الرحيل عن مافرلي

في الأيام التي كانت فيها دار لعرض الأفلام في كل بلدة، كانت واحدة في تلك البلدة أيضًا، بلدة مافرلي، وقد أُطلِق عليها «كابيتل»، كما هو المعتاد في تسمية هذه الدور في تلك الفترة. وكان مورجان هولي هو المالك والمسئول عن عرض الأفلام، وكان لا يحب التعامل مع الجمهور — فقد كان يفضِّل الجلوسَ في مكتبه الصغير بالأعلى حيث يتولَّى عملية عرض الأفلام على الشاشة — لذا فمن الطبيعي أن يصيبه الضيق عندما أخبرَتْه الفتاة عاملة التذاكر أنها مضطرة إلى تَرْك العمل لأنها تنتظر مولودًا. ربما توقَّعَ ذلك — فالفتاة متزوجةٌ منذ ستة أشهر، وكان من المفترض في هذه الأيام أن تختفي المرأة عن أعين الناس قبل أن يبدأ بطنها في الظهور — لكنه كان يبغض بشدة التغييرَ وفكرةَ أن تكون للأفراد حياةٌ خاصة، لدرجةٍ جعلَتْه يتفاجأ بشدة بالأمر.

لكنْ لحُسْن الحظ أنها أتَتْ بفتاةٍ يمكن أن تحل محلَّها، وكانت تلك الفتاة تقطن في شارعها، وقد أخبرتها أنها ترغب في أن تحصل على وظيفة مسائية؛ إذ لم يكن باستطاعتها العمل في الصباح لأنه يجب عليها أن تساعد أمها في العناية بإخوتها الصغار. كانت تتسم بالذكاء بدرجةٍ تجعلها تنجح في ذلك بالرغم من خجلها.

قال لها مورجان إن ذلك شيء جيد؛ فهو لا يعيِّن عاملةَ تذاكر كي تثرثر مع روَّاد المكان.

وهكذا عُيِّنت الفتاة، وكان اسمها ليا، والسؤال الأول والأخير الذي طرحه عليها مورجان كان عن المصدر الذي اشتُقَّ منه اسمها، فأخبرته أنه مستوحًى من الإنجيل. ثم لاحَظَ أنها لا تضع أيَّ مساحيق تجميل على وجهها، وأن شعرها ينساب بطريقة غير جذَّابة فوق رأسها، وأنها تثبِّته ببعض دبابيس الشعر. انتابه القلق للحظات ممَّا إذا كانت في السادسة عشرة من عمرها بالفعل، وإنْ كان التحاقها بالوظيفة صحيحًا من الناحية القانونية أم لا؛ لكنْ عندما نظر إليها عن قُرْبٍ رأى أنه من المرجح أن تكون هذه هي الحقيقة. أخبرها أنها ستعمل فترة عرض واحدة بدءًا من الثامنة مساءً في كل أيام الأسبوع، ما عدا السبت الذي ستعمل فيه فترتَيْ عرض بدءًا من السابعة مساءً، وستكون مسئولة بعد غلق دار العرض عن عدِّ الحصيلة وحفظها في مكان آمِن.

لم تكن هناك سوى مشكلة واحدة، فقد قالت إنه يمكنها أن ترجع إلى منزلها بمفردها كل أيام الأسبوع ما عدا يوم السبت؛ إذ لن يُسمح لها بذلك، ولن يكون بمقدور والدها أن يأتي ليصطحبها لأنه هو نفسه يعمل في وظيفة مسائية في الطاحونة.

قال لها مورجان إنه ليس هناك ما يستدعي الخوف في مكانٍ كهذا، وكان على وشك أن يلغي تعيينها لولا أنه تذكَّرَ الشرطي الليلي الذي عادةً ما كان يقطع دورياته كي يشاهد جزءًا صغيرًا من الفيلم المعروض، والذي من الممكن أن يحمل على عاتقه مسئوليةَ اصطحاب ليا إلى منزلها.

قالت إنها ستخبر والدها بذلك.

وافَقَ والدها، ولكن هناك اعتبارات أخرى يريد أن يطمئن بشأنها؛ فيجب ألَّا تشاهد ليا ما يُعرَض على الشاشة من أفلام أو تستمع لأيٍّ من حواراتها؛ فالدينُ الذي تعتنقه العائلةُ لا يسمح بذلك. ردَّ مورجان على ذلك قائلًا إنه لا يُعَيِّن عمال التذاكر كي يشاهدوا ما يُعْرض مجانًا، أما الحوارات المدارة، فقد كذب بشأنها وقال إن قاعة العرض عازلة للصوت.

•••

التحق راي إليوت شرطي الدوريات الليلية بوظيفته تلك كي يُعِين زوجته في أعمالها، على الأقل في جزءٍ من النهار؛ فكانت تكفيه خمس ساعات نوم فقط في الصباح، ثم من الممكن أن يغفو قليلًا في وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة، لكنه لم يكن يغفو عادةً في ذلك الوقت إما بسبب بعض المهام التي يجب عليه إنجازها، وإما لأنه يتجاذب أطرافَ الحديث مع زوجته التي كانت تُدعَى إيزابيل. لم يُرزَقا بأطفالٍ؛ لذا كانا من الممكن أن يتحدَّثَا في أي وقت عن أي شيء. كان يأتيها بأخبار البلدة التي عادةً ما كانت تثير ضحكاتها، وكانت هي تخبره عن الكتب التي تقرؤها.

شارَكَ راي في الحرب بمجرد أن بلغ الثامنة عشرة من عمره، وقد اختار أن ينضمَّ للقوات الجوية التي تَعِدُ المرءَ، كما يقال، بأسرع وسائل الموت وأكثرها إثارةً. كان يشغل موقعَ مدفعي البرج الأوسط العلوي للطائرة المقاتلة — وهو موقع لم تستطع إيزابيل استيعابَه بسهولةٍ — ولكنه نجا من الموت. وقبل أن تضع الحرب أوزارها، نُقِل إلى طاقم عمل جديد، وفي غضون أسبوعين أسقَطَ العدو طائرةَ طاقمه القديم الذي حلَّقَ بصحبته مراتٍ عديدةً وفُقِد جميع أفراده. عاد إلى وطنه وهو يحمل في ذهنه فكرةً مبهمةً عن أنه يجب عليه أن يفعل شيئًا ذا قيمةٍ بالحياة التي مُنِحت له دون سبب معلوم، لكنه لم يَدْرِ ما هو هذا الشيء الذي عليه فعله.

بدايةً، كان عليه أن يُنهِي دراسته الثانوية، وكانت قد تأسَّسَتْ في بلدته التي نشأ بها مدرسةٌ خاصة من أجل المحاربين العائدين من الحرب الذين كانوا يرغبون في إكمال دراستهم الثانوية ويأملون في الالتحاق بالجامعة، وذلك بمنزلة تعبيرٍ من المواطنين عن امتنانهم لهم. كانت إيزابيل مدرِّسةَ الأدب واللغة الإنجليزية، وكانت تبلغ من العمر ثلاثين عامًا ومتزوجةً، وكان زوجها من المحاربين العائدين من الحرب أيضًا، لكنه كان يفوق كثيرًا في رتبته كلَّ الطلاب المتواجدين في فصلها. وكانت تنوي التدريس ذلك العام بدافعٍ من الوطنية، ثم تتقاعد بعد ذلك من أجل إنجاب طفل. وقد ناقشَتْ هذا الأمرَ على الملأ مع طلابها الذين قالوا، بعيدًا عن مسامعها، بأن بعض الرجال يحالفهم الحظ عندما يتزوجون امرأةً مثلها.

كان راي يكره أن يسمع ذلك النوع من الأحاديث، والسبب في هذا هو أنه وقع في حبِّها، وقد وقعَتْ هي الأخرى في حبه، وهو الأمر الذي بدا مفاجئًا أكثر بدرجة كبيرة؛ لقد كان أمرًا منافيًا للعقل بالنسبة إلى الجميع فيما عداهما. ووقع الطلاق بينها وبين زوجها، الذي كان بمثابة فضيحة لعائلتها المرموقة وصدمة قوية لزوجها الذي رغب في الزواج منها منذ أن كانا طفلين. لم يمر راي بوقت عصيب مثلها لأن عائلته لم تكن كبيرة، ومَن أخبرهم بما حدَثَ قالوا له إنهم لا يرقَوْا لمستواه الآن حيث إنه سيصاهر عائلة كبيرة، وإنهم سيبتعدون عن طريقه في المستقبل ولن يسبِّبوا له أي مشاكل. وبالرغم من أنهم كانوا يتوقعون من جانبه أي نوع من الإنكار أو الاطمئنان بسبب ذلك، فلم يحدث ذلك. يكفي ما قاله بنحو أو بآخر؛ الزمن كفيل بأن يُوجِد بدايةً جديدة. قالت إيزابيل إنها يمكن أن تستمر في التدريس حتى ينتهي راي من دراسته الجامعية ويحقِّق نجاحًا في أي مجال يريد أن يعمل فيه.

لكن كان يجب أن يتغيَّر ما خطَّطَا له؛ فلم تكن تشعر بأنها على ما يرام. في البداية اعتقدا أنه قد يكون مجرد شعور بالتوتر. الاضطراب الداخلي. الانفعال الشديد.

ثم بدأ الشعور بالألم. كانت تشعر بالألم كلما تنفَّسَتْ بعمق؛ ألمٍ أسفلَ عظام الصدر وفي كتفها الأيسر. لكنها تجاهلته، وكانت تمزح قائلةً إن الرب يعاقبها بسبب تلك المغامرة الغرامية، وقالت إنه كان يُهدِر وقته لأنها حتى لم تكن تؤمن به.

كانت مصابة بمرضٍ يُسمَّى التهاب غشاء القلب. كان الأمر خطيرًا، لكنها تجاهلته بالرغم من تحذيرات الأطباء؛ فهو مرضٌ لا شفاءَ منه، لكن بمقدورها أن تتعايش معه ببعض الصعوبة. ولم يَعُدْ بمقدورها التدريس مطلقًا مرةً أخرى؛ فأي عدوى تُصاب بها ستكون لها عواقب خطيرة، وأي مكان تكون العدوى فيه أكثر انتشارًا من الفصل الدراسي؟ ولم يكن هناك أحد الآن لمساندتها سوى راي، وقد حصل على وظيفة شرطي في تلك البلدة الصغيرة التي تُسمَّى مافرلي التي تقع على الحدود بين مقاطعتَيْ جراي وبروس، ولم يمانع في شغل تلك الوظيفة، وبعد فترةٍ لم تَعُدْ تبالي هي الأخرى بشبه العزلة التي كانت تحيا فيها.

كان هناك شيء واحد لم يتحدَّثا بشأنه؛ فطالما تساءَلَ كل منهما إذا ما كان الآخر يبالي بعدم مقدرته على إنجاب الأطفال. وقد خطر ببال راي أن خيبة الأمل هذه قد تكون لها علاقة برغبة إيزابيل في سماع كل شيء عن الفتاة التي كان يجب عليه اصطحابها إلى منزلها في ليالي السبت.

«هذا شيء يبعث على الأسى.» قالت ذلك عندما علمَتْ بأنه محظورٌ على الفتاة أن تشاهد الأفلام، بل شعرت أيضًا بمزيدٍ من الاستياء عندما أخبرها بأن الفتاة أُجبِرَتْ على ترك مدرستها الثانوية كي تساعد في أعمال المنزل.

«وتقول إنها تتسم بالذكاء؟»

لم يتذكر راي أنه قال ذلك؛ فكل ما قاله إنها خجولة بدرجة غريبة؛ لذا كان عليه خلال سيرهما معًا أن يقدح زناد فكره حتى يعثر على موضوعٍ يَصْلُح للحوار، ووجد أن بعض الأسئلة التي فكَّرَ فيها لن تكون مجديةً؛ أسئلة مثل: ما المادة المفضَّلة لديك في المدرسة؟ فقد رأى أن الإجابة على مثل هذا السؤال كان سيعود بهما إلى الماضي، وأنه لم يَعُدْ يُجْدِي الآن إنْ كانت تفضِّل أيها أم لا. أو ما المهنة التي تريدين أن تعملي بها حين تكبرين؟ إنها عمليًّا الآن كبيرةٌ بدرجة كافية، وعليها الآن أن تقوم بأعمال شاقة، سواء أرادت ذلك أم لم تُرِدْ. أما سؤالها عما إذا كانت تروق لها تلك البلدة، وما إذا كانت تفتقد المكان الذي كانت تعيش فيه، فكان سؤالًا بلا جدوى. وتطرَّقَا في حديثهما بالفعل، دون إسهاب، إلى أسماء الأطفال الأصغر سنًّا في عائلتها وأعمارهم، وعندما تساءل إنْ كان لديها كلب أو قطة، أخبرته بأنها لا تربي أيًّا منهما.

وأخيرًا طرحت هي سؤالًا على مسامعه، فسألته عمَّا كان يثير ضحكَ الحاضرين في الفيلم الذي كانوا يشاهدونه في تلك الليلة.

لم يكن يعتقد أنه يجب أن يذكِّرها بأنها ليس من المفترض أن تسمع شيئًا، لكنه لم يستطع تذكُّر ما هو ذلك الشيء الطريف الذي من الممكن أن يكون قد أثار الضحكات؛ لذا قال لها لا بد أنها لقطة سخيفة؛ فالمرء لا يمكنه معرفة السبب الذي يثير ضحك الجمهور. وقال إنه لا يولي كاملَ تركيزه للأفلام المعروضة؛ فهو لا يرى سوى لقطات متفرقة فقط منها، ونادرًا ما يتابع حبكاتها.

قالت: «الحبكات.»

اضطر أن يخبرها بمعنى تلك الكلمة؛ وهو أن كل الأفلام لها قصص تحاول سردها. ومنذ ذلك الوقت لم تكن ثمة مشكلة في فتح باب الحوار بينهما، ولم يكن بحاجةٍ أيضًا إلى أن يحذِّرها من أنه قد لا يكون من الحكمة أن تردِّد في المنزل أيًّا ممَّا يقصه على مسامعها. وقد أدركَتْ ذلك. لم يكن لزامًا عليه أن يقصَّ على مسامعها أيَّ قصة بعينها، وهو أمر يستطيع بالكاد أن يفعله على أية حال، بل مجرد أن يشرح لها أن القصص كانت تدور في العادة حول مجموعة من المحتالين والأبرياء، وأن هؤلاء المحتالين ينجحون بوجه عام في البداية في ارتكاب جرائمهم ويخدعون بمظهرهم الكاذب الأشخاصَ الذين يغنون في الملاهي الليلية (والتي تشبه صالات الرقص)، أو يخدعون أحيانًا — لسبب لا يعلمه إلا الرب — الذين يغنون فوق قمم الجبال، أو في أي أماكن خارجية أخرى بعيدة الاحتمال، ويحتالون عليهم. أحيانًا، تكون الأفلام بالألوان. ويرتدي الممثلون ملابس فاخرة إنْ كانت القصة تدور في الماضي، ويبالغ هؤلاء الممثلون في أداء المشاهد التي يقتل فيها كلٌّ منهم الآخَر، وتنسال الدموع على وَجَنات السيدات، التي هي في حقيقة الأمر قطرات جليسرين. وربما يُحضِر القائمون على الأفلام حيوانات من حدائق الحيوان لتكون بمنزلة حيوانات الغابة، ويُثِيرون غضبها في أغلب الأحوال حتى تكون ردود أفعالها أكثر ضراوةً. وينهض الأشخاص الذين قُتِلوا بأساليب متنوعة في اللحظة التي تبتعد عنهم فيها الكاميرات، ويكونون أحياء وبصحة جيدة بالرغم من رؤيتهم لتوِّهم وهم يتلقَّوْن طلقات رصاص، أو فوق مقصلة الإعدام حيث تتدحرج رءوسهم بعدها إلى إحدى السلال.

قالت إيزابيل: «كان عليك ألَّا تعقِّد لها الأمور هكذا؛ فأنت هكذا قد تجعل الكوابيس تهاجمها.»

قال راي إن هناك ما أثار اندهاشه في تلك الفتاة؛ فقد كانت لديها قدرة كبيرة على تفهُّم الأمور واستيعابها بدلًا من أن تنزعج أو تشعر بالارتباك؛ فهي على سبيل المثال لم تسأل قطُّ عن شكل مقصلة الإعدام أو تَبْدُ مندهشةً من فكرة وضع الرءوس بها. وأخبر إيزابيل بأن هناك شيئًا ما في تلك الفتاة؛ شيئًا يجعلها ترغب في استيعاب كل ما يقصه المرء على مسامعها بدلًا من مجرد الشعور بالدهشة أو الإثارة حياله. وقد اعتقد بنحوٍ ما أنها كانت تنأى بنفسها عن عائلتها، ولكن هذا لا يعني أنها كانت تزدريهم أو تقسو عليهم، لكن كل ما في الأمر أنها لم تكن تمنحهم سوى الحد الأدنى من الاهتمام.

لكنه قال بعد ذلك ما جعله أكثر أسفًا ممَّا لو عرف السبب.

«ليس لديها الكثير لتتطلع إليه على أي صعيد.»

قالت إيزابيل: «حسنًا، يمكننا أن نختطفها إذن.»

فحذَّرَها هو من الحديث على هذا النحو، وطلب منها أن تكون جادة.

«لا تحاولي حتى التفكير في هذا.»

•••

قبل حلول عيد الميلاد بوقت قصير (وعلى الرغم من أن برد الشتاء قد هجم بضراوة حينئذٍ)، جاء مورجان إلى قسم الشرطة في نحو منتصف الليل ذات ليلة في وسط الأسبوع ليقول إن ليا قد اختفت.

فقد باعت التذاكر كالمعتاد، وأغلقت نافذة التذاكر، ووضعت النقود في مكانها المعتاد، واتجهت صوب منزلها وذلك على حد علمه. وقد أغلق المكان بعد انتهاء العرض، لكنه عندما خرج ظهرتِ له امرأةٌ لا يعرفها وسألته عما حدث لليا. كانت هذه المرأة هي الأم؛ والدة ليا. كان الأب لا يزال في عمله بالطاحونة، وخمَّنَ مرجان أنه قد يكون قد طرأ على ذهن الفتاة أن تذهب إليه في عمله. بدا أن الأم لا تعي ما يتحدث عنه؛ لذا قال لها إنه يمكنهما أن يذهبا إلى الطاحونة ليعرفا إنْ كانت الفتاة قد ذهبت إلى هناك أم لا، ولكنها بكت وتوسَّلَتْ إليه ألَّا يفعلا ذلك؛ لذا اصطحبها مورجان بالسيارة إلى منزلها معتقدًا أنه يمكن أن تكون الفتاة قد عادت للمنزل الآن، لكن لسوء الحظ لم يحدث ذلك؛ لذا اعتقد أنه من الأحرى أن يذهب ويخبر راي بما حدث.

ولم تَرُقْ له فكرة أن ينقل خبر اختفاء الفتاة إلى الأب.

قال راي إن عليهما أن يذهبا إلى الطاحونة على الفور؛ فهناك احتمال ضئيل أن تكون هناك، لكن عندما وصلا إلى مكان عمل الأب، لم يكن يعرف عنها شيئًا، وقد استشاط غضبًا لخروج زوجته على هذا النحو بينما لم يأذن لها أن تغادر المنزل.

سأل راي عن صديقاتها ولم يندهش عندما علم أنها ليس لديها أي صديقات، ثم طلب من مورجان أن يعود إلى منزله، وذهب هو بنفسه إلى منزل الفتاة حيث وجد الأم في حالة كبيرة من الذهول تمامًا كما وصفها مورجان. كان الأطفال لا يزالون مستيقظين، أو بعض منهم، واتضح أيضًا أنهم كانوا عاجزين عن الكلام، وكانوا يرتجفون إما من الخوف وريبهم من وجود شخص غريب بالبيت، وإما من البرد الذي لاحَظَ راي أنه كان يتزايد حتى في داخل المنزل. قد يكون الأب قد وضع قواعد صارمة بشأن التدفئة أيضًا.

كانت ليا ترتدي معطفها الشتوي، وكان ذلك أقصى ما علمه منهم. كان يعرف ذلك المعطف البني الفضفاض ذا المربعات، وخمَّنَ أنه كان سيمنحها الدفء لفترة على الأقل. في الفترة ما بين ذهاب مورجان إلى قسم الشرطة وحتى الآن، كانت الثلوج قد بدأت تتساقط بغزارةٍ نوعًا ما.

عاد راي إلى المنزل عندما انتهت ورديته الليلية، وقصَّ على إيزابيل ما حدث، ثم خرج مرةً أخرى ولم تحاول أن تمنعه.

•••

وبعد ساعة، عاد دونما أي نتائج، وذاعَتِ الأخبار بأنه من المحتمل غَلْق الطرق بسبب هبوب أول عاصفة ثلجية كبيرة في هذا الشتاء.

وبحلول الصباح، كان هذا ما حدث بالفعل؛ فقد أُغلِقت شوارع البلدة لأول مرة في ذلك العام، وكان الشارع الرئيسي هو الوحيد الذي حاولَتْ جرافات الثلوج أن تبقيه مفتوحًا. كانت كل المتاجر تقريبًا مغلقةً، وقد انقطعت الكهرباء في ذلك الجزء من البلدة الذي تعيش فيه عائلة ليا، ولم يكن ثمة شيء يمكن فعله حيال ذلك مع تحريك الريح الأشجارَ لأسفل بقوةٍ، حتى بدا الأمر وكأنها كانت تحاول كنس الأرض.

خطرت لشرطي دورية الصباح فكرة لم تَدُرْ بخلد راي؛ لقد كان أحد رعايا الكنيسة المتحدة، وكان يعلم، أو زوجته على الأحرى هي التي كانت تعلم، أن ليا تقوم بكَيِّ الملابس كلَّ أسبوع لزوجة القس، وقد ذهب هو وراي إلى منزل القس ليريا إنْ كان هناك أحدٌ يعلم شيئًا يمكن أن يفسِّر اختفاء الفتاة، لكن لم تكن هناك أية معلومات عن ذلك، وبعد أن كان هناك بصيصٌ من أمل، بَدَا أن عملية البحث أضحَتْ حتى أكثر صعوبةً من ذي قبلُ.

أصاب راي بعض الدهشة من أن الفتاة كانت تمارِس عملًا آخَر ولم تذكر شيئًا عنه. وعلى الرغم من ذلك، ومقارَنةً بعملها في دار عرض الأفلام، فإنه ليس بالعمل الذي يمكِّنها من التعرُّف أكثر على العالَم الخارجي.

حاوَلَ أن ينام في وقت ما بعد الظهيرة، وبالفعل غفا لمدة ساعة أو نحو ذلك. حاولت إيزابيل أن تفتح مجالًا للحديث على العشاء، لكن الحوار لم يستمر؛ فكان حديث راي يعود ليدور مرةً أخرى حول زيارة القس، وكيف أن زوجته أظهرَتْ تعاونًا واهتمامًا بقدر المستطاع، بَيْدَ أن القس لم يتصرَّف بالطريقة التي قد يتوقَّعها المرءُ من رجلٍ في مكانته؛ لقد فتح لهما الباب وأجابهما بنفاد صبر كما لو أنهما قاطعاه وهو يكتب موعظته أو شيئًا ما. نادى زوجته وعندما حضرت كان عليها أن تذكِّره بمَن تكون الفتاة، فقالت له: هل تذكر الفتاة التي تأتي لتساعد في أعمال الكي؟ ليا؟ ثم قال إنه يأمل بأن تكون هناك أخبارٌ عنها في القريب العاجل، بينما كان يحاول أن يغلق الباب في وجه الريح.

قالت إيزابيل: «حسنًا، ما الذي كان بإمكانه فعله أكثر من ذلك؟ أن يصلي من أجلها؟»

اعتقَدَ راي أن هذا لن يضر في شيء.

قالت إيزابيل: «كان سيسبِّب هذا الحرجَ للجميع، ويُظهِر عدم جدوى ما يقوم به.» ثم أضافت أنه ربما يكون قسًّا مسايرًا للعصر ويميل أكثر للأشياء الرمزية.

كان لا بد من إجراء بعض عمليات البحث، بغضِّ النظر عن حالة الطقس؛ فكان هناك عددٌ من الأكواخ الخلفية وكذلك إسطبل قديم للخيل لم يُستخدَم منذ سنوات، يجب اقتحامها وتفتيشها بدقةٍ حيث يحتمل أن تكون قد أَوَتْ إلى أيٍّ منها. ولكن لم يُعلَن عن أي نتائج، وأُخطِرت الإذاعة المحلية بأمر الاختفاء، وقد أذاعت وصفًا دقيقًا لها.

واعتقد راي أنه إذا كانت ليا قد أوقفَتْ إحدى السيارات المارة على الطريق لتسافر فيها، فإنها بذلك تكون قد ركبتها قبل هبوب العاصفة، وهو أمر يمكن أن يكون جيدًا أو سيئًا.

قالت الإذاعة إنها كانت أقل من الطول المعتاد بقليلٍ، في حين أن راي كان يرى أنها تجاوزَتِ الطول المعتاد بقليلٍ؛ وإنها ذات شعر مسترسل يتوسط لونه بين البني الفاتح والبني الداكن، بينما كان يرى راي أن شعرها بني داكن جدًّا يكاد يقترب من اللون الأسود.

لم يشارك والدها في عمليات البحث؛ ولا أيٍّ من إخوتها. بالطبع لن يشاركوا؛ فالأولاد كانوا يصغرونها ولا يغادرون المنزل مطلقًا دون موافَقة والدهم على أية حال. وعندما ذهب راي إلى منزلها سيرًا على الأقدام واتجه ليقرع الباب، فُتِح بالكاد، ولم يتوانَ والدها عن أن يقول له إن ابنته أغلب الظن قد هربت، وأن عقابها ليس في يده الآن بل هو بيدِ الرب. ولم يدعُ راي للدخول إلى المنزل ويستشعر بعض الدفء؛ فربما ما زال المنزل خاليًا من أي نوعٍ من أنواع التدفئة.

سكنت العاصفة بالفعل في منتصف اليوم التالي تقريبًا، وظهرت جرافات الثلوج وجرفت الثلج من شوارع البلدة، وقد فعلت جرافات المقاطَعة نفسَ الشيء في الطريق السريع، وأُخطِر السائقون بأن ينتبهوا؛ فقد يكون هناك شخص متجمِّد وسطَ أكوام الثلوج.

وفي اليوم التالي، وصلت سيارة البريد وكانت تحمل خطابًا، ولم يكن الخطاب موجَّهًا لأي فردٍ من عائلة ليا، بل كان من أجل القس وزوجته. كان الخطاب مُرسَلًا من ليا تخبرهم فيه أنها قد تزوَّجَتْ، والعريس هو ابن القس الذي كان عازفًا لآلة الساكسفون في فرقة من فِرَق موسيقى الجاز. كان هو مَن أضاف كلمتَيْ «مفاجأة، مفاجأة» في أسفل الخطاب، أو هكذا قال البعض، بالرغم من أن إيزابيل تساءلَتْ كيف يمكن لأي شخص أن يعرف هذا، إلا إنْ كان العاملون في مكتب البريد لديهم عادةُ فتْحِ مظاريف الخطابات بالبخار.

لم يكن عازف الساكسفون يعيش في هذه البلدة عندما كان طفلًا؛ فقد كان والده يعمل قسًّا في مكان آخَر حينها، وكان هو لا يزور البلدة إلا نادرًا جدًّا، ومعظم الناس لم يكن يمكنهم حتى أن يصفوا لك شكله؛ فهو لم يكن يذهب إلى الكنيسة مطلقًا، وقد أحضَرَ معه امرأةً إلى المنزل منذ عامين، وكانت شديدةَ الأناقة والتبرُّج. وقيل إنها زوجته، لكنْ من الواضح أنها لم تكن كذلك.

كم مرة ذهبَتْ فيها الفتاة إلى بيت القس للقيام بأعمال الكي وكان لاعب الساكسفون موجودًا هناك حينها؟ حاوَلَ البعض استنباطَ ذلك. لم تكن سوى مرة واحدة فقط؛ كان هذا ما ترامى إلى مسامع راي في قسم الشرطة حيث يمكن أن تنتشر النميمة هناك تمامًا مثلما تنتشر بين السيدات.

رأت إيزابيل أنها قصة رائعة. ولم يكن ما حدَثَ نتيجةَ خطأ مَن هربا؛ فهما لم يستدعيا العاصفة الثلجية، على أية حال.

واتضح أنها هي نفسها كانت تعرف بعض المعلومات القليلة عن عازف الساكسفون؛ فقد رأته ذات مرة في مكتب البريد عندما تصادَفَ أنْ كان في إحدى زيارته لمنزله، وكانت هي وقتها في حالة صحية جيدة مكَّنَتْها من الخروج من المنزل. كانت قد أرسلت في طلب إحدى الأسطوانات الموسيقية لكنها لم تأتِ. سألها عن محتوى الأسطوانة وأجابته حينها، وهو شيء لا تستطيع تذكُّره الآن، وقد أخبرها آنذاك عن معرفته بنوع آخَر من الموسيقى. هناك شيء جعلها واثقةً من أنه ليس من أهل البلدة؛ الطريقة التي كان ينحني بها نحوها، ورائحة لبان جوسي فروت القوية التي كانت تفوح منه. لم يذكر لها شيئًا عن القس، لكنْ أخبرها أحدُهم عن صلته به، وذلك بعدما ودَّعَها وتمنَّى لها حظًّا سعيدًا.

كانت كلماته أقرب إلى المغازلة، أو تعبيرًا عن ثقته من أنها لن تصده. أو بعض الهراء كدعوته للاستماع إلى الأسطوانة حال وصولها. وتمنَّتْ أنْ يكون قصده من كل ذلك مجرد المزاح.

عمدت إلى إغاظة راي، وتساءلت إنْ كان وصفه للعالَم الخارجي كما تصوِّره الأفلام هو الذي جعل فكرةَ الهروب تخطر على بالها.

لم يفصح راي عن مدى الحزن الذي شعر به عندما فُقِدت الفتاة، وهو نفسه كان بالكاد يصدِّق مشاعرَه تلك؛ لكنه بالطبع شعر بالارتياح عندما علم بما حدث.

لكنها في كل الأحوال قد رحلت؛ رحلت على نحوٍ غير مألوف ولا يحمل في طيَّاته أيَّ أملٍ للرجوع على الإطلاق. والشيء السخيف هو أنه شعر بالإهانة؛ كما لو أنها كان بمقدورها أن تقدِّم على الأقل ولو تلميحًا إلى أن هناك جانبًا آخَر في حياتها.

وسرعان ما رحل أيضًا والداها وكل إخوتها، وبَدَا أن ليس هناك مَن كان يعرف إلى أين ذهبوا.

•••

لم يغادر القس ولا زوجته البلدة عندما بلغ سن التقاعد.

لقد استطاعا أن يحتفظا بنفس المنزل وما زال أهل البلدة يشيرون إليه ببيت القس، بالرغم من أنه لم يَعُدْ هكذا الآن. فقد اشتكت زوجة القس الجديد الشابة من بعض جوانب المنزل التي لم تَرُقْ لها، وبدلًا من أن يُصلح مسئولو الكنيسة المنزل، قرَّروا أن يشيدوا منزلًا جديدًا حتى لا يمكنها أن تشتكي مرةً أخرى. وبيعَ المنزل القديم إلى القس السابق بثمن منخفض، فخصص حجرة به لابنه الموسيقي وزوجته ليقيما بها حينما يأتيان للزيارة هما وأطفالهما.

كان قد أنجب طفلين، وقد ظهر اسمهما في الجريدة عندما وُلِدا. جاء الولد أولًا ثم البنت، وكانا يأتيان للزيارة بين الحين والآخر بصحبة ليا فقط؛ فالأب كان دائمًا مشغولًا برقصاته أو لأي أسباب أخرى. ولم يَلْتَقِ بهم راي أو إيزابيل خلال تلك المرات.

تحسَّنت حالة إيزابيل، بل كادت تكون طبيعية. وكانت تطهو وجبات شهية، حتى إنها هي وزوجها قد زاد وزنهما، وكان عليها أن تتوقف عن ذلك، أو على الأقل تطهو تلك الأطعمة الدسمة على نحوٍ أقل. كانت تلتقي بنساء أخريات في البلدة من أجل قراءة ومناقشة ما يُسمَّى بالكتب العظيمة، التي تُعَدُّ أهم كتب الأدب الغربي. لم يفهم بعضهن كيف سيتم هذا، وتركن المشاركة في ذلك، ولكن بعيدًا عنهن حقَّقَتْ تلك اللقاءات نجاحًا مدهشًا. وكانت إيزابيل تضحك بسبب الغضب التي سيعم السماء وهن يتناولن ملحمةَ دانتي المسكين.

ثم تعرضت لبعض حالات الإغماء أو ما يشبه الإغماء، لكنها لم تذهب للطبيب حتى غضب منها راي، فزعمت أن حدته هي السبب وراء مرضها. ثم اعتذرت له وتصالحا، بَيْدَ أن قلبها لم يرتضِ ذلك وقرَّرَا أن يتم إحضار ممرضة ممارسة لتمكث معها حينما لا يكون راي موجودًا بالمنزل. ولحسن الحظ، كان لديهما بعض النقود تحصَّلَا عليها — هي من إرثٍ لها، وهو نتيجة لزيادة بسيطة في راتبه — بالرغم من استمراره في العمل في وردية الليل فقط.

وفي صباح أحد أيام الصيف، وهو في طريقه إلى منزله، مر بمكتب البريد ليرى إنْ كان قد تم فَرْز البريد أم لا؛ ففي بعض الأحيان كانت ينتهي الفرز بحلول ذلك الوقت، وفي أحيان أخرى لم يكن يحدث هذا؛ وفي ذلك الصباح لم يحدث هذا.

والآن بينما كان يسير على الرصيف، رأى ليا وهي تتجه نحوه في نور الصباح المبكر الوضاء. كانت تدفع عربة أطفال تجلس بداخلها طفلة صغيرة يقارب عمرها العامين، وكانت تضرب بقدمَيْها مسندَ القدمين المعدني. وكان هناك طفل آخَر أكثر إدراكًا وكان يتشبث بتنورة أمه، أو بالأحرى بما كان بنطالًا طويلًا برتقاليًّا، ترتدي معه بلوزة بيضاء فضفاضة أشبه بالقميص التحتي. كان شعرها لامعًا بصورة أكبر عن ذي قبلُ، وبَدَتِ ابتسامتها التي لم يَرَها مطلقًا من قبلُ وكأنها تغمره بالسعادة.

ربما كانت واحدة من صديقات إيزابيل الجدد اللواتي كنَّ في معظم الأحيان يصغرنها أو وصلْنَ مؤخرًا إلى البلدة، بالرغم من أنه كان هناك القليل ممَّن كنَّ أكبر سنًّا منها، وكنَّ من السكان المتحفِّظين الذين اعتنقوا معتقدات تلك الحقبة الجديدة البرَّاقة؛ فطرحْنَ جانبًا وجهاتِ نظرهن السابقة، وتغيَّرت لغتهن ومالت إلى أن تكون سطحية وبها شيء من الفظاظة.

شعر بخيبة أمل عندما لم يعثر على أية مجلات جديدة في مكتب البريد، ولم يكن الأمر أن تلك المجلات كانت تعني الكثير بالنسبة إلى إيزابيل الآن؛ فقد كانت في السابق تهتم بالمجلات التي تتناول جميعها موضوعات جادة تحثُّ على التفكير ولكنها تحتوي أيضًا على رسوم كاريكاتورية بارعة كانت تثير ضحكها. وحتى إعلانات المجوهرات والفراء كانت تجعلها تضحك أيضًا، وكان يتمنى — ولا يزال — أن ترفع تلك الأشياء من معنوياتها، وها قد أصبح لديه الآن شيء ليخبرها به، أَلَا وهو ليا.

حيَّتْه ليا بصوت جديد وتظاهرت بالدهشة من أنه قد عرفها، حيث إنها — بحسب قولها — قد كبرت وقاربت أن تكون امرأة عجوزًا. قدَّمَتْ له الطفلة الصغيرة التي لم ترفع بصرها نحوه واستمرت تدق بقدمَيْها على مسند القدمين بصورة إيقاعية منتظمة، وقدَّمَتْ له الصبي الذي شاح بوجهه وراح يتمتم بكلمات غير مفهومة. راحت توبخ الصبي الصغير لأنه لم يكن يريد التوقُّف عن التشبث بملابسها.

«نحن على جانب الطريق الآن، يا صغيري العزيز.»

كان اسمه ديفيد، والصغيرة تُدعَى شيلي. لم يكن راي يتذكر هذين الاسمين من الجريدة، وكان يعتقد أنهما اسمان عصريان للغاية.

قالت إنهم كانوا يقيمون مع والدَيْ زوجها.

إنهم ليسوا في زيارةٍ لهما؛ بل هم مُقِيمون معهما. لم يفكر في ذلك إلا لاحقًا، وربما لم يكن يعني شيئًا.

«لقد كنا في طريقنا إلى مكتب البريد.»

أخبرها بأنه كان عائدًا من هناك لتوِّه، ولم يكونوا قد انتهوا من عملية الفرز بعدُ.

«أوه، هذا سيئ. اعتقدنا أنه يمكن أن يكون قد وصل خطاب من أبيهما، أليس كذلك يا ديفيد؟»

تعلَّقَ الصبي الصغير بملابسها مرة أخرى.

«سننتظر حتى ينتهوا من عملية الفرز؛ فربما يكون هناك خطاب منه.»

كان هناك شعور بأنها لا تريد أن تفارق راي بعدُ، ولم يكن هو يريد ذلك أيضًا، لكن كان من الصعب التفكير في شيء آخر ليفتح مجالًا للحوار.

قال: «إنني في طريقي إلى الصيدلية.»

«أوه، حقًّا؟»

«عليَّ شراء بعض الأشياء من هناك من أجل زوجتي.»

«أوه، أتمنى ألَّا تكون مريضة.»

شعر بعدها كما لو أنه قد أفشى سرًّا، وقال في اقتضاب: «لا، ليس شيئًا خطيرًا.»

نظرت خلف راي، وحيَّتْ شخصًا آخَر بنفس الصوت الذي تملؤه البهجة، والذي حيَّتْ به راي منذ لحظات.

لقد كان القس الجديد للكنيسة المتحدة، أو الذي تم تعيينه مؤخرًا نسبيًّا، والذي كانت زوجته قد طلبت منزلًا عصريًّا.

سألت الرجلين إن كانا يعرف كل منهما الآخر، وردا بالإيجاب، لكنهما تحدَّثا بنبرةٍ تبيِّن أن علاقتهما لم تكن وثيقة، وربما أظهَرَ ذلك بعض الاقتناع من جانبهما بأنه ينبغي أن يكون الأمر كذلك. لاحَظَ راي أن القس لم يكن يرتدي ياقته الإكليريكية.

قال القس؛ ربما ظنًّا منه بأنه عليه أن يكون أكثر مرحًا: «أنتما بالطبع لا تريدان أن تزجَّا بي في أي شيء يخالف القانون، أليس كذلك؟» وصافَحَ راي.

قالت ليا: «إنني محظوظة؛ فقد كنت أرغب في أن أطرح عليك بعض الأسئلة، وها أنت هنا.»

قال القس: «ماذا تريدين؟»

قالت ليا: «أنا أقصد إنني كنت أتساءل بشأن مدرسة الأحد؛ فلديَّ طفلان صغيران يشبان الآن وكنت أتساءل عن متى يمكنهما الالتحاق بها، وعن الإجراءات وكل شيء متعلق بذلك.»

قال القس: «أوه، فهمت.»

استطاع راي أن يلاحظ أن القس أحدُ أولئك الذين لا يفضِّلون القيام بمهامهم الكنسية على الملأ، ولا يرغبون أن يُطرَح عليهم مثل هذه الأمور في كل مرة يسيرون بها في الطريق. لكن القس أخفى عدم ارتياحه قدر استطاعته، ولا بد أن قد وجد بعض العزاء في التحدث إلى فتاةٍ مثل ليا.

قال: «علينا أن نناقش ذلك الأمر. فَلْنحدِّد موعدًا في أي وقت يناسبك.»

قال راي إنه يجب عليه أن يذهب الآن.

وقال لليا: «جميل أن أصادفكِ.» ثم أومأ برأسه إلى القس.

وذهب في طريقه وهو يحمل معلومتين جديدتين؛ فهي كانت ستمكث هنا لبعض الوقت، وقد اتضح ذلك من سعيها لإنهاء الترتيبات الخاصة بانضمام طفلَيْها لمدرسة الأحد، كما أنها كانت لا تزال متمسكةً بدينها الذي نشأت عليه.

تطلَّعَ لمقابلتها مرةً أخرى لكن ذلك لم يحدث.

عندما عاد إلى منزله أخبر إيزابيل عن كيف أن الفتاة قد تغيَّرَتْ، وقالت: «يبدو كل هذا مألوفًا على أية حال.»

بدت عصبية بعض الشيء، ربما لأنها كانت تنتظره كي يعدَّ لها قهوتها، والفتاة التي كانت تعاونها لم تصل حتى التاسعة، وكان محظورًا عليها — بعد تعرُّضها لحادث سقوط ماء ساخن عليها — أن تحاول إعداد القهوة بنفسها.

•••

حدث تدهور في صحتها، وانتابهما الفزع عدة مرات نتيجةً لذلك حتى حلول وقت عيد الميلاد، ثم حصل راي على إجازة من عمله، وهرعا إلى المدينة حيث يمكنهما إيجاد بعض الأطباء المتخصصين هناك. ودخلت إيزابيل المستشفى على الفور، واستطاع راي أن يحصل على إحدى الغرف المخصَّصة لاستخدام الأقارب ممَّن هم من خارج المدينة. وفجأةً، لم يصبح لديه أي مسئوليات سوى زيارةِ إيزابيل لساعات طويلة كلَّ يوم ومتابَعةِ كيفية استجابتها للعلاجات المختلفة. في البداية، حاوَلَ أن يصرف انتباهها عن مرضها من خلال أحاديثه المَرِحة عن الماضي، أو بإبداء ملاحظات عن المستشفى أو بعض المرضى الذين شاهدهم. كان يقوم بجولات سيرًا على الأقدام تقريبًا كلَّ يوم بالرغم من سوء الطقس، وكان يخبرها أيضًا بكل تلك الجولات. وكان يُحضِر الصحيفةَ معه ويقرأ الأخبار على مسامعها، وأخيرًا قالت: «هذا لطف منك يا عزيزي، لكن يبدو أنني قد تجاوزتُ كلَّ هذا.»

ردَّ قائلًا: «ماذا تجاوزتِ؟» لكنها قالت: «أوه، أرجوك.» وبعد ذلك وجد نفسه يقرأ بصمتٍ أحدَ كتب مكتبة المستشفى. قالت: «لا تقلق إنْ أغمضتُ عيني؛ فأنا أعلم أنك موجود هنا.»

كانت قد انتقلت منذ فترة وجيزة من وحدة الرعاية الوجيزة الخاصة بالحالات الحَرِجة، إلى حجرةٍ تضم أربع سيدات كنَّ بنحوٍ أو بآخَر في نفس حالتها، بالرغم من أن هناك واحدة منهن كانت تنهض بين الحين والآخَر وتصيح قائلةً لراي: «امنحنا قبلةً.»

ثم حدث أن جاء في اليوم التالي ووجد امرأةً أخرى في فراش إيزابيل. اعتقد للحظات أنها قد تُوفيت ولم يخبره أحد بذلك، لكن المريضة الثرثارة الممددة على الفراش المائل بنحو قطري قالت له: «إنها بالأعلى.» وذلك بشيء من البهجة أو الانتصار.

وكان هذا هو ما حدث؛ فلم تستطع إيزابيل أن تستيقظ في ذلك الصباح، ونُقِلت إلى طابق آخَر يبدو أنهم يحجبون فيه الأشخاص الذين ليس لديهم أي فرصة في التحسُّن — أو فرصتهم أقل ممَّن يُوضَعون في الحجرة السابقة — ولكنهم كانوا يرفضون الموت.

قالوا له: «من الأفضل أن تعود إلى منزلك.» وأخبروه أنهم سيخطرونه حالَ حدوث أي تغيير.

كان هذا منطقيًّا؛ فمن جهةٍ، هو قد استنفَدَ كلَّ وقته في مكانِ إقامةِ الأقارب، ومن جهةٍ أخرى، قد استنفَدَ أكثر من الوقت المسموح به بعيدًا عن قوات الشرطة في مافرلي. كل الدلائل كانت تشير إلى أن الشيء الصحيح الذي كان عليه فعله هو العودة إلى البلدة مرةً أخرى.

لكنه بدلًا من ذلك مكث في المدينة، وحصل على وظيفةٍ ضمنَ طاقم الصيانة بالمستشفى حيث كان يقوم بأعمال التنظيف، وإزالة الفضلات، وأعمال المسح. وقد عثر على شقة مفروشة، تحتوي على الأشياء الضرورية فقط، والتي لم تكن تبعد كثيرًا عن المستشفى.

عاد إلى منزله ولكن لفترة قصيرة فقط، وبمجرد أن وصل إلى هناك، شرع في إجراء بعض الترتيبات لبيع المنزل ومحتوياته، وعهد بذلك الأمر إلى أحد الوكلاء العقاريين، وكان يريد أن ينتهي من ذلك بأسرع ما يستطيع؛ فلم يكن يود أن يشرح أي شيء لأحد؛ فلم يعد يهتم بأي شيء حدث في هذا المكان، وبدا أن كل تلك السنوات التي أمضاها في البلدة، وكل ما يعرفه عنها، قد اختفى تمامًا من ذهنه.

لقد سمع شيئًا بينما كان هناك، فضيحةً قد تورَّطَ فيها قس الكنيسة المتحدة الذي كان يريد من زوجته أن تطلقه بسبب ارتكابه جريمة الزنا؛ فارتكابُ جريمة الزنا مع أحد رعايا الأبرشية لهو شيء سيئ بنحوٍ كافٍ، لكن القس، بدلًا من أن يتكتم الأمر ويختفي لتطهير ذاته مما اقترفه، أو للخدمة في أبرشيةٍ في منطقة نائية، اختار أن يتلقَّى العقابَ من منبر الوعظ. وكان لديه الكثير ليعترف به؛ قال إن كل شيء كان زائفًا، وأضاف أنه لم يكن يؤمن تمامًا بكل ما كان يرتله من الأناجيل أو من الوصايا العشر، وأن كل خطبه الواعظة عن الحب والجنس، وتوصياته التقليدية التي تحمل طابع الخجل والمراوغة كلها زيف. إنه رجل حرٌّ طليق الآن، حرٌّ كي يخبرهم بمدى الراحة التي يشعر بها المرء عندما يمجد حياة الروح وحياة الجسد معًا. وبدا أن المرأة التي فعلَتْ به هذا كانت ليا، وقد علم راي من البعض أن زوجها الموسيقي قد عاد ليصطحبها معه منذ فترة، لكنها لم تُرِد الذهاب معه. وألقى هو باللوم على القس، لكنه كان ثملًا ولم يَدْرِ مَن حوله هل يصدِّقونه فيما قال أم لا. لكنْ لا بد أن أمه قد صدَّقَتْه بالرغم من ذلك؛ لأنها طردت ليا واحتفظت بالطفلين.

وعلى حد اعتقاد راي، كان كل ذلك مجرد ثرثرة باعثة على الاشمئزاز. جرائم الزنا، وحالات السُّكر، والفضائح؛ لا أحدَ يعرف مَن المصيب، ومَن المخطئ. مَن الذي يمكن أن يهتم؟ لقد شبَّتْ هذه الفتاة كي تتجمَّل وتساوِم، مثلها مثل الباقين. إنه إهدارٌ للوقت، ومضيعةٌ للحياة من أشخاص يسعون فقط وراء الإثارة دون الانتباه لأي شيء آخَر قد يهم.

وبالطبع عندما كان بمقدوره التحدث إلى إيزابيل، كانت تغيِّر رؤيته للأشياء؛ فلم تكن إيزابيل تبحث عن إجابات، لكنها كانت بالأحرى تجعله يشعر كما لو أن هناك جوانب أخرى لم يضعها في الحسبان. وفي النهاية كانت تضحك.

كان يُحرِز تقدُّمًا جيدًا في عمله، وطلبوا منه أن ينضمَّ لفريق البولينج، لكنه شكرهم وأخبرهم أنه ليس لديه وقت كافٍ. لكنْ في الحقيقة كان لديه متسع من الوقت، لكنه أراد أن يمضيه مع إيزابيل، بانتظار حدوث أيِّ تغيُّرات في حالتها، أيِّ تفسيرٍ لما هي عليه؛ فلم يكن يرغب أن يفوته شيء.

اعتاد أن يُذكِّر الممرضات باسمها ويقول: «اسمها إيزابيل.» وذلك إذا ما نادَيْنَها قائلات: «والآن، سيدتي.» أو «حسنًا، أيها السيدة، لنذهب لأعلى.»

ثم اعتاد سماعهن وهن يتحدَّثْنَ إليها بتلك الطريقة. وهكذا طرأت بعض التغيرات، على أية حال، لكنها لم تكن تغيرات في حالة إيزابيل، بل إنها حدثت بداخله.

ولفترة طويلة، ظل يراها مرةً يوميًّا، ثم جعلها مرةً كلَّ يومين، ثم مرتين في الأسبوع.

•••

مرت أربع سنوات، اعتقد خلالها أنها تقترب من تحقيق رقم قياسي، وسأل المسئولين عن رعايتها إنْ كان الأمر كذلك، وأجابوه قائلين: «حسنًا، إنها على وشك ذلك.» تلك هي عادتهم دائمًا المتمثِّلة في عدم الوضوح فيما يتعلق بأي شيء.

يغلب على الفكرة التي كانت تسيطر عليه أنها تعي وتفكر، ولم يَعُدْ ينتظر أن تفتح عينَيْها؛ كل ما في الأمر أنه لم يكن يستطيع أن يمضي ويتركها بالمستشفى بمفردها.

لقد تغيَّرَتْ من امرأة نحيفة جدًّا، ليس إلى ما يشبه الطفلة بل إلى مجموعة من العظام غير المتجانسة القبيحة المنظر، التي يعلوها بعض الشعر الذي يشبه ريش الطائر، والتي كانت معرضة للموت في كل لحظة مع أنفاسها غير المنتظمة.

كانت هناك بعض الحجرات الكبيرة الملحقة بالمستشفى والمخصصة لإعادة التأهيل وممارسة التمرينات الرياضية، وكان يراها في العادة وهي خالية فقط؛ حيث كل الأجهزة موضوعة جانبًا والأضواء مغلقة. ولكنه ذات ليلة، بينما كان يغادر المستشفى، سلك طريقًا مختلفًا عبر المبنى لسببٍ ما ورأى إحدى الحجرات وقد تُرِكت الأضواء مضاءةً بها.

وعندما اتجه إليها ليتبيَّن الأمر، رأى أن ثمة شخصًا لا يزال بالداخل. كانت امرأة، كانت تجلس منفرجة الساقين على إحدى كرات التمرين المنفوخة؛ لقد كانت تستريح فوقها فقط، أو ربما تحاول أن تفكِّر أين كان يفترض بها أن تتجه فيما بعدُ.

كانت تلك المرأة هي ليا. لم يتعرف عليها في أول الأمر، لكنه نظر ثانيةً وتأكَّد أنها ليا. ربما لم يكن ليدلف إنْ كان عرف مَن هي من البداية، لكنه الآن كان في منتصف الطريق لأداء إحدى مهام عمله المتمثِّلة في إغلاق الأضواء. ورأته.

انزلقت من مكانها العالي. كانت ترتدي نوعًا من الملابس الرياضية المخصَّصة للتمرين، وقد اكتسبَتْ بعضَ الزيادة في الوزن.

قالت: «كنت أعتقد أني سألتقي بك مصادفةً يومًا ما. كيف حال إيزابيل؟»

انتابته بعض الدهشة عندما سمعها تنادي إيزابيل باسمها الأول مجردًا، أو عندما تحدَّثَتْ عنها كما لو أنها كانت تعرفها.

أخبرها بإيجازٍ عن حالة إيزابيل؛ فلم تكن ثمة وسيلة أخرى الآن سوى أن يشرح لها الأمر بإيجازٍ.

قالت: «هل تتحدث إليها؟»

«ليس بالكثير الآن.»

«أوه، بل عليك أن تفعل. يجب ألَّا تتوقَّف عن الحديث إليها.»

كيف لها أن تعتقد أنها أضحت تعرف الكثير عن كل شيء؟

قالت: «أنت لم تتفاجأ من رؤيتي هنا، ولا بد أنك سمعتَ بكل شيء، أليس كذلك؟»

لم يعرف كيف يجيبها على ذلك.

قال: «نعم.»

«لقد عرفت منذ فترة أنك موجود هنا، وعرفت كلَّ ما حدث لك؛ لذا أعتقد أنك تعلم بأمر تواجُدي هنا أيضًا.»

أجابها بأنه لم يكن يعلم.

قالت له: «إنني أساعد المرضى — أعني مرضى السرطان — على القيام ببعض التمرينات ليروِّحوا عن أنفسهم، وذلك إنْ كانت حالتهم تسمح بذلك.»

قال إنه يعتقد أنها فكرة جيدة.

«إنها رائعة، أعني بالنسبة إليَّ أيضًا. إنني أفضلُ الآن على نحوٍ كبير، لكن الأمور تتقافز إلى ذهني في بعض الأحيان؛ أعني خاصة وقت تناول العشاء، فهذا هو الوقت الذي يمكن أن تنتاب فيه المرء مشاعرُ غريبةٌ.»

لاحظَتْ أنه لم يفهم ما كانت تتحدَّث عنه، وكانت على استعدادٍ — وربما متلهِّفة — لأنْ تشرح له.

«أعني دون وجود الطفلين وكل شيء. أَلَمْ تعلم أن أباهما قد انتزعهما مني؟»

قال: «نعم.»

«أوه، حسنًا، لأنهم في واقع الأمر اعتقدوا أن أمه يمكن أن تعتني بهما. إنه في مصحة لعلاج مُدْمِني الكحوليات، لكنْ لم يكن الحكم ليكون كذلك لولا أمه.»

أخذت تتنشق وانهمرت الدموع من عينَيْها بغير اكتراثٍ تقريبًا.

«لا داعي للشعور بالحَرَج؛ فالأمر ليس سيئًا كما يبدو، فأنا أبكي بصورة تلقائية. إن البكاء ليس سيئًا بالنسبة إليك أيضًا ما دمتَ لا تفعله على نحوٍ منتظم بحيث يُعرَف عنك ذلك.»

إن الرجل الذي في المصحة كان هو عازف الساكسفون. لكن ماذا عن القس، وماذا كان يجري هناك؟

قالت كما لو كان قد سألها بصوتٍ عالٍ عن ذلك: «أوه، كارل. كان ما حدث بيننا وكل ما هو متعلِّق به غريبًا. لا بد وأني قد جُنِنت حينها.»

وأكملت حديثها قائلةً: «تزوَّجَ كارل ثانيةً، وهذا جعله في حالةٍ أفضل. أعني أن ذلك ساعَدَه على أن يتجاوز كل ما فعله معي. إنه لَشيء مثير للضحك. لقد ذهب وتزوَّجَ من قسيسة. لا بد أنك تعلم أنهم يسمحون الآن بأن تكون السيدات قسيسات، أليس كذلك؟ حسنًا، إنها واحدة منهن. إذن فهو في وضع يشبه وضع زوجة القس. أعتقد أن هذا أمر سخيف.»

جفت دموعها الآن وابتسمت. كان يعلم أن هناك أشياء كثيرة أخرى ستحدث، لكنه لم يستطع أن يخمِّن ما يمكن أن تكون.

«لا بد أنك متواجد هنا منذ فترة طويلة. هل لديك مكان خاص بك تقيم فيه؟»

«نعم.»

«هل تعدُّ العشاءَ بنفسك وتقوم بكل الأمور الأخرى المشابهة؟»

أجابها بأن هذا هو الحال.

«إنني أستطيع القيام بذلك بدلًا منك بين الحين والآخر. هل تبدو هذه فكرة جيدة؟»

لمعت عيناها وهي تحتضن عينيه.

قال إنها ربما تكون فكرة جيدة، لكن في الواقع ليس هناك في شقته سوى مساحة تكفي لأنْ يتحرَّك فيها شخص واحد فقط في المرة الواحدة.

ثم قال إنه لم يُلْقِ نظرةً على إيزابيل منذ يومين، وعليه أن يذهب ويقوم بذلك الآن.

أومأت برأسها قليلًا كمَن توافقه، ولم يَبْدُ عليها أنها استاءت أو أنه خذَلَها.

«أراكَ لاحقًا هنا.»

«أراكِ لاحقًا.»

•••

كانوا يبحثون عنه في كل مكان؛ فقد رحلت إيزابيل أخيرًا. لقد قالوا «رحلت» كما لو أنها نهضَتْ من فراشها وغادرت. عندما ذهب أحدهم ليُلقِي نظرةً على حالتها منذ ساعة، وجدها كما هي بنفس حالتها دائمًا، لكنها رحلت الآن.

وكان كثيرًا ما يتساءل ما الفرق الذي كان سيُحدِثه هذا.

لكن الفراغ الذي خلفته وراءها كان فظيعًا.

نظر إلى الممرضة في تعجُّب، فاعتقدت أنه كان يريد أن يسألها عمَّا كان عليه أن يفعله بعد ذلك، وبدأت هي بالفعل تشرح له، وراحت تعطيه بعض المعلومات. كان يَعِي ما تقوله جيدًا، لكن ذهنه كان مشتَّتًا.

كان يعتقد دائمًا أن ذلك قد حدث لإيزابيل منذ فترة طويلة، لكنه لم يحدث، حتى الآن.

لقد كانت موجودة، لكنها لم تَعُدْ هكذا الآن. إنها ليست موجودة على الإطلاق كما لو أنها لم تكن موجودة على الإطلاق من قبلُ. وراح الناس يهرولون من حوله كما لو أنه يمكن التغلُّب على تلك الحقيقة الفظيعة بإجراء بعض الترتيبات المنطقية. هو أيضًا قام بما هو متعارف عليه في مثل هذه الأحوال، ووقَّعَ أينما طُلِب منه وأخذ يرتِّب، كما أخبروه، لاستلام بقاياها.

يا لها من كلمة مذهلة! «بقاياها»! كما لو أنها تماثل شيئًا تُرِك ليجف ويتلف في رفِّ خزانة ملطَّخٍ بالسُّخام.

وسرعان ما وجد نفسه بالخارج متظاهرًا بأن لديه سببًا مقبولًا وعاديًّا كأيِّ شخصٍ آخَر كي يستمر في حياته.

وما كان يحمله معه الآن، كل ما كان يحمله معه، هو ضِيقٌ، شيء يقترب من ضِيقٍ في التنفُّس؛ أيْ إن رئتَيْه لم تكونا تقومان بمهامهما الطبيعية على النحو الأكمل، وهي مشكلةٌ افترَضَ أنها ستستمر معه إلى الأبد.

إن الفتاة التي كان يتحدث إليها، والتي كان على معرفةٍ بها من قبلُ، كانت تتحدث عن أطفالها؛ عن فقد أطفالها، وعن محاولة الاعتياد على ذلك. إنها تواجه مشكلةً في وقت العشاء.

يمكن أن يُطلَق عليها أنها خبيرة في الفقد، أما هو فيُعَدُّ مبتدِئًا الآن مقارَنةً بها، وهو الآن لم يكن باستطاعته تذكُّر اسمها؛ لقد ضاع اسمها من باله، بالرغم من أنه كان يعرفه جيدًا. الفقد، الضياع. لقد انقلبت المزحة عليه.

كان يصعد الدَّرَج المؤدي لمنزله عندما خطرت على باله.

ليا.

شعر بارتياحٍ لا مثيلَ له عندما تذكَّرَ اسمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤