المؤامرة الأولى
مضَت الأيام وصلاح الدين يتصل بأهل مصر، ويتودد إليهم، ويستمع إلى شكاياتهم، ويُحاوِل جهدَه أن يُنصِف المظلوم، ويمُد يد المُساعَدة للفقراء والمُعوِزين، وكان يجلس كل يوم إلى القاضي الفاضل فيدرس وإياه نُظُم الحكم المختلفة، ويُحاوِل وإياه رَتقَ الفُتوق وجَبر الكسور، وكثر تنقُّله في القُرى والأقاليم يبذل المال للمُستحِقِّين بسخاء حتى أحبَّه العامة، وأصبح اسمه رمز المَجد والبطولة والسخاء، وغدَت أعماله حديث الناس في الأسواق والمجتمعات، يذكُرونها فتهتزُّ أعطافهم افتخارًا بوزيرهم الشهم البطل.
وكان صلاح الدين يُحِس حرارة الفرح والرضاء كلما أنصف مظلومًا أو أعان مُحتاجًا، وكان يرى بعينَيه علامات السرور في وجوه المصريين وعيونهم كلما خرج بموكبه يمُر في شوارع القاهرة أو الفسطاط، وكلما ذهب للصلاة مع العامة في مسجد من مساجد هاتَين المدينتَين، فكانوا يستقبلونه استقبال الفاتح، ويهتفون بحياته، ويدعون له بالنصر والفوز المُبين.
وكان صلاح الدين يُحاوِل أن يعرض على الخليفة مُعظَم شئون الحكم قبل أن يُقرِّر فيها شيئًا، فأحبَّه العاضد وأقبل على صحبته وقرَّبه إليه، وبلغ من مَحبته له أن كان يدعوه ليُقيم معه في القصر اليومَ واليومَين والعشرة أيام في سرور وصفاء وصداقة وإخاء.
وهدأت فورة القُواد الترك والأكراد من جيشه، فاعترفوا بالأمر الواقع، ورضوا بصلاح الدين وزيرًا، وخدموه وأخلصوا له، وهكذا استطاع صلاح الدين بلباقته وحسن سياسته أن يكسب الموقف ويُخضِع الجميع لطاعته، فتفرَّغ لخدمة البلد وأهالِيه، غير أن البستان الجميل تنتثر في أنحائه الأشجار الباسقة تتدلَّى منها الفواكه من نخيل وأعناب ورمان، وتُزيِّن أطرافَه الزهورُ الجميلة من ورد ونرجس وريحان يضيع شذاها فيُعطِّر الجو، وتنساب الأمواه في جداوله وتنتقل من مكان إلى مكان. هذا البستان يشيع الجمال في حناياه، وتتفجر الروعة في نواحِيه، لا يخلو من حيَّة تسعى بين الأغصان.
وكذلك كان رجال القصر الخليفي يُحِسون منذ تولَّى صلاح الدين الوزارة أن سلطانهم يضمحل وحولهم ينكمش وجبروتهم ينضمر، وغدَوا في القصر مشلولِي الحركة لا يستطيعون حَراكًا، وإن استطاعوا لا يُقدِمون؛ فراحوا يسعَون سعيهم في الخفاء كالحيَّات والثعابين، وصلاح الدين تشغله شواغل الحكم ومَهامُّه فلا يُقيم لهم اعتبارًا، وكل ما كان يُثير نفسه حنينه إلى أبيه وإخوته وأهله، إذ كان يذكُرهم كلما خلا بنفسه أو تعقَّدت أمامه المطالب، فيتمنَّى لو كانوا إلى جانبه في مصر يشدُّون أَزره، ويحُل بهم عقدة من أمره.
وأرسل إلى أبيه يذكُر له شوقه إليه وإلى إخوته وأهله، وحنينه إلى مدن الشام وقُراه ومَلاعب صباه ومَراتع لهوه، ويطلب منه أن يسعى سعيه لدى المَلك العادل نور الدين ليأذن له أو لبعض إخوته بالحضور.
وجاء الرد أن نور الدين قد سمح لأخيه الأكبر شمس الدولة تورانشاه بالسفر إليه، ففرِح لخبر مَقدَمه، وخرج — عندما علِم بوصوله — لاستقباله في موكب حافل، وعاد وإياه إلى دار الوزارة، وجلس يُحدِّثه ويستمع إليه، ويُمطِره وابلًا من الأسئلة عن أبيه وبقية إخوته وأصدقائه، وتورانشاه يُجيبه في تفصيل شاملٍ يُرضيه بعض الرضاء، ولكنه يَزيد في شوقه وحنينه، فيسأل أخاه: ولمَ لم يأذن مولانا المَلك العادل لأبي بالحضور؟ فقال تورانشاه: إن مولانا الملك العادل يستعين بأبينا في المُلِمات، وهو في حاجة إلى مجهود كل رجل منا وهو في نضاله العنيف ضد الفرنج في الشام، وهو في نفس الوقت يُقدِّر كل التقدير ما قد يعترضك من عقبات أو ثورات نفوس وأنت في أول عهدك بالوزارة في هذا البلد.
ثم سكت لحظةً وابتسم ابتسامة خفيفة صافية، وقال: أتعرف يا صلاح الدين ماذا قال لي نور الدين قبل أن يأذن لي بالحضور إليك؟
– وماذا قال يا أخي؟
– قال: إن كنت تُريد أن تسير إلى مصر وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد فلا تسِر؛ فإنك تُفسِد البلاد، وأُحضِرك حينئذٍ وأُعاقِبك بما تستحقه، وإن كنت تنظر إليه أنه صاحب مصر وقائم فيها مَقامي وتخدمه بنفسك كما تخدمني، فسِرْ إليه وأشِدَّ أَزره وساعِده على ما هو بصدده. ففهمت قصده وقلت: سأسير إليه وأخدمه وأُطيعه وستعلم عني كل ما يُرضيك إن شاء الله.
فتأثَّر صلاح الدين لهذا الحديث، وشكر لنور الدين هذه النصيحة يُسديها لأخيه، وشكر لأخيه جميل وفائه وإخلاصه، وقال: إنك يا تورانشاه أخي الأكبر، وإن كانت تقاليد الحكم تُوجِب عليك طاعتي أمام الناس، فإنك مع هذا ستراني كما كنت تراني دائمًا أخاك الأصغر يوسف الذي يبذل الجهد لرضائكم، ويُطيعكم في كل ما تأمرون به.
ولم يكَد يُتِم قوله حتى سمع أصواتًا وجلبة في الخارج، ثم فتح الباب ودخل أحد القُواد يقود رجلًا فقيرًا ذا خُلقانٍ مُهلهَلة، والرجل مُصفَرُّ الوجه يرتعد خوفًا، ويرتجف رعبًا، وتقدَّم القائد، فقال: سيدي الوزير، كنت أمُر اليوم خارج سور القاهرة، فرأيت هذا الرجل يرتدي هذه الخِرَق المُمزَّقة التي لا تكاد تُغطِّي أجزاء جسمه، ويحمل هذَين النعلَين الجديدَين ولا أثر بهما للمشي؛ فشككت في أمره، وجئت به لتستطلعوا حاله وتستخبروه عن سره.
وأمسك صلاح الدين بالنعلَين وقلَّبهما قليلًا ثم فتحهما، ولشَدَّ ما كانت دهشته عندما وجد بين ثناياهما رسالات مَطوية، فانتزعها وشرع يقرؤها، فلما أتم القراءة أعطاها إلى أخيه، وقال: اقرأ يا أخي.
وكانت الرسائل مُوجَّهة من بعض رجال القصر إلى الفرنج يستعدُونهم على صلاح الدين، فأثارت اهتمام شمس الدولة، وقال لأخيه: كنت أعتقد أن الأمور استتبَّت، وأن هؤلاء الفرنج قد آوَوا إلى أوكارهم، وأن مصر قد صفَت لك بعد قتل شاور وآله.
ثم نظر إلى الرجل الفقير وشرع يستجوبه، فيَلِين له في القول تارة، ويُهدِّده تارة أخرى، حتى علِم أن كاتب الرسائل رجل يهوديٌّ هواه مع رجال القصر، فأرسل من أحضره وما زال يُغريه ويُمنِّيه حتى أسرَّ إليه أن الذي أمَره بكتابة الرسائل زمامُ القصر الخليفي والمُتحكِّم فيه الخصي مُؤتمَن الخلافة، فأطلق سراحه وسراح الفقير، ولما خلَت الغرفة إلا منه ومن أخيه، التفت إليه وقال: أرأيت يا أخي؟ إن الحكم يحتاج عيونًا يَواقِظ وإلا أفلتَ الأمر من يدنا. والآن ماذا ترى؟
– أرى أن تقتل هذا الرجل مُؤتمَن الخلافة.
– لو فعلت الآن لَثارت بنا جنده السودانيون وهم كثرة غالبة.
– وهل تخشاهم؟
– كلا، وإنما أُحِب أن أحتال لقتله بعيدًا عن القصر؛ ولهذا فإني سأمد له مدًّا حتى ينسى أني أنوي الانتقام منه، فإذا سنحت الفرصة ضربته الضربة القاضية.
وعلِم مؤتمن الخلافة أن الرسائل وقعت في يد صلاح الدين، وأنه عرف مُحتوَياتها؛ فأيقن الهلاك، وانكمش في القصر لا يُغادِره إلا لمامًا. فلما انقضَت الأيام ومضى على هذا الحادث نحو شهرَين وهو آمِن لا يرى عنتًا ولا يُحِس غدرًا، ظنَّ أن صلاح الدين قد نسي أو عفا، فخرج ذات يوم ليقضي نهاره في قصر له بقرية قريبة من قليوب، وعلِم صلاح الدين بتغيُّبه في تلك القرية، فأرسل إليه من قتله وأتاه برأسه.
وحدث ما توقَّعه صلاح الدين، وثار الجند السودانيون وهم أكثر من خمسين ألفًا، فأرسل إليهم صلاح الدين جيشًا قويًّا من جنوده وعلى رأسه أخوه البطل شمس الدولة تورانشاه، واجتمع الجيشان في الميدان بين القصرَين، ودارت رحى الحرب بينهما يومَين كاملَين، وكان الخليفة العاضد يَشرُف على الجيشَين من إحدى مَناظر القصر وهو مُوزَّع القلب والعواطف، لا يدري إلى أي الفريقَين يميل، ولمن منهما يتمنى النصر، وكلاهما قذًى في عينَيه وشجًى في حلقه، ولم يلبث أن رأى السهام والحجارة تترامى وتندفع من نوافذ القصر، فاضطرب وخشي أن يُثير هذا العَداء جنود أسد الدين ضده، وقد تحقَّق ظنه؛ فإن شمس الدولة تورانشاه غضب غضبة مُضَرية وأسرع، فأمر أحد الزراقِين بإحراق مَنظَرة العاضد، وهمَّ الرجل بتنفيذ أمر قائده، وإذا بالأمير شمس الخلافة يخرج من القصر، ويقول: أمير المؤمنين يُسلِّم على شمس الدولة، ويقول: «دونكم العبيد الكلاب فاقتلوهم أو أخرجوهم من البلد.»
وكان السودان يُهاجِمون في شدة وحماس، إذ كانوا يعتقدون بعد أن رأوا السهام والحجارة تُلقى من القصر أن الخليفة يُؤيِّدهم ويشدُّ أَزرهم، فلما سمعوا هذا القول فتَّ في أعضادهم، وتخاذَلوا وأدبَروا وانتهت المعركة بهزيمتهم، ففرُّوا إلى الجيزة وتتبَّعهم جند صلاح الدين، فكانوا يقتلونهم أنَّى ثقِفوهم.
وهكذا انتهت أول ثورة ضد صلاح الدين بالفشل، غير أنه غدا أشدَّ احتراسًا من ذي قبل؛ إذ كان يعلم أن هذه الدولة التي عاشت في مصر قرنين ونصف قرن، لا يُمكِن أن تزول آثارها في شهور.