مبدأ الأجيال القادمة

الدنيا مركبةٌ زاهيةُ الألوان، مذهَّبةُ الحواشي، مُطهَّمة الخيول، سائقها الشيطان!

هذا السائق اللَّبِق يعرف دائمًا كيف يخاطب الرَّكب! … إنه لا يجهل حُب الناس للخير، أو التظاهر بحُب الخير … فهو يتحاشى أن يخاطبهم بلسانه الحقيقي! … لقد ابتدع لهم لغةً بارعةً برَّاقة، يقطر منها النُّبل والسموُّ!

فهو ينحني بجوار باب مركبته، حتى تكاد جبهته تمسُّ الأرض تواضعًا، ثم يفتح الباب، ويقول للناس: هلمُّوا اصعدوا، أوصلكم إلى أنبل الغايات!

فيصعدون، بعضهم عن إيمان، وبعضهم عن غرض، وبعضهم عن تورُّط!

أمَّا صاحبُ الإيمان فيقول في نفسه: الدنيا بخير! … وأحمَدُ الله أن أتاح لنا هذا السائق الطيِّب، يذهب بنا إلى ما نؤمن به من غايةٍ شريفة!

وأمَّا صاحبُ الغرض فيقول: ليس يعنيني الجهة التي يذهب بي إليها هذا السائق، ولكنَّ الذي يهمُّني هو أن أصعد إلى جوار هؤلاء الناس المؤمنين الشرفاء!

أمَّا المتورِّط فيقول: لم يكُن في نيتي الركوب، ولكنْ ما دام الناس من حولي يصعدون كلُّهم مع هذا السائق، فما الذي يُبقيني أنا من دون الناس؟!

ويُغلق السائق على الجميع باب المركبة وهو يبتسم ويقفز إلى مكان القيادة، ويُمسك بالأعنَّة، ويُلهب بالسوط ظهور الجياد! … فإذا المركبة تنطلق كالمجنونة تُسابق الرياح!

•••

ولا يمضي قليلًا حتى يشعُر الرَّكب برجَّاتٍ عنيفة، تكاد تحطم المركبة، وتُصيبهم بالدُّوار، وتُلقي بعضهم على بعض! … عند ذاك ينظُرون من النافذة؛ فإذا هم يتبيَّنون أنَّ السائق قد ترك الطُّرق السويَّة، وانحرف عن السُّبل المستقيمة، ونزل بالمركبة يخبُّ في السكك الوعِرة، ويخوض في المسالك المُوحِلة!

فيصيح به أصحاب الإيمان مرتاعين: ويلك! … ما هذا الطريق الذي تخوض بنا فيه؟!

فيلتفت إليهم السائق، قائلًا بخبثٍ مستتر: هو أقصر الطُّرق!

فيقول المؤمنون: ولكنه ليس نظيفًا!

فيجيب السائق: المهمُّ الغاية التي تقصدون إليها! … ما دامت الغاية نبيلة فلا تنظُروا إلى الطريق!

ويعود إلى سوطه يُلهب به خُيوله؛ فتندفع المركبة في وِجهتها، تاركةً الرَّكب المؤمن في داخلها، ينظُر بعضهم إلى بعض متسائلين: أحقًّا يجدُر بنا أن نسير في هذا الوحل والطين من أجل الوصول إلى غايتنا الشريفة؟!

ويشترك في الحديث غير المؤمنين، من هواةِ التظاهر والمتورِّطين، فيقولون: ما دام هذا هو أقصر الطُّرق للوصول، فما الضَّرر؟

فيصمت أصحاب الإيمان، وقد أسلموا أمرهم إلى الله، ما أسلموه في حقيقة حالهم إلا إلى الشيطان!

•••

تلك هي مركبة الدنيا من قديم منذ سلَّم فيها الجميع بمبدأ «الغاية تبرِّر الطريقة!»

أخطر مبدأ عرفتْه أجيال البشرية المتعاقبة! … هذا المبدأ وحده هو المسئول عن كلِّ هذه الكوارث التي حاقتْ بالعالم حتى عامنا هذا جيلًا بعد جيل!

كلُّ ساسةِ العالَم وقادة الشعوب، في الأمس واليوم، وفي الغد أيضًا، ولا ريب، يسيرون على هذا المبدأ. مخدوعين بالوهم أنَّه أقصرُ طريق؛ للوصول إلى غاياتهم التي قد تكون في بعض الأحيان نبيلة، ولكن الذي يحدُث دائمًا هو ما يحدُث لرَكبِ المركبة التي يقودها الشيطان! … إنهم لا يظفرون إلا بالطريق الموحِل، أمَّا الغاية فلا تظهر لهم أبدًا في الآفاق!

ذلك أنَّ الطريق المُلتوي القذِر، لا يُوصل أبدًا إلى الخير ولا إلى الشرف! … إنَّ الغاية النبيلة ليست من الضَّعة حتى تقبل أن يوصَل إليها بطريقٍ غير نبيل! … إنَّ الطريق إلى الشَّرف هو الشَّرف نفسُه، ولا شيء غير ذلك!

والخير هو في ذاته الطريقة والغاية؛ لأنَّه شعاعٌ من أشعة الله، والله تعالى غاية، لا بد أن يكون طريقها نورًا وخيرًا!

فلو اتَّفق قادة العالم المجتمعون حول موائد السلام، وقادة الشعوب والمجتمع والفكر الباحثون في مستقبل الإنسانية على أن يحطِّموا أولًا مبدأ «الغاية تبرِّر الوسيلة.» لجاءت النتائجُ باهرة! … فإنَّ مناورات الساسة ستختفي، وأساليب الكذب والمُداراة والنِّفاق والخداع ستزول، ولن يبقى أمام الجميع غير طريقٍ واضحٍ نظيف! … إذا أوصلنا إلى الخير العام؛ فهو الهدف. وإن لم يوصلْنا إلى إصلاحٍ سريع؛ فحسب العالم أنَّه سار في طريقٍ خالٍ من الشَّر والقذَر! وإذا لم يكُن هذا الطريق النظيف هو في ذاته إصلاحًا وخيرًا، فلن يعرف العالم الإصلاح والخير عن طريق التدمير والشر!

هل لنا أن نأمل، في الأجيال الجديدة، ظهور مبدأٍ جديد، يتَّخذه العالم كلُّه دينًا وعقيدةً ويكون شعاره:

«الغاية النبيلة في الطريق النبيل»؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤