تلاقي الأجيال

لم يكُن من المتصوَّر عندي أن أطرُق موضوعًا كهذا من قريبٍ أو بعيد. ولكنَّ الأمر لاح لي ممكنًا، عندما بدأتُ أنظر إليه من زاويةٍ أخرى … لم تعُد المسألة مجرَّد علاقةٍ بين أبٍ وابن؛ لقد خرجتْ من هذا الإطار الضيِّق إلى إطارٍ أوسعَ وصورةٍ أكبر، هي صورةُ العلاقة بين الأجيال في عصرنا الحاضر. وتذكَّرتُ كلامًا نشرتُه في هذا الموضوع منذ أكثر من عشرين عامًا، فنهضتُ أُراجعه، فوجدتُ لدهشتي مقالًا بعنوان: «انفصال الأجيال» قلتُ فيه يومئذٍ إنَّ الجيل الجديد «يصرُّ على أن يكون له رأيٌ في محيط البيت والمدرسة والمجتمع»، وقد جاء هذا الجيل في ظروفٍ عالمية تبرِّر الانقلابات، وفي ظروفٍ قومية تنادي بالحرية واجدًا من الجيل السابق الذي يحتضنه مؤازِرًا لنزعته ومُشجِّعًا؛ لأنَّ هذا الجيل السابق لم يكُن إلا جيلُ الثورة المصرية في عام ١٩١٩م … على أنَّ أبناءنا لم يقِفُوا عند هذا الحدِّ، فما من شابٍّ يقبل منك الآن نُصحًا … ما من شابٍّ يقنع اليوم بأن يكون له في شئُون أُسرته رأي، وفي مذاهب السياسة رأي، وفي برامج دراسته رأي، وفي أساتذته رأي. الجيل الجديد يعيش في عصر التغييرات الخاطفة والتطورات السريعة والاختراعات المفاجئة، فأصبح لذلك أقلَّ من الجيل الذي سبقه صبرًا وجلَدًا، وأقوى منه رغبةً في كلِّ تغيير، وأعنفَ ثورةً على كلِّ ثابتٍ مستقرٍّ … الخلاف الحقيقي في ذلك التصادُم بين الأجيال، هو في ضياع الاحترام والثقة … والسَّير لا برُوح التعاون بل برُوح التحدِّي.

تاريخ هذا الكلام هو ١٩٤٧-١٩٤٨م، ولم يكُن بالطبع قد وصَلَ الإنسان إلى القمر، أو عرَفَ انعدامَ الوزن والمشيَ في الفضاء مقلوبَ الرَّأس … فهل تُرى اليوم الصورة قد تغيَّرتْ بين الأجيال؟ أنا اليوم أبٌ لابنٍ يمثِّل جيلًا جديدًا. جيلُ الشباب الذي جاوَزَ العشرين ولم يبلغ الثلاثين. يفصلني عن هذا الجيل ثلاثة أجيال. أيُّ حوارٍ يمكن أن يقوم بيننا؟ وما مدى التعاون المطلوب منِّي بالنسبة إليه؟ … لقد كان والدي أنا يجهل عنِّي الكثير، يجهل أهمَّ ما في حياتي وهو الفنُّ. ما كنتُ أجرُؤ على التلفُّظ بكلمةِ الفنِّ أمامه. كنتُ إذا اقتضى الأمر أخفِّفها وألطِّفها بكلمةٍ أقربَ إلى القبول والاحترام هي «الأدب». ومع ذلك، ما كان يبلغ سمعه صِلتي بالأدب — وكنتُ قد تخرَّجتُ في مدرسة الحقوق — حتى يستعيذ بالله، ويستحوذ عليه الضِّيق والقَلَق. وصرتُ كلما صادفتُ صديقًا له، بادَرَني بقوله: «أبوك يشكو إلى طُوب الأرض فزِعًا من أنَّ ابنه قد أدركتْه حرفةُ الأدب!» … وأنا الآن أنتمي إلى الأدب والفنِّ، وشاء القدَر أن يكون لي ابنٌ أراد أن ينتمي هو الآخر إلى حرفةٍ من حِرَف الفنِّ! فهل تغيَّر الموقف؟

إذا سألتَ ابني فهو قائلٌ لك إنَّه لم يتغيَّر شيءٌ، وإنَّه يشعُر بنفس الانفصال … لم يقُل لي ذلك في مواجهة، أدبُه يمنعه، ولكنَّ رأيه نُقِل إلى مسمعي، وجعلتُ أُسائل نفسي: كيف يمكن أن يحدُث هذا؟ ومع مثلي وفي زماننا هذا؟! … وأخذتُ أحلِّل الموقف لأكتشفَ أين يكمُن الخطأ؟ … أهو في هذا التجاهُل التامِّ لمَا اختاره هو من طريقٍ فنِّي؟ ربما … فَقَد استقرَّتْ في أعماقه فكرةٌ، من وقتٍ ليس بالقريب، أنِّي غيرُ متحمِّس لمَا يفعل، وأنِّي كنتُ أفضِّل بُعده عن طريق الفنِّ … ولستُ أدري منشأ هذه الفكرة … ربما استشفَّها من ظواهرَ كثيرةٍ بدتْ من اهتمامي بتوجيهه منذ صغره إلى أن يكون مهندسًا … وقد سايرني هو في هذا الاتجاه بتفوُّقه البارز في علوم الرياضة إلى أن غافلني وظهَرَ فجأةً بميولٍ فنية قبل السنة الإعدادية … كان يُكثر من الاستماع إلى الموسيقى الأجنبية في البرنامج الأوروبي للإذاعة … ولم أشعُر ذات يوم إلا وفي يده جيتار، قيل لي إنه زهيدُ القيمة طلَبَه من والدته في عيد ميلاده … ولم أرَ في الأمر خطورةً، وظننتُها هوايةً عابرة … ولم أجِد ضرورةً في أن أُقيم الدنيا وأُقعِدها كما فعَلَ أهلي يومَ رأَوا في يدي عودًا أعزف عليه إلى جوار الأسطى حميدة المُطرِبة العالمة، فالزَّمن قد تغيَّر، واعترف التعليم الرسمي بالنشاط المدرسي وهوايات الشباب.

ولكنَّ هواية ابني سرعان ما انقلبتْ جدًّا … وأصرَّ على المُضيِّ فيها وإتقانها … وإذا بوالدته قد استقدمتْ له أستاذًا يونانيًّا متمكنًا، علَّمه العزفَ حتى برع فيه … وإذا بي أعلَمُ بعد ذلك من ناظر مدرسته أنَّه، وقد نال الإعدادية، قد كوَّن فرقةً موسيقية بالمدرسة أثارَت الاهتمام … وجاء الصيف فاستأذنني في الانضمام إلى فرقة طلبَتْه للعمل معها أمام الجمهور الواسع خلال الإجازة … فلم أسمح له، ورفضتُ رفضًا باتًّا … فأذعَنَ على مَضَض … إلى أن كان في سَنَته التوجيهية فأتمَّ تكوينَ فرقته الحالية، ولكن في نطاق ضيِّق، وأطلقوا عليها اسم «بلاك كوتس» … واستطاع أن يعمل بها أمام الجمهور خلال إجازة الصيف بدون علمي … وأكمل دراسته الثانوية، والْتحق بمعهد السينما، وقد تأكَّد لي أنَّ الموسيقى تجري في دمه، ولا أملَ في أن تُفارقه … هنا أدركتُ أنا أن لا مفرَّ … وكنتُ قد قرأتُ لأحد كبار المُخرِجين السينمائيين أنَّ الموسيقى، بما فيها من إيقاعٍ، هي الذِّراع اليُمنى للمُخرِج … فسكتُّ، وأصغيتُ إليه يوم طلَبَ منِّي السماحَ له بأستاذ من الكونسرفتوار يتلقَّى عليه أصولَ الهارمونية … وقد نفعه ذلك بالفعل في تأليفه المقطوعات الجديدة، وفي إعادة توزيع وتركيب المقطوعات القديمة على نحوٍ جديد خاصٍّ بفرقته … كما سمحتُ له بالسَّفر إلى إيطاليا وغيرها في رحلةٍ فنية … كلُّ ذلك تمَّ وكأنَّه في رأيه ينتزعه منِّي انتزاعًا … وجعَلَ يشقُّ طريقه بنفسه وسط ضبابٍ من الفتور يحول بيني وبينه … لم يَجِد التَّحمُّس له والمساندة إلا من والدته … ولم يكُن بيننا — أنا وهو — من حديث إلا عن معهده … كان أحيانًا يُجري تدريباته بالمنزل، ويعلو صوت آلاته وأنغامه، فيجِدُ دونها باب حُجرتي الموصد.

إذن لم يتغيَّر شيء كما يقول … ولم يزَلْ هناك انفصالٌ بين الأجيال، على أنَّ هذا الوضع لم يكُن فيما يبدو لي يهمُّه كثيرًا، بل لعلَّه كان يجِدُ من الخير له ومن الراحة أن أبقى أنا بعيدًا عن مجاله.

لكن الذي كان يودُّ — هو وغيره من الأبناء … أن يحدُث — هو أن يرى الأبَ يُشاركه على الأقلِّ في بعض الميول … فهو يعيش عصره تمامًا … يُجيد السباحة والصيد تحت الماء بالرُّمح، ثم الصَّيد فوق الأرض بالبندقية، ويَحذِق الرماية، ويقود السيارة، ويحبُّ الرحلات والمغامرات وأفلام السينما التقدُّمية بكلِّ موجاتها الجديدة وكلِّ مستحدَث في مَلبَس ومَسلَك … إنَّه ابنُ عصره، لكنَّه ينظُر إلى جواره فيَجِد عصرًا آخَرَ، يَجِد أبًا من طراز كلاسيكي.

هل الانفصال بين الأجيال وضعٌ حتميٌّ لا أملَ في تغييره؟ … أم أنه بالتفاهُم والتعاون يمكن أن نصحِّح الوضع؟ … نحن الآن في عصرٍ بدأ فيه تصادُمٌ عنيف بين جيلُ الشباب والجيل السابق، على نحوٍ لم يَسبِق له مثيل … وجوهر الخِلاف دائمًا كان في اعتقاد كلِّ جيلٍ سابق أنَّه صاحب الحُكم الأصوب في شئُون العصر، وأنَّه هو المنوط به وحده تكييف الحاضر وتشكيل المستقبل، باعتباره قمَّة التجربة التي خاضت كلَّ مراحل العمر … وكان الشباب يتقبَّل هذا الاعتقاد بتوقيرٍ دون المناقشة فيه، إلى أن جاءت الحروب والكوارث والمجاعات وفُتحتْ أبواب جهنم الأرضية على صورةٍ رهيبة، وكان الشباب هو الحطب والوقود، وأدرَكَ أنَّ كلَّ ذلك وقَعَ بتوجيهِ الجيل السابق … هنا بدأ يتساءل: «وأين قمَّة التجربة إذن؟!» إنَّ الشيوخ لا يستفيدون من أخطائهم عبْرَ التاريخ … وبدأ الشك يخامر الشباب، وبدأت حصون الشيوخ تهتزُّ … وانهارت الثقة، ولكنَّ الشباب لم يشيِّد لنفسه بعدُ حصونًا؛ إنَّه حديثُ عهدٍ بثورته وشُعوره بذاتيَّته … ليس عنده بعدُ أفكارٌ واضحة منسَّقة … إنها ككلِّ ثورةٍ في بدايتها … تدكُّ الحصون القديمة ثم تقِفُ حائرةً بعضَ الوقت لا تدري ماذا تفعل! … لذلك عندما قامت ثورةُ الشباب في فرنسا وهزَّتْ حكم ديجول لم تقُم وراءها فلسفةٌ واضحة … ولم يظهر بين الشباب مَن استطاع التعبير عنها سوى واحدٍ أو اثنَين، ولم يكُن كلامهما أيضًا بالمُقنِع أو العميق، وعندما أرادوا شعاراتٍ تضاربَت الاتجاهات، وانتهوا إلى رفْعِ صُورِ رجالٍ مثاليِّين شرفاء مجاهدين، من أمثال: جيفارا وهوشي منه وماوتسي تونج، استوى في ذلك أبناء أصحاب الملايين وأبناء السُّوقة المُعدِمين.

وقد حارَت الحكومات أمام هذه الثورة … فهي أخطر لديها من إضرابات العمَّال ومطالب المُزارِعين … ذلك أنَّ حركات الطوائف تقوم على أغراضٍ محدَّدة من رفْعِ أجورٍ أو مستوى معيشة، لكنَّ صيحات الشباب في كلِّ مكان من الأرض ليس من السهل تحديدها … إنها صيحةُ العصر كلِّه … إنها يقظةُ المستقبل الرهيب … والمستقبل لم يعُد كلمةً غامضة … آلةٌ حقيقية تتحرَّك … تقِفُ على أقدامٍ أمامنا في صورةِ شبابٍ سيعاصر سنة ٢٠٠٠م وما بعدها … وحده يقِفُ وقد اختفى من حوله كلُّ المُنتَمِين إلى جيلِ الشيوخ. وهو لا يريد أن يصِلَ إلى أعتاب القرن القادم وقد دفعتْه من ظَهْره عقولٌ تسوس العالم بسياسةِ القرن الماضي … لكنْ، كيف السبيل؟

ما العملُ والشباب لا يثقون، وهم في نفس الوقت لا يعرفون ماذا يفعلون؟ ومن هنا الحيرة التي تبدَّت في مسلكهم غيرِ المألوف … وهم كلَّما ثاروا اشتدَّ الجيل السابق في اعتصامه بحصونه … واتسعتْ شقَّة الانفصال بين الأجيال.

وما دامَت الثقة قد فُقدتْ؛ فالكلمات القديمة أيضًا أصبحتْ محلَّ شكٍّ.

فالنصح والإرشاد والموعظة، وغيرها من الكلمات التي يستخدمها الجيل القديم، أصبحت في نظر الشباب مثيرةً للسخرية ومرادفةً للتسلُّط والاستعلاء، مهما يكُن فيها من رغبةِ النفع ونيَّة الإصلاح.

لقد كان ابني يصمُت أمامي تأدُّبًا كلَّما بذلتُ له النصح والموعظة الحسنة في أمورٍ تخصُّه وتهمُّه، لكنَّه ما يكاد يتركني حتى يهمس للآخَرين: «إنه يريد أن يمارس سُلطته الأبويَّة!» … إذن لا بد من تغييرِ وسائل الاتصال لجيل الشباب، ولا بد من تعديلِ طريقةِ محادثته، والبحث عن لغةٍ جديدة وأسلوبٍ جديد للتَّفاهُم معه. وأولُ كلِّ شيء، يجب أن نتجنَّب مخاطبته من فوق أسوار حصوننا القديمة؛ يجب أن نترك عالَمنا ونذهب إليه في عالَمه. ففكرة مراحل العمر المتَّصلة اتصالَ درجات السُّلَّم، المؤدِّية إلى قمَّةٍ تُشرف وتسيطر على بقيَّة الدرجات، هي فكرةٌ لم يعُد لها اليوم قبول. والمقبول اليوم هو أنَّ كلِّ مرحلة لها شخصيتها وذاتيتها وقوانينها ولغتها ومفهوماتها … أيْ عالمها الخاص. إنَّ مراحل العمر ليست درجات سُلَّم، بل ربما كانت عربات قطار؛ كلُّ عربةٍ مختلفةٌ منفصلةٌ عن الأخرى بمَن فيها وما فيها، ومع ذلك متَّصلة ببابٍ ضيق. والقطار كلُّه يسير إلى غايته المحتومة، وركَّاب العرَبَة الأخيرة، من كهول وشيوخ، لا يمكن أن يفهموا ويعرفوا ما يجري في عربة الشباب إلا إذا انتقلوا إليها، وجلسوا بينهم في مقاعدهم، وهذا ليس بالأمر السهل. إنَّ انتقال راكبٍ من عربة إلى أخرى يجعل الأنظار تتَّجه إليه في شيء من الرِّيبة؛ فيخيم الصمت على الجالسين، ولا تنفتح الصدور وتنطلق الألسنة، إلا بعد الاطمئنان إليه. وهذا لن يحدُث إلا إذا نجَحَ في اكتساب ثقتهم وتفهُّم همومهم والتحدُّث بلُغَتهم، والنجاح في ذلك ليس مضمونًا دائمًا. هناك من المفكِّرين، أمثال «ماركيوز»، مَن أراد الدِّفاع عن الشباب؛ فتكلَّم بلغته هو، وقد صفَّق له البعض منهم لمجرَّد وقوف مفكِّر ممتاز إلى جانبهم. ولكنَّ المحامي الذي يقف إلى جانب موكِّله ويكسب قضيته، ليس هو بالضرورة الذي يكسب قلبه ويعيش داخل عقليته.

تلك هي الصعوبة لمَن يفكِّر في رحلةٍ إلى دنيا الجيل الجديد. وهي أصعب بالنسبة إلى مثلي ممَّن لا تجمعه بالشباب اليوم أرضٌ مشترَكة من ميولٍ عصرية أو رُوحٍ مُنطلِقة … لذلك عندما لذلك عندما اقترح عليَّ أصدقاؤنا في الأهرام، وأغروني بالذهاب لمشاهدة ابني وفرقته؛ صدَمَني الاقتراح ووجدتُ الأمر شاقًّا، بل كِدتُ أراه مستحيلًا؛ فأنا الآن لا أخرج ليلًا، فما بالي لو سهرتُ إلى ما بعد منتصف الليل! … ولكنَّهم زيَّنوا لي الأمر ويسَّروه على مداركي بقولهم إنَّ السهر ليلةً واحدة ثمنٌ بخسٌ إلى جانب محاولة فَهْمك لهذا الشباب. وإنَّه لمن المستغرَب لشاهدٍ على عصره أن يفقد حُب الاستطلاع إلى هذا الحدِّ!

قلتُ انتظروا حتى أسأل ابني أولًا؛ لأرى وقْعَ هذا على نفسه، وهل يسرُّه حضوري حقًّا أو أنَّه سيتوجَّس منه خِيفة؟ … ولمَّا فاتَحْتُه في الأمر أطرَقَ مليًّا، ثم رفَعَ رأسه وقال بلهجةِ المُستريب إنَّه يعرف مقدَّمًا شُعوري نحوهم وما أنا قائلٌ فيهم. وروى لي أنَّ المغني «فرانك سيناترا» عندما استمع إلى ابنته وقد احترفتْ مثله الغناءَ، وسُئل عن رأيه فيها سفَّهها ورماها بجهلِ أُصول المِهنة. كذلك فعَلَ «شارلي شابلن» مع أولاده عند احترافهم الفنَّ … إنَّها نمرةٌ قديمةٌ معروفة أن يقلِّل الفنَّان الكبير من شأن أولاده، تعاليًا أو تظاهُرًا أو خوفًا من اتِّهامه بالتحيُّز والمجاملة.

فأكَّدتُ له أنَّ هذا لن يحدُث معي، وربما حدث لو أنَّ حرفته كانت مماثلةً لحرفتي — أي الأدب والكتابة — كنتُ انهلتُ عليه فعلًا بالنقد وأرهقتُه بالملاحظات، وما كنتُ أستطيع كبْحَ جِماحَ رغبتي في تقليد «سيناترا» و«شابلن». وكلاهما يُشارك أولادَه في نوعِ الحرفة. أمَا ونحن مختلفان في نوعِ العمل؛ فليس لابني أن يخشى منِّي، ولا أرضى لنفسي أن أخوض فيما ليس لي عِلم به. ولن يكون موقفي سوى موقفِ المُشاهِد العادي. وأعِدُه أنِّي سأُفرِّغ من نفسي كلَّ ميلٍ مُسبَق، ومن رأسي كلَّ رأيٍ شخصي. ولن أُقدم على المشاهدة برُوح التعالي أو الاستهانة أو التحدِّي. فمهما يكُن من أمرِ اتجاهاتي في الفنِّ؛ فإنِّي أكره الظهور بمظهر المستخفِّ باتجاهات الآخَرين. ولستُ أنوي أن أكون المفكِّر الذي يعتصم بذوقه في أبراج ألوانٍ من الفنِّ استقرَّ تقديسها مدى القرون، ويتعالى على أنواعٍ أُخرى جديدةٍ لم تَزَل محفوفةً بالشكوك، دون أن يكلِّف نفسه شجاعةَ تذوُّقها أو يجازف بالحديث عنها. وأعترفُ على نفسي أنِّي كنتُ، وربما لم أزل، من هذا الطراز، وسبَقَ لي أن كتبتُ مُستهينًا بموسيقى الجاز … وأذكُر أنَّه عندما جاء «جان بول سارتر» و«سيمون دي بوفوار» إلى مصر أن بدر منِّي كلامٌ ضدَّ هذه الموسيقى؛ وإذا بي لدهشتي أُفاجأ بتقديرٍ غريب من هذَين المفكِّرَين لموسيقى الجاز هذه، تأكيدًا لمَا نشراه في هذا الصدد من كتبٍ، وخاصة كتاب «مواقف» لسارتر، وأدركتُ يومئذٍ أنَّهما لا يريدان أن يبتعدا عن تذوُّق وتفهُّم كلِّ ما يتَّصل برُوح العصر.

لكن السؤال الآن: ما هي رُوح العصر؟ إنَّ الإجابة ليست بسيطةً، والرأي عندي أن نتلمَّسها في أبرز الدلالات. ولا شكَّ في أنَّ أهمَّ ما يدلُّ على رُوح العصر سرعة الإيقاع وصخَب الحركة؛ ذلك أنَّ العام الواحد من عصرنا الحاضر تقع فيه من الأمور والأحداث وتتمُّ فيه من الاكتشافات والمغامرات، ما كان يتمُّ من قبل في أكثر من مائة عام. لم يعُد عصرنا عصرَ الجلوس والتأمُّل، بل عصر التفكير المتحرِّك. وانعكس ذلك على الشباب الذي فتَحَ عينَيه فوجد نفسه في قلبِ العصر الجديد؛ فلم يُطِق جلوسًا ولا هدوءًا … إنَّه يريد أن يتحرَّك مع العصر المتحرِّك في موسيقى متحرِّكة صاخبة، لا أن يسترخي مسمَّرًا في كرسيٍّ نصفَ مُغمضٍ في موسيقى ثابتةٍ متأمَّلة. إنه لا يريد مجرَّد الاستماع بل يريد أيضًا المشاركة. لا يريد أن يبقى في مكانٍ، بل يطمح إلى الانطلاق في كلِّ مكان، ويكتشف الأرض سيرًا على الأقدام، أو قافزًا إلى سيارة مارَّة، أو منبطِحًا على ظَهْر سفينة عابرة، لا يقف أمام عائقٍ من خلو الجيب، أو خوف المخاطر، أو رهبة المجهول.

إنَّ أهمَّ مظهرٍ للشباب اليوم، هو أنَّه استشفَّ بغريزةٍ خفيَّة أعظمَ رؤى المستقبل، وهي «وحدة العالم»؛ فالكرة الأرضية الواحدة المتَّحدة في نظَرِ إنسانِ الفضاء وهو خارجها، يراها الشباب كذلك من داخلها … فاتَّحدوا جميعًا الأبيض والأسود والأصفر في كثيرٍ من الأذواق والأهداف والمُثُل العُليا الإنسانية، واجتمعوا في شِبه زيٍّ واحدٍ ورقصٍ واحدٍ في كلِّ مكان؛ تعبيرًا عن حركة الحاضر، وبشيرًا بوحدة المستقبل … إنَّها إذن دلالةٌ وعلامة … ربما ليست موجةً طارئة، لكنَّه قد يكون هو العصر يصبغ بلونه، ويحرِّك بإيقاعه هؤلاء الشباب. وأكثر من ذلك ما شاهدتُه في باريس في أواخر السبعينيات من انتشار حوانيت الحِلاقة التي تقوم فيها النساء بالحلاقة للرجال. وعليها «لافتة» بها عِبارة «مونوسكس» — أيْ «جنس موحَّد» — لا تعرف تسريحة الشَّعر فيه أهي لرجلٍ أو لامرأة! … ثم شاهَدنَا — أنا والدكتور حسين فوزي — مسرحية «الملك لير» ﻟ «شكسبير»، تمثِّلها فرقةُ «شباب» بأسلوبٍ عصريٍّ يسمُّونه «أسلوب الصدمة»؛ أي صَدْم الجمهور بالملك لير العجوز في صورة «شاب» كثيرِ الحركة والعنف؛ يجري خلْفَ بناته ركلًا ﺑ «الشلاليت» وصياحًا مزعِجًا بشِعر «شكسبير»! فاستعذنا بالله من هذا العصر! عصر القنابل النووية وصُور «بيكاسو» و«الجنس الموحَّد»! أيدوم هذا العصر المجنون إلى قرنٍ آخر؟! … لا أظنُّ.

كان القرن الماضي قرنَ التأمُّل الجالس، أمَّا القرن الحالي فهو قرن الفِكر «المخبول» الراكض … وعندما بدأ القرن الماضي يغادر منتصفه وظهرتْ بوادرُ الرغبة في الحركة ممثَّلة في فالسات جوهان ستراوس؛ استقبلها الشعب في الحانات والطُّرقات بالحماس، وطرَقتْ نغمات «الدانوب الأزرق» أبواب القصور، فارتاع النُّبلاء والأرستقراطيون والمتديِّنون والمفكِّرون المتَّزنون، واعتبروها فضيحة! … واستمرَّت الموسيقى الكلاسيك نفسها في التجديد إلى حدِّ ظهور نظرياتٍ فيها تعتبر «النشاز» نوعًا من التجديد!

ولم تكُن موجةً طارئة كما يتوقَّع دائمًا التقليديون، ولكنَّها كانت استجابةً لصيحة العصر النووي الذي لا شكَّ في أنَّه قد ظهرتْ أعراضه! … واستمرَّت في تطوُّرها، واتَّخذت من الأثواب والتحوُّلات ما نقل الفالس من صورته الماضية إلى صور أخرى ممثَّلة في هذه الأنواع من الموسيقى الراقصة الحاضرة … وأصبح الفالس الذي كان يعدُّ في وقته منتهى الحركة هو اليوم منتهى الهدوء.

ولكننا نحن الشيوخ الذين عشنا طويلًا في أمجاد القرن الماضي واعتادتْ أسماعنا موسيقى التأمُّل، ولا تستجيب أجسامنا إلى موسيقى الحركة، ماذا نحن فاعلون؟

ما من شكٍّ في أنَّ موسيقانا القديمة ستظلُّ باقيةً … فالإنسانية في حاجة دائمًا إلى تراثها الخالد الجميل … ولكنَّ المشكلة هي: هل نُغلق أنفسنا مع كنوزنا الخالدة ونسدُّ آذاننا عن صخب أبنائنا؟ أو نحاول أن نفتحها ونفهم ماذا يفعلون؟ … وأكثر من ذلك أن نحاول جاهدين تذوُّق بعض ما يتذوَّقون، حتى نلتقي بهم ولو في منتصف الطريق؟

تلك هي محاولتي … وقررتُ الذهاب والله المستعان … وخوفًا من تردُّدي في آخرِ لحظة صمَّم الأستاذ الفنَّان صلاح طاهر أنْ يُرافقني باعتباره أستاذَ إسماعيل في معهد السينما، قائلًا إنَّه أقدَرُ الناس فهمًا لطبيعته الفنية، كما شاء الدكتور يوسف إدريس أن يكون معنا باعتباره أقربَنَا إلى الشباب، وأكثرَنَا اهتمامًا بدراسته، وأشدَّنا دهشةً لعدم معرفتي بما يؤدِّيه ابني من عروض طالما تمنَّى أنْ أُشاهدها.

لكنْ لماذا لم يُدهش أحدٌ دهشةً كهذه لعدم مشاهدة ابني بعرض مسرحياتي؟! … لقد سُئل ابني ذاتَ مرة في ذلك؛ فقال إنَّ هذا من محاسن الصُّدف، ألَّا يعرض هو أدبًا ولا أعرض أنا موسيقى، وأنْ يبقى هو في دكَّانه وأنا في دكَّاني، وألَّا يتدخَّل أحدُنا في شئُون الآخر.

ذكَّرني هذا بموقفٍ قديم حدَثَ لي مع والدي، يدلُّ على ضِيق، الأبناء بتدخُّل الآباء في أعمالهم … كان ذلك في يومٍ من عام ١٩٣٥م، وكنت مديرًا للتحقيقات بوزارة المعارف وكاتبًا معروفًا، فزَارَني والدي في مكتبي، وكان عندي صحفي يُجري معي حديثًا في الأدب والفنِّ … وإذا بي أُفاجأ بوالدي يتدخَّل في الحديث الصحفيِّ، ويريد أن يتَّجه به الاتجاه الذي يروق له هو، ويصحِّح لي آرائي تبعًا لمَا يريد ويتراءى له ويتَّفق مع نظراته ومُعتقداته، وما أشعُر إلا وقد نُحِّيتُ أنا وعُزلت وعُوملت كما لو كنتُ لم أزَل طفلًا.

نفس هذا الشعور يخالج ابني اليوم عندما أتدخَّل في شأنٍ له، ونفس الألفاظ يردِّدها: «والدي ما زال يراني الطفل الصغير!» يظهَر أنَّه ما من شيءٍ يعقِّد الأبناءَ نفسيًّا كهذه الفكرة.

أذكُر أيضًا عن والدي أنْ وقعت في يده بالمصادفة نسخةٌ مخطوطةٌ لمسرحيتي شهرزاد قُبيل نشرها، وقرأ فيها عبارةً تصِفُ جسد شهرزاد الجميل والشَّهوة التي تسعى في الظَّلام؛ فجاء يقول مشمئزًا: «ما هذا الكلام المُخجِل الذي يخدش الحياء، هذه قلةُ أدَب، يجب أن تُبادر فورًا إلى محو هذه العبارات البذيئة.» … قلتُ بعد ذلك لنفسي: كيف لو كان عاش ليقرأ الكرَّاسة الحمراء في روايتي «الرباط المقدَّس»؟!

•••

حان موعد الذهاب لمشاهدة إسماعيل وفرقته … كم مضى من الأعوام لم أضع قدَمي في مكانٍ راقص؟ … وهل أستطيع احتمال الرقص والراقصين؟ … وأخذتُ أسترجع أيام شبابي في أوائل العشرينيات … يومَ هبطنا باريس أولَ مرَّة … أغراني اثنان من أصدقاء عمري، هما: المرحومان الدكتور حلمي بهجت بدوي، والدكتور مصطفى القللي، بأن أتلقَّى معهما دروسًا في الرقص، مؤكِّدَين لي أهمية الرقص في تلك البلاد، وضرورة معرفته لمَن يُنتظر له أن يُدعى يومًا إلى الحفلات، ويتَّصل بالمجتمعات فأذعنتُ لهما، ودلَّنا أحدُ أولاد الحلال على مدرِّس يُدعى «أرتورو» طلَبَ من كلِّ واحدٍ منَّا ما يساوي جنيهًا، وأعطى كلًّا منَّا دفترًا صغيرًا به عشر تذاكر، كلُّ تذكرة تخوِّل الحقَّ في أخذ درس … وضمن لنا بعد عشرة دروسٍ كاملة أن نُصبح من مهَرةِ الراقصين … وذهبنا إلى الدرس الأول … وبدأ بالصَّديقَين … ولم يكَد يخطو بهما خطوة ويدور دورة، حتى بدتْ عليهما علاماتُ النجابة وظهرتْ بشائر الفَلَاح … أمَّا أنا فعلى الرغم من هدوء الرقصات في ذلك العهد فقَدْ شعرتُ بعد أول خطوة ودورة أنَّ الدنيا كلَّها قد اسودَّت في نظري، وأنَّ دماغي هو الذي لفَّ ودار من الدُّوار، وأسرعتُ أوزِّع تذاكري على الصَّديقَين، ورضيتُ من الغنيمة بالإياب.

إذن فلْيهوِّن الله عليَّ مثل هذه الليلة، ولْيُتمَّها على خير!

وأخيرًا حملني الرِّفاق إلى السيارة … ولم يمضِ قليلٌ، حتى وجدتُ نفسي وسط أضواءٍ خافتة، ثم فجأةً ساطعة بمختلف ألوان، خطَفَت من كلِّ جانبٍ أبصاري غير المعتادة … والرقص دائرٌ في الحلبة، وعيونٌ برَّاقة مشدودة إليه، ورءُوس أو نفوس خيِّل إليَّ أنَّها تهتزُّ فوق موائدَ حافلة، وطعام وشراب يجيء ويروح فوق صِحافٍ كأنَّها تطير من حولي في الهواء. وصِرتُ كريفيٍّ في مولد … مولد يحضُره لأول مرَّة … وكان هذا الذُّهول، هو ولا شكَّ ما توقَّعه منِّي أصحابُ المؤامرة في «الأهرام». ولقد ذُهلت فعلًا ولم أدرِ للحظاتٍ أين موضع قدَمي، ولا إلى أين هي سائرةٌ بي … وتركتُ قِيادي للرِّفاق، يُجلسونني حيث شاءُوا … لا أستطيع أن أصِفَ ليلتي، ولا أريد. كنتُ قد أخذتُ على رِفاقي العهود والمواثيق ألَّا أتأخَّر كثيرًا عن منتصف الليل، وإلا تركتُهم وانصرفتُ وحدي، فوعدوني خيرًا … وبدأنا نلتفتُ إلى ما حولنا ونُشاهد ونندمج شيئًا فشيئًا ونتأقلم … وإذا بهم يفاجئونني بأنَّ الساعة قاربت تمام الثالثة صباحًا؛ فقفزتُ من مكاني أصيح بهم: كيف حدَثَ هذا؟

الحقُّ أنِّي لم أشعُر بالوقت ولا بالملل … حيوية الشباب الدافقة من حولي مُعدِيةٌ كالمرض … إنَّ الصحة والمرض سيَّان في العدوى في بعض الأحيان … لم يعُد عندي شكٌّ أنَّ الجذوع العتيقة الراسخة في الأرض يمسُّها نبضٌ من نشاط الأغصان … هذه الأغصان المتمايلة بلُطفٍ مع الأنسام، المتحرِّكة بعنفٍ مع الرِّياح، قانون حياتها هو هذه الحركة التي نسمِّيها الرقص … وما من قوةٍ في الأرض تستطيع وقْفَ هذا القانون على مدى القرون … كان يخيَّل إليَّ أنَّ جذع الشجرة يُنزع من عنف اهتزاز الغصون، ويخشى على نفسه من الاقتلاع، لكنْ مَن يدرينا؟ … لعلَّ ذلك يسرُّه ويُبهجه، ويرى فيه دليل حياةٍ له هو أيضًا وهو الجامد كخشبةٍ تنتظر السُّوس … وقد يستفيد أيضًا ذلك الجذع الحيُّ من حركة الأغصان معرفةَ اتجاه الرِّيح!

ولفَتَ الرِّفاق أنظاري إلى إسماعيل وهو يحمل جيتاره ويعلِّق ساكسفونه وينتقل بينهما عازفًا ونافخًا؛ فلَمْ أتبيَّن فيه الابنَ الهادئ أمامي، الصامت في المنزل على الدوام … القليل الحديث عن نفسه وعمله … أحيانًا أشجِّعه على الكلام، أفتح له ما يحبُّه من موضوعات، فأسأله عن بعض ما يصادفني في الصُّحف الأجنبية من أسماءِ أعلامِ الجاز، فقَدْ يُدهشني أن موسيقى الجاز أصبح لها من الأهمية ما حمَلَ المجلات الأدبية والفنية المحترمة التي أطالعها على أن تُفرد لها عمودًا دائمًا إلى جانب عمود الموسيقى الكلاسيكية.

كان الموضوع يُخرجه من قوقعته قليلًا … فهو بطبعه قلَّما يفيض بالكلام … إنَّ الصمت والاقتضاب عنده أكثر من الإفاضة والاسترسال … وما يعلمه ويحسُّه أكثر مما يتكلَّم به. ومن القليل الذي تحدَّث به؛ تبيَّنتُ أنَّه ملمٌّ كلَّ الإلمام بتفصيلات الفنِّ الذي اختاره … كما اتضح لي أنَّه ليس بعيدًا عن الموسيقى الكلاسيك التي تُرضيني، وله فيها نظراته، وخاصَّة إعجابه بفنِّ «شوبان» الذي أهملتُ أنا تقديره حقَّ قدْرِه … وكذلك «كواتيورات بيتهوفن» … واعتقاده أنَّ موسيقى الجاز الحقيقية يجب أن تقوم على أُسس الموسيقى الكلاسيك مع الإضافة إليها بعد ذلك كما تشاء … وكان هذا ما طمأنني بعض الشيء … فاعتقادي دائمًا أنَّ نوعية العمل لا تهمُّ، وأنَّ قيمة أيِّ عملٍ هي في تعميقه وإتقانه … ورُبَّ عملٍ كبيرٍ انخفض بسطحيَّة أصحابه، وعملٍ صغيرٍ ارتفع بعُمق أصحابه … وذرَّة التُّراب تبقى ذرَّةَ تُرابٍ لمَن يراها كذلك، وتُصبح عالَمًا تدور فيه أفلاكٌ لمَن يكتشف فيها ذلك.

وجاءت الاستراحة، واقترح الرِّفاق دعوةَ أعضاء الفرقة لتحيَّتهم. وكان هدفهم الأكبر، كما كان هدفُ أصحاب هذه المؤامرة في «الأهرام»، هو أن يجمعوا بين الأب وابنه، وأن يحثُّوا الوالد على تحية ولده، وتصوير ذلك بقلمه … موقفٌ دقيق! … وإذا كان من الطبيعي أن يرحِّب أبٌ بابنه؛ فإنَّ كتابة ذلك أمرٌ مُحرِجٌ غايةَ الحرَج. ثم إنَّ عاطفة القلَقِ عند أبٍ مثلي تغلب عاطفة الرضا. ولم أعُد أدري كيف أرضي الأطراف التي دفعتْني إلى هذا الموقف … وبدا لي أنْ لا نجاة إلا في الصِّدق … فلْأكُن صادقًا مع مشاعري وكفى … ومشاعري كأبٍ مفهومة … ولا أريد أن أُسهب فيها أكثر من ذلك … لكنَّ الجديد هو أنِّي شعرتُ حقًّا بفرحٍ غامرٍ وحبٍّ وعطفٍ على شباب الفرقة كلِّهم كمجموعة نادرة الاتِّساق في المحبة والمودَّة والفنِّ … بعثت في نفسي سعادة الصِّبا … هؤلاء الشباب المرِح الطيِّب المجتهد، كنتُ أمرُّ بهم عن بُعد كشبَحٍ مخيف يتوجَّسون منه وهم يُجرُون تدريباتهم الشاقَّة بصبرٍ ودأبٍ وإصرار … كنتُ أتحاشاهم خشيةَ أن أُخجلهم أو أُشعِرهم بالتدخُّل في شأنهم … كان بيني وبينهم جدار … وكانت هذه الليلة أولَ مرَّة نتلاقى فيها بالمُصافَحة، وأشعُر فيها أنَّهم فرحون هُم أيضًا بهذا التلاقي.

إنَّ أهمَّ ما في تلك الليلة عندي، هو أنَّ هذا التلاقي بالشباب أشعرني أنَّ في الإمكان إزالةَ الأسوار القائمة بين الأجيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤