حرمان الأبناء

كمْ سعدنا في طفولتنا الجميلة بشهر «رمضان»، وكَمْ شقينا أيضًا! … مَن ذا الذي لا يذكُر خفقةَ قلبه الصغير، في صباه، وهو أمام حانوت «السمكري»، يقلِّب أنظاره الشائعة، وأبصاره الزائغة، في مختلف «الفوانيس» بزجاجها ذي الألوان؟ … ما أبهجَ ذلك الفانوس الأصفر الأخضر الأحمر المعلَّق في القمَّة! … ولكنَّ ثَمَنه، ولا شك، باهظ! … تُرى هل يرضى الأهل ببذل هذه التضحية من أجله؟ إنه على كلِّ حال لن يُكلِّفهم شططًا، ولكنه سيُفعِم قلبه بسرورٍ لن يقدِّر الكبار مداه أبدًا! … ما أقسى الكبار أحيانًا! … إنهم قد يضِنُّون ببضعة دراهمَ لن تُغنيهم، هي الفرق بين لعبةٍ ولعبة! … ولكنَّها — في الواقع — هي الفرق بين سعادةٍ وسعادة! … ما أشدَّ نسيان الكبار! … لقد كانوا كلُّهم صغارًا في يومٍ من الأيام! … لماذا لا يذكُرون في ذلك العالم السحري العجيب، الذي تتفتَّح للأطفال أبوابه الذهبية فجأةً كلما أرادوا الحصول على شيءٍ من تلك الأشياء التي يحلمون بها؟! … عالم من هناءٍ سماوي، لن يُتاح لأحدٍ غيرهم أن يعيش فيه بهذا الثَّمَن الزهيد بعد أن يُجاوز أعمارهم! … لو تذكَّر الكبارُ ذلك العالم الذي أُغلقتْ دونهم أبوابه بخروجهم من طور الطفولة لمَّا ضنُّوا على أولادهم بشيء! … فهم الآن وفي أيديهم القدرة، وفي جيوبهم المال، لن يستطيعوا فتْحَ كوَّة في ذلك العالم مهما يشتروها بثروة الدهر وذخر العمر … ما أعجبَ تلك المعجزةَ التي يسمُّونها الطفولة! … فيها تستطيع أن تدخل الفردوس الذي لن تدخله بعد ذلك أبدًا بقُروش معدودات! … سلْ كلَّ صاحب ملايين في أمَّة من الأمم: هل في مقدورك أن تشتري اليوم بملايينك لحظةَ سعادة؛ كتلك التي تشتريها في صِباك بدِرهَم أو درهمَين؟

أرأيتم يا ملوك المال؟ … تلك ملايينكم قد تضاءلت أمام ثروة طفل! … وذلك ذهبكم قد تحوَّل إلى تراب أمام كنوز الطفولة!

هنالك، مع ذلك، مشكلةٌ تحتاج إلى تفكيرٍ وتدبُّر:

إذا كانت لك القدرة على إشباع رغبات طفلك وتحقيق أحلامه فهل تفعل أو تتمهَّل؟ … هل من مصلحة الطفل أن تَروي كلَّ رغبته، أو أن تُبقي فيه بعضَ ظمأٍ لم ينطفِئ؟

أقول ذلك لأني لم أظفر في طفولتي بكلِّ ما كنتُ أتوق إليه من لعبٍ، وأصبو إليه من أشياء … فكنتُ أخلقها لنفسي بخيال مشبوب، وكان من أقراني وجيراني من يملك لعبًا نفيسةً عجيبةً تملأ حُجرته، وتملؤني دهشةٌ، أقف بينها مشدوها، وأحملق فيها معجبًا، وألمسها مكبرًا! … وصاحبها الصغير يعبث فيها بيده الصغيرة محطمًا ومحقرًا! … كنت ولا ريب أُدرك قيمتها أكثر منه، وأرى فيها أشياءَ باهرةً لا تراها عيناه؛ وكأنَّ كلَّ لولب فيها، أو لغز أو مفتاح؛ يحرِّك كلَّ مخيِّلتي، ويهزُّ كلَّ واعيتي! … كلُّ ذلك؛ لأني لا أملكها، ولا أستطيع أن أحصل عليها!

تُرى، يا علماءَ التربية، ما الواجب أن يُتبع في تنشئة الطفل؟ … تلبية ندائه أو صمُّ الأذن أحيانًا عن مطالبه؟ الأذن أحيانًا عن مطالبه؟ … منحه لذة الامتلاك، أو تعريفه بمرارة الحرمان؟

إذا جاء «رمضان»، وتطلَّع إلى الفانوس المُزركَش المُبرقَش في قمَّة الدُّكان، فهل تترك خياله معلقًا به، وأحلامه تهتزُّ معه، وتبتاع له الفانوس الآخر، أو تأتي له بالأول، تُضيء زجاجه وشمعته، وتُطفئ خيال الطفل ولوعته؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤