الشباب والشيطان

وقع ذلك الحديث الذي أرويه في ليلةٍ من ليالي الشتاء … في منتصف الليل … في تلك الساعة الرهيبة التي أجمعت الأساطير على أنَّ فيها يحدُث كلُّ جَلل من الأمر … وكنت جالسًا إلى مكتبي أقرأ تحت نورٍ ضئيل، وقد تكدَّستْ أمامي كتبٌ يعلوها التراب، وكان الكتاب المفتوح بين يدي قصة «فوست»، وكنت قد بلغتُ منها تلك الصفحات التي يجلس فيها العالِم الشيخ، بين كتبه في إحدى الليالي، وقد تهدَّل شَعره الأبيض على منكبيه وهو قانط من العلم، راغبٌ عن الحياة التي لم تمنحه من المعرفة ما كان يحسب أنَّ في مقدورها أنْ تُعطيه لبَشَر … وقد جلس يُحصي على نفسه تلك الثمانين من الأعوام التي عاشها … ماذا صنع فيها؟ … وماذا ربح؟ … إنه لم يعرف الشباب قَط، ولم يدخل قلبَه ذلك الفرحُ بالحياة قَط، ولم تُدرك نفسه معنى الطمأنينة والابتسام، حتى في ذلك الزمن الجميل يومَ كان خلَّانُه يقولون: «الحُب.» وكان هو يقول: «المعرفة!»

ولقد جدَّ حقيقةً في سبيلها، وأحاط بكلِّ ما سُمح لعقلِ إنسان أنْ يُحيط به؛ لقد أعطى العلمَ كلَّ حياته، والآن وقد أوشكت تلك الحياة أن تذهب … الآن وهو في طريق الأوبة إلى ذلك المكان المجهول الذي جاء منه — لو أنَّ في الإمكان أن نسمِّيه مكانًا — ألَا تراه عائدًا إليه بصفقة المغبون؟!

أمَّا العلم فإنَّه الآن يسخر منه بقَدْر ما يسخر هو من نفسه؛ إذ أضاع من أجله حياةً كاملة، فيها أشياءُ كثيرةٌ غير العلم، إنَّه خارج من الحياة ولم يحمل زهرة، ولم يستنشق عبيرًا من ذلك البستان الفاتن بأشجاره وأنهاره وورده وغزلانه … إنَّه لم يملأ قلبه بشيء، وإنَّها قد ملأتْ رأسه بكلامٍ كثير سوف يأكله الدُّود — كما قال «هايني» — مع ما سوف يأكل من لحم تلك الجُمجمة الكبيرة!

كلُّ هذه الخواطر كانت تدور في خلَدِ العالِم «فوست» وهو جالسٌ أمام كتاب في علم الفلك تحت نورٍ ضئيل، في حُجرةٍ من حجرات القرون الوسطى، ولم يكُن حوله غير كتبٍ مكدَّسة يعلوها التُّراب وغير سكونٍ مُطبِقٍ مخيف، ولم يكُن بالمكان أحدٌ!

ومع ذلك سَرت في جسم العالِم المتهدِّم رعدةٌ؛ إذ شَعرَ أنَّه ليس وحده في المكان، فتردَّد قليلًا، ثم استدار بعينَيه المنطفئتَين يبحث في أركان الحُجرة، فلم يجِد أحدًا غير ظِلالِ نورِ المصباح، تتلاحق فوق الحائط القائم كالأشباح اللاعبة، فتملَّكه خوفٌ لم يدرِ سببه … ووضَعَ وجهه في كتابه يحاول القراءة ويلتمس فيها هدوءَ الخاطر، وإذا صوتٌ هامسٌ يُلقي في أذنه: «فوست»! «فوست»! لقد سمعتُ ما دار في نفسك!

فجمُد الدمُ في عروق الشيخ، واستطرد الصوت: لا تخف! … ألَا تعرف مَن أنا؟

لم يحر العالِم جوابًا، ولم يجرؤ على الحركة، وظلَّ في جلسته كتمثالٍ من الشمع!

فاستأنف الصوت: أنا الذي يستطيع أن يمنحك ما تطلب!

– هنا دبَّت القوة في نفس الشيخ، وزال عنه الخوف والْتفت إلى مكان الصوت فأبصَرَ وجهَّا غريبَ الشحنة، لا يشبه وجوه البشر، يبتسم له ابتسامةً عجيبة. ولم يجد لهذا الوجه جسمًا، فقد كان محوطًا بالظَّلام. وتمالك الشيخ وتحامل، ثم قال في صوت واجف: من أنت؟

فنظر إليه الوجه نظرةً ثانيةً وأجاب: وهل يعنيك كثيرًا أن تعرف مَن أنا؟

– مَن أنت؟

– دائمًا تريد أن تعرف … دائمًا حُب المعرفة! … أيها الأحمق الفاني! … أمَا يكفيك أنِّي أُعطيك ما تطلُب؟

كلَّ ما تطلب.

– مَن أنت؟

– الشيطان!

دُهش العالِم ونظَرَ إلى الوجه من جديد، فألفاه يبتسم تلك الابتسامة التي لا تتغيَّر، فردَّد في بطء، وهمس كأنما يخاطب نفسه: الشيطان!

ودنا الوجه قليلًا من الشيخ، وقال في نبرة لطيفة: أتخافني؟

لا تخَف … انتظر.

وفي الحال أبصر الشيخ ذراعَين وقدمَين وبقايا جسم آدمي تأتي طائرة ة طائعة من أنحاء الحُجرة المختلفة، وتلتصق بالوجه حتى صار إنسانا، وتغيَّر الوجه فصار كوجوه البشر، ومد ذلك الإنسان يده إلى كرسي بجانب الشيخ، وجلس وهو يقول كالمخاطب لنفسه: «ها أنا ذا إنسان مثلك، ينبغي أن أكون إنسانًا مثلك حتى تفهمني، إنك أيها الإنسان لا ترى إلا من كان على صورتك! … إني في خدمتك!»

هدأ رَوْع العالِم قليلًا، وتذكَّر ما كان فيه منذ لحظة من ضيق بنفسه وتبرُّم بحياته؛ فاهتزَّ في مقعده وصاح: أيها الشيطان! … أعطني … أعطني.

– اطلب ما شئت!

– الشباب!

لفظها الشيخ الفاني من أعماق قلبه المتداعي.

فأجاب الشيطان في تُؤدة: لك ما طلبتَ … ولكن ماذا تُعطيني أنت في مقابل هذا؟ … إنَّ الشيطان لا يُعطي لوجه الله!

فقال الشيخ من فوره: أُعطيك العلم … كلَّ ذلك العلم الذي اكتنزتُه مدى ثمانين عامًا!

فقَهقَه الشيطان: لا حاجة بي إلى هذه البضاعة … علمك لا ينفعني! … إني أريد منك شيئًا آخر!

– ماذا؟

– نفسك!

فلم يتردد الشيخ: هي لك.

عندئذٍ أسرع الشيطان ومدَّ يده في الهواء، والْتقط قرطاسًا نشره تحت المصباح، وتناول ذراع الشيخ، ففزع الشيخ: ماذا تصنع؟

– لا تفزع من شيء! … أريد قليلًا من دمك تكتُب لي به صكًّا على هذا القرطاس! … هو عهد بيني وبينك: «أعطيك الشباب، وتعطيني نَفْسك!»

فأذعن الشيخ وكتب العهد بدمه، وتناول الشيطان العهد المكتوب، ورفع يده في الهواء، وعاد فوضعها على جسم الشيخ، فإذا شيخوخته تزول عنه، كما تزول الأوراق الذابلة عن الشجرة الفتية، وإذا العالِم الهرِم قد انقلب فتًى في العشرين، جميل الطلعة، بسَّام المُحيَّا، مفعم النفس بالسرور، متوثِّب القلب للحُب!

•••

لم أكد أنتهي إلى هذا الموقف من قصة «فوست» حتى طرحتُ الكتاب وهِمتُ في وادي التأمُّلات! … كان الذي يملك عليَّ لبِّي ذلك·

الوقت هو حُب «المعرفة» … كانت كلُّ أحلامي أن أفتح كلَّ صباح نافذة تطلُّ على عالَمٍ مجهول من عوالم هذا الكون السابح في بِحار الأسرار … كان مَن يكشف لعيني المستطلِعة جديدًا هو الخليق عندي أن أُعطيه ما شاء من نفسي … في تلك الليلة صِحتُ في الحُجرة: أيها الشيطان! … أيها الشيطان! … ابرز إليَّ، وخُذ منِّي ما تشاء، وأعطِني ما أريد!

ولم يبرز إليَّ بالطبع أحدٌ، ولم تنشقَّ الجدران، ولم تكُن الصيحة التي لفظتُها إلا صوتًا مدوِّيًا داخل نفسي، وهو في الحقيقة همسةٌ لم يبلغ صداها بابَ الحُجرة، على أنني لم ألبث أن رُحتُ في شِبه إغفاءة، نَصبَ فيها الخيالُ مسرحًا، وإذا الشيطان في ملابس «مفستو» الحمراء ويده على مقبض سيفه، والابتسامة الخبيثة الساخرة على شفتَيه، وهو ينظُر إليَّ قائلًا: أناديتَني؟

فهمستُ: نعم!

– ماذا تريد منِّي؟

– المعرفة!

فضحك ضحكةً عالية طويلة، اهتزَّت لها الريشة القائمة على قرنه، وقال: هل تُدرك مدى هذه الكلمة؟

ففطنتُ إلى مراده، وصِحتُ مستدركًا: نعم! … نعم! … أُدرك أنك أنت كذلك لا تحيط علمًا بمدى هذه الكلمة … إني ما أردتُ منك المستحيل، وما قصدتُ أن تُعطيني. «المعرفة» ذاتها … إنما أردتُ أن تمنحني «حُب المعرفة» … أريد أن تمنحني تلك النفس التي تعيش للمعرفة … أريد أن تعطيني ما أخذتَ من «فوست» … أعطِني «نفس فوست» التي أخذتَها منه … أريد أن تكون لي نفسُ «فوست» أو نفس «جوته»!

– وماذا تعطيني أنت في مقابل هذا؟

– كلَّ ما تطلب.

– الشباب!

– هو لك!

قلتُها في غير تردُّد، فنظَرَ إلي «مفستو» نظرةً طويلة … نظرةَ العجب أو الإشفاق — لو أنَّ الشيطان يُشفق أحيانًا — أو نظرةَ التاجر الماكر لصفقةٍ خاسرة وقعتْ من غرٍّ قاصر … وقال: سوف تندم!

– أبدًا!

– أفهم أن يُبذل كلُّ غالٍ في سبيل «الشباب»، أمَّا أنَّ «الشباب» هو الذي يُبذل … اسمع نُصحي أيها الفتى … إني لم أعتَد إخلاصَ النُّصح لأحدٍ … ولكني أقول لك: لا شيءَ في الوجود يعوِّض الشباب!

– المعرفة … المعرفة … المعرفة!

فضحك الشيطان ضحكةً صغيرةً هازئة، وقال كالمخاطِب لنفسه: كان «فوست» يقول هذا في صِباه!

فقلتُ في تحمُّسٍ أعمى: حُب المعرفة هو شبابُ العقل … هو الشباب الأبدي … هو السموُّ الإنساني الذي سجدتْ له الملائكة إلا أنت أيها المُتطاوِل على عرش فِكرنا النُّوراني!

– عرش فِكركم النوراني؟! … ماذا أقول لهذا الفتى؟

– إني أعرفك وأبغضك … إنك هنا على هذه الأرض لا عمل لك إلا أن تُطفئ هذه المصابيح العظيمة التي تزيِّن هاماتنا، إنَّ في يدك عصًا طويلة كتلك التي كان يحملها «عفاريت الليل» يُطفِئُون بها في مطلع الفجر مصابيحَ الغاز في الطُّرقات!

– ما أسخف مصابيح الغاز!

– نعم، ولقد ذهَبَ عهدها بظهور الكهرباء، واختفتْ معها «عفاريت الليل» بعِصِيِّها … أنت أيضًا قد آن لك اليوم أن تختفي بسيفك وريشتك، فما من أحدٍ يرضى اليوم أن يبيع «مصباحه» من أجل شيء.

– لقد باع «فوست» مصباحه من أجل فتاة!

– كان ذلك مصباحًا من الغاز.

– من الغاز أو الكهرباء، النور هو دائمًا النور!

– يا عدوَّ النور! … أعطِني النور وخُذ منِّي ما تشاء.

فقال الشيطان: OK.

وخلع قلنسوته ومسَحَ بها الأرض بين يديَّ إغراقًا في التحية، على طريقة فُرسان «إسكندر دوماس»، وتحرَّك للانصراف، فاستوقفتُه: ألَا نكتُب عقدًا؟

– لا ضرورة منك للعقود والعهود … إنِّي واثقٌ بشرفك!

– ولكنِّي أنا … معذرة … إني لا أثق بشرفك.

– جرِّبني هذه المرة.

وانحنى لي انحناءةً كبيرة ثم اختفى!

•••

مضى على تلك الليلة عشرات الأعوام الْتهمتُ فيها الكتب التهامًا، وأحطتُ بمختلف العلوم والفنون علمًا، وعشتُ مع الفلاسفة والأدباء والموسيقيين والمصوِّرين، وأحببتُ فيها «المعرفة» حبًّا كالجنون … فلَمْ أكُن أُطيق صبرًا على الجهل بفرعٍ من فروعها، وكنتُ أحيانًا لا أملك من النقود غير الضروري لأكل بقيَّة الشهر وأُصادف في واجهة الحانوت كتابًا أو كتابَين، فما أُحجم، وأدفع فيهما ما معي، وأتبلَّع طُول أيامي بمرَق الأرز ونقيع الشاي … وذهب بي الجنون إلى حدِّ الرغبة في الاطلاع على ما لا لزوم لاطلاع أديبٍ عليه، فنظرتُ في كتب الفلك، والعلوم الروحانية، والرياضيات العليا.

وكانت أيامُ راحتي تُنفق في هياكل الفنِّ ومتاحف التاريخ الطبيعي ودُور الكتب والآثار.

وكانت لي جلساتٌ طويلة في رُكن قهوةٍ صغيرة مُنفرِدة آوي إليها وحيدًا أفكِّر سِت أو سبع ساعاتٍ متوالية في مسائل عويصة من مسائل الفلسفة المطلقة، أو قضايا الفكر، أو مشاكل العالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكَمْ هدمتُ في رأسي مدنيَّات وأقمتُ بدلها حضاراتٍ خياليةً ذاتَ نُظمٍ مثالية، على نحو ما فعل «أفلاطون» و«توماس مور» ولكَمْ ألحدْتُ ثم آمنتُ، وضللتُ ثم اهتديتُ، ولكَمْ كتبتُ ومزَّقت، ولكَمْ جهدتُ في سبيل تلك اللَّذة العليا التي حسبتُها غايةَ الإنسان التي ليست بعدها غاية، ولقد هِمتُ بالنور وعِشتُ حول النور حتى أحسستُ أنَّ جسمي يرقُّ، وأنَّ لنفسي أجنحةً كأجنحة الفراش … ولقد صرت كالهواء، أو كالملائكة، أسهر سابحًا في أجواء الفكر، فوق كتاب مفتوح، تحت مصباحٍ مُضيء، حتى إذا جاء الصباح رقدتُ وهربتُ من الناس والضجيج … إلى أن نبَّهتْني آخرَ الأمر خادمٌ عجوزٌ قائلة: حياتك هذه ليست حياة … انظُر إلى وجهك في المرآة!

فنظرتُ مليًّا في مرآة خزانة الملابس فارتعتُ: ما كلُّ هذه التجاعيد حول عيني؟ … وما هذا الظهر الذي تقوَّس وانحنى؟ … وما هذا النُّحول والشُّحوب؟ … أتُراني قد نسيت جسمي طول هذه الأعوام؟ … أم تراه الشيطان قد تقاضاني الثمن دون أن أعلم؟ … وهالني منظري وأنا أضع إصبعي على تلك الخطوط المخيفة على صفحة وجهي؛ كأنها صكٌّ بزوال زهرة الحياة إلى الأبد، فما تمالكتُ أن صِحتُ: الشباب! … الشباب! … لقد أخَذَ الشبابَ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤