مكانٌ نظيفٌ حسَن الإضاءة

كان الوقت متأخِّرًا، وقد غادر الجميع الحانة ما عدا رجلًا عجوزًا جلس في ظل شجرةٍ تعكس أضواء الكهرباء. كان الطريق متربًا أثناء النهار، أما في الليل فقد أزال الندى الغبار، وأحب العجوز أن يبقى حتى هذا الوقت المتأخر؛ لأن الهدوء كان يعمُّ كل شيء. وكان النادلان داخل الحانة يدركان أن العجوز قد ثمل إلى حدٍّ ما. ورغم أنه كان زبونًا طيِّبًا فقد كانا يعلمان أنه إذا ثمل تمامًا فسوف يخرج دون أن يدفع الحساب؛ لذلك فقد ظلَّا يراقبانه …

قال أحدهما للآخر: لقد حاول الانتحار في الأسبوع الماضي.

– لماذا؟

– كان يائسًا!

– من لا شيء!

– كيف عرفتَ أنه لا شيء؟

– لأنه يملك مالًا كثيرًا.

وجلسا معًا إلى مائدةٍ مجاوِرة بالقرب من باب الحانة. ونظرَا إلى الصالة حيث الموائد خالية عدا تلك التي يجلس إليها العجوز في ظل أوراق الشجرة التي تميل ببطءٍ مع النسيم …

ودقَّ العجوز بكوبه على الطبق، وذهب إليه النادل الشاب: ماذا تريد؟

ونظر إليه العجوز وقال: مزيدًا من البراندي!

وقال النادل الشاب: أخشى عليك أن تثمل.

فنظر إليه العجوز نظرة استنكار، فدار النادل على عقبيه ليحمل إليه ما يريد. وفي طريق عودته قال لزميله المسنِّ: إنه سيبقى طول الليل وأنا أشعر بالنعاس … إنني لا أذهب لفراشي قبل الثالثة صباحًا … كان يحسُن به أن يقتل نفسه في الأسبوع الماضي.

وتناول النادل زجاجةً من البراندي وبطاقة حسابٍ أخرى من مائدة الصراف في داخل الحانة، وخرج بهما إلى مائدة العجوز، ووضع البطاقة ثم ملأ الكوب بالبراندي، وقال للعجوز الأصم: كان يحسن بك أن تقتل نفسك في الأسبوع الماضي.

وأشار الرجل العجوز بأصبعه وقال: مزيدًا!

فأفرغ النادل مزيدًا من البراندي حتى سال من القدح وسقط على بطاقات الحساب.

قال العجوز: شكرًا.

وأعاد النادل الشاب الزجاجة إلى داخل الحانة وجلس مرةً أخرى إلى المائدة مع زميله المسن وقال له: إنه الآن قد ثمل.

فأجابه: إنه ثَملٌ كل ليلة.

– لماذا حاول أن يقتل نفسه؟

– من أين لي أن أعلم.

– وكيف فعل ذلك؟

– حاول أن يشنق نفسه بحبْل.

– ومن أنقذه؟

– ابنة أخيه.

– ولماذا أنقذوه؟

– خوفًا على حياته.

– كم يملك من المال؟

– الكثير.

– لا بد أنه قد قارَب الثمانين من عمره.

– أعتقدُ أنه في الثمانين.

– إنِّي أتمنى لو عاد إلى بيته الآن. إني لا أذهب إلى فراشي قبل الثالثة صباحًا كل يوم، ويا لها من ساعةٍ يأوي فيها الإنسان لفراشه!

– إنه يبقى هنا لأنه يحب ذلك.

– إنه وحيدٌ، أما أنا فلي زوجة تنتظرني.

– وهو أيضًا كانت له زوجةٌ يومًا ما.

– إن الزوجة ليست بذات فائدةٍ له الآن.

– مَن أدراك، قد يكون أفضلَ حالًا لو كانت معه زوجةٌ.

– إن ابنة أخيه تُعنَى بحاله.

– أعرف ذلك. لقد قلت لك إنها هي التي أنقذَته.

– أنا لا أتمنى أن أكون في مِثل سنِّه، إن الكِبَر في السن شيءٌ مزعج.

– ليس دائمًا، فهذا العجوز رجلٌ نظيفٌ ويشرب دون أن يريق النبيذ حتى وهو ثمل، انظر إليه!

– لا أريد أن أنظر إليه. كم أتمنى أن يعود إلى منزله!

– إنه لا يُلقي بالًا للذين يعملون.

ونظر العجوز من فوق قدحه عبر الصالة المستديرة، ثم إلى النادلين، ونادى مشيرًا إلى قدحه: مزيدًا من البراندي!

وذهب إليه النادل الشاب المتلهِّف على العودة وقال له: خلاص! لا مزيد الليلة … سنغلق!

وقال العجوز: كوبًا آخر!

– كلَّا … خلاص!

ومسح النادل طرف المائدة بمنشفةٍ وهو يهزُّ رأسه، فنهض العجوز ببطءٍ وعدَّ بطاقات الحساب التي أمامه، ثم أخرج حافظة نقودٍ جلديةً من جيبه ودفع ثمن المشروبات، تاركًا نصف «بيزيتة» كبقشيش. ونظر إليه النادل وهو يسير في الطريق … رجلٌ بالغ الهرم يسير مترنحًا وإن يكن بوقار.

وسأل النادل المسن زميله وهما يغلقان مصاريع النوافذ: لماذا لم تدعْه يبقى ويشرب … إنها لم تكد تبلغ الثانية والنصف؟

– أريد أن آوي إلى فراشي.

– وماذا في ساعةٍ أخرى؟

– إنها أهم عندي عنها لديه.

– إن ساعة زمنٍ هي ساعة زمن!

– إنك تتحدث كرجلٍ عجوزٍ أنت الآخر … إن باستطاعته أن يشتري زجاجةً يشربها في منزله.

– إن ذلك مختلفٌ.

– نعم إن ذلك مختلف .. معك حقٌّ.

– وأنت؟ ألا تخشى أن تعود لبيتك قبل ساعتك المعتادة؟

– أتحاول إهانتي؟

– كلا أيها الرجل، إنما أنا أمزح فقط.

وقال النادل المتعجِّل وهو ينهض بعد أن فرغ من إغلاق المصاريع المعدنية: «كلا، إنِّي واثقٌ من نفسي، إن كلِّي ثقة!»

قال النادل العجوز: إن لديك الشباب، والثقة، والعمل، أنت تملك كل شيء.

– وماذا ينقصك أنت؟

– كل شيء إلا العمل.

– إن لديك كل ما لديَّ.

– كلا. لم أثق في شيءٍ قط … ثم إنني لست شابًّا.

– هيا، فلنكُفَّ عن هذا الهراء ولنغلق المحل.

فقال النادل العجوز: أنا من الذين يحبون البقاء في الحانة حتى وقتٍ متأخر، مع أولئك الذين لا يرغبون في العودة إلى الفراش، مع أولئك الذين يحتاجون للنور في الليل.

– أما أنا فأريد العودة إلى منزلي وفراشي.

– إننا على طرفَي نقيض … إنها ليست مسألة شبابٍ وثِقة فقط، مع أن هذه الأشياء جميلة. إني أُبطئ في الإغلاق كل ليلة، فربما كان هناك أحد في حاجة إلى القهوة.

– يا رجل، هناك حاناتٌ كثيرة تظل مفتوحةً طوال الليل.

– إنك لا تفهمني! هذه حانةٌ نظيفة تشرح الصدر، إنها حسنة الإضاءة، والضوء شيءٌ جميل!

قال النادل الشاب: سعِدتَ مساءً.

وبعد أن أطفأ النور، واصل النادل الآخر الحديث مع نفسه: «إن النور هو المهم طبعًا، ولكن يلزم أيضًا أن يكون المكان نظيفًا بهيجًا، الموسيقى غير ضرورية، لا حاجة للموسيقى بكل تأكيد، كما أن المرء لا يستطيع الشراب في إحدى الحانات مع الاحتفاظ بوقاره، رغم أن تلك الأماكن هي التي تبقى مفتوحةً في مثل هذه الساعات … ممَّ يخاف؟ لم يكن خوفًا أو خشية، بل هي لا شيئية يعرفها تمام المعرفة … إن الأمر كله لا شيء، والإنسان أيضًا لا شيء، إن الأمر كله كذلك، ولا يحتاج إلا إلى النور وبعض النظافة والترتيب. إن بعض الناس يعيشون في اللاشيء دون أن يشعروا أبدًا بحقيقته … أما هو فإنه كان يعلم أنه لا شيء ثم لا شيء، ولا شيء ثم لا شيء. لا شيئًا الذي في اللاشيء، لا شيء اسمك، لا شيء ملكوتك، لتكن مشيئتك لا شيء في لا شيء، كما هي في اللاشيء، أعطنا هذا اللاشيء، لا شيئَنا اليومي … ولا تشيئنا في اللاشيء، بل نجِّنا من اللاشيء من أجل لا شيء! … سلامًا أيها اللاشيء المليء باللاشيء … لا شيء معك.»

وابتسم الرجل، ووقف أمام إحدى الحانات في الطريق، حيث كانت ثمة آلة لصنع القهوة تعمل بضغط البخار. وسأله البارمان: ماذا تطلب؟

وأجابه: لا شيء!

فقال البارمان: مجنونٌ آخر!

فقال النادل المسن: كأسًا صغيرًا …

وصبَّ له البارمان كأسًا، وقال النادل: النور ساطعٌ جدًّا، ولكن البار غير مصقول!

فنظر إليه البارمان دون أن يُجيبه …

كان الوقت متأخرًا لتبادل مثل هذا الحديث …

وسأله البارمان: أتريد شيئًا آخر؟

فقال النادل: كلا، شكرًا! ثم خرج.

كان يكره البارات والحانات، غير أن حانةً نظيفةً حسنة الإضاءة .. شيءٌ مختلف تمامًا. والآن، بدون مزيدٍ من التفكير سيعود إلى حجرته الموحشة، ويرقد على الفراش، ويستغرق في النوم أخيرًا مع تباشير صباحٍ جديد.

وقال لنفسه: على كل حال، قد تكون هذه إحدى حالات الأرق التي تُصيب الكثيرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤