قتل شاور
قضى شاور مُعظَم ليلته ساهرًا، وكذلك فعل أسد الدين؛ فقد مكث ساعات بعد خروج العاضد من خيمته، وهو يُفكِّر في هذا البلد الغريب الذي يستبدُّ به وزير مُخاتِل مُخادِع كشاور، ظلَّ ست سنوات يستبد بالشعب فيه ويحرم الخليفة السُّلطة، فيستأثر بها لنفسه، ويلعب بقوتَين خارجيتَين مُعاديتَين؛ قوته هو أسد الدين، وقوة الفرنج. وظل يُدبِّر الأمر في نفسه، فهذا البلد خيرُ مَهد لقوة عظيمة يعتز بها الإسلام وهو في نضاله وجهاده ضد الفرنج، ولكن كيف السبيل إلى ذلك، والأمر فيه فوضى لا يطمئن إنسان لصاحبه، ولا يثق صديق بصديقه؟ لقد مضى عليه يومان أو ثلاثة منذ نزل بأرض اللوق خارج القاهرة، ووفود المصريين من سراتهم وفقهائهم وتجارهم تفِد على معسكره، وحديثها كله ترحيب به وبقدومه واستغاثة خافتة مكتومة من هذا الرجل المُستبِد بالحكم فيهم، وفي الليل يأتي خليفتهم مُتنكِّرًا فيدُس لوزيره، ويطلب منه أن يقتله.
قضى أسد الدين ليله يُفكِّر في هذا كله، ولكنه لا يجد السبيل إلى الغدر بشاور. لقد زاره الرجل وصافَحه وصافاه، فكيف يخون العهد ويفتِك به؟ لقد غدر به شاور أكثر من مرة، وناوأه وكافحه، واستعان بالفرنج ضده، ولكنه اعتذر عن الماضي، وسعى إليه راغبًا في صداقته.
كان أسد الدين رجل حرب وجهاد، سريع الكره، سريع الصفح، لا يحمل ضغنًا أو كراهية، ولا يُبيِّت الشر في خفاء، فهو أبعد الناس عن السياسة، قضى حياته كلها مُشهِرًا سيفه في الميادين يُجالِد عدُوه ويُناهِضه حتى ينتصر عليه، فإذا أقرَّ العدُو بضعفه وطلب الهدنة والأمان هادَنه وأمَّنه؛ ولهذا لم يشَأ أسد الدين أن يُسرِع بقتل شاور، بل ترك الأقدار تجري في أعِنتها، وغفر للرجل ما سلف. وشعَر شاور بصفح أسد الدين فتقرَّب إليه، ودأب على الركوب كل يوم إلى معسكره، فيقضي معه بعض الوقت، أو يركبان فيسيران سويًّا يتجاذبان أطراف الحديث، فيمُد له شاور بالوعود مدًّا، ويُمنِّيه الأماني الطيبة، فإذا عاد إلى داره خلا بنفسه، وظل يُعمِل فكره، ويُدبِّر المكيدة للإيقاع بأسد الدين ورجاله؛ فهو يرى الخليفة يُسبِل عليه عطفه كل يوم، فيُرسِل له ولرجاله الخُلَع والهدايا والإقامات، وهو يرى جند أسد الدين ينبثُّون بين الشعب فيلقَون حبًّا وإكرامًا، بينما هو إذا سار هذه الأيام في مَوكبه لقي وجومًا وإعراضًا، ولم يُحِس علامات التَّجِلة والاحترام التي كان يُقابِله بها المصريون من قبل، بل كان كلما مر بينهم سمِعهم يهمسون، ورآهم يشيحون بأوجههم عنه حتى لا يرَونه ولا يراهم؛ فكان يُحِس أن دولته قاربت أن تدول، وأن نجمه كاد يأفل، فثارت نفسه، ورأى أن المعركة الآن أصبحت بينه وبين أسد الدين. إن أُبَّهة المُلك لا تحتملهما معًا، بل لا بد لأحدهما أن يُفسِح الطريق للآخر، واعتقد أنه إن لم يُبادِر فيُزيل أسد الدين، فلا بد أن يسعى أسد الدين إلى إزالته، فقرَّر أن يدعوه ورجاله إلى وليمة خاصة ليفتِك بهم وهم في ضيافته، ولم يجد من خاصته ورجال دولته من يثق به فيفضي إليه بنِيَّته إلا ابنه الكامل، فاستدعاه وحدَّثه حديثًا لينًا وأطال في الحديث ليُمهِّد للخبر، وليُبيِّن لابنه خطر أسد الدين، وحكمة هذا القرار الذي يُريد تنفيذه، ولكن الكامل لم يكُن ليُوافِق أباه على رأيه وهو ممن عملوا الحيلة لاستدعاء أسد الدين والاستنجاد به ضد الفرنج؛ فلمْ يكد يسمع قول أبيه حتى صاح مُعارِضًا.
– ما هذا يا أبَت؟! «والله لئن عزمت على هذا الأمر لأُعرِّفن أسد الدين.»
فغضب شاور من جرأة ابنه، ولكنه أراد أن يُقنِعه ليكسبه إلى جانبه، فقال: يا كامل تدبَّر في الأمر بعين اليقظة. «والله لئن لم أفعل هذا لنُقتَلن جميعًا.»
فلمْ يُبالِ الكامل بهذا الوعيد وقال: صدقت. و«لأن نُقتَل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين، خير من أن نُقتَل وقد ملكَها الفرنج؛ فليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه. وحينئذٍ لو مشى العاضد إلى نور الدين بنفسه لما أجابه، ولما أرسل إليه فارسًا واحدًا؛ فيملك الفرنج البلد، وتزول دولة الإسلام.»
سمع شاور هذا الكلام من ابنه فأيقن أن لا فائدة من جداله، وقال في نفسه: «لئن كان هذا اعتقاد ولدي فكيف يكون اعتقاد غيره ممن لا يمتُّون إليَّ بصِلة؟» وسكت على مضض؛ إذ وجد أنه لم يعُد في جعبته إلا سهم واحد، وذلك أن يُصافي أسد الدين ويبذل له الود؛ ليبقى له بعض ما كان يتمتع به من سلطان. ولكن الخليفة العاضد كان يبعث الرسول بعد الرسول إلى أسد الدين، يُحرِّضه أن يُسرِع بالقضاء على شاور، فوجد أسد الدين أن يجمع رجاله وقُواده ليستشيرهم في الأمر؛ فإنه لا زال يُحِس في نفسه التردد، ولا يستسيغ الإيقاع بالوزير.
وانتظم المجلس أسد الدين، وابن أخيه صلاح الدين، وجميع قُواد جيشه، وعرض عليهم أسد الدين الأمر، وتطارَحوا القول وتبادَلوا المشورة؛ فكان أشدهم مُهاجَمة لشاور صلاح الدين، إذ قال: أيها القُواد العظام، لقد شاهدتم غِنى هذه البلد وثروتها، وعلِمتم أن الفرنج كشفوا عورتها، وعرفوا مَسالكها، فتأكَّدوا أننا إذا خرجنا منها اليوم لأسرعوا إليها في الغد، وكلكم تعلمون كيف كان يلعب بنا وبالفرنج ذلك الرجل شاور، وكيف كان يُوقِع بيننا وبينهم ليُخلوا له الجو فينفرد بالسلطان فيها، وقد ضيَّع أموال مصر في غير وجهها، وقوَّى بها الفرنج علينا، وما كل وقت نُدرِك الفرنج ونسبقهم إلى هذه البلاد التي قَل رجالها وهلكت أبطالها.
فقال أسد الدين: كل ما قلت صحيح. فماذا ترى؟
– أرى أن يُقتَل شاور؛ ففي قتله جلاء للموقف، واستقرار للأمور.
فصاح أبو الحسن، وكان حاضرًا مجلسهم يسمع ولا يتكلم، وقال: سلمتَ وغنمت يا صلاح الدين! والله لَهذا هو الحل، ولا حل غيره. اقتلوا رجلًا تُنقِذوا شعبًا ودينًا.
فلمْ يتمالك عز الدين جرديك أن قال: إن صوت الشعب من صوت الله، وهذا أيها القائد العظيم مصري ينطق بصوت المصريين، وقد استمعتَ بنفسك لوفودهم التي جاءت تُرحِّب بك، وكلهم يشكُون هذه الشكوى، ويئنُّون مما يجدون.
وكان أسد الدين يُحِب أن يُدافِع عن شاور، فهو رجل نبيل يُقدِّر قيمة كلمته التي قالها لشاور، ووعده أن ينسى الماضي، ويبدأ صفحة جديدة كلها صدق وصداقة وإخاء، فقال: ولكنني وعَدتُ الرجل.
فقال عز الدين جرديك: اترك هذا الأمر لنا.
وقال صلاح الدين: أجل، اترك هذا الأمر لنا.
وأمَّن الجمع على هذا الرأي، واتفقوا على أن يتولى صلاح الدين وعز الدين جرديك القبض على شاور، واضطر أسد الدين أن يخضع لرأيهم.
وكان شاور قد دأب أن يركب كل يوم عند الأصيل في أُبَّهة المُلك والعُدة الحسنة، والآلة الجميلة، والطبول والأبواق تسبق مَوكبه، فيذهب إلى معسكر أسد الدين ليقضي بعض الوقت في حديث وسمر. ومضت على أسد الدين سبعة عشر يومًا وهو ينتظر من الخليفة الوفاء بالوعد، والخليفة يُقِر أنه لا يستطيع وفاءً وشاور وزير. وشاور يعِد ويُمنِّي ويُماطِل.
وفي اليوم الثامن عشر خرج شاور في مَوكبه المُعتاد، وامتطى صهوة جواده الحبيب إلى نفسه «منصور» والطبول أمامه تُدَق، والأبواق تُنفَخ، والجند يُحيطون به ويتبعونه. وكان يُحِس ضيقًا في صدره، فتثاقَل في مِشيته، وأحس الجواد بعض ما يُحِس سيده من ضيق وقلق واضطراب، فمشى الهُوَينا مُطرِقًا حتى وصل الركب إلى معسكر أسد الدين، فخرج صلاح الدين للقائه، ورحَّب به، ودعاه للإقامة حتى يحضر عمه؛ فقد خرج لزيارة قبر الإمام الشافعي ولما يعُد بعد، فاعتذر شاور وقال بأنه سيذهب للقاء أسد الدين عند قبر الإمام. فنادى صلاح الدين صديقه عز الدين جرديك، وقال: لقد حضر الوزير لزيارة عمي أسد الدين، فلما لم يجده رغب أن يلحق به عند قبر الإمام الشافعي. فهل لديك مانع أن نصحب الوزير إلى هناك؟
ففهم جرديك رغبة صلاح الدين وقال: لا مانع عندي. إن إكرام الوزير واجب من واجباتنا.
وركب القائدان وسارا إلى جانب الوزير حتى قرُبا من مقبرة السيدة نفيسة، فنظر صلاح الدين إلى الأرض الخالية المُمتدة أمامهم، وقال: إن هذا المكان يصلح ميدانًا جميلًا للعب. والله لقد اشتقت للعب.
فضحك شاور وقال: في الحق إنك لاعب ماهر يا صلاح الدين. لقد شاهدت لعبك عند زيارتي للمَلك العادل نور الدين منذ خمس سنوات، فأُعجِبت به أيَّما إعجاب.
فقال صلاح الدين: إن هذا المكان الفسيح يُغري بالعدْو والتسابق. فهل تُحِب أن نتسابق حتى نصِل إلى قبر الإمام؟
فقال شاور: لا مانع عندي.
ووقف الثلاثة في صف واحد، وأعطى جرديك علامة الابتداء، فانطلق كلٌّ منهم يُسابِق الريح بجواده. فلما بعدوا عن حرس شاور، أشار صلاح الدين لجرديك أن يُبطئ قليلًا، وقرُب هو بجواده من شاور، وضربه بكتفه ضربة قوية أفقدته توازُنه فمالَ يسارًا وكاد يسقط، فلحِق به عز الدين جرديك، وألقى عليه حبلًا فقيَّد به كتفَيه، وجرَّه إلى الأرض، وترك الجواد يعدو وحدَه، وحاوَل شاور أن يُقاوِم، وصرخ يستنجد ويستغيث تارة، ويُهدِّد ويتوعد تارة أخرى، ونظر إلى صلاح الدين بعينَين يتطاير منهما الشرر، وقال: فعلتها يا لئيم.
فتقدَّم صلاح الدين وكمَّه بمنديل في يده، وقال: اسكت يا غادر. والله لولا أنك أسيري الآن، ولا تستطيع الدفاع عن نفسك لَلطمتُك على فمك هذا الذي يجرؤ على شتمي.
ووقف صلاح الدين يحرس أسيره، وذهب عز الدين جرديك فأحضر خيمة أودع فيها شاور، وأسرع إلى قبر الإمام الشافعي، فوجد أسد الدين جالسًا يستمع إلى شيخ ذي عمامة كبيرة، وعينَين واسعتَين ولحية طويلة، فأشار إليه أسد الدين أن ينتظر. وعجِب عز الدين جرديك، تُرى من يكون ذلك الشيخ الذي يجلس أسد الدين في حضرته خاشعًا هكذا؟! وسأل عنه رجلًا يُصلِّي هناك، فقال له إنه الشيخ العابد الصالح نجم الدين الخبوشاني.
فلما انتهى أسد الدين من حديثه نادى عز الدين جرديك فذهب، وأسرَّ إليه الخبر، فدُهِش أسد الدين، ونظر إلى الشيخ نجم الدين، وقال: هذا تأويل ما رأيتُ يا مولانا، وقد صدق تفسيرك.
فسأل جرديك: وماذا رأيت؟
– رأيت ليلة أمس كأن شاور دخل داري وناوَلني سيفه وعمامته، فجئت أستفسر مولانا الشيخ عن معنى هذا الحلم فأخبرني أني أقبض على شاور وأقتله، وأكون وزيرًا مكانه.
ولم يكد يُتِم حديثه حتى أقبل عليه جندي من جنود الخليفة مُسرِعًا يلهث، فحيَّا وقبَّل الأرض، وقدَّم رسالة معه لأسد الدين. فتحها وقرأها، ثم نظر إلى صاحبَيه، وقال: يُخيَّل إليَّ أن أجل هذا الرجل قد حان، فهذه رسالة أمير المؤمنين يحثُّني على قتل شاور، ومُوافاته برأسه.
فبدَت الدهشة على وجه عز الدين جرديك، وقال: عجيب أمر هذا البلد! أبِهذه السرعة تصِل الأخبار إلى الخليفة ويأتي رسوله يطلب قتل شاور؟! لقد قبضنا عليه منذ لحظات، وأتيتُ بعدها مُسرِعًا لأخبر سيدي القائد. يُخيَّل إليَّ أن وراء كل فرد هنا جاسوسًا يُحصي عليه خطواته.
ولم يُلقِ أسد الدين بالًا لكلام جرديك، بل نظر إلى الشيخ نجم الدين وكأنه يسأله رأيه: أيُجيب دعوة الخليفة فيُبادِر بقتل شاور، أم يكتفي بسجنه؟
وفهم الشيخ مقصده، فقرأ قوله تعالى:
إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.
فأدرك أسد الدين ما يرمي إليه الشيخ، وانتحى بعز الدين جرديك ناحية، وأمره أن يذهب فيحتال هو وصلاح الدين لقتل شاور، وأن يصحب معه رسول الخليفة ليُحمِله رأس القتيل.
وعاد الرسول بعد قليل إلى الخليفة يحمل رأس شاور على طبق من فضة، فمُلِئت نفسه فرحًا، وأحس كأن كابوسًا كان يجثم على صدره فرُفِع عنه. وشاع الخبر بين أهل القاهرة وعامة الشعب، فخرجوا جماعاتٍ وتجمهروا فرِحِين يحمدون الله أن نجَّاهم من شر هذا الرجل وظلمه. وعاد أسد الدين بعد قليل إلى القاهرة في طريقه إلى المعسكر، فرأى الناس عن بعدٍ وهم يُقبِلون نحوه جماعات، فظنَّ أنهم غضبوا لقتل وزيرهم، وأنهم يقصدون به شرًّا، فقرُب منهم، وقال: أمير المؤمنين يأمركم أن تذهبوا فتنهبوا دار شاور.
فعلا صياحهم، وهلَّلوا فرِحِين، وتركوه مُسرِعين نحو دار شاور.