انفصال الأجيال

العلاقة بين الأجيال ظاهرةٌ طبيعية، تسترعي دائمًا النظر، وتستوجب الدراسة والبحث، ولكنها في «مصر» اتَّخذت من الصُّور ما يُثير العَجَب ويحيِّر الفِكر؛ فلقَدْ شاهدتُ بنفسي صورتَين متناقضتَين كلَّ التناقض، أمَّا الصورة الأُولى فهي التي عاش في إطارها جيلنا والأجيال التي سبقتْه ولا حاجة بي أن أصِفَها بالقول! … يكفي أن أُورد واقعةً واحدة، فيها كلُّ الدلالة والمغزى:

سمعتُ المرحوم والدي يتحدَّث عن أبيه باحترامٍ عميق في كلِّ مقام، وكان أبوه ممَّن تعلَّموا في الأزهر، ثم أقاموا بعدئذٍ في الريف، يزرعون ما يملكون من أطيان! … وكان والدي قد أوغل في الحلقة الرابعة ورُقِّي إلى منصب القضاء … وطفق أبوه في ذلك الحين يتصرَّف في أطيانه بالرَّهن والبيع، ثم يعود إلى الشراء والاقتناء، ثم يقترض ويتعهَّد ويتعاقد! … فقال بعض أصدقائه: هذه تصرُّفات قانونية، وابنك قاضٍ من خيرة القضاة، ألَمْ تستشره؟

فما كان من الأب إلَّا أن صاح: ابني؟! … أستشير العيال؟!

ولم يكُن والدي يجِدُ غضاضةً في ذلك القول … وكان يتلقَّاه بابتسامةِ التسامح، وشُعور التوقير، ولو أنَّه في دخيلةِ نفسه ما أراه اعتقد أنَّ أباه كان على صواب! … إنِّي ما سمعتُ قَط منه نقدًا لأبيه، فقَدْ كان ينحني على يده يقبِّلها أينما الْتقى به! … وكان يلتمس له المعاذير، ويبرِّر كثرةَ زواجه بأنَّه كلَّما تزوَّج واحدةً وجَدَها أجهلَ من سابقتها … غير أنِّي، على قَدرِ ما تُسعفني ذاكرتي، قد خيِّل إلي وقتئذٍ أنَّ والدي كانت له نظرةٌ أخرى في الصلة التي يجب أن تقوم بين الآباء والأبناء، ولكنْ حدَثَ بعدئذٍ ما جعلني أضرب كفًّا بكفٍّ من الدَّهشة والعجَب؛ فقَدْ صِرتُ — أنا بدوري — في الحلقة الرابعة وانخرطتُ في سلك القضاء، وشاهدتُ المرحوم والدي يتصرَّف بالرَّهن تلوَ الرهن في بيتٍ كنَّا نعتزُّ به، ويقابل أمامي كلَّ مَن هبَّ ودبَّ من السماسرة والمُرابين، يُسرُّ إليهم الحديث ويهمس لهم في الآذان، ولا يخطر بباله قَط أن يكشف لي عن جليَّةِ الأمر وبواعث التصرُّف، أو يسألني رأيي المتواضع، فيما هو مقبلٌ عليه، وأنا الذي أحقِّق كلَّ يوم في تصرُّفات الناس، وأفحص وأزِنُ ما لهم وما عليهم من حُججٍ وبيِّنات، وأتحمَّل في أرواحهم وحرياتهم وأموالهم، أخطرَ التَّبِعات!

ومع ذلك قامت في نفسي ثورة، وما ارتفع لي في حضرته صوتٌ، وما كنتُ ألقاه وأنا في ذروة العمر إلا بتقبيل يده والإصغاء إلى نصائحه.

•••

تلك صورةٌ طواها الزمن — فيما أعتقد — ونشَرَ صورةً أخرى لجيلٍ جديد، يرى الأمور على وضعٍ آخر؛ فهو يصرُّ على أن يكون له رأيٌ في محيط البيت والمدرسة والمجتمع! … وقد جاء هذا الجيل في ظروفٍ عالمية تبرِّر الانقلابات، وفي ظروفٍ قومية تنادي بالحرية، واجدًا من الجيل السابق الذي يحتضنه مؤازِرًا لنزعته ومشجِّعًا؛ لأنَّ هذا الجيل السابق لم يكُن إلا جيلُ الثورة المصرية! … على أنَّ أبناءنا وقد ظفروا بحقِّ إبداء الرأي في كلِّ شيء، لم يقِفُوا عند هذا الحدِّ، ما من شابٍّ يَقبَل منك الآن نُصحًا، أو يلقاك اليوم فتأنس منه توقيرًا لسنِّك، أو احترامًا لجيلك! … إنه يخاطبك مخاطبةَ القرينِ للقرين، مهما يكُن الفارقُ بينكما في المكانة والسنِّ، وما من شابٍّ يقنع اليوم بأن يكون له في شئُون أُسرته رأيٌ، وفي مذاهب السياسة رأيٌ، وفي برامج دراسته رأيٌ، وفي أساتذته رأيٌ! … إنَّ مجرَّد إبداء الرأي أصبح لا يكفيه!

جُموح الشباب، وبلبلةُ الأفكار، وزلزلةُ القيم، وهزَّات الأحداث العالمية، وسرعة التطورات الاجتماعية؛ كلُّ هذا جعل الجيل الحديث يشبُّ على عدم احترام القديم الثابت المستقرِّ من النُّظم والأفكار والقِيَم والأشخاص! … وبانهيار هذا الجدار انطلق الشباب يهيم في كلِّ وادٍ بلا ضابطٍ ولا رابط! … وتولَّدت عنده بذلك عقيدةٌ راسخةٌ هي أنَّه ليس في البلاد رأيٌ غير رأيه هو الذي تستقيم به الأمور … وأنَّ من حقِّه أن يفرض هذا الرأي فرضًا على آبائه وأساتذته وقادته، كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا!

•••

في الصورتَين إذن انفصالٌ بين الأجيال! … في الماضي كان آباؤنا يفرضون علينا إرادتهم. وفي الحاضر، نرى أبناءنا يريدون فرض إرادتهم علينا! … أتُرانا نحن الجيل الذي بلا إرادة … أعطيناها لآبائنا تبجيلًا، ولأبنائنا تشجيعًا؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤