أمين تقي الدين

عذرت الموت لم أوسعه ذاما
جلال الموت أن تدع الملاما
رسول الخلد في الدنيا يؤدي
رسالته إلى الدنيا لزاما
غشا لبنان يحملها فلما
أطل الفجر مر بها لماما

هذا ما قاله أمين تقي الدين في الموت، ونحن على دينه، وفق الله رحلته وسهل طريقه وعسى أن «يعود» إلينا أحسن حالًا؛ فقد مر ببوتقة الدهر وخلص بغتة إلى عدوة الخلود. راع لبنان موت شاعره الأوفى، فحامت العيون حول ذلك الفلك الصغير يخفق عليه بيرق الفن ولواء العبقرية، وما لفه ليل العدم بذيل ردائه حتى نفضوا أيديهم من ترابه وانقلبوا عنه يرددون:

فيا لك نجمة لمعت فغارت
فصارت في فم الدنيا ابتساما

يا صديقي الجديد!

ليت شعري، أعلمت أنك استحققت شكر لبنان؟ أشعرت أن الجبل الذي لم تتحول عن حبه قط، ولم تشرك به أحدًا، ولم تضرب قيثارتك الذهبية إلا لتمجده، أشعرت أنه وقف أمس حيال نعشك يقدر إخلاصك، ويذكر فتاه الأمين؟ ضيعك حيًّا، ولم يسمع صرختك المرة:

متى أنت يا وطني مسعدي
لقد أفلتت همتي من يدي

ومتَّ فجاء ليسعدك ولكن بالبكاء، وهذا حظ الأديب من دنياه.

ما كنت يومًا يا أمين أبا قلمون، تودع الرائح، وتستقبل الجائي. نشأت لبنانيًّا، وعشت ما عشت لبنانيًّا، ومت لبنانيًّا، وحسبك أنك القائل منذ ربع قرن:

كان في لبنان عهد طيب
رحم الله الزمان الطيبا
يا بني لبنان، لبنان إذا
ما تباهينا دعوناه أبا
نسب شرَّفنا بين الألى
قيل عنهم يدَّعون النسبا
مرَّ بالدهر أبونا أمردا
وتمشَّى فيه شيخًا أشيبا
نحن للشيخ بنوه والوفا
أن يرى بنوه الأدبا
إنما نحن اختلفنا بيننا
حين يقضي العقل أن نعتصبا
فركبنا كل يوم مركبًا
وذهبنا كل يوم مذهبا
كلنا يسعى إلى غايته
ليس فينا من يضحي مأربا
ليس فينا رجل الشعب الذي
إن دعا الواجب لبى الطلبا
وجعلنا الدين فينا فارقًا
فتفرقنا به أيدي سبا
ويح لبنان إذا داع دعا
فبنوه عن بنيه غُربا

ما أمر خيبتك يا أمين! لقد مت في أعصب الأزمنة، في زمن عادت فيه الطائفة جذعة، وهي تتمخض لتلد أشأم من غلمان زهير.

أرأيت كيف يصور أمته شاعر القوم؟ ألمست الأسى يقرض فؤاده؟ لم يكن أمين إمعة فيخلو من الهم، بل كان راسخ العقيدة، ضاحك الجبين كصنين، ناضر الفكر، صابرًا كالأرز يهزأ بالعواصف ولا ينحني تحت الثلوج، لا تأخذ شمس آب شيئًا من ماويته فيذبل. إن صباحه وظهره ومساءه سواء.

لا تخف يا أمين، فلا شيء يستطيع أن يذوي سيفك الدائم، لا شيء يفقدك هذا الجمال الذي نعجب به، ولن يفتخر الموت بأنه رآك ذاويًا في ظلاله، فالشعر الخالد يحمل اسمك وينقله من جيل إلى جيل. وما دامت القلوب تخفق والعيون ترى فهذا الشعر يحيا ويحييك معه.

لم يبق من أمين، بعدما أعاده الموت أدراجه، إلا الشاعر المشرق الديباجة، الذي قال كثيرًا من فاخر الشعر ونادر الكلام. نعم لقد مات الرجل، لقد مات المدره، لقد مات كل شيء إلا الشاعر.

كان أمين شاعرًا مقلًّا، لا يسمع الناس شعره إلا إذا أبدع وأوتي شيئًا طريفًا. يسري شعره في الأسماع كما يستطير النور هادئًا رزينًا باسمًا. كان أمين يعمل للتجديد يوم كان الشعر يرسف في قيود التقليد، فهو لا شك من المجددين، ولكنه لم يكن ممن يدينون بالطفرة، فأسمع الناس كلامًا لم ينكروه وجديدًا أكبروه. وإذا أرخنا التجديد في الشعر كان من الذين حلوه من أصفاده، فحمله رسالة جديدة إلى الوطن والمجتمع، وأرسله رائعًا تحسه، ولا تستطيع تحديده.

أشرفنا على عالم الأدب فإذا اسم أمين تقي الدين ملء آذاننا، وشعره في أفواهنا نردده بين جدران مدرسة الحكمة التي جئناها بعده. نظم أستاذنا الجليل شبلي الملاط «الجمال والكبرياء»، ذلك الموشح الرائع الجديد، في حينه، فنظم أمين «الجمال والتواضع» الموشح الآخر البديع، فكانا حديث الناس في مطلع هذا القرن، وبهما خطا الشعر في لبنان خطوة جديدة أعجب بها الناس، ومشى الزمان ومشينا، وها نحن حيث تعلمون.

كان أمين تقي الدين إذا سئل قصيدة يعِد خيرًا، فإن وفق وفى، وإلا فيخلف ولا يبالي؛ لأنه يؤثر الفن على العالم أجمع، ولا ينشر الشعر إلا إذا رضي عنه. قال أمين الشعر في أغراض مبتذلة، ولكنه كان في كل مقام يخلع على مقاله حلة من بيانه. تقول في نفسك: ما عساه يقول أمين اليوم؟ أغير كذا وكذا؟ وإذا به ينقلك إلى عالم غير الذي ظننت، وإذا بك تكبر ذاك الدماغ الخصيب.

خصت الطبيعة شاعرنا بأذن لا تكذب، وذوق لا يغش ولا يخدع، فقلَّ في شعره النمش والبثور، وخلا من الدمامل والقروح. لزم في أكثره حدود الاعتدال فهو لا يبالغ ولا يغلو ولا يقول ما لا يحتمله الناس.

عرفت أمين تقي الدين في الخبر زمنًا، وعرفت شخصه منذ عامين وأشهر، والشكر لمدرسة الحكمة التي جمعتنا خطرتين، وكان آخر العهد منذ أسبوعين، حيث قعدنا جنبًا لجنب نتحدث ولا نحسب أن الموت يتلصص ليغتال أحدنا.

مات أمين ولكنه أدَّى رسالته، وإن قلَّت كلماتها ففيها الغنى عن الكثير. كانت «زهوره» باكورة موسم التجديد في القاهرة، وإن لم تعمر فذاك عمر الزهور. وها هو يلحق بها تاركًا خلفه ما تتركه الحسناء المتطيبة بعد مرورها، وإن تمنينا فنتمنى أن نرى هذه الآثار مجموعة لنقول فيها كلمة صارمة غير مطاطة كهذه.

أما الذي نقوله الآن، ولا رجوع عنه، فهو أن أمين تقي الدين شاعر شارك في التجديد، وهو من مؤسسي النهضة الجديدة، وألمع شعرائها. ولو انصرف إلى الشعر انصراف أحمد شوقي له، وتهيأ له ما تهيأ لذاك؛ لكان مثله قيدوم شعراء جيله. ولكن شاعرنا قال أكثر شعره مدفوعًا إليه ولو تركوه لعدَّى عن أكثره.

لا نسأل الأدباء شيئًا لأمين، فهو غير يتيم، وأمه مدرسة الحكمة أخت الرجال فستقيم له يومًا مشهودًا يذكرنا أيامه فيها، ولأمين أيام مشهودة، ولا عجب إذا جلى الأصيل.

وآخر ما سمعت من شعره العذب بضعة أبيات نظمها نشيدًا، رواها لي صديقي وصديقه الأستاذ رشيد كنعان يوم السبت الماضي فحفظت منها بيتًا لعله كما أرويه:

خبأت يا ليل فيك همي
يا ليل مَن خبر الصباحا

أجل هكذا بات أمين شجيًّا وأصبح خليًّا. ترك همه في فراشه وانسل غدوة كالضيف الخفيف الظل. هنيئًا له فقد استراح!

وإذا كان آخر العمر موتًا
فسَواءٌ طويله والقصير

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤