تجاهُل الأجيال

إنَّ انقطاع الصلة بين الأجيال يحدُث أيضًا من ذلك الجهل بطبيعة كلِّ جيل، أو التجاهل لمَا تتطلَّبه تلك الطبيعة! … وها هي ذي رسالةٌ، تصوِّر هذا الجهل، أو التجاهل بين جيلَين:

«يمنعني والدي من قراءة المجلات والجرائد، على اختلاف أنواعها، ولا يقبل مناقشةً في فائدةِ القراءة والاطِّلاع، وكلما أبصر في يدي مجلةٍ مزَّقها! … وهو ينهاني عن مصادقة أيِّ شاب، حتى إن كان مثقفًا، وهو يرتاب في حركاتي وسكناتي، ويخاف عليَّ! … وهو يريد أن أعيش كعابدٍ في صومعة؛ لا يراني الناس ولا أراهم! … إني مشغوفٌ بالقراءة، فماذا أصنع لأُرضي هوايتي وأُرضي في عين الوقت والدي الذي أكِنُّ له كلَّ الاحترام؟»

هذا والدٌ يريد أن يربِّي ولده كما يربي ذلك النوع من الزهر في بيوت الزجاج! … وأنا لست من علماء التربية للبشر، أو للزهر حتى أبتُّ في هذا الأمر … ولكنِّي أعتقد أنَّ كلَّ كائن إنساني أو نباتي لا يتعرَّض للشمس والهواء والريح والغبار ينشأ رقيقَ التكوين، ضعيفَ البنيان، يحتاج إلى دثارٍ من العناية ليحيا، وإلى جدران من الحيطة ليعيش، ويكفي أن تُحدِث المصادفة في تلك الدروع ثغرةً ذاتَ يوم، لينهار ذلك الكيان عند اللمسة الأُولى! … كلَّا أيها الوالد الخائف! … ليس هذا هو السبيل، حطِّم بيت الزجاج وأخرجْ زهرتك وعرِّضها برفقٍ للشمس والهواء! … دعْ ولدكَ يقرأ ودعْهُ يُصادِق ودعْه يعيش ربيعه!

لا تخشَ لونَ القراءة التي يشغف به ابنك في هذه السنِّ المبكِّرة. إنَّ الطبيعة أعقل منك أيها الوالد، إنها هي التي تغرس الميول في النفوس، وتلوِّنها على حسب الأسنان والأعمار، كما تلوِّن أوراقَ الأشجار!

ففي الشباب يُورق الخيال والشعور والعاطفة! … وفي الكهولة يورق العقل والحكمة والتجارب! … ومن الخطأ أن يتحدَّى والدٌ الطبيعةَ، وأنْ يتغلَّب بغرسه على غرسها، وأن يتطلَّب في ربيع العمر شجرًا قائمَ الجذع، صُلبَ العُود، تحت عَصْف الريح! … ولكنها فيما يظهر قصةُ كلِّ والد؛ إنَّه يحكم على ولده بمزاجه، ويقيس درجة حرارته «بترمومتره»، وكأنَّه لا يستطيع له فهمًا — كما لا يستطيع الشتاء أن يفهم الربيع، فهو يسخر من زهره الأبيض الطاهر، فوق الغصون اللينة المخضرَّة، ويهزأ من طيره الصادح ومن ليله المقمر، ومن نسيمه المعطر، ومن كل تلك الرِّقة التي تُملأ بها الدنيا — ذلك الفصل الربيعي الرقيق! … إنها في نظر الشتاء الصارم ضعف؛ لأنه فصل العنف تتصارع فيه العناصر، وتتعارك القوى! … إنه الحياة في كفاحها الأكبر.

أنا أيضًا وقفتُ هذا الموقف من والدي — رحمه الله — وأنا في الثانية عشرة من عمري! … كنتُ أرهب أيام الجُمَع؛ لأنها الأيام التي يفرغ فيها لي، يناقشني فيما أقرأ، وكان يتخير لي هو نوع الكتب التي يجب في عُرفه أن أقرأها! … وكان أخفَّها وطأةً كتابٌ يحوي «المعلقات السبع»، ضُربت بسببه أوجعَ الضرب؛ فقد كان والدي لا يكتفي مني بالحفظ عن ظَهْر قَلْب، بل يريد منِّي أن أشرح له أبيات ذلك الشعر الجاهلي في تلك السنِّ! … وكنت إذا عجزتُ عجب لجهلي وحمقي، ثم استشاط غيظًا منِّي — مدفوعًا ولا ريب بالخشية على مستقبلي الضائع — وإذا يده تتناول وجهي بالصفع الثقيل، فلا تتركني حتى يسيل الدم من أنفي، وهو يصيح بي: يا جاهل! يا غبي! … أيوجد أسهلُ من هذا البيت لزُهير بن أبي سُلمى! … هذا السهل الممتنع يا أحمق!

ومَن لم يُصانعْ في أمورٍ كثيرةٍ
يُضرَّسْ بأنيابٍ … ويُوطَأ بمنسِمِ

ثم يهزُّ رأسه إعجابًا بالحكمة التي ينطوي عليها هذا الشِّعر!

حقًّا هذا شِعرٌ خليقٌ أن يقدِّره والدي الذي حنَّكه الدهر، وعرف من تجاريبه حقيقةَ كلِّ كلمةٍ في هذا البيت، ولكنَّ الذي يُدهشني الآن هو: كيف غاب عن والدي وقتئذٍ أنَّ مثل هذا البيت لا يمكن أن يتصوَّر حقيقته ذهنُ غلامٍ في الثانية عشرة؟

أتُرى كان المقصود أن أشرح البيت شرحًا محفوظًا، كما أُلقيه إلقاءً محفوظًا؟! … وما قيمةُ ذلك؟ … إنَّ هذا لا يرفعني عن الببغاء إلا مرتبةً بسيطة! … ولكنَّ المقصود — فيما أعتقد — أن يشرح الإنسان المعاني شرحًا محسوسًا، بكلِّ شعوره، وكلِّ إدراكه، وكلِّ إحاطته الشخصية لمَا يشرح ويفسِّر! … في مثل هذه الحالة لا يمكن أن يُطلب إلى غلامٍ أو شابٍّ أن يفسِّر إلا ما تستطيع تجاريبُ سنِّه أن تُلمَّ به من مدارك وإحساسات!

من أجل ذلك يجب على الوالد والمدرسة تجنيب الغلام أو الشاب ذلك النوع من الكذب على نفسه وعلى غيره؛ بتلقينه تفسيرات «موضوعة» لأشياءَ لا تُدركها سنُّه!

لهذا أيضًا يحسُن بالوالد والمدرسة تمكين الصبيِّ أو الشابِّ من قراءة ما يُناسب سنَّه من ألوان القراءات!

ولا تقلق أيها الوالد، ولا تظنَّ ابنك — وهو اليوم غارقٌ في هذه المطالعات التافهة اليسيرة — سيظلُّ سائرًا منساقًا في تيارها إلى آخر العمر!

إنَّ تيار الحياة هو الذي يغيِّر لون المطالعات، وأنت نفسك أيها الوالد الذي تقرأ اليوم كتب الفلسفة أو مقالات السياسة والاقتصاد، أو تتغنى بالتاريخ أو بالأدب الرفيع أو بعلم النفس أو بعلم الرياضة، كنت في صباك مشغوفًا بقصص «روكامبول» أو «أبي زيد الهلالي»! … ولكنَّك لا تذكُر ذلك العهد؛ كأغلب الآباء! … ويخيَّل إليك أنك لم تقرأ قصةً قَط؛ لأنَّ حياتك اليوم تدفعك في مجرًى بعيدٍ عن حياة الخيال، وبدا لك عقلك، وكأنه لم يعُد يُطيق هضْمَ القصص!

أيها الوالد! … اترك ولدك لسنِّه! وافهم طبيعة جيله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤