صُنع الأجيال

يؤكِّد عالِمٌ «بيولوجي» أمريكي أنه — في خلال خمسة أعوام — سيصبح في مقدور كلِّ زوجين أن يختارا نوع المولود الذي يريدانه … فمَن شاء مولودًا ذكَرًا جاء له ذكر، ومن شاء الأنثى جاءت له الأنثى!

إنَّ العلم يريد أن يضع في يد الإنسان مفتاحًا رهيبًا، من مفاتيح الطبيعة الحكيمة! … العلم! … هذا النهم الذي يسكن رأس الإنسان، ويدفعه إلى نَيل ما لا ينبغي له أن يُنال! … لكأنِّي بالطبيعة — هذه الأم الرحيمة — وقد لمحتْ يدَ طفلها الإنسان، تمتدُّ خلسةً إلى وسائدها؛ لتجذب من تحتها المفتاح، تهبُّ قائلةً لنفسها مرتابةً قلِقة: أيها الأحمق! … تريد أن تصرف كلَّ أمورك بيدك؟ … أخشى ألَّا تكون على ذلك قديرًا، ولا به جديرًا! … إني أدبِّر لك شأنك، متحلِّلةً من كلِّ نزواتك، مرتفعةً عن كل صغائرك … أرى مصيرك لا في نطاقه الفردي المحدود، بل في علاقته بمصاير غيرك من الأحياء! … إنك ستندم على هذا النَّزق يومًا!

وكأني بالإنسان يقول للطبيعة بلسان العلم: لم أعُد طفلًا، ما دمتُ قد عثرت على مفتاحكِ؛ فإني أهلٌ لأخذه واستخدامه! … فتهمس الطبيعة: كلُّ الأطفال يقولون ذلك! … ويمضون بالمفاتيح إلى الخزائن الممنوعة؛ بحثًا عن الحلوى أو المتعة فيُبعثرون ما فيها، ويُلقون الاضطراب في نظامها! … افعل ما شئتَ، وسنري ما يكون منك!

•••

ولن يكون غيرُ أمرٍ واحد: ما إنْ يعلم الناسُ أن في الإمكان اختيار نوعِ الولد، دون أن يتكلَّفوا أكثر من جرعة دواء، بقليل من المال، حتى يندفعوا كلُّهم أفواجًا إلى الصيدليات، يطلبون الدواء الذي يُنجب لهم المولود الذَّكر! فما يمضي جيلٌ حتى نرى الدنيا قد زخرت بالذُّكور!

وتظهر عند ذاك مشكلةٌ عالمية: هي البحث عن الأنثى!

وقد تقع المعارك والحروب بين الرجال من أجل المرأة؛ كما وقعت حروب «طروادة» من أجل «هيلينا».

عندئذٍ تنقلب الكفَّة فجأةً، ويندفع الناس من جديد إلى مخازن الأدوية، يطلبون الدواء الآخر الذي ينجب الإناث! … فلا يمضي جيل، حتى نرى الدنيا قد زخرت بالنساء!

وتظهر مشكلة البحث عن الرَّجُل — فيعود الاندفاع إلى المخازن والصيدليات طلبًا له … وهكذا دَوالَيك — حتى يحدُث نوعٌ من التوازُن بعد أجيال!

ذلك أنَّ هذا الطفل الإنساني الكبير غيرُ قديرٍ على أن يقرَّ التوازن في شئُونه إلا بثَمنٍ باهظ من الجهد، وبعد زمنٍ طويل ينقضي في الاضطراب بين النقائض، والترنُّح بين الأضداد!

•••

هذا فرضٌ قائم على حُسن الظنِّ بالإنسان، وعلى أنه يستطيع بنفسه — آخِر الأمر — أن يسيطر على نزعاته ونزواته … وأنه في إمكانه أن يحلَّ محلَّ «الطبيعة» في تنظيم ملكاته … ولكنَّ هنالك فرضًا آخر يقوم على عجزه وإخفاقه! … هنا لا نرى مناصًا من تدخُّل «الطبيعة»! … هذه الأم اليقِظة الصابرة، لا يمكن أن يبلغ بها التغاضي والتسامح حدَّ الإهمال! فهي ما تكاد تلمح العبث من طفلها، قد انتهى إلى الحدِّ الذي يُفسد النواميس، حتى تنهض مسرعةً إليه، تُمسك بزمام الأمر بيدَيها؛ لتقرَّ النظام في نصابه بطرائقها، وتعيد التوازُن إلى حاله بأساليبها!

فإذا كان عدد الذكور قد طغى طغيانًا لا سبيل إلى كسر شِرَّته؛ أيقظَت «الطبيعة» الفتن، وأقامت الحروب، فحصدتْ بنيرانها ما لا بد أن يُحصد من هذا المحصول الفائض! وإذا كان تعدادُ الإناث هو الغالب، أشاعت الإباحية، والأوبئة، والثورات الاجتماعية؛ فأخمدت بموجاتها ما لا بد أن يُخمد من هذا الفوران الزائد!

وعند ذلك يتمُّ لها النصر، وتقنع من الإنسان بهذا الدرس، فلا تريد منه إلا أن يشعُر بغروره، ويعترف بنَزَقه، ويسمع همْسَها وهي تحنو عليه باسمةً، غافرةً، مُشفِقة: أشبعتَ لعبًا؟! … ألَا يحسُن بك الآن يا بنيَّ أن تدَعَني أتولَّى أمرك؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤