محور نیكسون-يونس

مثل ماري أنطوانيت وهي تُساق إلى المقصلة وقف «بطل» الساعة أحمد يونس في مجلس الشعب يصرخ: لماذا أنا، وهناك احتلال إسرائيلي لسيناء؟ لماذا أنا، وهناك مذابح في لبنان؟ لماذا أنا، وهناك أزمات المواصلات والمجاري والتليفونات .. وهناك أعاصير رهيبة في الصين وزلازل في الفلبين؟ لماذا أنا بالذات؟

والحقُّ أني حين أمعنت النظر في صورة الرجل وهو يهتف بهذا الحق وجدت أن ملامحه تنطق بكلام آخر تمامًا، إذ كان وكأنما يريد أن يقول: لماذا أحمد يونس وفي البلد آلاف من أحمد يونس وأكبر بكثير من أحمد يونس؟ .. لماذا على رأسي أنا وحده أن يطير؛ بينما الرءوس يانعةٌ وكثيرة وتعجُّ بها البلد وفي حاجةٍ ماسة إلى ألف حجاج ثقفي — وقد حان قطافها — أن يقطفها.

ولكنه لم يقل هذا بالطبع، فهو لم يصل بعد إلى مرحلة اليأس الكامل، ولم يقرر هدم المعبد ويقول: عليَّ وعلى أصدقائي. إذن فالأمل لا يزال يُداعبه أن ينجو بالذات تنجية هذه الرءوس نفسها، أو إذا عاقبته فليكن بنقله من الاتحاد الزراعي التعاوني إلى الاتحاد الصناعي التعاوني، مع لفت نظره إلى «ضرورة مراعاة ذلك مستقبلًا»!

والحق أن هذه ليست أول مرة أرى فيها صورة لبطل يُناشد الأرض والسماء «العدالة» .. منذ عامين ربما رأيت صورة للرئيس نيكسون في اللحظة التي قرر فيها أن يستقيل ويغادر البيت الأبيض إلى الأبد يُعانق زوجته، وينحني ليضع رأسه — المتعب تمامًا — فوق كتفها، ولا يبدو واضحًا أنه كان يبكي، ولكن المؤكد أنه كان يفعل شيئًا أتعس من البكاء، ولا بد أنه هو الآخر كان يقول: ولماذا أنا، وكل الرؤساء فعلوا هذا؟ كل رئيس حزب في التاريخ تجسَّس على خصومه، كل غني حاول التهرب من الضرائب، كل متنافسٍ استحل لنفسه أن يتبع أي طرق، وأحط طرق، للفوز على منافسه.

فلماذا أنا؟ لماذا وهناك مشاكل الشرق الأوسط والأدنى؟ لماذا وهناك سياسة الانفتاح مع روسيا؟ لماذا ومصير أمريكا كله مُعلقٌ في يدي أنا؟ لماذا بالذات، ولماذا ووترجيت بالذات وكل مكان في أمريكا قد شهد ووترجيت بطريقة أو بأخرى؟

والحق أن محور «يونس-نیكسون» دفعني للتفكير طويلًا في هذا الأمر، خاصة بعد أن انضم إليهما السيد المحترم «تاناکا» رئيس وزراء اليابان الأسبق «وعضو الحزب الحاكم الحالي»، وقد ضبط «هابرًا» — أرجو أن تكون هابرًا صحيحة لغويًّا — مليون ونصف مليون دولار من شركة لوكهيد، ثم انضم إلى النادي ذلك الأمير زوج ملكة هولندا … وأسماء كثيرة أخرى عالمية الشهرة بدأت تتسرب إلى الصفحات الأولى في الجرائد العالمية والمحلية باعتبارها من نجوم «فضيحة» شركة لوكهيد؛ وقادتني أفكاري إلى حكاية «الفضيحة» هذه کیف «تسربت» أخبارها إلى الصحافة الأمريكية والعالمية، وأي قوةٍ في العالم ممكن أن تضبط حالة رشوة بهذه الطريقة ثابتة المستندات، وكأنها جاهزةٌ للتقديم عند الحاجة إليها؟ أهي سذاجة منقطعة النظير من شركة هي بالتأكيد أضخم وأدق شركة لصناعة الطائرات ومحركاتها في العالم، أم أن للمسألة وجهًا آخر مختلفًا تمامًا — في رأيي — عن كل هذه المسرحية التي تدور فصولها على مسمع ومرأى من العالم؟

•••

ولكي نتبع خيط أحمد يونس وقصة الاتحاد الزراعي التعاوني لا بد أن نبدأ من ووترجيت .. والحق أن هناك وجهات نظر كثيرة ومختلفة في حكاية نیكسون ووترجيت هذه، ولكنني أميل إلى الرأي القائل: إن الدوائر الصهيونية التي تُسيطر على دور الصحف والنشر والتليفزيون والإعلام في أمريكا لما شعرت بتحلل الرأسمالية الأمريكية الضخمة متمثلة في الحزب الجمهوري والرئيس السابق نیكسون ورغبتها في التخلص من المائة في المائة تأييد لإسرائيل ومعاداة للعرب، هذا غير الإجراءات الداخلية المتمثلة في المحاصرة الاقتصادية لوكر الرأسمالية اليهودية في نيويورك؛ أرادت أن تضرب عصفورين بحجر واحد، أن تُلقي درسًا رهيبًا على كل الرؤساء الذين يفكرون في «الاستقلال» عن المؤسسة الصهيونية الأمريكية من ناحية، ومن ناحية أخرى تنقل مركز اتخاذ القرارات من الرئيس ومجلس الأمن القومي إلى مجلس الشيوخ والسناتورات، باعتبار أنهم أكثر قابلية للتأثير عليهم بواسطة الناخبين الذين تُوجههم وسائل الإعلام المختلفة، التي تخضع بالتالي للنفود الصهيوني؛ بل إن هذه الدوائر الصهيونية لم يكْفها إرهاب الرؤساء على هيئة رأس الذئب الطائر «نیكسون»؛ وإنما تلفتت إلى أعضاء الكونجرس أنفسهم تُرهبهم بالفضائح الشخصية، وبالاتهام بالعلاقة بالسكرتيرات، بل ودسِّ سكرتيرات جميلات «يوقعن» السناتورات الذين معظمهم فوق الخمسين، ويصبحن وسائل ضغط وإرهاب مُسلَّطة على هذا السناتور أو ذاك؛ بحيث من الممكن استخدامها وقت الحاجة .. ووقت الحاجة دائمًا ما يجيء، ولا زلنا كلنا نذكر كيف أن الكونجرس الأمریكي هو — وليس فورد — الذي أصرَّ على رفع الإعانة إلى إسرائيل، وأجبر الحكومة على رفعها.

ولكن هذا كله ليس المهم في فضيحة ووترجيت، فأخطر من هذا کله أن الفضيحة تُحاكم الرئيس، ومن بعده السناتور أو غيرهما. محاكمة أخلاقية فقط.

بمعنى أن الصحافة والرأي العام الأمریكي بدلًا من أن يُحاسب نیكسون أو غيره على دوره في فيتنام مثلًا، أو دوره في حرب أكتوبر، أو دوره في مذبحة شيلي — أي دوره السياسي الأخطر بكثير جدًّا من أخطائه الأخلاقية أو الشخصية — يُحاكمه على تلك الأخطاء الشخصية فقط، وذلك بهدفين خطيرين جدًّا؛ الهدف الأول: أن يُبرئ «النظام» السياسي نفسه من أية تُهم سياسية أو أخلاقية. بمعنى أن النظام مضبوط تمامًا ولا عيب فيه مطلقًا؛ إنما العيب هو في «بعض» الأشخاص، وحتى ليس في بعض الأشخاص — كسياسة أو سياسيين — ولكن في بعضهم كنقط ضعف أخلاقيةٍ فقط، الهدف الثاني: أن يخلق لهذا النظام الفاسد غطاءً رائعًا برَّاقًا، غطاءً ديمقراطيًّا جميلًا حرًّا، أو ترید أكثر من أن يستطيع أي نظام أن يقبل رئيسه؟ أليس هذا مهرجانًا للحرية والديمقراطية وقوة تأثير الرأي العام ووسائل الإعلام؟

وليس إذن «تبرئة» للنظام كله فقط من كل الجرائم والأخطاء السياسية والاقتصادية والإنسانية، حتى وإن كان الثمن التضحية بكبش فداء ولو كان رئيسًا للدولة أو رئيسًا للوزراء، ولكنها تبرئة مصحوبة «بزفة» هائلة من باب المحكمة إلى باب البيت، حافلة بالرقص الديمقراطي العظيم وإطلاق بالونات الحرية وضرب النار في الهواء، أو في بطون الأمهات في بيروت، آخر مولد للحرية، واستنبات هائل لإيمان جديد يترعرع لنظام هو أعلى ما وصلت إليه البشرية من مستوى في العدالة والحرية.

•••

ومن مميزات النظام الرأسمالي في العالم كله، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص أنه نظامٌ ذکيٌّ جدًّا، بارع تمامًا في الاستفادة من أخطائه ومن اكتشافاته .. وهكذا فلم تكن ووترجيت وسيلة فقط لخلع رئيس بدأت شكيمته الأمريكية القحة تقوى، وتأديب سناتورات كانوا في طريقهم للتمرد، وإنما أيضًا — وهذا هو المهم — كان اكتشافًا أمريكيًّا رائعًا جدًّا ليس فقط لتبرئة النظام في أمريكا، ولكن لتبرئة الرأسمالية في العالم كله والدفاع عنها.

كانت قضية حدثت دون وعيٍ کاملٍ بأبعادها؛ ولكن بعد حدوثها، اكتشف أنها ممكن استعمالها كدواء سريعٍ عاجل، وكأحدث صيحة لإطالة عمر الأنظمة الحاكمة المتهرئة، الدائرة في الفلك الرأسمالي المهيمن على عالم اليوم. إن «الووترجيتية» هي أحدث الطرق لإخفاء عيوب النظام بإظهار عيوب بعض أفراده.

وهكذا بدأت «فضائح» لوكهيد «تتسرب» و«تتهم» رئيس وزراء هنا، وأميرة أو أمير هناك، وفي سبيل إنقاذ حزب الديمقراطيين الأحرار ونظام الحكم في اليابان ما المانع من الإطاحة بسمعة ورأس السيد تاناكا؟

كنت أفهم أن يقوم مجلس الشعب ولا يقعد؛ لأنه يُناقش ليس فقط سياسة الاتحاد الزراعي التعاوني، ولكن يُناقش لماذا قام؟ وماذا يفعل؟ وماذا فعل للفلاحين أو للمزارعين أو لحركة التعاون في مصر؟ أما أن يقوم مجلس الشعب ليناقش إهداء عربة شيفروليه لرئيس مجلس الشعب الأسبق أو غير هذا من التصرفات، فصحيح أنه عملٌ خطير كان المفروض أن تقوم به النيابة العامة ومن زمن بعيد، وهذه هي الشطارة أو الحق أو العدل، إن كان هناك وجود للشطارة أو الحق أو العدل، ولكن دور مجلس الشعب أن يُناقش «ماهية» الأشياء وسياستها ودورها وفاعليتها، أن يناقش نفسه حتى والنظام الذي يسمح لأعضائه أن يتقاضوا مكافآت من زملائهم الذين يتحملون مسئوليات في الدولة ويزاملونهم .. كنت أفهم أن نقوم جميعًا لنناقش الأسباب التي تؤدي في المجتمعات إلى أن يفرخ أمثال أحمد يونس والمغربي والمئات، وسيظل يفرخ أمثالهم وربما من هم أكثر جشعًا وخراب ذمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤