كوري

قال السيد كارلتون: «إنه ليس بالشيء الجيد أن تتركز الأموال كلها في عائلة واحدة، كما هو الحال في مكان كهذا؛ أعني بالنسبة إلى فتاةٍ كابنتي كوري هنا. ما أقصده على سبيل المثال أنه ليس بالشيء الجيد لفتاةٍ مثلها؛ فما من أحدٍ في مستواها.»

كانت كوري تجلس قبالة المائدة وأخذت تنظر مباشَرةً في عيني الضيف، وكان يبدو لها الحوارُ باعثًا على الضحك.

وأردف والدها قائلًا: «مَن ذا الذي يمكن أن تتزوَّجه؟ لقد أصبحَتْ في الخامسة والعشرين من عمرها.»

رفعت كوري حاجبَيْها وتظاهرَتْ بأنها متجهِّمة.

ثم قالت: «لقد أسقطتَ عامًا، إنني في السادسة والعشرين.»

قال والدها: «استمري، اضحكي كما يحلو لكِ.»

ضحكت بصوتٍ عالٍ، وحقًّا، ماذا عساها أن تفعل غير ذلك؟ هذا ما حدَّثَ به الضيف نفسه، الذي كان اسمه هاورد ريتشي، وكان يكبرها بأعوام قليلة، لكنْ كانت له زوجة وعائلة صغيرة بالفعل، وهذا ما اكتشفه والدها لتوِّه.

تغيَّرَتْ تعبيراتُ وجهها بسرعةٍ شديدة. كانت أسنانها بيضاءَ لامعةً، وشعرها قصيرًا مجعدًا يميل لونه للسواد، وكانت وجنتاها عريضتَيْن على نحوٍ جذَّاب، ولم تكن ضعيفةَ البنية ولا ممتلئةً، وهو الشيء الذي يمكن لوالدها أن يقوله لاحقًا. كان هاواد ريتشي ينظر إليها على أنها من ذلك النوع من الفتيات اللاتي يمضينَ أوقاتًا طويلة في لعب الجولف والتنس، وبالرغم من لسانها اللاذع، فإنه توقَّعَ أن يكون لها عقلٌ تقليدي.

كان يعمل مهندسًا معماريًّا، وكان في بداية حياته العملية، وأصرَّ السيد كارلتون على أن يناديه بالمعماري الكنسي؛ وذلك لأنه كان يقوم في الوقت الحالي بترميم برج الكنيسة الأنجليكانية بالبلدة؛ وهو البرج الذي كان على شفا الانهيار حتى هبَّ السيد كارلتون لإنقاذه. ولم يكن السيد كارلتون أنجليكانيًّا، وقد أشار لهذا الأمر مراتٍ عدةً؛ فقد كان أحد رعايا الكنيسة الميثودية، وكان ميثوديًّا حتى النخاع، ولهذا السبب لم يكن يحتفظ في منزله بأي نوعٍ من الخمور، لكنْ لم يكن يجوز تَرْك كنيسةٍ عريقة كالكنيسة الأنجليكانية تتعرَّض للانهيار، ولا أملَ في انتظار الأنجليكانيين لكي يفعلوا شيئًا؛ فهم فئة فقيرة من البروتستانت الأيرلنديين الذين كان من الممكن أن يزيلوا البرج ويضعوا مكانه شيئًا يؤدِّي إلى تشويه منظر البلدة. إنهم كانوا بالقطع لا يمتلكون نقودًا كافيةً لإصلاح البرج، وما كان لهم أن يفهموا أن الأمر بحاجةٍ إلى مهندس معماري أكثر منه إلى نجارٍ؛ معماري كنسي.

كانت غرفة الطعام قبيحةَ الشكل، في رأي هاورد على الأقل. كانت هذه فترةَ منتصف خمسينيات القرن العشرين، لكنْ بدا كلُّ شيء وكأنه قبلَ مطلع القرن. كان الطعام مقبولًا إلى حدٍّ ما، ولم يتوقَّف الرجل الذي يجلس على رأس المائدة عن الحديث مطلقًا، وقد يُخَيَّل إليك أن الفتاة قد أصابها التعبُ من فرط حديثه، لكنْ كانت تبدو وكأنها على وشك الضحك معظم الوقت. وقبل أن تنتهي من تناول الحلوى، أشعلت سيجارة، وعرضَتْ على هاورد واحدة وهي تقول بصوت مسموع: «لا عليكَ من أبي.» وتناوَلَها لكنْ لم تَرُقْ له شخصيتها.

فقد رآها فتاةً ثرية مدلَّلة، ليست مهذَّبة.

وفجأةً سألَتْه عن رأيه في تومي دوجلاس، حاكِم مقاطعة ساسكاتشوان.

قال إن زوجته تؤيِّده، لكنها لم تكن تعتقد في الواقع أنه يَسَارِيٌّ راديكاليٌّ بالقدر الكافي، ولكنه لم يكن ليخوض في ذلك.

«إن أبي يحبه؛ فأبي شيوعي.»

نخر السيد كارلتون تعبيرًا على اعتراضه على ما تقول، لكنْ لم يمنعها هذا من الاستمرار.

فقالت لأبيها: «حسنًا، إنك تضحك على نكاته.»

وبعد ذلك بفترة قصيرة، اصطحبت هاورد للخارج ليُلقِي نظرةً على الأراضي المحيطة بالمنزل. كان المنزل يطلُّ مباشَرةً على الطريق ويقع قبالة المصنع الذي ينتج الأحذية العالية الرقبة وأحذية العمل الخاصة بالرجال؛ ومع ذلك كانت توجد خلف المنزل مساحةٌ شاسعة من المروج، وذلك النهر الذي يلتفُّ حول البلدة بنحوٍ جزئي، وكان هناك طريقٌ غير ممهَّد منحدر يصل لضفته. قادَتْ هي الطريق إلى النهر، وتمكَّنَ من رؤيةِ شيءٍ لم يكن واثقًا من وجوده من قبلُ؛ فقد كان لديها عرجٌ في إحدى رجلَيْها.

سألها قائلًا: «أَلَنْ يكون الصعود عبر هذا الطريق المنحدر صعبًا؟»

«أنا لستُ معاقةً.»

قال: «أرى أنَّ لديك قاربَ تجديفٍ.» معتبرًا هذا شبه اعتذار.

«سأصطحبك في نزهةٍ به ولكنْ ليس الآن، أما الآن فعلينا أن نشاهد منظرَ الغروب.» وأشارت إلى مقعد مطبخ قديم قالت إنه يُستخدَم من أجل مشاهدة الغروب، وطلبَتْ منه أن يجلس هناك، أما هي فقد جلسَتْ على الحشائش. وكان على وشك أن يسألها إنْ كان بمقدورها أن تنهض بمفردها، لكنه رأى أنْ ليس من الصواب أن يفعل ذلك.

قالت: «إنني أعاني من شلل الأطفال، وهذا كلُّ ما في الأمر. وكانت أمي تعاني منه أيضًا وقد ماتَتْ.»

«يا له من أمر مؤسف!»

«أعتقد أنه كذلك، لكني لا أستطيع تذكُّرَها. إنني ذاهبةٌ إلى مصر الأسبوع المقبل. لقد كنتُ متلهِّفة جدًّا للذهاب إلى هناك، لكني لم أَعُدْ أهتمُّ بهذا كثيرًا الآن. هل تعتقد أنها ستكون رحلةً ممتعةً؟»

«أنا لا أريد أن أخسر عملي.»

دُهِش مما قاله، وبالطبع جعلها ذلك تنفجر في الضحك.

قالت بغرورٍ بعد أن انتهَتْ من الضحك: «إنني أتحدَّث بوجهٍ عام.»

«وأنا أيضًا.»

قد يتهافت عليها أحدُ صائدي الفُرَص ويُوقِعها في شباكه؛ ربما يكون أحدَ المصريين أو غيرهم. كانت تتسم بالجرأة والسلوك الطفولي في نفس الوقت؛ إنها قد تأسر أيَّ رجلٍ في البداية، لكن فيما بعدُ ستصبح صراحتُها ورضاها عن نفسها، إنْ صحَّ ذلك، مصدرَ إزعاجٍ له. لكن بالطبع هناك أموالها، وبالنسبة إلى بعض الرجال لن تكون حينها أيٌّ من هذه الأشياء مصدرَ إزعاجٍ لهم على الإطلاق.

قالت: «يجب ألَّا تذكر أيَّ شيءٍ يتعلَّق برجلي أمام أبي وإلا فسيغضب غضبًا شديدًا؛ فلقد فصل ذات مرةٍ ليس فقط طفلًا تعمَّدَ إغاظتي، بل عائلته بأسرها؛ أعني حتى أقاربه.»

•••

أرسلَتْ من مصر عدة بطاقات بريدية غريبة على عنوان شركته، وليس منزله. وهذا طبيعي بالقطع؛ فكيف كان لها أن تعرف عنوان منزله؟

ولم تحمل هذه الكروت صورًا لهرمٍ واحد من الأهرامات، أو حتى صورة لأبي الهول.

لكنْ كان أحدها يحمل بدلًا من ذلك صورة لصخرة جبل طارق وبجوارها تعليقٌ يشير إلى أنها صورة لهرم منهار، وكان هناك آخَر يحتوي على منظرٍ لحقول ممتدة يغلب عليها اللونُ البني الداكن، والربُّ وحده يعلم أين مكانها، وكُتِب عليها: «بحر الظلمات.» كانت توجد رسالة أخرى مكتوبة بخط صغير تقول: «العدسة المكبرة متوافرة، أرسِلِ النقود.» ولحسن الحظ لم يلحظ أيًّا من تلك البطاقات أحدٌ في المكتب.

لم يكن ينوي أن يردَّ على تلك الرسالة، بَيْدَ أنه فعل وقال: «العدسة المكبرة مَعِيبة، نرجو ردَّ النقود.»

قاد سيارته إلى بلدتها من أجل القيام بعمليةِ فحْصٍ غير ضرورية لبرج الكنيسة، وهو يعلم أنها قد عادت من بلد الأهرامات، لكنه لم يَدْرِ إنْ كانت في منزلها أم خرجَتْ في نزهة قصيرة.

لقد كانت في المنزل، وستمكث به لبعض الوقت؛ فقد أُصِيب والدها بسكتة دماغية.

لكنْ لم يكن هناك الكثير من الأشياء لتفعلها في حقيقة الأمر؛ فهناك ممرضة تأتي إلى المنزل يومًا بعد يوم، وكان ثمة فتاةٌ تُدعَى ليليان وولف مسئولةٌ عن إيقاد النار التي دائمًا ما كانت تُشعَل عندما يصل هاورد، وبالطبع كانت لها مهامُّ منزلية أخرى. أما كوري نفسها فلم يكن باستطاعتها إشعال النيران بصورة صحيحة، أو إعداد وجبة من الوجبات، وهي لا تستطيع كذلك النَّسْخَ على الآلة الكاتبة، أو قيادة السيارة، حتى مع وجود حذاءٍ خاصٍّ لمعاونتها في ذلك. عندما وصل هاورد تولَّى أمورَ المنزل؛ فقد اعتنى بمسألة إيقاد النيران وتحمَّلَ مسئوليةَ العديد من الأشياء الأخرى في المنزل، حتى إنهم اصطحبوه لرؤية والد كوري، إنْ كانت حالةُ الرجل تسمح بذلك.

لم يكن يدري كيف كان سيتعامل مع رِجْلها العرجاء في الفراش، لكنها كانت بنحوٍ ما تبدو أكثر جاذبيةً وتفرُّدًا عن باقي جسمها.

أخبرته بأنها ليست عذراء؛ لكنِ اتَّضَحَ أن ذلك بمنزلة نصف حقيقةٍ معقَّدة، نتيجةً لتحرُّش مدرس البيانو بها جنسيًّا حينما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. لقد كانت تتجاوب مع ما كان يريده مدرس البيانو هذا؛ لأنها كانت تتعاطف مع الأشخاص الذين كانوا في حاجةٍ ماسة لأشياء معينة.

قالت: «لا تعتبر ذلك بمنزلة إهانة.» موضِّحةً أنها لم تَعُدْ تتعاطف مع الناس على هذا النحو.

قال: «آمل ألَّا يحدث ذلك.»

ثم كانت لديه أشياء ليخبرها بها عن نفسه؛ فحقيقةُ أنه عرَضَ استخدامَ واقٍ ذكري لم تكن تعني أنه اعتاد غواية النساء. ففي واقع الأمر، لم تكن هي سوى ثاني امرأة يضاجعها، والأولى كانت زوجته؛ فلقد نشأ في منزلٍ شديدِ التديُّن وكان لا يزال يؤمن، إلى حدٍّ ما، بالرب. وقد احتفظ بذلك كأحد الأسرار التي لم يخبر بها زوجته، التي كانت ستتندر على ذلك، لكونها يسارية راديكالية.

قالت كوري إنها كانت سعيدةً لأنَّ ما كانا يفعلانه — أو ما فعلاه معًا لتوِّهما — لا يبدو مصدرَ إزعاجٍ له بالرغم من معتقداته الدينية، وقالت إنها هي ذاتها لم يكن لديها قطُّ أيُّ وقتٍ لعبادة الرب؛ لأن والدها كان كافيًا للانشغال عن مثل ذلك الأمر.

لم يكن الأمر صعبًا بالنسبة إليهما؛ فوظيفةُ هاورد كانت تتطلَّب منه السفر في فترة النهار من أجل إجراء عملياتِ فحصٍ للمباني أو لرؤيةِ أحد العملاء، ولم تكن المسافة من كتشنر تستغرق وقتًا طويلًا بالسيارة، وقد أصبحَتْ كوري بمفردها في المنزل الآن؛ فلقد تُوفِّي والدها، أما الفتاة التي كانت تعمل لديها فقد ذهبَتْ للبحث عن وظيفةٍ في المدينة، واستحسنَتْ كوري تلك الفكرة، بل إنها منحَتْها نقودًا من أجل دروس الكتابة على الآلة الكاتبة، وذلك حتى تعمل على تحسين مستواها.

قالت: «إنكِ أكثر مهارةً من مجرد الخدمة في المنازل، وَلْتخبريني كيف ستمضي الأمور معكِ.»

وسواء أنفقَتْ ليليان وولف النقودَ على دروس الكتابة على الآلة الكاتبة أم على شيء آخَر، فهذا أمر لا يعلمه أحد، لكنها استمرت في الخدمة في المنازل، وقد انكشَفَ ذلك الأمر في إحدى المناسبات التي دُعِي فيها هاورد وزوجته لتناول العشاء، بصحبة آخَرين، في منزل أحد الأشخاص المهمين الذين وصلوا مؤخرًا إلى كتشنر، وكانت ليليان تقف عند المائدة، والتقَتْ وجهًا لوجهٍ مع الرجل الذي رأَتْه في منزل كوري؛ الرجلِ الذي طالما رأَتْه يطوِّق كوري بذراعَيْه عندما كانت تدلف لرفع الأطباق أو توزيع النيران. وكشف الحوار الدائر أن الزوجة التي كانت تجلس على المائدة كانت زوجته أيضًا وقتذاك كما هو حالها الآن.

•••

قال هاورد إنه لم يخبر كوري بشأن حفل العشاء في حينه لأنه كان يأمل ألَّا يحمل هذا الأمرُ الكثيرَ من الأهمية، ولم يكن المضيفُ والمضيفةُ من الأصدقاء المقرَّبين له أو لزوجته. بالقطع لم يكونا كذلك بالنسبة إلى زوجته التي سخرت منهما فيما بعدُ من منطلق سياسي. لقد كانت إحدى مناسبات العمل الاجتماعي، ومن المرجَّح أن المنزل لم يكن من ذلك النوع الذي تثرثر فيه الخادماتُ مع ربة المنزل.

في واقع الأمر، لم يكن من ذلك النوع، وقالت ليليان إنها لم تثرثر بشأن ذلك الأمر على الإطلاق. قالت هذا في خطابٍ، ولم تكن سيدتها هي مَن كانت تنوي أن تتحدَّث إليها عن هذا الأمر، إنْ كان يجب عليها ذلك، بل إنها زوجته هي مَن تود إخبارها. تُرَى هل كانت ستهتم زوجتُه بالحصول على تلك المعلومة؟ كان ذلك هو الأسلوب الذي صاغَتْ به الخطاب. لقد أرسلَتِ الخطابَ على عنوان مكتبه الذي تمكَّنَتْ بذكاءٍ من العثور عليه، ولكنها عرفت أيضًا عنوان منزله؛ لقد كانت تتلصَّص عليه. لقد ذكرَتْ له ذلك في الخطاب، كما أشارَتْ إلى معطف زوجته الفضي اللون المصنوع من فراء الثعلب، وكان هذا المعطف يسبِّب ضيقًا لزوجته، وكانت عادةً ما تشعر بأنها مضطرة لأن تخبر الناس بأنها ورثته ولم تشتَرِه. وكانت هذه هي الحقيقة بالفعل؛ ومع ذلك كانت تحب ارتداءَه في مناسباتٍ معينة، كحفل العشاء هذا، وذلك لكي تكون مساويةً للآخَرين، كما بَدَا، حتى لو كانوا أناسًا لا حاجةَ لها بهم.

وكانت ليليان قد كتبَتْ في الخطاب: «أكره أن أكسر قلبَ تلك المرأة اللطيفة ذات الياقة الفضية اللون المصنوعة من فراء الثعلب.»

•••

قالت كوري، عندما شعر أنه كان يجب عليه أن ينقل لها تلك الأخبار: «كيف لليليان أن تعلم بأمر الياقة الفضية التي من فراء الثعلب؟ إنها لا تفقه شيئًا، هل أنت واثقٌ أنَّ هذا هو ما قالَتْه؟»

«تمام الثقة.»

كان قد أحرق الخطاب على الفور، فقد شعر أنه قد تأذَّى منه.

قالت كوري: «لا بد أنها علمَتْ بأمر الكثير من الأشياء حين كانت هنا. دائمًا ما كنتُ أعتقد أنها ماكرةٌ. أعتقد أن قتْلَها ليس أحدَ الخيارات المطروحة، أليس كذلك؟»

لم يرسم حتى ابتسامة على شفتَيْه؛ لذا قالت بجديةٍ شديدة: «إنني أمزح فقط.»

كان ذلك في شهر أبريل، ولكن الطقس كان لا يزال باردًا بدرجةٍ تجعلك ترغب في إيقاد النيران للتدفئة. عزمَتْ على أن تطلب منه ذلك طوال فترة العشاء، لكنَّ سلوكه الغريب المتسم بالكآبة جعلها تُحجِم عن ذلك.

أخبرها أن زوجته لم تكن تريد أن تذهب إلى ذلك العشاء، قال: «إنه مجرد حظٍّ عاثرٍ.»

قالت: «كان عليك أن تأخذ بنصيحتها.»

قال: «إنه أسوأ شيء، أسوأ شيء يمكن أن يحدث.»

كان كلاهما يحدِّق في الشبكة الحديدية السوداء للمدفأة، ولم يمسَسْها سوى مرة واحدة فقط، وذلك عندما حياها.

قالت كوري: «لا، ليس الأمر كذلك. لا.»

«لا؟»

قالت: «لا، بمقدورنا أن نمنحها النقود. إنه ليس بمبلغ كبير في حقيقة الأمر.»

«أنا لا أمتلك …»

«ليس أنت، بل أنا الذي بمقدوري ذلك.»

«أوه، لا.»

«نعم.»

أخذت تتكلَّم برفق، لكنها كانت تتجمَّد من شدة البرد. ماذا لو رفض؟ لا، لا يمكن أن أسمح لك بذلك. لا، إنها علامة؛ علامة على أننا ينبغي أن نتوقَّف عمَّا نفعله. كانت واثقةً من أن هناك شيئًا يدل على هذا في صوته، قسمات وجهه. كل ما يتعلق بتلك الخطيئة القديمة، هذا الشر.

قالت: «إن تلك النقود لا تعني لي شيئًا، وحتى إنِ استطعتَ أن تُدَبِّرها بسهولةٍ، فإنك لن تستطيع أن تدفعها لها؛ إنك ستشعر حينها بأنك تنتزع شيئًا من حقِّ عائلتك؛ فكيف سيكون بمقدورك أن تفعل ذلك؟»

العائلة! ما كان ينبغي لها أن تقول ذلك مطلقًا، ما كان يجب عليها أن تتفوَّه بتلك الكلمة على الإطلاق.

لكن في الواقع تهلَّلَتْ أساريره، وقال: لا، لا، لكنْ كان يشوب صوتَه بعضُ الشك. ثم أدركَتْ أن كل شيء سيكون على ما يرام، وبعد فترة قصيرة استطاع التحدُّثَ بطريقة عملية، وقد تذكَّرَ شيئًا آخَر من الخطاب؛ فقال إنه يجب أن يُدفَع لها نقدًا وليس بشيكاتٍ حيث إنها لا تستخدمها.

كان يتحدَّث دون أن يرفع بصره وكأنه يعقد إحدى صفقات العمل. كان الدفع نقدًا شيئًا جيدًا بالنسبة إلى كوري أيضًا؛ فهو لم يكن ليورِّطها في شيء.

قالت: «حسنًا، إنه ليس بمبلغ ضخم على أية حال.»

لكنه حذَّرَها قائلًا: «لكنْ يجب ألَّا تدرك أننا نرى الأمر على هذا النحو.»

كانت النقود ستُرسَل على صندوق بريدي باسم ليليان، وتُوضَع النقود في مظروفٍ موجَّه لها، وتُرسَل لها النقود مرتين في العام، والتواريخ كانت متروكة لها. وينبغي ألَّا يكون هناك تأخيرٌ في إرسال النقود حتى ليوم واحد، وإلا فإنها ستبدأ في القلق، على حد قولها.

لم يلمس كوري إلا حينما حيَّاها بتحية وداعٍ تنمُّ عن الامتنان وتكاد تكون شبه رسمية، وكان لسان حاله يقول: إن هذا الموضوع ينبغي أن يكون بعيدًا كلَّ البُعْد عمَّا بيننا. سنبدأ من جديد، وسنشعر ثانيةً بأننا لا نجرح أحدًا ولا نقترف إثمًا. هذا ما أفصحت عنه لغته الصامتة، أما ما أفصحت عنه لغتها، فقالت فيما يشبه المزاح الذي لم يفلح في تخطِّي الأمر.

«لقد ساهمنا بالفعل في تعليم ليليان؛ فهي لم تكن على هذا القدر من الذكاء من قبلُ.»

«نحن لا نريدها أن تصبح أكثر ذكاءً، وتطلب المزيدَ من النقود.»

«سنفكِّر حينَها فيما يجب فعله. على أية حال يمكننا حينئذٍ أن نهدِّد بإبلاغ الشرطة، بل بمقدورنا فعل ذلك من الآن.»

قال: «لكن هذا معناه نهاية علاقتنا أنا وأنت.» وكان بالفعل قد حيَّاها بتحيةِ الوداع وأدار رأسه مبتعدًا، وكانا حينها يقفان في الشرفة الخارجية.

قال: «وأنا لا أستطيع تحمُّل نهاية علاقتنا أنا وأنت.»

قالت كوري: «إنني سعيدة لسماع ذلك.»

•••

مر الوقت سريعًا حتى إنهما لم يعودا يتحدثان عن هذا الأمر. كانت تعطيه النقودَ بالفعل في مظروفٍ حتى يُرسِله لليليان. في البداية، كان ينخر تعبيرًا عن اشمئزازه من الأمر، لكن هذا الصوت تحوَّلَ فيما بعدُ إلى تنهُّدٍ ينمُّ عن الإذعان، كما لو أن أحدهم قد ذكَّرَه بأن عليه أداء مهمةٍ روتينيةٍ ما.

«كم يمر الوقت سريعًا!»

«حقًّا، أليس كذلك؟»

ربما قد قالت كوري: «مال ليليان الحرام.» وبالرغم من أنه لم ينتبه إلى هذا التعبير في البداية، فإنه قد اعتاد هو الآخر أن يستخدمه فيما بعدُ. وكانت تسأله في البداية إنْ كان قد رأى ليليان ثانيةً، أو إنْ كانت هناك حفلات عشاء أخرى.

فكان يذكِّرها قائلًا: «إنهما ليسا من أصدقائنا المقرَّبين.» ويضيف أنه بالكاد يلتقي بهما ولا يدري حتى إنْ كانت ليليان لا تزال تعمل لديهما أم لا.

ولم تكن كوري تراها هي الأخرى، وكان أهلها يعيشون في الريف، وإنْ حدث أنْ أتَتْ ليليان لزيارتهم، فإنه من غير المرجَّح أن يأتوا للتسوُّق في هذه البلدة، التي كانت تتدهور الأحوال فيها على نحوٍ سريع؛ فقد أضحى الشارعُ الرئيسي خاليًا من المتاجر إلا من متجرٍ صغير يشتري منه الناسُ تذاكرَ اليانصيب أو البقالة التي يحتاجونها، ومتجرٍ آخَر للأثاث تعرض واجهتُه نفسَ المناضد والأرائك منذ فترة طويلة، ويبدو أنه لا يفتح أبوابَه مطلقًا، ومن المحتمل ألَّا يحدث هذا، وظلَّ هكذا حتى مات مالكه في فلوريدا.

بعد وفاة والد كوري، تولَّى إدارة مصنع الأحذية إحدى الشركات الكبيرة التي وعدت — أو هكذا اعتقدَتْ كوري — بأن تستمر في تشغيله في نفس النشاط. ولكن خلال عام واحد أضحى المبنى خاويًا، ونُقِلت الآلات إلى بلدة أخرى، ولم يتبقَّ فيه سوى بعض الآلات التي عفى عليها الزمن والتي كانت تُستخدَم من قبلُ في صناعة كلٍّ من الأحذية العادية والأحذية العالية الرقبة. وتبادَرَتْ إلى ذهن كوري فكرةُ أن تُقِيم متحفًا صغيرًا طريفًا لعرض مثل هذه الأشياء، وشرعت هي ذاتها في ترتيب الأمر، وكانت ستقوم بدور المرشدة التي ستشرح كيف كانت تُصنَّع الأحذية باستخدام تلك الآلات. كان المدهش في الأمر معرفة كيف أنها أصبحت على هذا القدر الكبير من المعرفة، لكن الذي ساعَدَها في ذلك بعض الصور الفوتوغرافية التي كان والدها قد التقَطَها كي تكون وسائلَ توضيحيةً في محاضرةٍ ربما يكون قد ألقاها هو بنفسه — وكانت مكتوبةً على الآلة الكاتبة بنحوٍ سيئ — على الملتحقات بمعهد السيدات، حينما كنَّ يدرسْنَ الصناعات المحلية وقتَها. وبالفعل، بحلول نهاية فصل الصيف استطاعت كوري جلْبَ بعض الزائرين إلى المكان، وكانت على ثقةٍ من أن الأمور ستكون أفضلَ في العام التالي، وخاصةً بعد أن وضعَتْ لافتةً دعائية عن المكان على الطريق السريع، ووضعَتْ إعلانًا عنه في أحد الكتيبات الدعائية السياحية.

تطلَّعَتْ من النافذة صباحَ يوم في بداية فصل الربيع، فرأَتْ مجموعةً من الغرباء يشرعون في هدم المبنى، واتضح فيما بعدُ أن العقد الذي أبرمَتْه مع الشركة واعتقدَتْ أنه يمكِّنها من استخدام المبنى ما دامَتْ تسدِّد مبلغًا من المال كإيجارٍ؛ لا يسمح لها بعرض أي أشياء موجودة داخل المبنى أو الاستيلاء عليها، مهما بَدَتْ تلك الأشياء عديمةَ القيمة. وليس ثمة شكٌّ في أن تلك الآلات كانت تئول إليها، بل إنه في واقع الأمر من حُسْن حظها أنه لم يتم استدعاؤها للمحكمة بعد أن علمت الشركة — التي كانت متعاوِنةً جدًّا في وقتٍ من الأوقات — ما كانت مُقدِمةً عليه.

ولولا اصطحاب هاورد عائلتَه إلى أوروبا الصيف الماضي، عندما بدأَتْ هذا المشروع، لَكان قد استطاع الاطلاع على العقد ووفَّرَ عليها الكثيرَ من المتاعب.

قالت عندما هدأت: لا بأسَ ممَّا حدث. وسرعان ما عثرَتْ على مصدرِ اهتمامٍ جديد.

وقد بدأ الأمر عندما قرَّرَتْ أنها قد سئمت من ذلك المنزل الكبير الخاوي، فأرادت أن تتركه، وعزمت على أن تكون وجهتها المكتبة العامة التي تقع في الطريق الرئيسي.

كان مبنى المكتبة جميلَ الشكل، يسهل إدارته، وكان مشيدًا من الطوب الأحمر، ولكون المكتبة واحدة من مكتبات كارنيجي، فلم يكن من السهل التخلُّص منها بالرغم من أنه لا يَفِدُ إليها سوى عددٍ قليلٍ من الناس، لم يكن كافيًا لسداد أتعاب أمين المكتبة.

كانت كوري تذهب إلى هناك مرتين في الأسبوع، وتفتح الأبواب وتجلس أمام مكتب أمين المكتبة. وكانت تزيل الغبار كلما دعت الحاجة لذلك، وتهاتف الأشخاصَ الذين أظهرَتِ السجلاتُ أنهم قد استعاروا بعضَ الكتب منذ سنواتٍ ولم يُعِيدوها للمكتبة. وفي بعض الأحيان كان الأشخاص الذين يُجِيبون عليها يزعمون أنهم لم يسمعوا مطلقًا عن هذه الكتب؛ مدَّعِين أنه لا بد أنه قد استعارتها إحدى العمات أو الجدات في عائلاتهم التي اعتادت القراءة، والتي ماتت الآن. ثم كانت تتحدَّث فيما بعدُ عن ملكية المكتبة للكتب، وكان الكتاب يظهر في بعض الأحيان بالفعل في سلة المرتجعات.

أما الشيء المزعج الوحيد الذي كان يتعلَّق بالجلوس في المكتبة فهو الضوضاء المحيطة، وكان مصدرها هو جيمي كازنس، الذي كان يجزُّ الحشائشَ حول مبنى المكتبة، وكان يقوم بما يقوم به عدة مرات إذ ليس ثمة شيءٌ آخَر لديه ليفعله؛ لذا استأجرَتْه ليقلِّم لها الحديقةَ في منزلها؛ وهو الشيء الذي كانت تفعله بنفسها كنوع من التمرينات البدنية، لكن بنيتها لم تكن تحتاج إليه في واقع الأمر، كما أنها كانت بطيئةً جدًّا في القيام به بسبب إعاقتها.

كان هاورد منزعجًا إلى حدٍّ ما من التغيير الذي حدث في حياتها. صحيح أنه كان نادرًا ما يأتي في الوقت الحالي، لكنه كان بمقدوره المكوث لفترةٍ أطول في كل مرة. يعيش الآن في تورونتو، بالرغم من أنه يعمل في نفس الشركة. كان من أولاده مَن هم في مرحلة المراهقة أو المرحلة الجامعية، وكانت الفتيات يبلين بلاء حسنًا في دراستهن على عكس الصِّبْية بخلاف ما كان يأمل، لكنْ كان هذا هو الحال مع الصِّبْية دائمًا. كانت زوجته تعمل بدوام كامل، بل أحيانًا ما يزيد عن دوام كامل وذلك لدى أحد الساسة المحليين، وكان راتبها ضئيلًا للغاية، بَيْدَ أنها كانت سعيدة، بل أكثر سعادةً ممَّا رآها من قبلُ.

وفي الربيع الماضي كان قد اصطحبها إلى إسبانيا، وكانت الرحلة بمنزلة مفاجأة بمناسبة عيد ميلادها. وظلت كوري لا تعرف عنه شيئًا لفترةٍ في ذلك الحين؛ فليس من اللائق أن يكتب لها أثناء العطلة التي يقضيها مع زوجته في عيد ميلادها. ما كان له أن يفعل شيئًا كهذا مطلقًا، وهي ما كان ليروق لها أن يفعل ذلك أيضًا.

قالت كوري بعدما عاد من رحلته: «من خلال طريقة زيارتك لي، يُخَيَّل إليَّ أنك ترى منزلي على أنه أحد المزارات.» وردَّ قائلًا: «هذا صحيح تمامًا.» لقد أصبح الآن عاشِقًا لكل شيء في الحجرات الفسيحة، بأسقفها المزخرفة، وجدرانها الداخلية المكسوَّة بالألواح الخشبية الداكنة الكئيبة. كان هناك شيء عبثي كبير يغلِّفها، لكنه استطاع أن يستشفَّ أن الأمر مختلفٌ بالنسبة إليها، وأنها بحاجةٍ إلى مغادرة المنزل في نزهةٍ للخارج بين الحين والآخَر. وبدآ في الذهاب في رحلات قصيرة، ثم رحلات أطول بعض الشيء حيث كانا يمكثان لليلةٍ واحدةٍ في أحد الفنادق الصغيرة الموجودة على الطرق العامة — ولم يتعدَّ الأمرُ أكثرَ من ليلة واحدة على الإطلاق — وكانا يتناولان الطعامَ في أحد المطاعم التي تميل للفخامة.

لم يصادفا مطلقًا أحدًا يعرفانه، وكانا متأكدين تمامًا أن هذا كان سيحدث في إحدى المرات. أما الآن فقد اختلفَتِ الأمور، بالرغم من أنهما كانا لا يعرفان سبب ذلك؛ هل لأنهما لن يواجِهَا أيَّ خطرٍ في حالةِ إنْ حدث هذا بالفعل؟ فالحقيقة أن الناس الذين كان من المحتمل أن يلتقيا بهم، ولم يحدث هذا مطلقًا، لن يشكوا في أنهما ذلك الثنائي الآثم الذي هما عليه الآن؛ إذ يمكنه أن يقدِّمها على أنها ابنة عمٍّ له دون أن يخلف أيَّ انطباعٍ؛ فهي مجرد قريبة عرجاء فكَّرَ أن يمر لزيارتها. وقد كان لديه بالفعل بعض الأقارب الذين لم ترغب زوجته في أن تزعج نفسَها بمعرفتهم على الإطلاق. ومَن ذا الذي سيلاحِق امرأةً في منتصف العمر ذات قدمٍ عرجاء؟ لن يحتفظ أحدهم بتلك المعلومة الخطيرة كي يفصح عنها في لحظة حاسمة.

لقد التقينا بهاورد عند شاطئ بروس مع أخته، ألن يكون الأمر هكذا؟ كان يبدو على ما يرام. ربما ابنة عمه هي التي كانت في صحبته. هل هي عرجاء؟

لا يبدو أن الأمر يستحق كل هذا العناء.

وبالطبع كانا لا يزالان يتضاجعان، وفي بعض الأحيان كانا يفعلان ذلك بحذر، متجنِّبَيْن ما قد يؤثِّر على الكتفين أو الركبتين. كانا تقليديَّيْن في ذلك الأمر، وظلَّا هكذا وهما يهنِّئان أنفسهما بأنهما لم يكونا في حاجةٍ إلى أي عوامل خارجية مثيرة؛ فقد كان هذا من أجل المتزوجين فقط.

وفي بعض الأحيان كانت الدموع تملأ عينَيْ كوري، التي كانت تدفن وجهَها بين ذراعَيْه.

كانت تقول: «إننا محظوظان بشدة.»

ولم تسأله على الإطلاق إنْ كان سعيدًا أم لا، لكنه أشار بطريقةٍ غير مباشِرة إلى أنه كان كذلك بالفعل، وقال إنه قد أصبح لديه أفكار أكثر تحفُّظًا، أو ربما أقل تفاؤلًا، فيما يخص مجال عمله. (وقد احتفظَتْ لنفسها برأيها الذي يقول إنه كان دومًا يميل لأن يكون محافظًا.) كان يتلقَّى دروس البيانو، ممَّا أثارَ دهشةَ زوجته وعائلته؛ إنه لشيءٌ جيد أن يكون للمرء نوعٌ من الاهتمامات الخاصة به، أثناء ارتباطه بعلاقة زواج.

قالت كوري: «أنا واثقة من هذا.»

«لم أكن أعني …»

«أعلم هذا.»

•••

وفي أحد الأيام، وكان في شهر سبتمبر، دلف جيمي كازنس إلى المكتبة ليخبرها بأنه لن يتمكَّن من تقليم الحشائش في حديقة منزلها اليومَ لأنه يجب عليه الذهاب إلى الجبانة كي يحفر أحدَ القبور، وقال إنه من أجل أحد الأشخاص الذين كانوا يعيشون هنا.

سألَتْه، وهي تضع إصبعها بين صفحات رواية «جاتسبي العظيم»، عن اسم الشخص المتوفَّى، وقالت إنه لَشيءٌ مثير أن يظهر بعضُ الأشخاص هنا، أو جثامينهم، ويطلبون ذلك المطلبَ الأخير من أقربائهم، الذي قد يكون مصدرَ إزعاجٍ لهم؛ فربما يكونون قد أمضوا حياتهم بأسرها في مدن قريبة أو بعيدة، وبَدَا أنهم كانوا يشعرون بالرضا عن حياتهم في تلك الأماكن، لكنْ لم تكن لديهم رغبةٌ في البقاء بها بعد وفاتهم. إن كبار السن هم مَن لديهم تلك الأفكار دومًا.

قال جيمي إن المتوفاة ليسَت امرأة عجوزًا، واسمها هو وولف، لكن اسمها الأول سقط من ذاكرته.

«ليليان؟ ليليان وولف؟»

كان يعتقد أنه كذلك.

واتضح أن اسمها كان موجودًا في النسخة التي تصل للمكتبة من الجريدة المحلية، التي لم تكن تقرؤها كوري على الإطلاق. لقد تُوفِّيت ليليان في كتشنر عن عمرٍ يناهز السادسة والأربعين، ومن المفترض أن تقام مراسم دفنها في كنيسة أصفياء الرب، وستبدأ المراسم في الساعة الثانية.

هذا جيد.

كان هذا أحد يومَي الأسبوع الذي من المفترض أن تفتح المكتبةُ أبوابَها خلالهما؛ ولذا، لم يكن باستطاعة كوري الذهاب.

كانت كنيسة أصفياء الرب من الكنائس الجديدة في البلدة، ولم تكن تزدهر أيُّ معتقداتٍ أخرى في تلك البلدة فيما عدا تلك التي كان يُطلِق عليها والدها «ديانات غريبة». كان بمقدورها رؤية مبنى الكنيسة من إحدى نوافذ المكتبة.

وقفت أمام النافذة قبل الساعة الثانية تتابِع عددًا لا بأس به من الأشخاص وهم يدلفون إلى الكنيسة.

ولم يكن ارتداء القبعات شيئًا ضروريًّا في تلك الأيام في الجنائز، سواء بالنسبة إلى الرجال أم النساء.

كيف لها أن تخبره بهذا؟ ينبغي أن ترسل خطابًا له على مكتبه. كان بمقدورها أن تهاتفه، لكن حينها سيتَّسِم ردُّه بالحذر والتحفُّظ الشديدَيْن، ممَّا كان سيضيع نصفَ السعادة التي كان سيشعر بها لتخلُّصِهما من تهديد ليليان.

استأنفَتْ قراءةَ الرواية، لكنها كانت تقرأ الكلمات فحسب دون تركيز. لقد كانت تشعر بالارتباك. أغلقت المكتبة وراحت تتجوَّل عبر البلدة.

كان الناس يقولون دومًا إن هذا البلدة كانت تبدو وكأنها في مراسم جنازةٍ ما، لكن حينما كان يكون بها جنازة بالفعل، تجدها وقد بدَتْ في أوج حيويتها. لقد تذكَّرَتْ ذلك عندما رأَتْ، على بُعْد بناية، الأشخاصَ الذين حضروا الجنازة وهم يخرجون من أبواب الكنيسة، ويتجاذبون أطرافَ الحديث للتسرية عن أنفسهم وللحد من هيبة الموقف. ويا لدهشتها حين رأت بعد ذلك العديدَ منهم يسيرون حول الكنيسة متَّجِهِين نحو بابٍ جانبيٍّ بها حيث يعاوِدون دخولَها مرةً أخرى.

كانت قد نسيت ذلك بالطبع. بعد انتهاء مراسم الجنازة، ووَضْع التابوت المغلَق في مكانه على عربة نقل الموتى، اتجه الجميع لتناوُل المرطبات المقدَّمة بعد القداس، فيما عدا أولئك المقرَّبين من المتوفاة الذين تبعوها حتى وارَوْها الثرى. وكانت تلك المرطبات تنتظر مَن يتناولها في جزءٍ آخَر من الكنيسة حيث توجد حجرةٌ خاصة بمدرسة الأحد ومطبخ عامر.

لم تَرَ أيَّ سببٍ يمنعها من الانضمام إليهم.

لكنْ في آخِر لحظة كانت ستقرِّر أن تسير مبتعِدةً عنهم.

لكنْ كان الأوان قد فات؛ فقد نادتها امرأةٌ بصوتٍ فيه تحدٍّ — أو على الأقل خالٍ بنحوٍ كبير من أي نبرة حزن — وذلك من خلال الباب الذي يدخل منه الآخَرون.

قالت لها تلك المرأة، مقترِبةً منها: «لقد افتقدناكِ في القداس.»

لم يكن لدى كوري أي فكرةٍ عمَّن تكون هذه المرأة. قالت إنها آسِفة لأنها لم تتمكَّن من حضور القداس، لكن كان عليها أن تُبقِي المكتبةَ مفتوحةً.

قالت المرأة: «نعم، بالطبع.» لكنها في نفس الوقت كانت قد استدارت بالفعل لتتحدَّث مع امرأة أخرى تحمل في يدها قطعة من الكعك.

«هل توجد مساحة في الثلاجة من أجل تلك القطعة؟»

«لا أدري، يا عزيزتي. عليكِ أن تذهبي وتَرَي بنفسك.»

خُيِّلَ إلى كوري من خلال الرداء المزيَّن بالزهور الذي كانت ترتديه تلك المرأةُ التي حيَّتْها؛ أنَّ كل النساء بالداخل كنَّ يرتدين فساتين مماثلةً؛ أفضل الملابس التي يرتديها المرءُ يومَ الأحد، فضلًا عن أفضل ملابس للحداد. لكن ربما تكون أفكارُها عن ملابس يوم الأحد قد أضحَتْ أفكارًا باليةً؛ فبعض النساء هنا كنَّ يرتدين بناطيل عادية، مثلها تمامًا.

أحضرَتِ امرأةٌ أخرى قطعةً من كعكة التوابل في طبق من البلاستيك.

قالت: «لا بد أنكِ جائعة؛ فالجميع هنا كذلك.»

قالت امرأة كانت مصفِّفةَ شعرِ كوري: «لقد أخبرتُ الجميعَ أنكِ ربما ستأتين إلى هنا، وقلتُ لهم إنك لن تتمكَّني من ذلك قبل موعد غلق المكتبة. وقلتُ أيضًا إنه لَشيءٌ سيئٌ أن يفوتك القداس. لقد قلتُ ذلك.»

قالت امرأةٌ أخرى: «لقد كان قداسًا رائعًا. من المؤكد أنكِ سترغبين في قدح من الشاي بمجرد انتهائك من تناوُل تلك القطعة.»

وهكذا سارت الأمور على هذا المنوال؛ لم تستطع أن تتذكَّر اسمَ واحدةٍ منهن. لم يكن يوجد إلا الكنيسة المتحدة والكنيسة المشيخية، وقد أُغلِقت الكنيسةُ الأنجليكانية منذ زمنٍ بعيد. أهي المكان الذي كان يذهب إليه الجميع؟

لم تكن هناك سوى امرأة واحدة فقط تحظى بنفس القدر من الاهتمام الذي حظيت به كوري في الغرفة، وكانت ترتدي تمامًا ما تتوقَّع كوري أن ترتديه أيُّ امرأةٍ تذهب لحضور جنازة؛ كان رداءً جميلًا يمزج بين اللونين الرمادي والبنفسجي الفاتح، وكانت ترتدي فوق رأسها قبعةً صيفيةً من اللون الرمادي الهادئ.

دعت النساءُ تلك المرأةَ لمقابلة كوري، كان عنقها محاطًا بقلادة رقيقة من اللؤلؤ الخالص.

قالت في صوت ناعم حاولَتْ أن تجعله سعيدًا بأقصى ما تسمح به المناسبة: «أوه، نعم. لا بد أنكِ كوري. كوري التي سمعتُ عنها كثيرًا. وبالرغم من أننا لم نلتَقِ من قبلُ، فإنني أشعر أني أعرفك. لكنْ لا بد أنكِ تتساءلين مَن أكون.» ثم ذكرَت اسمَها الذي لم يَعْنِ شيئًا لكوري، ثم هزت رأسها وأطلقت ضحكةً صغيرةً تنمُّ عن الآسِف.

ثم قالت: «كانت ليليان تعمل لدينا منذ أن قدِمَتْ إلى كتشنر. وكان الأطفال متيَّمِين بها، ثم الأحفاد؛ فقد كانوا يهيمون بها في واقع الأمر. أوه يا إلهي، في يوم عطلتها كنتُ أنا أكثر البدائل غير المرضية لليليان، لقد كنا جميعًا نحبها في واقع الأمر.»

قالت ذلك بأسلوبٍ فيه ارتباكٌ لكنه لم يكن يخلو من ابتهاج. إن مثل هذا النوع من السيدات قد يُظهِر بعضًا من الاستخفاف بالنفس ولكنْ على نحوٍ جذاب. لقد نظرت إلى كوري على أنها الشخص الوحيد في الحجرة الذي يمكن أن يتحدَّثَ لغتَها ولا يأخذ كلامها على علاته.

قالت كوري: «لم أكن أعلم أنها كانت مريضة.»

قالت المرأة التي كانت تحمل إبريق الشاي، والتي عرضَتِ المزيدَ منه على السيدة التي ترتدي قلادة اللؤلؤ لكنها رفضت: «لقد ماتت بسرعة.»

قالت السيدة التي تحمل قدح الشاي: «إنَّ مَن في مثل عمرها تتدهور حالتُهم بصورة أسرع ممَّن هم أكبر عمرًا.» ثم سألت في صوتٍ يشوبه بعضُ الحسد بسبب تلك اللآلئ: «كمْ مكثت في المستشفى؟»

«إنني أحاول أن أتذكر، هل كان عشرة أيام؟»

«ما ترامى إلى مسامعي أنه كان وقتًا أقصر من هذا، بل أقصر من هذا عندما أخطروا ذويها في بلدها.»

قالت المرأة التي كانت تعمل لديها ليليان، بهدوء وثبات: «لقد كانت تحتفظ بالأمر لنفسها، إنها لم تكن من ذلك النوع من الأشخاص الذين يُحدِثون جلبةً.»

قالت كوري: «لا، لم تكن كذلك.»

وفي تلك اللحظة انضمَّتْ إليهن سيدةٌ شابة بدينة تعلو وجهَها ابتسامةٌ، وقدَّمَتْ نفسها على أنها القسيسة.

سألتهن: «هل تتحدَّثْنَ عن ليليان؟» ثم هزت رأسها في تعجُّب، وقالت: «إن ليليان كانت مباركة؛ لقد كانت من الشخصيات التي يندر وجودها.»

وافَقَها الجميع الرأْيَ، بما فيهن كوري.

•••

كتبت كوري لهاورد في ذلك الخطاب الطويل الذي أخذت تعدُّه في ذهنها وهي في طريقها لمنزلها: «أشكُّ في القسيسة ميلادي.»

وفيما بعدُ في مساء ذلك اليوم جلسَتْ وشرعَتْ في كتابة الخطاب، بالرغم من أنها لن تتمكَّن بعدُ من إرساله؛ فقد كان هاورد يمضي أسبوعين في كوخه في مسكوكا بصحبة عائلته. لكنْ كان الجميع هناك يشعرون ببعض الاستياء، وذلك وفقًا لما وصفه قبل ذلك — فزوجتُه كانت تجلس دون ممارسةٍ للسياسة، وهو دون عزفٍ على البيانو خاصته — لكنهم لم يريدوا التخَلِّي عن عادة الذهاب لهذا الكوخ في هذا الوقت من العام.

كتبَتْ تقول له: «من السخف الاعتقاد بأن مال ليليان الحرام يمكن أن يُبنَى به كنيسة، لكني أراهن على أنها شيَّدَتْ برج الكنيسة. إنه برج ذو مظهرٍ مضحك على أية حال؛ لم أفكِّر مطلقًا فيما تنمُّ عنه تلك الأبراج المقلوبة التي تشبه مخروط الآيس كريم. إن غياب الإيمان موجود هناك، أليس كذلك؟ إنها لا تدري ذلك، لكنها تعلن عنه.»

مزَّقَتِ الخطاب، وبدأت من جديدٍ بنبرة أكثر ابتهاجًا.

«ولَّتْ أيامُ الابتزاز، وقد عاد كلُّ شيء كما كان من قبلُ.»

وأضافَتْ أنها لم تدرك مطلقًا من قبلُ كَمْ كان هذا الأمر يثقل كاهلها، لكنها أصبحَتْ ترى ذلك بوضوح الآن. إن الأمر لم يكن يكمن في النقود؛ فكما كان يعرف هو جيدًا، لم تكن تهتم هي كثيرًا بشأن النقود، وعلى أية حال، لقد أضحى المبلغ ضئيلًا وقلَّتْ قيمته بمرور السنوات، بالرغم من أنه يبدو أن ليليان لم تلحظ ذلك قطُّ. إنه ذلك الشعور بعدم الراحة، الشعور بعدم الأمان المطلق، الثقل الذي كان يرزح تحته حبُّهما الطويل، هو ما جعلها تشعر دومًا بالتعاسة. لقد كان ينتابها هذا الشعورُ في كل مرة ترسل فيه نقودًا لليليان.

تساءلت في نفسها إنْ كان من الممكن أن يسمع بتلك الأخبار قبل أن يصل إليه الخطاب. لا، ليس هذا ممكنًا؛ إنه لم يصل لمرحلة الاطِّلاع على صفحة الوفيات بعدُ.

كان شهرا أغسطس وفبراير من كلِّ عامٍ هما الشهرين اللذين تضع خلالهما كوري تلك النقود الخاصة في مظروفٍ ويدسُّها هو في جيبه، وربما كان يُعِيد عدَّ تلك العملات الورقية فيما بعد ثم يكتب اسم ليليان على المظروف قبل أن يضعه في صندوقها البريدي.

والسؤال هو: هل نظر في الصندوق ليرى إنْ كانت قد أخذَتِ النقودَ المرسَلة لها في الصيف؟ لقد كانت ليليان على قَيْد الحياة عندما حوَّلَتْ لها كوري النقودَ، لكنْ لم يكن باستطاعتها بالتأكيد التوجُّه إلى الصندوق البريدي. بالقطع لم يكن باستطاعتها ذلك.

آخِر مرة رأت كوري فيها هوارد كانت قبل مغادرته إلى الكوخ بوقت قصير، وقد أعطَتْه خلالَها مظروفَ النقود. حاولَتْ أن تعرف متى حدث ذلك على وجه التحديد، وهل كان لديه وقتٌ ليُلقِي نظرةً ثانية على الصندوق بعدَ وَضْعِ مظروف النقود، أم أنه توجَّهَ مباشَرةً إلى الكوخ. في بعض الأحيان وأثناء وجوده في الكوخ في وقتٍ سابقٍ، كان يجد الوقت ليكتب خطابًا لكوري، لكنه لم يفعل ذلك هذه المرة.

•••

أوت إلى فراشها ولم تكن قد انتهَتْ بعدُ من خطابها الذي كانت سترسله إليه.

واستيقظَتْ مبكرًا عندما كانت السماء مضيئةً، ولم تكن الشمس قد أشرقَتْ بعدُ.

هناك دائمًا صباحٌ لأحد الأيام تدرك فيه أن الطيور جميعها قد اختفت.

لقد أدركَتْ شيئًا، ولقد أيقنَتْه في منامها.

ليس ثمة أخبارٌ تقصُّها عليه. ليس هناك أخبار؛ لأنه لم تكن هناك أخبار مطلقًا من قبلُ.

ليس هناك أخبار بشأن ليليان؛ لأن ليليان غير مهمة ولم تكن ذات أهمية مطلقًا. ولا يوجد صندوقٌ بريديٌّ؛ لأن النقود كانت تذهب مباشَرةً لأحد الحسابات أو ربما تستقر في حافظةِ نقودٍ؛ وذلك من أجل المصروفات العامة، أو لتكن مجموعة مدخرات متواضعة، أو لتُنفَق في رحلةٍ لإسبانيا. مَن ذا الذي يهتم؟ إن الأشخاص الذين لديهم عائلات، ولديهم أكواخٌ يمضون فصلَ الصيف بها، وأطفالٌ بحاجةٍ إلى التعليم، وفواتير ليسددوها، لا يتساءلون كيف ينفقون ذلك القدر من النقود؛ إنه حتى لا يُطلَق عليه كسبٌ غير متوقَّع. وهم ليسوا بحاجةٍ إلى تحديدِ تفسيرٍ له.

نهضت من فراشها وارتدت ملابسها على عجل، وسارت عبر كل حجرة من حجرات المنزل وكأنما تُعلِّم الجدران والأثاث بتلك الفكرة الجديدة. كانت تشعر وكأنَّ هناك فجوةً في كل مكان، وبالأحرى في صدرها هي. صنعَتْ قدحًا من القهوة لكنها لم تتناوله، ثم انتهى بها المطاف إلى حجرةِ نوْمِها مرةً أخرى، واكتشفَتْ أن عرض هذا الواقع الجديد ينبغي أن يتكرَّر ثانيةً.

•••

كان أقصر خطاب بعثَتْ به.

«لقد ماتت ليليان، ودُفِنت بالأمس.»

لا يهم إنْ كانت قد أرسلَتْه إلى مكتبه أو بعثَتْه بالبريد السريع.

أغلقَتِ الهاتف، حتى لا تعاني من الانتظار. إنه صمت مطبق.

لكن سرعان ما وصل خطابٌ كان مقتضبًا مثل خطابها.

«كل شيء على ما يرام الآن، ابتهجي. أراكِ عما قريب.»

إذن ذلك هو الحد الذي سيتركان الأمر عنده؛ فالوقت قد فات لفعل شيء آخَر؛ فقد كان من الممكن أن يحدث ما هو أسوأ من ذلك، أسوأ من ذلك بكثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤