن فنعد ذلك عارًا، كأنما الفن يهبط علينا من السماء كالمن والسلوى، أو تخرجه أرضنا كالكمأة. إننا لا نريد من اللغة إلا المواد الأولية كالألفاظ والأصول، أما الشكول فلكل عصر زي. وهذا ما يفعله شعراء اليوم كلٌّ على قدر خياله وما طبع عليه، وقد درسنا أحدهم — يوسف غصوب — الذي عددناه بحق طليعة هذه الكوكبة، وهنا نتناول إلياس أبو شبكة في ديوانه الجديد — الألحان — الذي نشرته دار المكشوف.

•••

جاء في أساطير اليونان، أن إحدى البنات المدعوة سيرنكس فرَّت من وجه الإله «بان» إلى ضفة نهر وتحوَّلت إلى رماح قصب، فتتبعها ذلك الإله الغضنفر وقطع من ذلك القصب وصنع شبابة ذات سبع قصبات مضمومة، فعزوا إليه جميع الأصوات المخيفة. ونحن إذا قرأنا شعر أبو شبكة في «القيثارة» و«أفاعي الفردوس» و«الألحان» وما ينظمه أخيرًا للمناسبات التي لا بد منها، نستطيع أن نعزو إلى شاعرنا جميع الألحان من مخيف ومفرح ومحزن. قد يكون أقرب شبهًا بقصبة الفارابي التي ذكرتها غير مرة. ولئن كان إلياس في ألحانه ابن الإله «أورفه» فهو في أفاعيه ابن الإله «بان»، وإننا نشكر لسيرنكس — أم طفل — التي فرَّت من وجهه فاستفزت شاعريته ووجهته في الطريق الخالد. إن تلك الأفعى التقية الطاهرة قد دبت لنار قلبه بالحطب فصهرته شعرًا عسجديًّا مصفى، ونعم الكفارة زبورك يا داود.

نقرأ القيثارة، باكورة الشاعر، فنتذكر ونحن نقرأ «أفاعي الفردوس» كلمة جرير في عمر بن أبي ربيعة. ففي أفاعيه يبلغ فنه القمة، وشاعرنا المبدع قد استحال ثلاث مرات، وهو اليوم يحبو إلى الرابعة، فهل من «أم طفل» أخرى تتبنى الشاعر وتنقذه من ولوج الباب المفتوح.

إنه في الطور الأول — القيثارة — من الطيور القواطع يطمح إلى الآفاق العليا ويقصر طرفه دونها. وفي الطور الثاني — طور الأفاعي — طائر غريب كاسر يسمو لينقض من علٍ وينشب مخالبه، أما منقاده فمعقوف كالصليب الهتلري. وفي الطور الثالث — الألحان — طائر بلدي تشجيك أنغامه وتعجب كيف استحال من أكَّالة اللحوم إلى حسون فصيح يعيش على القنبز. أما الطور الرابع فأعيذك بالله منه. أعيذ شعره من هذه الدعوات فبضاعتها بنت ساعتها، وفيها يصح قول النواسي: كلام الليل يمحوه النهار. اللهم لا تمح ذنوب إلياس وخطاياه لترتفع أناشيد توبته إلى أعاليك!

في إحدى المناسبات قال إلياس عني «وحينًا عقرب». هذه قافية البيت، أما ما بقي فغاب عني. وإني أقول لصاحبي سأحاول أن أكون أنعم من السنجاب، ولا أقول الهر ففي جلد الهر حاجة إلى الحك، إن لم تحكَّ له أنت تحكك هو بك، كما هي حال زكي مبارك أحيانًا. فلندع «القيثارة» جانبًا ففي فحيح «أفاعي الفردوس»، رائعة أبو شبكة، موسيقى غريبة. فغضب الأنبياء وسخطهم النافض كالبرداء يتطاير حممًا من براكين «أفاعي الفردوس». وكيف لا يكون هذا وشاعره من قراء التوراة المدمنين، يراها منبعًا للإلهام، وإنها لكذلك، لما فيها من القصص الدسمة؛ فهي أخصب الدمن وأمرعها للشعراء الشباب وغيرهم. هناك دمن خضراء لا ينقضي ربيعها، اعتدال طقس، وحرارة ملايمة، أخرجت هذه الخيرات، إنها كالوطن الذي كتبت فيه تدر لبنًا وعسلًا.

أخذ الشاعر منها موضوعين بعثهما من جديد، وأحياهما بما عنده من عاطفة جشعة ونفس متقدة، فلا بدع إن قلنا إن أفاعي فردوسه عريقة الحسب والنسب تستأهل إنجيل سلسلة لتتصل بأمنا حواء التي أورثتنا الخطيئة الأصلية، ولولا عماد السيد في الأردن من يد ابن خالته، ثم موته على الصليب لما كان لنا العلاج الشافي من دائنا الوبيل، ولظل أبونا آدم والأبرار من نسله في ظلمة اليمبوس إلى الآن.

ألا ترى «أفاعي الفردوس» عنوانًا طريفًا؟ إننا نستهول اسمها ولكننا لا نستطيع الحياة بدونها، بل نستلذ لدغها ويطيب لنا جحرها. إنها مائدة مأكولة مذمومة.

إذا ما أشرفت على دنيا «أفاعي الفردوس» جثم عليك جو سادوم وعامورة بكل ما فيه من زفت وكبريت وبحر ميت وأعمدة ملح. يريك شاعره الحاوي الجبار أفاعي بشرية فتصك وجهك وتسد منخريك إذا واجهتك. ورغمًا عن هذا الجو الخانق فأنت تحس أنك تقرأ شاعرًا ملهمًا، شاعرًا له ذاته، وله نفسه، وله شخصيته، ولشعره طابع أصيل. فيه الصور الراعبة، على ما في خلق الصور الجديدة من صعوبة.

لا تجزع أن أقل لك هذا فالوردة تعيش جذورها حيث تعلم، وتعطيك أقمارًا ينعم بها أنفك ويزدان صدرك. والتفاحة كذلك، والشعر شيء كهذا. وإلياس في «أفاعي الفردوس» من الشعراء الملعونين، وأقوى حواسه اللمس والبصر. لست أرى عليه حرجًا في هذا الجوِّ السادومي، فهو شاعر يحيي الماضي ليؤدب الحاضر. وما زال لا يختلف في المغزى عن المفسرين وعلماء اللاهوت فأي ضير عليه؟! إنه في أفاعيه شاعر الخطيئة لا شاعر الرذائل، كما قال فرانس في بودلير. وأفاعيه كالحيَّات كلها، حسن ملمسها وفي أنيابها العطب. وبضدِّ الحيَّات كلها؛ لأن سمها ترياق الحياة، ولا بدَّ لها منه.

والأفعى الأولى هي دليلة، صاحبة شمشون، وبها يصدِّر الشاعر ديوانه. إن قصة شمشون طريفة كأكثر قصص التوراة. بشَّر به أمه العاقر ملاك الرب. ثم ظهر لها، ولم يدعها قبل أن ترك لها وصفة للأكل خوفًا على الجبَّار في البطن. حرَّم عليها الخمر والمسكر وأكل الشيء النجس؛ لأن ابنها العتيد مخلِّص — عفوًا، مخلِّص صغير — إنه نذير لله في البطن فلا يعلو موسى رأسه وهو يخلِّص إسرائيل من الفلسطينيين.

أحب شمشون امرأة من بنات الفلسطينيين، وفي طريقه إليها لقيه شبل أسد فحلَّ عليه روح الرب فشقَّه كالجدي، وبعودته من عند الحبيبة اشتار عسلًا من جوفه فأكل وأطعم أباه وأمه، ثم تركته تلك المرأة فغضب على قومها وأحرق بيادرهم وزروعهم وكروم زيتونهم. أمسك ثلاثمائة ابن آوى وجعلها ذنبًا إلى ذنب، ووضع مشعلًا بين كل ذنبين في الوسط ثم أضرم المشاعل نارًا. أرأيت ما أصعب العمل؟ ولكنه شمشون الجبار.

وتهدَّد الفلسطينيون قومه فسلَّموهم شمشون مربوطًا بحبلين جديدين فقطعهما كخيط القطن، وهجم فقتل بفك حمار ألف رجل منهم. وعطش شمشون، قاضي إسرائيل، ففجر له الرب ينبوعًا. ثم نزل إلى غزة ورأى هناك امرأة زانية فدخل إليها فكمن له أعداؤه عند باب المدينة، فقام في منتصف الليل وأخذ مصراعي باب المدينة والعارضة وصعد بهما إلى رأس الجبل. وأخيرًا أحبَّ امرأة في وادي سورق اسمها دليلة، فصعد إليها أقطاب الفلسطينيين بعدما أعياهم أمره، وقالوا لها: تملقيه وانظري بماذا تكون قوته العظيمة فنعطيك كل واحد ألفًا ومائة شاقل فضة. وعرفت دليلة أن قوة شمشون في شعر رأسه، فأنامته على ركبتيها ودعت رجلًا وحلقت سبع خصال من شعره، ففارقته قوته، فأخذه الفلسطينيون وقلعوا عينيه. وأخيرًا جاءوا به في يوم عيد ليلعب لهم، فقبض على عمودي البيت فسقط عليه وعليهم، ومن هنا جاءت الكلمة المأثورة: علي وعلى أعدائي يا رب.

مدار قصيدة شمشون على غدر دليلة به، فشاعرنا أبو شبكة مهتاج للجبار القديم. ولا شك أن في حياة شاعرنا دليلة غدرت به فأغضبته حتى أسمعنا هذا الشعر الخالد وسمى ديوانه أفاعي الفردوس. وما أفاعي الفردوس غيرهن، إن كيدكن عظيم.

يلتقي الشاعر العربي والشاعر الفرنسي دي فيني في التوراة عند دليلة، ثم يفترقان. اجتمعا كما تجتمع الأشجار المثمرة في البستان، فلكل منهما شاعريته وخواصه، وإن وحَّدهما الغضب على دليلة فقد تكون حالتهما واحدة ومصيبتهما واحدة. الفريد دي فيني من الشعراء الذين استوحوا التوراة كأكثر شعراء الفرنج، ولكن له لونًا خاصًّا، كما أن لشاعرنا أبو شبكة لونه الخاص، ولكل أديب أصيل ذات قبل كل شيء، والشاعر الشاعر يخلق عالمًا من العواطف والتأثيرات، والقضايا، والمفردات، والإنشاء الشخصي، وهذا ما نراه عند إلياس في «أفاعي الفردوس»، فهو شعره المختص به دون سواه. وإن سألني فضولي: ولماذا هذا اللون الأحمر القاني؟ أجبته: هذا لا يعنيني ولا يعنيك؛ للفنان ملء الحرية في اختيار ألوانه وتنسيقها.

الفن التصويري، وهو ابن عم الشعر، يهرب اليوم من رسم التاريخ والأساطير. وإلياس لا يصور دليلة الأمس بل دليلة اليوم — دليلته هو — وكأني به قد أخفق في إحدى معارك حبه الفاصلة، فاشرأبت بعدها عاطفته المكبوتة تهدر وتعج كمغارة أفقًا. الضغط يحدث الزخم، وهذا ما تمتاز به قصائد أفعى الفردوس من شعرنا المعاصر كله. فهذا الغضب الأسود من البقع الحمراء سيكون له شأن في الغد، وكأن الأفعى قد أضلته بمكرها فسلط عليها صواعقه هذه. وإن حمدت الله على شيء فعلى أن مطاف صديقنا لم ينته به إلى أحد ديورة كسروان، حيث يقضي على عبقريته بين صلاة المساء والستار.

إن من قرأ التوراة مثلي، من الجلد إلى الجلد، يعيش في جو «أفاعي الفردوس» ولا يشكو بأسًا. ليت شاعرنا عرض لقصصها الأخرى، وأرانا صورًا كثيرة من صور الحياة، فالتوراة مجموعة قصص رائعة لها كل يوم ممثلون عبقريون.

إن عنوان «أفاعي الفردوس» يذكرنا شارل بودلير في «زهور الشر»، ولا ينقص شاعرنا إلا طلبة الشيطان. أما «الجيفة» وهي أشهر قصائد بودلير فتقابلها «قاذورة» أبو شبكة وهي مجموعات جيف. في «القاذورة» يكتمل الفن لشاعرنا، وهي على غير طراز قصيدة شمشون التي نعود إليها، فهو يخلق لنا فيها محيطًا مخيفًا من طراز بيئات «لامنيه» خيالًا، وتعبيرًا هدارًا، ورهبة يقشعر لها الجلد. وإليك مثلًا منها:

فألفيت دنيا من فواجعها الورى
على بابها لوح من الرق أسود
قرأت عليه أحرفًا خطها اللظى
يَروعُك منها اثنان «سجن مؤبد»
فطوفت في غمر من الليل والخنا
يعربد والأرجاس ترغي وتزبد
وللحمأ الغالي نشيش ورغوة
كأن الورى مستنقع يتنهد
وأغمدت في صلب الدجنة ناظري
وفي كل جفن لي من الهدب مبرد
فأبصرت أطباقًا تعمدها يد
أصابع من عظم وتصبغها يد
صباغ يفور الخزي منه ملاصقًا
إذا علقت فيه النواظر تجمد
وشاهدت في الأطباق مفسدة الورى
تمور بها الديدان سكرى تعربد
مقاذر تمشي في الحياة طروبة
تغني وأصداء القبور تردد
هم الناس في الدنيا تهاويل حُنِّطتْ
بكيت عليهم في جحيمي وعيدوا
وما هذه الدنيا يذرِّي رمادها
لريح الفنا إلا جحيم مرمَّد

أسمعت هذه الموسيقى الغريبة؟! أأدركت هذا القِرَان المبارك بين الألفاظ؟ وهذه الصور الرهيبة ألا تمثل جهنم على الأرض:

وللحمأ الغالي نشيش ورغوة
كأن الورى مستنقع يتنهد

فالورى مستنقع يتنهد، والديدان سكرى تعربد، والدنيا جحيم مرمد، لولا بقية مشبوبة في شهوة الطين — الإنسان. فهذه الصور والتعابير والكنايات التي خلقها الشاعر هي أبعد ما يطمح إليه الفنان. فلا يلائم محيطه المختار إلا هذه الألفاظ المنتقاة، التي تملأ الفم فلا يتملص منها إلا بجهد وعناء. فهي في مكانها مع أخواتها على حد قول المثل العربي: «وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَةَ.» وهذا هو العمل الفني. وفق الشاعر في «إخراج» قصيدته هذه فجاءت كأنها القصة، لها ما لهاتيك من حدود ومعالم، فهو في «القاذورة» شاعر وفنان معًا.

وما هذه القاذورة؟ إنها محيط عبقري خلقه الشاعر خصوصًا ليضع فيه ثلاث طبقات من الخلق: النساء، وأشباه النساء في الكيد والمكر، ثم الشعراء. وفي ختامها يغضب الشاعر لعبقر الممسوخ ويصرخ صرخة المسيح حين هزَّ السوط في الهيكل ويقول مثله:

وشاهدت أشباح السماء كئيبة
عليك بأسواط الأراجيف تطرد
ففيم أزغت النفس عن نهج قدسها
فصارت مغارًا سافلًا وهي معبد

كنت أرجو لهذه القصيدة الجنية ختامًا أروع وأزخم ولكن «سافلًا» ضعفته.

٢

قال الحريري: عدت إلى أصحابي عود الرائد الذي لا يكذب أهله، ولا يبرقش قوله. إذن فلنصدق ولا نبال، فالناقد رائد، أهله الذرية.

إنا راجعون إلى أم الديوان قصيدة شمشون، فهي أكبر أفاعي الفردوس وأعظمهن خطرًا. أفعى طرشاء لا تسمع صوت الحاوي، ولكننا سنعالجها ببعض ما أوتينا من رقي. إذا قابلنا بين شمشون أبو شبكة وشمشون دي فيني رأينا قصيدة دي فيني تنهج نهج القصة وسمتها، بينا شاعرنا العربي لا يخرج في شمشونه عن نمطنا. تفيض عاطفته وتطغى فتجتاح سدود الفن. والشاعر حر في عمله فهو لا يكتب قصة جبار إسرائيل، بل يتوسل بمصرعه الفذ ليصب قدر سخطه على رأس «دليلته» التي تحطمت كبرياؤه أمام جحرها:

ملِّقيه بحسنك المأجور
وادفعيه للانتقام الكبير
إن في الحسن يا دليلة أفعى
كم سمعنا فحيحها في سرير!

المطلع رائع، والقصيدة كلها بركان متقد يقذف الحمم فلا يجرؤ على الدنو منه إلا المغامر. أنى اتجهت في مقاطعها تترامى أمامك قوافيها كأنها الصخور تقذف من منجليق. فعاطفة الشاعر تفح كالأفاعي في الرمضاء. وبالعاطفة يحيا كلام الفنان وتتحرك شخوصه، إنها لحمة الأدب الحي.

لست أنقل لك منها شيئًا سوى البيتين السابقين، فالقصيدة محكمة الحبك لا يسوغ تفكيكها. ولو قال الشاعر «راوديه» بدلًا من «ملقيه» أمن العثار ولم تصطدم سفينته بصخرة القاموس، وكذلك «الشهاء» فهي لا تصلح سدادًا لهذا الموضع.

وفي «الأفعى» تتكشف لنا الأجمة عن حنش، والعياذ بالله. أفعى دونها حية ابن عوانة، وعلى باب جحرها تيس ذو قرنين، كأنه صاحب امرئ القيس يغط غطيط البكر شد خناقه. في هذه القصيدة انفجارات يسمع دويها من بعيد جدًّا، ويرى الاشتعال الذي تحدثه من أميال عديدة. في هذه القصيدة التواءات وتثنيات كانسلال الأفاعي، وانتقالات فجائية من نوع حمل الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، أو الالتفات. ولا عجب إن طابق الاسم المسمى فهي أفعى.

أجل سيراك الليل بعدُ تضمها
ويبصرك المصباح تعصرها عصرَا
وسوف ترى فيك المآثم نعجة
قد التصقت في بطنها حية سمرا

مدهشة هذه الحية السمرا، وأنا على تسامحي في الفن تسامحًا لو حلم ببعضه أبو نواس من عفو ربه لفاز بالجنة، كنت أوثر ألا تكون هذه القصيدة في الديوان، فما فيها إلا تصوير انتقام مرٍّ مخز. ولكنها في كل حال إحدى صور الحياة الصادقة. وشاعرنا يرى في الاعتراف منجاة، فاستراح حتى من خطيئة الفكر، وهو يقول في مكان غير هذا:

فرحت أسأل نفسي الدْ
دِفاع عن كفراني
فلم أجد من يحامي
عني سوى بهتاني

أما في قصيدة «في هيكل الشهوات» فتهدأ ثورة الشاعر التي لم أشهد مثلها في تاريخ أدبنا، ويدهشني قوله بعدما أقام الدنيا وأقعدها.

لي مهجة كدموع الفجر صافية
نقاوتي والتُّقى أمٌّ لها وأبُ
فكيف أختلس الحق الذي اختلسوا؟!
وكيف أذأب عن لؤم كما ذئبوا؟!

سنحاول أن نصدقه ولكنها ثخينة لا تبلع. إن الاعتراف يمحو ذنوبًا كثيرة وكبيرة. وما أحلى قوله فيما بعد لهذه الأفعى الراصدة في شق الحائط للفراريج والزغاليل البريئة:

صبي الخمور فهذا العصر عصر طلى
أما السكارى فهم أبناؤه النجب
لا تقنطي إن رأيت الكأس فارغة
يومًا ففي كل عام ينضج العنب

لست أشك أبدًا أن هذا البيت الأخير من الأبيات الخالدة، ولو عاد النابغة إلى قبة عكاظ لقال لصاحبه: أنت أشعر العرب يابن أخي في هذا البيت.

ليت الشاعر قطم قصيدته هنا، بل يا ليته استغنى عن قوله:

قد أشرب الخمر لكن لا أدنسها
وأقرب الإثم لكن لست أرتكب

متى وجد النص بطل التأويل والاجتهاد يا إلياس، ولعل الخمر المعنية فارضية، فالصوفيون أصناف، وشاعرنا من الصوفيين الحمر. أما قوله: وأقرب الإثم لكن لست أرتكب، فيشبه قول عمر بن أبي ربيعة لأخيه حين جزع عليه من النار التي وقودها الناس. عمَّر الله شاعرنا ليخرج لنا من أفاعيه ما يبز حية موسى.

إنَّ أبو شبكة من سلالة امرئ القيس وعمر، وعلى يد هؤلاء ثلاثتهم تمت عندنا فصول الرواية الدائمة. وأظن إلياس لم يُبق في قرارة الكأس شيئًا، وإن لم يحطمها على شفتيه كصديقه بشارة الخوري. ليس لإلياس ابتهار امرئ القيس وعمر ولا قصصهما، فأفاعيه أشبه بمجمل أنباء المساء منها بوصف المعارك المفصل. ولئن كان يفوح عبير المسك وريَّا القرنفل من جو الشاعرين الأولين فجو إلياس تفوح منه رائحة البهار والفلفل. وصاحبنا ليس كالشاعرين القديمين في وطره عندهن، ولكنه مغلوب يستعدي على صاحبته الدهر ليقتص له منها. وفي سبيل هذا الانتقام يضحي بالكثير من ذاته ليستعجل هرم تلك اللعينة قبل أوانه، ويرى تلك الأفعى عجوزًا درداء أكل الدهر حديقتها السليمانية المسيجة بالسوسن، وهذا ما يقوله في الشهوة الحمراء:

هاتي من العمر أشكالًا ملونة
نمهر بها بعضنا بعضًا وننهدم

ألا يذكرنا هذا بأخبار النحلة التي تؤدي مهمتها وتموت. ثم يقول:

سترجعين ولكن مثل آمالي
جوفاء مشلولة في جسمك البالي

•••

ذكر التي اختصرت عمري بشهوتها
وخلدت عهدها الدامي لأجيال

وقبل أن نبرح هذا الهيكل الدامي نقول: ليته لم يقوِّل «أم طفل» ما قوَّلها إياه لذاك البريء، فتحت «في كل عام ينضج العنب» ما يكفي ذلك الحزين.

إن عند شاعرنا كثيرًا من هذه الفجوات التي تحفرها صواعق الفن وتقيمها واديًا عميقًا بين الصورة والفكرة، بين الكلمة والمعنى ليحل فيها الانفعال الشعري. والذي لا يستطيع القفز فوق هذه الأودية السحيقة لا يخلق شيئًا من الفن.

اللهم شدد ظهور شعرائنا وركبهم!

أما «سدوم» فهي أخت شمشون قوة ورعبًا وفحيحًا:

سكرت بك الدنيا سدوم فكلها
زمر على طرق الحياة متعتعه
وأثرت حنجرة الفجور فأطلقت
حممًا على نغم الجحيم موقعه
أسدوم هذا العصر لن تتحجبي
فبوجه أمك ما برحت مقنعه
قذفتك صحراء الزنى بحضارة
ثكلى مشوهة الوجوه مفجعه
بؤر مسترة الفساد بخدعة
نكراء بالخز الشهي مرقعه

ثم ينثني الشاعر على نفسه ليشركها في هذا السمر الراقص فيهتف:

أسليلة الفحشاء نارك في دمي
فتضرمي ما شئت أن تتضرمي
أنا لست أخشى من جهنم جذوة
ما دام جسمي يا سدوم جهنمي
طوفت بي ميتًا بأروقة اللظى
فحملت تابوتي وسرت بمأتمي
وعصبت بالشفق المجمر جبهتي
فرفعتها في عصري المتهكم
مهلًا كلانا يا سدوم مسلح
فلظاك في جسمي وثأري في فمي

وهذا سلاح الشاعر. واليأس من جسمه، كأم الجاحظ منه في جهد جهيد. ومن مزايا سدوم هذا الانسجام الرائق والتسلسل المتدفق، والتقطيع الموسيقي، فكأنك تسمع سلمًا موسيقيًّا يتصاعد بك رويدًا رويدًا حتى تبلغ القمة — القافية.

إن ديوان أفاعي الفردوس وصف نفس في جميع أطوار الشباب، ووحدته الشاملة في وصف اضطرابات تلك النفس الجائشة حينًا فحينًا. فكأنه ينفس بهذا الشعر عن تلك النار المحتدمة في صدره فلا ينشق مرجله. ومن الغبن ألا ينظر إلى هذا الديوان كفكرة ينثرها الألم لينظمها الشاعر. إن فيها عصارة قلب شاعر مفجوع. وعلى شاعرنا الأمين أن يصرخ كابن الرومي:

أأفجع بالشباب ولا أعزى
لقد غفل المعزِّي عن مصابي!

وكأنني أرى أمامي على كل صفحة من صفحات ديوانه نقطة دم تغلي. ليست قصائد «أفاعي الفردوس» مجموعة قصائد، وإنما هي قصيدة واحدة في قصائد، تمثل شقاء الشباب في حبه المبكر. وقد اعترف شاعرنا اعترافًا كاملًا عامًّا وعلى مسمع من الناس. أرى الناس جميعًا ذنوبه وخطاياه، واعترف كما كان يعترف المسيحيون الأولون للإخوة جميعًا، وكما أراد أن يعترف فولتير ولم يسمع اعترافه. غفر الله ذنوبه — إن كان هناك ذنب غير الفن.

قد يرى غيري في أفاعي الفردوس سمًّا زعافًا، ولكنه إذا كان من المؤمنين حقًّا فإنه يشرب السم الناقع ولا يؤذيه. والسموم في أحوال شتى تكون علاجًا مقويًا. وهذا شاعرنا يخالجه شيء من هذا فيخاطب «الطرح»:

جئت في سحنة المسوخ فلِمْ حطـْ
ـطَمْت حلمًا نما على أحداقي؟
ألأني بذلت حبي ولم أطـْ
ـعمك منه سوى الفتات الباقي؟

رحم الله داود. إذن الشاعر مرتاب، يشك إذا كان ما حدث عقابًا لتبذيره، ومتى كان الشك فهناك الضمير الحي الذي لا يموت.

إن في قلبي البغي خيالًا
من عفاف ما فاجرته البغايا

عمد الشاعر إلى تمثيل شرور الحياة بأقبح أشكالها، وساعده خياله الجامح فخلق ما خلق. كان شاعر الرؤى والليل، شاعر الرعب، المتأثر برؤيا يوحنا، وأنبياء التوراة. صوَّر شاعر الأفاعي نزواته الظاهرة ولم يتعمق في تصوير الخلجات الباطنية؛ لأنه حفل بالنتيجة وترك المقدمات، وكثيرًا ما يستغني عنها الشاعر.

صوَّر النفس الإنسانية في مباذلها، وقد وجهته الأقدار في هذه إلى الطريق فكان ديوانه — كما قلنا — اعترافًا عامًّا استحق لأجله الغفران الكامل؛ لأنه أتمَّ العقوبة التي فرضها على نفسه بإخراج «الألحان» ديوانِه الجديد، تلك النغمات الشجية كأجراس الغروب، النقية كندى الصباح.

إن شعر «أفاعي الفردوس» يظل حيًّا بصوره المرقشة الراعبة وألوانه الغريبة وشدته الجهنمية. إن شيطان صاحبنا كبير، وكأن الشيخ لوسيفوروس وجه إليه بأنشط رجاله وأنبغهم. وإن نقص هذا الشعر بعض اللمعان أحيانًا فهو ينماز من غيره بلونٍ خاص وبصبغة يتفرد بها من بين أصباغنا كلها. وحسبه هذا، حسبه أن له فنًّا قائمًا برأسه، لا شريك له فيه، فيشقى كما شقي في حب «أم طفل» جزاها الله ما تمناه جرير لأم عمرو.

وبعدُ فليست حكايات إلياس في «أفاعيه» أشد خطرًا من حكايات أورياما. وأين توبة النواسي من توبة شاعرنا؟ إن توبة أبو شبكة أشبه بتوبة ملافنة البيعة:

رباه عفوك إني كافر جاني
جوَّعت نفسي وأشبعت الهوى الفاني
تبعت في الناس أهواء محرمة
وقلت للناس قولًا عنه تنهاني
ولم أفق من جنون القلب في سبلي
إلا وقد محت الأهواء إيماني
رباه عفوك إني كافر جاني

ما هذا شعرًا، هذه صلاة. ماذا قلتُ؟! إني لأستغفر الشعر؛ فما الشعر الحقيقي إلا صلاة. ثارت نفس الشاعر على امرأة هشمته ولكن جراحه استحالت شعرًا حيًّا. فافتدى الفن بدم قلبه الكريم، وأعتقه من عبودية الكلام، وعبودية النفاق، وعبودية التقليد.

وكم ولد الإيمان من الكفر، فهو ذا الشاعر يهيب بإبليس صديق الشعراء:

حوِّل خيالك عني
ولا تخيم عليا
فليس أهلك مني
ولا اللظى من يديا
لم أغشَ في النفس مأثمْ
ولم أنادم رجالكْ
إبليسُ، ليست جهنمْ
داري، فحوِّل خيالكْ

ألست ترى شاعرنا لاهوتيًا جديدًا يعتبر النفس غير مسئولة عن خطايا الجسد؟ فلينعم بالًا فالله غفور وهو القائل: إن كانت خطاياكم كالقرمز فأنا أبيضها كالثلج. أبشرْ يا إلياس، فما ضحيت من حُمر النعم سيكون قربانًا ومحرقة تصعد في لهيبها إلى السماء كالملاك الذي بشر بصاحبك شمشون. بربك قل لي: أين أنت في احمرارك من المجدلية الأرجوانية؟

وبعدُ، فهل لصاحب «أفاعي الفردوس» من فلسفة؟ أيرمي يا ترى إلى تطهير الجسد بالذنوب ليضعف وتقوى النفس؟

للأستاذ في ديوانه منهج يسير عليه، ولكن المصابيح المنصوبة في دهاليزه حمراء كلها. إنه لاهوتي في الدينونة، وصوفي أحمر في معظم قصائده، ونواسي في توبته، وفيلسوف في صلاته الحمراء:

فخَّارة جبلت بالدمع والطين
من عهد قايينَ أو من قبل قايين
ما كان إسكندرٌ فيها سوى شبح
يحجِّب الشمس عن عينَي ديوجينِ

إلى أن يقول:

الناس وا حسرتاه
إثنان مختلفان
أعمى له مقلتان
في العقل مبصرتان
ومبصر أظلمته
عينان لا تريان

وفي حمارة القنوط يصرخ الشاعر بربه:

أدعوك والظلمة الحمراء تحرقني
فلا تجيب وتلوي لا تنجيني

ويلاه كل شيء أحمر، حتى الظلمة! ترك شاعرنا الرياء ووقف عاريًا أمام عين الشمس: فما وارى ولا وارب.

إنه شاعر يريد أن يقول شيئًا غير الألفاظ، فهو لا يخلق لك جوًّا شعريًّا ويتركك تتخبط فيه وحدك. إنه لا يحجم عن استعمال الملعقة. أثبت لي ديوانه أن ديوانًا صغيرًا يستطيع تصوير نفس كاملة فلا حاجة إلى آلاف البيوت ومئات القصائد، إذا صدق الشاعر.

إن صاحب «أفاعي الفردوس» أصدق شعراء اليوم على الإطلاق، وقد يكون أصدق من اعترف، من أغوسطينوس حتى جان جاك. وإذا كان كل ما نبدي ونعيد مبنيًّا على الغريزة الجنسية فأبو شبكة في أفاعيه شاعرها المنشود. وليت فرويد يحيا ويتعلم العربية، ففي صرخات شاعرنا مرعى خصيب لعلمه الذي يشغل الناس اليوم.

شغلت العلاقة الجنسية بال شاعرنا فوصف نتائجها ولم يعبأ بغير ذلك، فكان في بحثه النفسي سلوكيًّا. هو في هذا الديوان مهاجم عنيف لا متغزل مستعطٍ، يغلب عنده الذوق الحسي على الذوق المعنوي. وهو في كل حال لم ينس شيئًا ولم يخف شيئًا.

لا أشايع إلياس في رأيه بالمرأة، فهذه المسكينة ذهبت ضحية الأساطير التي خلقها الذكور، فرافقتها اللعنة طول العمر. ليس من العدل أن نشرب من البئر ونرمي فيها حجرًا.

وأخيرًا نقول إن شعر «أفاعي الفردوس» منخَّل محكك، وصاحبه مغيظ محنق ككل من ابتلي بحب حاد تواكبه الغيرة كما تواكب المدرعات بواخر الشحن. وإني لأخرج من هذا الدرس متيقنًا أن لنا مدرسة شعرية جديدة ليس لها من اللغة إلا المادة الخام تفصلها على ذوقها وهواها. أما تأثرها بآداب الأمم والشعوب فلا شك فيه، بل هذا ما يجب أن يكون لتدب الحياة في أدبنا، ونخلص من معرض المومياءات التي تتقزز منها النفوس. وقصارى الكلام أن صاحب «أفاعي الفردوس» شاعر رصين، قوي الخيال، حاد العواطف، جامح الإرادة، أحدث في الأدب العربي أثرًا جديدًا سيعمر مثل متوشالح.

وأخيرًا ما لهذه الكلمة تتقدم ونردها؟ ما لنا لا نمنحها الحياة؟ فلنقلها: إن إلياس أبو شبكة ليس بالشاعر المتمطي المهروق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤