الليل

حينما كنتُ صغيرةً، بَدَا لي أنه لم توجد قطُّ عمليةُ مخاضٍ أو انفجارٍ في الزائدة الدودية أو أيِّ عمليةٍ جراحية خطيرة أخرى، إلا كانت تحدث مع هبوب عاصفة ثلجية؛ فتكون الشوارعُ مغلقةً ولا مجالَ على الإطلاق لإنقاذ أي سيارة تغرس عجلاتها في الثلوج، وكان ينبغي ربْطُ بعضِ الخيول بالسيارة حتى يمكن أن تشقَّ طريقَها عبر المدينة للوصول إلى المستشفى. ومن حُسْن الحظ أنه كان لا يزال هناك بعض الخيول؛ لأنه وفْقَ التطور الطبيعي للأمور كان سيتم التخلِّي عن استخدام الخيول، لكنَّ الحربَ وترشيدَ استهلاك البنزين غيَّرَ كلَّ ذلك، على الأقل في ذلك الوقت.

لذلك، حينما داهَمَني ألمٌ شديد في جانبي، كان يجب أنْ يحدث في الساعة الحادية عشرة ليلًا وأنْ تهبَّ عاصفةٌ ثلجية، وبما أننا لم نكن حينَها نربِّي أيَّ خيول، كان ينبغي أن نستدعي مجموعةَ الخيول التي كان يمتلكها جيراننا لاصطحابي إلى المستشفى؛ وهي رحلة لم تكن تتجاوز الميلَ ونصف الميل، لكنها كانت مغامرةً على الرغم من ذلك. كان الطبيب في الانتظار، والغريب أنه قد استعدَّ لاستئصال زائدتي الدودية.

هل كان يُستأصَل الكثيرُ من الزوائد الدودية حينَها؟ أعلم أن عملية الاستئصال هذه لا تزال تحدث، وأنها شيءٌ ضروري — بل إنني أعرف شخصًا مات لأنه لم يخضع لتلك العملية في الوقت المناسب — لكنْ كما أتذكَّر كان ذلك نوعًا من الطقوس التي يجب أن يمرَّ بها الكثير من الأشخاص ممَّن هم في مثل عمري، ليس بأعدادٍ كبيرة على الإطلاق لكن ليس على نحوٍ غير متوقَّع جدًّا، وربما ليس على نحوٍ غير سعيد جدًّا بهذه الطريقة؛ لأنه كان يعني الحصولَ على إجازة من المدرسة، ووضعًا خاصًّا بعضَ الشيء يميِّزك، ولو لفترة وجيزة، عن الآخرين باعتبارك شخصًا ضربك الموت بجناحه، وذلك في وقتٍ من حياتك يتراءَى لكَ فيه أنَّ هذا يمكن أن يكون شيئًا مُفرِحًا.

وهكذا بقيتُ في الفراش، دون زائدتي الدودية، لبضعة أيام في المستشفى أتطلَّع أثناءَها عبر إحدى نوافذها إلى الثلوج وهي تتساقط على نحوٍ كئيبٍ عبر بعض الأشجار الدائمة الخضرة. لا أعتقد أنه دار بخلدي يومًا أن أتساءل كيف كان سيدفع أبي مقابلَ هذا التميُّز. (أعتقد أنه باعَ مزرعةَ أشجارٍ كان يحتفظ بها عند بيعه مزرعةَ أبيه؛ كان يأمل في استخدامها في إنتاج السكر أو صيد الحيوانات بالشراك، أو ربما كانت تمثِّل له نوعًا من الحنين للماضي الذي لم يُفصِح عنه.)

ثم عدتُ إلى المدرسة واستمتعتُ بإعفائي من أداء التمرينات البدنية لفترةٍ أطول من اللازم، وفي صباح أحد أيام السبت عندما كنتُ أنا وأمي نقف بمفردنا في المطبخ، أخبرَتْني أنهم استأصلوا زائدتي الدودية في المستشفى، كما كنتُ أعتقد تمامًا، لكنها لم تكن الشيءَ الوحيد الذي استأصلوه. لقد رأى الطبيب أنه من المناسب استئصالها أثناء فحصي، لكن الشيء الأهم الذي أثار قلقَه هو وجود ورم؛ ورم قالت عنه أمي إنه كان في حجم بيضة ديك رومي.

لكنها قالت إنه يجب عليَّ ألَّا أقلق لأنَّ الأمر قد انتهى الآن.

لم يطرأ قطُّ على ذهني وقتَها مرضُ السرطان، ولم تأتِ هي على ذِكْره مطلقًا. لا أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك كشفٌ كهذا اليومَ دونَ طرحِ بعض الأسئلة والاستفسارات عمَّا إذا كان ورمًا سرطانيًّا أم لا؛ ورمًا سرطانيًّا أم حميدًا؛ فسنبغي معرفة ذلك في الحال. والطريقة الوحيدة التي يمكن أن أفسِّر بها عدم قدرتنا على الحديث حول هذا الأمر؛ هي أنه لا بد أن ثمة ضبابية كانت تحيط بتلك الكلمة مثلما كانت هناك ضبابية عندما يأتي ذِكْر الجنس. بل إن السرطان أسوأ حتى من الجنس؛ فالجنس شيء مقزِّز لكنْ يتخلَّله بعض المتعة — بالطبع، كنَّا نَعِي بوجود هذه المتعة بالرغم من أن أمهاتنا لم تكن تَعِي ذلك — بينما كلمة سرطان كانت تجعلك تتخيَّل كائنًا داكنَ اللون عَفِنًا ذا رائحة كريهة لن تنظر إليه حتى أثناء إبعادِك إيَّاه عن طريقك.

لذا لم أسأل ولم يخبرني أحدٌ بشيءٍ، ولم يكن أمامي سوى أن أفترض أنه حميدٌ، أو أنهم تخلَّصوا منه ببراعةٍ شديدةٍ لأنني ما زلتُ حيةً حتى الآن. وهكذا، قليلًا ما كنتُ أفكِّر في هذا الأمر طوال حياتي، لدرجة أنه حينما يُطلَب مني ذِكْر العمليات التي خضعتُ لها، كنتُ تلقائيًّا أقول أو أكتب فقط: «الزائدة الدودية.»

ربما دار ذلك الحوارُ الذي كان بيني وبين أمي في عطلات عيد الفصح عندما انتهَتْ كلُّ العواصف الثلجية، وذابَتْ كلُّ الجبال الجليدية، وفاضَتْ جداولُ المياه محتضنةً كلَّ ما استطاعَتْ أن تصل إليه، وكان الصيفُ الشديد الحرارة على الأبواب؛ فطقسُنا لا يعرف المزاحَ أو الرحمةَ.

وفي أوائل شهر يونيو الحار، تخرَّجْتُ في المدرسة حيث حصلتُ على درجاتٍ جيدةٍ تعفيني من خوض الاختبارات النهائية. كانت حالتي الصحية جيدةً، وكنتُ أؤدِّي بعضَ المهام المنزلية، وكنتُ أقرأ كتبًا كالمعتاد، ولم يكن ثمة أحدٌ يدري أن هناك شيئًا كان يؤثِّر عليَّ.

عليَّ الآن أن أصف ترتيبات النوم في الغرفة التي كنتُ أشغلها أنا وأختي. كانت غرفةً صغيرة لا تتَّسِع لفراشين يُوضَعان جنبًا إلى جنب؛ لذا كان الحل هو فراشًا بطابقَيْن مزوَّدًا بسلمٍ كي يساعد مَن ينام في الطابق العلوي على الوصول إلى فراشه، وكان هذا الشخص هو أنا. وحينما كنتُ أصغر سنًّا وأميل إلى مضايَقةِ الآخَرين، كنتُ أرفع جانب مرتبتي الرفيعة وأهدِّد بالبصق على وجه أختي الصغيرة التي كانت تستلقِي مغلوبةً على أمرها في الفراش السفلي. بالطبع لم تكن أختي — التي كان اسمها كاثرين — مغلوبةً على أمرها تمامًا؛ فقد كان بمقدورها أن تختبئ أسفلَ أغطيتها، لكنَّ الحيلةَ التي كنتُ أمارِسُها حينَها أنْ أظلَّ أراقِبُها حتى تشعر بالاختناق أو يدفعها فضولُها إلى أنْ تخرج من أسفل الأغطية، وفي تلك اللحظة أبصق عليها، أو أتظاهَر بأنني نجحتُ في البصق على وجهها، الأمر الذي يثير حنقها الشديد.

كنتُ قد كبرتُ على فِعْل مثل هذه الحماقات، بالطبع كبرتُ بما يكفي في ذلك الحين. كانت أختي في التاسعة من عمرها وأنا في الرابعة عشرة. كانت العلاقة بيننا دومًا غير مستقرة، وإنْ لم أكن أضايقها أو أعمد إلى إغاظتها بأسلوبٍ أحمق، كنتُ أتقمَّص دورَ الناصحة الخبيرة أو راوية القصص المخيفة؛ فكنتُ أجعلها ترتدي بعضًا من الملابس القديمة التي كانت موجودةً في صندوق جهاز العروس الخاص بأمي، والتي كانت لا تزال بحالةٍ جيدة بحيث لا يمكن أن تُحوَّل إلى أغطيةٍ للفراش، لكنَّ طرازها كان قديمًا بحيث يكون من الصعب أن يرتديها أحد. وكنتُ أضع طلاءَ الشفاه وبودرة التجميل القديمَيْن الخاصَّيْن بأمي على وجهها وأخبرها كَمْ هي جميلة. كانت جميلةً دون أدنى شك، بالرغم من أن ما كنتُ أضعه على وجهها يجعَلَها تبدو كدميةٍ أجنبيةٍ غريبةِ الشكل.

لا أدَّعِي أني كنتُ أُحْكِم سيطرتي عليها بالكامل، أو أن حياتنا كانت متشابِكةً على الدوام؛ فقد كان لها أصدقاؤها ولعبها الخاصان بها. وكانت تنزع في لعبها نحو تقليد الحياة المنزلية وليس الإثارة؛ فقد كانت تأخذ الدُّمَى للتمشية في العربات الخاصة بها، أو كانت في بعض الأحيان تجعل القطط الصغيرة ترتدي بعض الملابس وتضعها في عربات الدُّمَى وتتمشَّى بها، وكانت القطط دائمًا ما تشعر باهتياجٍ شديدٍ وترغب في الفكاك منها. كانت هناك أيضًا جلساتٌ لِلَّعب عندما يتقمَّص أحدهم دورَ المعلم ويكون بإمكانه ضرْبُ الآخَرين على معصمهم، وجعلهم يتظاهرون بالبكاء عقابًا لهم على المخالفات والحماقات التي ارتكبوها.

في شهر يونيو، كما ذكرتُ من قبلُ، كنتُ قد أنهيتُ الدراسة وأصبحتُ أفعل ما يحلو لي، ولا أتذكَّر أنني كنتُ على هذا النحو في أي فترةٍ أخرى من فترات نشأتي. كنتُ أؤدِّي بعضَ المهام المنزلية، لكنْ لا بد أن أمي كانت بصحة جيدة وقتَها بحيث تقوم بمعظم هذه المهام، أو ربما كان لدينا ما يكفي من المال في ذلك الوقت كي نوظِّف ما كانت تُطلِق عليه أمي خادمةً بالرغم من أن الجميع كانوا يُطلِقون عليها أجيرة. أنا لا أتذكَّر على أي حال أنه كان عليَّ تولِّي أيٍّ من المهام التي تراكمَتْ لأؤدِّيها في فصول الصيف اللاحقة، حينما جاهدتُ طواعيةً كي أحافِظ على المظهر اللائق لمنزلنا. يبدو أن بيضة الديك الرومي الغامضة لا بد أنها قد أثَّرَتْ عليَّ بشدةٍ بحيث كان من الممكن أن أمضي بعضًا من الوقت وأنا أتجوَّل في المنزل تائهةً وكأنني أحد الزائرين.

لكنَّ هذا لم تنتج عنه مشاكلُ كبيرة، وما كان لأيٍّ من أفراد عائلتي نسيان ذلك إنْ حدث. كان الأمر كله داخليًّا؛ شعورًا بعدم النفع والغرابة. لكن الشعور بعدم النفع لم يكن دائمًا؛ فأنا أتذكَّر أني كنتُ أجلس القرفصاء لكي أهذِّب براعمَ الجزر كما ينبغي أن يفعل المرء في كل فصل ربيع حتى تنمو الجذور لتصل لحجمٍ مناسبٍ يسمح بتناولها.

لا بد أنني لم أكن أقوم بأيِّ مهامَّ منزليةٍ طوال اليوم، كما كان الأمر في فصول الصيف السابقة أو اللاحقة.

لذا، ربما كان ذلك هو السبب وراء بداية معاناتي من مشاكل في النوم. في البداية، بحسب اعتقادي، كان ذلك يعني أن أبقى مستيقظةً ربما حتى منتصف الليل تقريبًا، وأتساءل إلى أيِّ مدًى ظللتُ مستيقظةً بينما بقيةُ أفراد المنزل غارقون في النوم. ربما كنتُ أقرأ وأشعر بالتعب بالطريقة المعتادة وأطفئ الأضواء وأنتظر، وما كان أحدٌ ينادي عليَّ في وقتٍ مبكر ليطلب مني أن أطفئ الأضواء وأخلد للنوم، ولأول مرةٍ على الإطلاق (ولا بد أن هذا كان يدل أيضًا على وضعي الخاص) يتركونني أتَّخِذ قراري بشأن ذلك الأمر.

كان الأمر يستغرق فترةً لكي يتحوَّل المنزل من ضوء النهار ومن الأنوار الصناعية التي كانت تُضَاء في وقتٍ متأخِّر إلى وقت المساء. وبعد أن يتوقَّف الضجيج العام المصاحِب للأعمال المفترض القيام بها والمؤجَّلة والمنجَزَة، كان المنزل يضحى مكانًا أكثر غرابةً يتلاشى فيه الأشخاص والأعمال التي تُملِي عليهم نوعَ حياتهم، وتتلاشى أيضًا استخداماتهم لكل شيءٍ حولَهم، وترى الأثاث وقد تقوقع على ذاته ولم يَعُدْ موجودًا لعدم وجودِ مَن يعبأ به.

قد تعتقد أن ذلك كان نوعًا من التحرُّر. ربما كان كذلك في البداية؛ إنها الحرية، الغرابة. لكن مع ازدياد عدم قدرتي على النوم واستمرار استيقاظي حتى حلول الفجر، أصبحتُ أكثر انزعاجًا بسبب ذلك، وبدأتُ في ترديد كلامٍ مسجوعٍ، ثم أشعارٍ حقيقيةٍ، في البداية كوسيلةٍ لمساعدتي في الغياب عن الوعي والنوم، لكن الأمر خرج عن سيطرتي بعد ذلك، وبَدَا أن هذا النشاط كان يسخر مني. كنتُ أسخر من ذاتي حيث تحوَّلَتِ الكلماتُ إلى عباراتٍ سخيفةٍ، إلى أسخف كلامٍ عشوائيٍّ.

لقد كنت شخصًا آخَر.

كنت أسمع الناس يردِّدون هذا بين الحين والآخَر، وذلك طوال حياتي ولم أفكِّر فيما يمكن أن يعنيه هذا.

مَن تظنين نفسك إذن؟

كنتُ أسمع ذلك أيضًا، لكنْ دون أن أربطه بأيِّ نوعٍ من التهديد الحقيقي، بل كنتُ أعتبره مجرد نوعٍ من السخرية العادية.

وفكرتُ ثانيةً.

وبحلول ذلك الوقت لم يكن النوم هو مبتغاي؛ كنتُ أعلم أن مجرد النوم لم يكن ممكنًا، بل ربما لم يكن مرغوبًا. كان هناك شيء يحاول السيطرة عليَّ، وكان من شأني أن أمنعه — وكنتُ آملُ ذلك — كان لديَّ شعورٌ بأنه يجب عليَّ أن أفعل ذلك، لكني بالكاد كنتُ أقوى على ذلك، وذلك كما بَدَا لي. وأيًّا ما كان كُنْه هذا الشيء، فقد كان يحاول أن يطلب مني القيام ببعض الأفعال، ليس لسببٍ معلومٍ على وجه التحديد، بل لمعرفة إنْ كانت تلك الأفعال ممكنةً أم لا. كان يخبرني أن الدوافع ليست ضروريةً.

كان الشيء الضروري فقط هو أن أستسلم له. يا له من أمر غريب! أن تفعل شيئًا، ليس بدافعِ الانتقام أو من أجل أيِّ سببٍ عادي، وإنما لمجرد أنه طرأ على ذهنك.

لقد فكرتُ في الأمر بالفعل، وكلما أزحتُه عن ذهني، زادَتْ ملاحقتُه لي. ليست ثمة رغبةٌ في الانتقام، أو شعورٌ بالضغينة؛ ليس هناك سببٌ، كما سبَقَ أنْ ذكرتُ، فقط هو شيءٌ أشْبَهُ بفكرة عميقة شريرة تميل لأنْ تكون نوعًا من التأمُّل أكثر من كونها رغبةً ملحة. كان ينبغي عليَّ ألَّا أفكِّر حتى فيها، لكني فعلتُ.

كانت صدى تلك الفكرة يتردَّد في ذهني.

فكرة أنه يمكنني أن أخنق أختي الصغيرة التي كانت تغطُّ في النوم في الفراش الذي يوجد أسفل فراشي، والتي كنتُ أحبُّها أكثر من أي شخصٍ آخَر في هذا العالَم.

قد أفعل ذلك لكن ليس بدافع الغيرة، أو الشر، أو الغضب؛ بل بسبب ضربٍ من الجنون ربما يكون مستلقيًا بجانبي هنا في الظلام. لكنه ليس بجنون شديد أيضًا، إنما شيء يمكن أن تصفه بأنه مزعجٌ؛ اقتراحٌ كسول، مزعج، نصفُ بليدٍ بَدَا أنه كان متواريًا منذ وقت طويل.

ربما كان يقول: ولِمَ لا تفعلين ذلك؟ لِمَ لا تجرِّبين الأسوأ؟

الأسوأ. هنا في أكثر مكانٍ مألوف لنا؛ في الحجرة التي عشنا فيها حياتَنا كلها واعتقدنا أنها أكثرُ مكانٍ نشعر فيه بالأمان؛ قد أُقْدِم على فعله بلا سببٍ مفهوم لي أو لغيري سوى أنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من القيام به.

الشيء الذي كان عليَّ فعله هو النهوض، والخروج من تلك الحجرة ومن ذلك المنزل. هبطتُ دَرَجات السلم دون أن أنظر على الإطلاق ولو لمرةٍ واحدة إلى المكان الذي كانت أختي تغطُّ فيه في النوم، ثم هبطتُ الدَّرَج بهدوءٍ، دون أن أُزعِج أحدًا، ومنه اتجهتُ نحوَ المطبخ حيث كان كل شيء مألوفًا لي بدرجةٍ جعلَتْني أتلمَّس طريقي دون أن أُشعِل الأضواء. لم يكن باب المطبخ مُحْكَمَ الغلق في الواقع؛ لم أكن حتى واثقةً أننا كنا نمتلك مفتاحًا له. وُضِع كرسي أسفل مقبض الباب كان الهدف منه أن يُحدِث دفْعُه جلبةً كبيرة إنْ حاوَلَ أحدٌ أنْ يدخل المكان، لكنْ كان يمكن تحريكه ببطءٍ وبحذرٍ دون أن تَصْدُر عنه أيُّ ضوضاء على الإطلاق.

بعد الليلة الأولى تمكَّنْتُ من التجوُّل دون توقُّف؛ لذا استطعتُ أن أكون بالخارج، كما بَدَا لي، في غضون ثانيتين سريعتين.

بالطبع لم يكن هناك أي أضواء بالشارع؛ فقد كنا نبعد كثيرًا عن المدينة.

كان كل شيء أكبر من حجمه الطبيعي، وكانت الأشجار التي تحيط بالمنزل دائمًا ما تُسمَّى بأسمائها؛ شجرة الزان، شجرة الدردار، شجرة البلوط، أما أشجار القيقب، فدائمًا ما كان يتحدَّث عنها الناس بصيغة الجمع، ولا يميِّزون إحداها عن الأخرى لأنها تتشابك بعضها مع بعضٍ، والآن أضحَتْ جميعها شديدةَ السواد، وهكذا كان الحال بالنسبة إلى شجرةِ الليلك البيضاء (التي لم تَعُدْ تحتفظ بأزهارها)، وشجرةِ الليلك الأرجوانية، اللتين كانتا تُصنَّفان دائمًا ضمن الأشجار وليس الشجيرات؛ لأنهما أضحتا كبيرتَي الحجم للغاية.

أما المروج الأمامية والخلفية والجانبية، فكان من السهل تجاوُزها لأني كنتُ أقلِّمها بنفسي بهدف منح المكان بعضَ المظهر اللائق الشبيه بمظهر المدينة.

وكان كلُّ من الجانب الشرقي والجانب الغربي للمنزل يطلُّ على عالَمٍ مختلف، أو هكذا تراءَى لي. كان الجانب الشرقي هو جانب المدينة، بالرغم من أن من الممكن ألَّا ترى أية مدينة؛ فعلى بُعْدٍ لا يزيد عن ميلين، كان بمقدورك أن ترى منازلَ مصطفَّةً، بها أعمدةُ إنارة ومياه جارية. وبالرغم من أنني قلتُ إنه من الممكن ألَّا ترى أيًّا من هذا، فإنني لستُ واثقةً من أنك لن تستطيع أن تلمح بعضَ البريق إذا ما مددتَ بصرك لمسافةٍ أبعد.

أما ناحية الغرب، فلا يوجد ما يمكن أن يُوقِف المنحنى الطويل للنهر والحقول والأشجار وغروب الشمس؛ وهي أشياء لا علاقةَ لها بالناس، في رأيي، ولا بالحياة العادية مطلقًا.

رحتُ أقطع المكان جيئةً وذهابًا. في البداية سرتُ بالقرب من المنزل ثم غامرتُ بالسير هنا وهناك؛ حيث اعتمدتُ على بصري وتلافيتُ بقدر المستطاع الارتطام بمقبض المضخة أو المنصة المدعمة لحبل الغسيل. بدأَت الطيور تتحرَّك ثم شرعَتْ في الغناء، كما لو أن كلًّا منها فكَّرَ في ذلك على حدة، هناك أعلى الأشجار. لقد استيقظَتِ الطيور في وقتٍ مبكر جدًّا عمَّا اعتقدتُ أنه وقتُ استيقاظها، لكنْ سرعان ما بدأَتْ خيوطُ الضوء تتسلَّل عقبَ هذا الغناء المبكر للطيور، وفجأةً بدأ النعاس يغلبني، فعدتُ إلى المنزل حيث كانت الظلمة تغمر المكان، وشرعتُ بدقةٍ وهدوءٍ وحذرٍ شديد في وضع الكرسي المائل أسفل مقبض الباب، وصعدتُ لأعلى دون أن يَصْدُر عني أيُّ صوت، وفتحت الأبواب وصعدتُ الدَّرَج بالحذر المطلوب بالرغم من أني كنتُ شبهَ نائمةٍ، وارتميتُ على فراشي، واستيقظتُ في وقت متأخِّر؛ والوقتُ المتأخر في منزلنا كان يعني نحو الثامنة صباحًا.

كنت أستطيع تذكُّرَ كلِّ شيء حينها، لكن الأمر كان سخيفًا جدًّا — أو بالأحرى كان الجزءُ السيئ منه في واقع الأمر سخيفًا جدًّا — لدرجةٍ استطعتُ معها نسيانَه بسهولةٍ كبيرة. كان أخي وأختي قد ذهبا لتلقِّي دروسِهما في المدرسة الحكومية، لكنَّ طبقيهما كانا لا يزالان على المائدة، مع وجود بضع حبات من الأرز المنفوش في اللبن المتبقِّي.

يا له من سخف!

عندما كانت أختي تعود من المدرسة كنَّا نتأرجح على الأرجوحة الشبكية حيث كان يجلس كلٌّ منَّا في أحد طرفَيْها.

•••

كنت أُمْضِي معظم النهار على تلك الأرجوحة، وربما كان هذا ما يفسِّر عدم استطاعتي النوم في الليل. وحيث إنني لم أفصح عن الصعوبات التي كنتُ أواجهها في النوم بالليل، فلم يذكر أحدٌ المعلومةَ البسيطة التي مفادها أنه من الأفضل بالنسبة إليَّ القيام ببعض النشاط أثناء النهار حتى أستطيع النوم.

عادت الصعوبات التي كنت أواجهها بحلول الليل بالطبع. سيطرَتْ عليَّ الشياطين مرةً أخرى؛ كنتُ أدري الوضعَ بما يكفي بحيث أنهض وأغادر فراشي دون التظاهُر بأن الأمور ستتحسَّن، وأنني في الواقع سأغطُّ في النوم إذا ما حاولتُ ذلك جاهِدةً. شققتُ طريقي بحذرٍ إلى خارج المنزل كما فعلتُ من قبلُ. كنتُ أستطيع تلمُّسَ طريقي بنحوٍ أكثر يُسْرًا؛ فحتى محتوى الحجرات أصبح بالنسبة إلي أكثرَ وضوحًا وإنْ كان أكثر غرابةً. استطعتُ أن أتبيَّن سقفَ المطبخ المصنوع من ألواح خشبية، الموجود منذ بناء المنزل ربما قبل مائة عام، وكذلك إطار النافذة الشمالية الذي أُتلِف جزئيًّا على يد كلبٍ كان قد حُبِس بالداخل لليلةٍ كاملةٍ، وذلك قبل أن أُولَد. لقد تذكَّرْتُ ما كنتُ قد نسيتُه تمامًا؛ وهو أنه كان لديَّ ملعبٌ رملي موجود هناك بالخارج؛ حيث كانت تستطيع أمي أن تراقِبني من خلال هذه النافذة الشمالية، لكنْ نَمَتْ مكانَه الآنَ مجموعةٌ كبيرة من الشجيرات المزهرة المفرطة النمو، وأضحى من الصعب أن ترى ما بالخارج.

أما الجدار الشرقي للمطبخ، فلم يكن به أي نوافذ، لكنْ كان به باب يطلُّ على منصةٍ كنَّا نقف عليها كي ننشر قِطَع الغسيل المبتلة الثقيلة، ونجمعها حينما تجفُّ وتفوح منها رائحةٌ ذكية باعثة على الفخر، بدءًا من الملاءات البيضاء وحتى أردية العمل الثقيلة الداكنة اللون.

وكنت في بعض الأحيان أعرِّج على تلك المنصة أثناء جولاتي الليلية. لم أجلس عليها قطُّ، ولكنها كانت تُسهِّل عليَّ النظر باتجاه المدينة، ربما فقط لتلمُّس سكينتها؛ فكل سكانها كانوا قد استيقظوا بالفعل قبل ذلك بفترة طويلة وذهبوا لمتاجرهم التي يعملون بها، وفتحوا أبوابَ منازلهم لإدخال زجاجات اللبن بالداخل، وكانت الحركة تدبُّ في كل مكان.

وفي إحدى الليالي — لا أدري إنْ كانت العشرين أم الثانية عشرة أم فقط الثامنة أو التاسعة التي استيقظتُ خلالها وخرجت للسير — غمرني شعورٌ بأن هناك شخصًا على مقربةٍ مني، وقد انتابني هذا الشعور متأخرًا بحيث كان من الصعب أن أغيِّر من سرعتي. كان هناك شخصٌ موجود هناك ولم يكن بوسعي أن أفعل شيئًا سوى أن أستأنف المسير؛ فإنِ استدرتُ، فسيُمسِك بي وسيكون الأمر هكذا أسوأ من أن أكون بمواجهته.

مَن عساه يكون؟ لم يكن سوى والدي. كان هو الآخَر يجلس على المنصة يتطلَّع نحو المدينة وذلك الضوء الخافت البعيد الاحتمال. كان يرتدي ملابسَ كان يلبسها بالنهار؛ بنطال العمل الداكن اللون القريب الشبه بذلك الخاص بأردية العمل، وقميصًا داكنًا من القماش الخشن وحذاءً عاليَ الرقبة. كان يدخِّن سيجارةً، واحدة لفَّها هو بنفسه بالطبع. ربما نبَّهَني دخانُ السيجارة لوجودِ شخصٍ آخَر هناك، بالرغم من أنه كان من الممكن أن تشمَّ رائحةَ دخان التبغ في كل مكان في تلك الأيام، داخل المباني وخارجها؛ لذا فلم يكن هناك سبيلٌ لملاحظته.

ألقى عليَّ تحيةَ الصباح بأسلوبٍ ربما بَدَا طبيعيًّا بالرغم من أنه ليس هناك أيُّ شيء طبيعي بصدده على الإطلاق؛ فلم نعتَدْ في عائلتنا إلقاءَ مثل هذه التحيات بعضنا على بعض. لم يكن هناك أي شيء غير ودي في هذا الشأن؛ كل ما في الأمر، بحسب افتراضي، أننا كنا نعتقد أنْ ليس ثمة شيءٌ ضروريٌّ ما دام من الممكن رؤية ووداع بعضنا بعضًا في أوقاتٍ مختلفة من اليوم.

رددتُ عليه تحيةَ الصباح. لا بد أن الوقت قد اقترب بالفعل من الصباح، وإلا لما كان أبي قد لبس وتهيَّأ ليومِ عملٍ هكذا. ربما شقَّ الضوءُ السماءَ لكنه لا يزال يختبئ بين الأشجار الكثيفة، وكانت الطيور تغرِّد أيضًا. كنت قد اعتدتُ أن أظلَّ بعيدةً عن فراشي حتى وقتٍ متأخرٍ أكثر من ذلك، ومع هذا ما عدتُ أشعر بالراحة كما كنتُ في البداية؛ فاحتمالات عدم الراحة التي كنتُ أشعر بها فقط في غرفة النوم، وفي الفراش ذي الطابقين، كانت تحتلُّ كلَّ أركان المكان.

والآن فكَّرْتُ في الأمر، في السبب وراء عدم ارتداء أبي رداء العمل؛ إذ كان يرتدي ملابسَ مختلفةً كما لو كان ذاهبًا إلى المدينة من أجل القيام بشيءٍ ما؛ أول شيء يفعله في الصباح.

لم أستطِعِ استئنافَ السَّيْر؛ حيث قطَعَ وجودُ أبي إيقاعَ الأمر كله.

قال: «هل تعانين من مشاكل في النوم؟»

كنت أود أن أجيب بالرفض، لكني فكَّرْتُ في صعوبات شرح سبب تجوُّلي بالخارج في ذلك الوقت، فآثرتُ أن أرد بالإيجاب.

قال إن ذلك هو الحال عادةً في ليالي الصيف.

«إنكِ تذهبين للفراش متعبةً وعندئذٍ تتصورين أنكِ ستغطِّين في النوم، فإذا بكِ تظلِّين مستيقظةً. أليس هو الحال معكِ؟»

قلتُ بلى.

أيقنتُ الآن أنه لم يسمعني عندما استيقظتُ وتجوَّلْتُ في تلك الليلة فقط؛ فالشخص الذي تقطن ماشيته في مكانٍ ما بالمنزل، ويحتفظ بما يكسبه من أموال على مقربةٍ منه، ويحتفظ بمسدسٍ في دُرْج مكتبه، كان بالتأكيد سينتفض لسماع أقل صوتٍ تسلَّلَ على الدَّرَج وأقل إدارةٍ لمقبض الباب.

لستُ واثقةً من نوع الحوار الذي أراد أن يدور حينَها، فيما يتعلَّق بمسألة استيقاظي. ويبدو أنه قال إن مسألة عدم القدرة على النوم أمرٌ مزعج، لكنْ أكان هذا كل ما في الأمر؟ كنتُ أنوي بالقطع ألَّا أخبره بالمزيد؛ فلو كان قد ألمَحَ لي ولو تلميحًا بسيطًا بأنه يعرف أن هناك المزيد في الأمر، بل لو حتى أشار إلى أنه جاء هنا بنِيَّةِ معرفةِ هذا الأمر، فلا أعتقد أنه كان سيخرج مني بشيءٍ على الإطلاق. كان عليَّ أن أكسر حاجزَ الصمت بإرادتي، وذلك بأن أقول إنني لم أكن أستطيع النوم، وإنه كان عليَّ أن أغادر الفراشَ وأسير في الأنحاء.

وما سبب ذلك؟

لستُ أدري.

هل الكوابيس هي السبب؟

لا.

قال: «يا له من سؤال أحمق! فلا يمكن أن يترك المرءُ فراشَه بسبب الأحلام الجميلة.»

تركني لكي أُكمِل حديثي، ولم يطرح عليَّ أي أسئلة. كنتُ أنوي التوقُّفَ عن الكلام، لكني استمررْتُ في الحديث، وأخبرته بالحقيقة ولكن مع تعديل واحد بسيط.

حينما تحدَّثْتُ عن أختي الصغيرة، قلتُ إنني كنتُ أخشى أن أُلحِق بها أذًى، واعتقدتُ أن هذا كان يكفي، يكفي لأنْ يعرف ما كنتُ أعنيه.

قلتُ بعدها: «أخشى أن أخنقها.» لم أستطع أن أمنع نفسي من قول هذا في نهاية الأمر.

والآن بما أنني كنتُ لا أستطيع أن أرجع فيما قلتُ، فلم يكن بإمكاني أن أعود نفسَ الشخص الذي كنتُ عليه قبل ذلك.

سمع أبي ما قلتُه؛ لقد سمع أنني اعتقدتُ أني كنتُ قادرةً، بلا مبرِّر، على خنْقِ كاثرين الصغيرة أثناء نومها.

قال: «حسنًا.»

ثم قال إنني يجب ألَّا أشعر بالقلق، وأضاف: «ينتاب الناسَ في بعض الأحيان مثلُ هذا النوع من الأفكار.»

قال ذلك بجديةٍ تامةٍ ودونَ أن يظهر عليه أيُّ نوعٍ من الانزعاج أو الاندهاش الشديد. ينتاب الأشخاص مثلَ هذه النوعية من الأفكار، أو المخاوف إنْ صح التعبير، لكنْ ليس هناك داعٍ للقلق حيال ذلك، فبمقدورنا القول إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد حلم من الأحلام.

لم يَقُلْ تحديدًا إنني لستُ معرَّضةً لارتكاب مثل هذا الفعل؛ فقد بَدَا أنه كان يعتقد أن مثل هذا الفعل لا يمكن أن يحدث. قال إن ذلك ربما يكون ناتجًا عن تأثير مركَّب الإيثر، الذي أعطَوْني إيَّاه في المستشفى، وأن الأمر لا يتعدَّى مجرد حلمٍ؛ فلا يمكن أن يقع مثل ذلك الأمر مثلما لا يمكن أن يضرب نيزك منزلنا (بالطبع يمكن أن يحدث ذلك، لكن احتمالية حدوث ذلك تضعه في قائمة الأشياء التي لا يمكن أن تحدث).

لكنه لم يَلُمْني حتى لأني فكرتُ في الأمر؛ كلُّ ما قاله إنه لم يتعجَّب من ذلك.

هناك أشياء أخرى كان من الممكن أن يقولها؛ كان يمكن أن يطرح عليَّ المزيدَ من الأسئلة عن موقفي من أختي الصغيرة أو عدم رضاي عن حياتي بوجه عام. لو كان ذلك قد حدث اليومَ، فلربما حدَّدَ لي موعدًا لدى طبيب نفسي. (أعتقد أن ذلك ما يجب أن أفعله حيال أحد أطفالي، مع تطوُّر الأمور وزيادة دَخْل الأسرة.)

الحقيقة أن ما فعله قد نجح معي بالفعل؛ لقد أعاد لي استقراري النفسي، دون سخرية أو انزعاج، في العالَم الذي كنَّا نعيش فيه.

فقد تتكوَّن لدى الأشخاص بعضُ الأفكار التي سرعان ما يتخلَّوْن عنها. يحدث هذا في الحياة.

إنْ عشتَ فترةً طويلة كأبٍ، فستكتشف أنك ارتكبتَ أخطاءً لم تهتم بمعرفتها بجانب الأخطاء التي تعلمها جيدًا. قد تشعر إلى حدٍّ ما ببعض المهانة في داخلك أو بعض الاشمئزاز من نفسك، لكني لا أعتقد أن أبي انتابَتْه مشاعر من هذا القبيل. أنا أعلم أنني لو كنتُ قد لُمْتُه يومًا، حينما عاقَبَني بضربي بالمشحذة أو بحزامه، لَكان قال شيئًا عن اضطراره لفعل الأمر. إنَّ حالات العقاب البدني هذه كانت ستظل باقية حينها في ذهنه — هذا إنْ بقيَتْ من الأساس — على أنها ليست أكثر من كونها الردْعَ الملائم والضروري لطفلةٍ ثرثارةٍ تتخيَّل أنَّ بإمكانها إحكامَ السيطرة على الأمور.

«إنك تعتقدين أنك شديدة الذكاء.» هذا ما كان يمكن أن يقوله كمبرِّر لعقابه لي، وبالفعل إن المرء كان يسمع ذلك كثيرًا في تلك الأيام؛ حيث يتجسَّد هذا النوع من الذكاء في شكلِ طفلٍ شقيٍّ بغيض ينبغي أن يُعاقَب على وقاحته، وإلا فستكون هناك مخاطَرةُ أنْ يَشِبَّ معتقِدًا أنه ذكي، أو ذكية، بحسب الحالة.

•••

ومع هذا فقد منحني في ذلك الصباح ما كنتُ بحاجةٍ إلى سماعه، وما كنتُ حتى سأنساه سريعًا.

فكرتُ أنه ربما كان يرتدي أفضلَ ملابس العمل لديه؛ لأن لديه موعدًا في الصباح للذهاب إلى المصرف ليعلم، دونَ أيِّ اندهاشٍ من جانبه، أنه لن يستطيع مدَّ فترة سداد القرض الذي أخذه. لقد كان يعمل بكل جهده، لكن السوق ما كانت لتتغيَّر أحوالها، وكان عليه أن يجد سبيلًا آخَر لينفق علينا ويسدِّد ما علينا من ديونٍ في آنٍ واحد. أو ربما اكتشف أن هناك اسمًا آخَر للرجفة التي كانت تعاني منها أمي، وأن ذلك ما كان ليتوقَّف. أو ربما كان يحب امرأةً يستحيل الوصول إليها.

لم أُلْقِ بالًا لذلك؛ فمنذ ذلك الحين، أصبحت أستطيع النوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤