غَفْلَةُ بُهْلُولٍ

(١) طَرِيقُ الْمَدْرَسَةِ

كَانَ «بُهْلُولٌ» وَلَدًا عَجِيبًا جِدًّا!

وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا أَنَّهُ إِذَا ذَهَبَ مِنَ الْبَيْتِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ، أَوْ عَادَ مِنَ الْمَدْرَسَةِ فِي طَرِيقِه إِلَى الْبَيْتِ، مَشَى فِي الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ انْتِبَاهٍ، دُونَ أَنْ يُبَالِيَ مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنَ الْمَكَارِهِ وَالْأَخْطَارِ.

(٢) سُخْرِيَةُ الْأَصْحَابِ

وَكَانَ أَصْحَابُ «بُهْلُولٍ» يَعْجَبُونَ مِنْهُ أَشَدَّ الْعَجَبِ، وَيَدْهَشُونَ لِمَا يَفْعَلُ، كُلَّمَا رَأَوْهُ سَائِرًا فِي طَرِيقِهِ، وَرَأْسُهُ مَائِلٌ إِلَى خَلْفٍ، وَعَيْنَاهُ نَاظِرَتَانِ إِلَى الْأَعْلَى، وَهُوَ لَا يَنْظُرُ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ.

وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَهزَءُونَ بِهِ.

وَكَانُوا كُلَّمَا نَادَوْهُ أَوْ تَحَدَّثُوا عَنْهُ، يُلَقِّبُونَهُ بِصَدِيقِ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ رَأْسَهُ كَانَ دَائِمًا مَرْفُوعًا فِي الْهَوَاءِ.

وَكَانَ «بُهْلُولٌ» يَسِيرُ — فِي طَرِيقِهِ، كَمَا قُلْنُا — مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا أَمَامَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِالنَّظَرِ إِلَى سُطُوحِ الْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ، وَالسُّحُبِ الْمُنْتَشِرَةِ، وَالطُّيُورِ الْمُحَلِّقَةِ فِي الْجَوِّ.

(٣) نَصِيحَةُ الْأَبَوَيْنِ

وَقَدْ حَذَّرَهُ أَبَوَاهُ هَذِهِ الْعَادَةَ السَّيِّئَةَ، وَنَصَحَاهُ بِالِانْتِبَاهِ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَارَ، حَتَّى لَا يُعَرِّضَ نَفْسَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ لِلْأَخْطَارِ.

فَلَمْ يَقْبَلْ نُصْحَ أَبَوَيْهِ، وَلَمْ يُقْلِعْ (لَمْ يَمْتَنِعْ وَلَمْ يَكُفَّ) عَنْ عَادَتِهِ السَّيِّئَةِ، وَأَصَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.

(٤) بَيْنَ «بُهْلُولٍ» وَالْكَلْبِ

وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ كَانَ «بُهْلُولٌ» سَائِرًا فِي طَرِيقِهِ، وَهُوَ مُلْتَفِتٌ إِلَى السَّمَاءِ كَعَادَتِهِ، فَاعْتَرَضَهُ — فِي طَرِيقِهِ — كَلْبٌ، فَعَثَرَ «بُهْلُولٌ» بِالْكَلْبِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ.

وَلَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ مِنَ السُّقُوطِ عَلَى الْأَرْضِ، فَوَقَعَ هُوَ وَالْكَلْبُ مَعًا.

وَكَانَتِ الْأَرْضُ — لِسُوءِ الْحَظِّ — مَمْلُوءَةً بِالطِّينِ وَالْوَحْلِ، فَاتَّسَخَتْ ثِيَابُهُ، وَاشْتَدَّ غَيْظُ الْكَلْبِ مِنْهُ!

وَهَمَّ الْكَلْبُ بِإِيذَائِهِ (أَرَادَ أَنْ يَضُرَّهُ).

وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْقَذُوا «بُهْلُولًا» (خَلَّصُوهُ) مِنَ الشَّرِّ.

وَعَادَ «بُهْلُولٌ» إِلَى بَيْتِهِ، وَهُوَ مُتألِّمٌ أَشَدَّ الْأَلَمِ مِمَّا وَقَعَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ، بِسَبَبِ إِهْمَالِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى السَّمَاءِ.

(٥) عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ

وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ: كَانَ «بُهْلُولٌ» يَتَمَهَّلُ فِي مِشْيَتِهِ، مُتَنَزِّهًا عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، وَمَعَهُ جَعْبَتُهُ (حَقِيبَتُهُ) وَفِيهَا كُتُبُهُ.

وَكَانَ يَمْشِي كَعَادَتِهِ الَّتِي لَمْ يَتَخَلَّ عَنْهَا، كُلَّمَا دَرَجَ عَلَى الطَّرِيقِ؛ فَهُوَ غَيْرُ نَاظِرٍ إِلَى الطَّرِيقِ أَمَامَهُ، وَإِنَّمَا نَظَرُهُ تَائِهٌ فِي الْفَضَاءِ، يَتَأَمَّلُ الْعَصَافِيَرَ الطَّائِرَةَ فِي السَّمَاءِ.

وَمَا زَالَ «بُهْلُولٌ» سَائِرًا — فِي طَرِيقِهِ — وَبَصَرُهُ مُصَعِّدٌ فِي الْأُفُقِ، وَفِكْرُهُ شَارِدٌ تَائِهٌ، حَتَّى اقْتَرَبَ مِنْ حَرْفِ الْبَحْرِ كُلَّ الِاقْتِرَابِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ عَلَى وَشْكِ أَنْ يَهْوِيَ فِي الْأَمْوَاجِ الْمُتَلَاطِمَةِ الَّتِي تَطْوِي كُلَّ مَا يَعْتَرِضُ طَرِيقَهَا. (أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ سَيَسْقُطُ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ فِي الْمِيَاهِ الْمُتَدَافِعَةِ).

(٦) عَلَى وَشْكِ الْغَرَقِ

وَرَأَتْهُ ثَلَاثُ سَمَكَاتٍ وَهُوَ يَقْتَرِبَ مِنَ الْبَحْرِ، فَعَجِبَتِ السَّمَكَاتُ الثَّلَاثُ حِينَ رَأَتْهُ عَلَى وَشْكِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلسُّقُوطِ فِي دَفَعَاتِ الْمَوْجِ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُدْرِكَهُ الْغَرَقُ.

أمَّا «بُهْلُولٌ»، فَقَدْ شَغَلَتْهُ رُؤْيَةُ الْعَصَافِيرِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي طَرِيقِهِ!

وَظَلَّ «بُهْلُولٌ» يَقْتَرِبُ مِنَ الْبَحْرِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالسَّمَكَاتُ الثَّلَاثُ يَتَعَجَّبْنَ مِنْ غَفْلَتِهِ، حَتَّى زَلَّتْ قَدَمُهُ عَلَى حَرْفِ الْبَحْرِ.

وَحَاوَلَ أَنْ يَتَدَارَكَ أَمْرَهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ حِمَايَةَ نَفْسِهِ مِنَ الْوُقُوعِ.

وَقَدِ اشْتَدَّ إِشْفَاقُ السَّمَكَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى «بُهْلُولٍ»، وَعَلِمْنَ أَنَّهُ عَلَى وَشْكِ الْهَلَاكِ (أَيْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمَوْتِ).

(٧) نَجَاةُ «بُهْلُولٍ»

وَفِي لَحْظَةٍ هَوَى بُهْلُولٌ فِي الْمَاءِ.

وَمَرَّ بِهِ — لِحُسْنِ حَظِّهِ — صَدِيقٌ لَهُ مِنَ الْفِتْيَانِ الشُّجْعَانِ، كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ.

فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ، وَأَنْقَذَهُ مِنَ الْهَلَاكِ، بَعْدَ أَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْغَرَقِ (أَيْ قَارَبَ أَنْ يَغْرَقَ) … وَأَخْرَجَهُ صَدِيقُهُ مِنَ الْمَاءِ إِلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، وَهُوَ فِي حَالٍ مُحْزِنَةٍ وَالْمَاءُ يَقْطُرُ مِنْ شَعْرِهِ وَفَمِهِ وَثِيَابِهِ.

فَأَقْبَلَ «بُهْلُولٌ» عَلَى صَدِيقِهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ، لِيَشْكُرَ لَهُ مَا أَسْدَى إِلَيْهِ مِنْ جَمِيلٍ.

وَنَظَرَتِ السَّمَكَاتُ الثَّلَاثُ إِلَى «بُهْلُولٍ» وَهِيَ تَضْحَكُ مِنْ غَفْلَتِهِ (ذُهُولِهِ وَعَدَمِ انْتِبَاهِهِ) وَبَلَهِهِ (ضَعْفِ عَقْلِهِ)، ثُمَّ انْصَرَفَتْ عَنْهُ سَابِحَةً مَعَ الْمَوْجِ.

(٨) تَوْبَةُ بُهْلُولٍ

أمَّا «بُهْلُولٌ»، فَقَدْ عَادَ إِلَى بَيْتِهِ، وَقَصَّ عَلَى أَبَوَيْهِ كُلَّ مَا حَدَثَ لَهُ.

وَعَاهَدَ «بُهْلُولٌ» أَبَوَيْهِ عَلَى أَنْ يُقْلِعَ عَنْ عَادَتِهِ السَّيِّئَةِ الَّتِي أَوْشَكَتْ أَنْ تَقُودَهُ إِلَى الْهَلَاكِ.

وَقَدْ بَرَّ «بُهْلُولٌ» بَوَعْدِهِ (وِفَّى بِهِ وَحَقَّقَهُ) مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤