تاريخ الإسلام

بينما كانت الجرمان مشتغلة بفتح المملكة الغربية، كانت العرب موجِّهةً عظيم عنايتها إلى فتوحات المملكة الشرقية، وكان النصر دائمًا معقودًا بأعراف خيولهم، والظفر معلقًا في سنان رماحهم، ومتى اتجهت عزائمهم إلى فتح أي بلدة وطئت سنابك خيلهم أرضها، وأذعن أهلها لهم وهم صاغرون، فكأن النصر ما خلق إلا ليكون طوع سيوفهم. وما أذعنت العرب أصلًا للرومان، ولا دخلوا في الدين المسيحي؛ إذ كل قبيلة من قبائل العرب كان لها معبود مخصوص تعبده، إلى أن أنار بدر الحق وأضاء نور سيدنا أبي القاسم محمد بن عبد الله الهاشمي من مكة. وفي سنة عشر وستمائة، في ليلة القدر، أتى سيدنا محمد بالرسالة، ثم أنزل عليه القرآن منجمًا على حسب الوقائع؛ ليأمر الناس باتباع الدين القويم، وبعد ذلك بثنتي عشرة سنة ثار أهل مكة فأمره الله بالمهاجرة، فهاجر إلى يثرب في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وهي السنة الثانية والخمسون من عمره تاريخًا للهجرة. وفي السنة نفسها حصل خلاف عظيم أفضى إلى النزال والقتال فصارت أصحابه تقاتل كلَّ من خالفه، إلى أن دخل في مكة والنصر يقدمه في سنة ثلاثين وستمائة، وخضعت له أغلب قبائل العرب وأتوا له مذعنين.

الخلفاء

لما انتقل النبي من دار الفناء إلى دار البقاء في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، تولى الخلافة سيدنا أبو بكر ثم سيدنا عمر ثم سيدنا عثمان ثم سيدنا علي، وكانت العرب تطيع كل خليفة كما كانت تطيع النبي ، وكان الخليفة إمامًا وقائدًا، وكانت مدة الأربعة الخلفاء من سنة اثنتين وثلاثين وستمائة إلى سنة إحدى وستين وستمائة، وفي مدة خلافتهم فتحوا بلادًا عديدة في مدة قليلة تدهش اللب، ووسعوا دائرة الإسلام ورفعوا أعلامه ووطدوا دعائمه.

فتوحات الإسلام

كان يوجد جملة كتائب إسلامية، فكل كتيبة متى وصلت أية جهة خضعت لها أهلها وأتوا لها مذعنين؛ إذ إن كل مسلم كان يذهب إلى القتال وهو منشرح الصدر، يدافع بقلبه وقالبه راغبًا في ذلك؛ لأنه متيقن أن كل من جاهد في سبيل الله ومات مات شهيدًا، فكان ينزل إلى الهيجاء كأسدٍ ضارٍ لا يرهب الموت ولا يخشى بوادره؛ فلذلك فتحت المجاهدون جملة بلاد، ففتحوا بلاد الشام في سنة ثمانٍ وثلاثين وستمائة، وديار مصر في سنة أربعين وستمائة التي كانت تابعة لإمبراطور القسطنطينية، وفتحوا مملكة الفرس في سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وأقامت الخلفاء إذ ذاك في دمشق ببلاد الشام في سنة إحدى وستين وستمائة.

ثم إنهم استمروا في الحرب، ففتحت جيوشهم من جهة الشرق بلاد «التركستان» وشمال الهند في سنة سبعٍ وسبعمائة، ومن جهة الغرب فتحت تونس والجزائر ومراكش، ثم مرت من بوغاز جبل طارق، وفي واقعة واحدة فتحت جميع الأندلس في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وامتدت مملكة الخلفاء من البحر المحيط إلى نهر «الإندوس»، فما رأت عين ولا سمعت أذن بمملكة أكبر من هذه.

وكان يوجد أيضًا مسلمون، تركب سفنهم وتخترق البحر الأبيض المتوسط، وكلما تقابل نصرانيًّا تأخذه أسيرًا، وكثيرًا ما كانت تنزل من سفنهم على سواحل إيطاليا وفرنسا؛ لتنهب القرى وتسلب الأولاد والنساء، وقد استولت على جميع «سيسيليا» وجزء من جنوب إيطاليا، وكان لها قلعة بالقرب من «نيس»، وبالجملة قد علت كلمة العرب، وقويت شوكتها، وخضعت لها أغلب سكان المعمورة، واستولت على الغبراء والخضراء.

الكلام على انشقاق مملكة العرب

إن مملكة الخلفاء لم تقم زمنًا طويلًا؛ إذ إنها انقسمت بين خليفتين؛ أحدهما كان ببغداد بالقرب من نهر الفرات، والآخر كان «بكوردو» في بلاد الأندلس، ثم تكوَّنت جملة ممالك أخرى إسلامية بمصر والشام والجزائر ومراكش والفرس. ثم في سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين وألف خربت أقوام المونجول بغداد وانحطَّت دولة الخلفاء، ولكن البلاد التي دخلها الإسلام لم ينفصم حبلُ دينها، ولم يتغيَّرْ، ولم يزل إلى الآن شديدًا، رغمًا عن حوادث الزمان، وانقلاب الأيام، وهذا مما يدلُّ على وثوق عُرى الإسلام وصحة أساس مبناه، ويُبرهن على أنه موطد بدعائم الحق اليقين، ويوجد في المعمورة ما يربو على مائتَي مليون من المسلمين تقريبًا.

تمدُّنُ العرب

إن العرب كانت صناديد ورجال حرب، وكانت تصبو إلى القريض والعلم مُتحلِّين بحُلِيِّ الفصاحة والنباهة، أصحاب عفَّة ومَنعة وعِزَّة، لا يعرف الكرم إلا ديارهم، ولا يصبو فؤاد المجد إلا لهم، ولا يتحلَّى الفضل إلا بهم، ولا ينزل العدل والإحسان إلا في بيوتهم. وقد أسسوا ديار العلوم ببغداد ودمشق وكوردو، ولا يخفى شهرة مدرسة «سالرن» التي كانت أقدم مدرسة في الطب بأوروبا، واشتغلت العرب كثيرًا بعلم الكيمياء، وهم الذين أوجدوا الكئول، وشيدوا القصور والجوامع العجيبة، وكان الخلاء حول مدنهم مفروشًا بالخضرة كحديقة أخذت زخرفها وازينت، تروق الناظر وتدهش الخاطر. وبالجملة فإن تمدُّنَ العرب كان بلغَ الدرجة القصوى والنهاية العظمى.

الملخص

  • أولًا: إن سيدنا محمدًا أظهر دين الإسلام في سنة عشرٍ وستمائة، وفي سنة ثلاثين وستمائة خضع لأوامره أغلبُ الأعراب وأتوا له مسلمين.
  • ثانيًا: إن المولى سبحانه وتعالى أنزل على نبيِّه القرآن يأمر الناس بالمعروف، وينهاهم عن المنكر.
  • ثالثًا: إن الخلفاء الذين خلفوا النبي من سنة اثنين وثلاثين وستمائة إلى سنة إحدى وستين وستمائة فتحوا بلادًا عديدةً ووسَّعُوا دائرة الإسلام.
  • رابعًا: إن جيوش الإسلام كانت دائمًا منتصرة، ففتحوا الشام ومصر ومملكة الأعاجم وجميع شمال أفريقيا وبلاد الأندلس.
  • خامسًا: إن مملكة الخلفاء انقسمت في القرن العاشر إلى جملة ممالك ولم يتغير دينهم.
  • سادسًا: إن العرب بلغت درجة رفيعة في التمدُّن، وأسَّست جملة مدارس، واشتغلت بعلم الطب والكيميا، وأقامت آثارًا عجيبة، وعملت أعمالًا غريبة، تشهد لها على ممر الأيام ومر الأعوام، وتُخلد لها ذكرًا جميلًا ومجدًا رفيعًا؛ حتى كان صُنعها أحمدَ الصنع، حسن الذكر إلى تمام الدهر، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

بحمد الله والصلاة على رسوله الأعظم قد نجز طبع هذا الكتاب الموسوم ﺑ «لب التاريخ العام فيما صدر من غابر الأعوام» فجاء يسرُّ المطالع، ووافق تمام طبعه أواخر شهر صفر الذي هو من شهور عام خمسة وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أزكى التحية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤