ثلوج كليمنجارو

كليمنجارو جبلٌ تُغطِّيه الثلوج، ارتفاعه ١٩٧١ قدمًا، ويُقال إنه أعلى جبلٍ في أفريقيا. وقمَّتُه الغربية تُسمَّى «ماسي نجاج نجاج»، بيت الله. وإلى جوار القمة الغربية ثمة جثة فهدٍ جافة متجمدة. ولم يفسِّر أحد ما كان الفهد ينشد في تلك الأعالي.

•••

قال: الشيء المدهش أن الجرحَ غير مؤلمٍ. وبذلك يعرف المرء متى يبدأ العفن.

– أحقًّا؟

– بالتأكيد. ورغم ذلك فإني آسفٌ للغاية على الرائحة. إنها لا بد تضايقكِ.

– لا تقل هذا أرجوك. أرجوك.

قال: انظري إلى هذه الطيور. أهو المنظر أو الرائحة ما يجعلها تأتي على هذا النحو؟

كانت المحفَّة التي يرقد عليها الرجل تقع في الظل العريض الذي تُلقيه شجرة «ميموزا»، وإذ كان يتطلع عبر الظل إلى وهج السهل، كان ثمة ثلاثة طيورٍ ضخمة جالسة القرفصاء في بذاءة، بينما حفنةٌ أخرى منها تحوم في السماء، مُلقية ظلالًا وهي تهرع في مرورها.

قال: لقد جاءت منذ أن انكسرَت الشاحنة. واليوم هو أول مرةٍ يهبط أيٌّ منها إلى الأرض. لقد راقبتُ طريقة طيرانها بدقَّةٍ في البداية، فلربما احتجتُ إلى استخدام ذلك في قصةٍ أكتبها. ولكن هذا يبدو مضحكًا الآن.

قالت: أودُّ لو لم تفعل.

قال: إني أتكلم لا غير. إني أشعر بتحسُّنٍ حين أتكلم. ولكني لا أودُّ أن أُضايقكِ.

قالت: أنت تعرف أن ذلك لا يُضايقني، إنما قد أصبحتُ عصبيةً للغاية لعدم استطاعتي عمل أي شيءٍ. أعتقد أن علينا أن نُيسِّر الأمور قدْرَ استطاعتنا إلى أن تأتي الطائرة.

– أو إلى ألَّا تأتي!

– أرجوك قل لي ماذا بوسعي أن أفعل. لا بد أن هناك شيئًا أستطيع أن أقوم به.

– بإمكانكِ أن تبتُري الساق وقد يُوقِف ذلك التعفُّن، رغم أنني أشكُّ في ذلك. أو بإمكانكِ أن تُطلقي عليَّ النار. إنك ماهرةٌ في الرماية الآن. لقد علمتكِ الرماية، أليس كذلك؟

– أرجوك ألَّا تتحدث هذا. أليس بإمكاني أن أقرأ لك؟

– تقرئين ماذا؟

– أيَّ شيءٍ في حقيبة الكتب التي لم تقرأها بعدُ.

قال: لا أستطيع أن أُنصت إلى قراءتكِ. الكلام هو أسهل شيءٍ. إننا نتعارك وهذا يجعل الوقت يمر.

– إنِّي لا أتعارك. إنني لا أريد أبدًا أن أتعارك. دعْنا لا نتعارك بعد الآن أبدًا. مهما كُنَّا عصبيَّين. ربما عادوا اليوم بشاحنةٍ أخرى. وربما تأتي الطائرة.

قال الرجل: لا أريد أن أتحرَّك. لا معنى هناك لأنْ أتحرك الآن إلا كيما أُسهِّل عليكِ الأمور.

– إن هذا جبنٌ.

– ألا تدَعِين رجلًا يموت بأقصى قدرٍ ممكنٍ من الراحة دون أن تشتميه؟ ما فائدة شتائمكِ لي الآن؟

– إنك لن تموت.

– لا تكوني حمقاء. إنني أموت الآن. اسألي هؤلاء الملاعين. وتطلَّع إلى حيث جلسَت الطيور الضخمة القذرة ورءوسها العارية مدفونةٌ في ريشها المقوس. وهبط طائرٌ رابعٌ وطفِق يجري بسرعةٍ ثم اتَّجه ببطءٍ ناحية الطيور الثلاثة الأخرى.

– إنها دائمًا تكون حيث تُوجَد مخيمات. إنها لا تكاد تُلحَظ. لا يمكن أن تموت إذا لم تستسلم.

– أين قرأتِ هذا؟ إنك لحمقاء سخيفة.

– بإمكانك التفكير في شخصٍ آخر.

قال: بحق الله، إن هذه هي مهنتي.

وعندها اضطجع وهدأ بعض الشيء، وتطلَّع عبر الوميض الحار للسهل إلى طرف الأجمة. كان هناك بعض العصافير الصغيرة بدَت منمنمةً بيضاء مقابل اصفرار السهل، وشاهَد على البُعد قطيعًا من الحُمُر الوحشية، بيضاء مقابل خضرة الأجمة. كان هذا مخيمًا لطيفًا مُقامًا تحت أشجارٍ ضخمةٍ في مواجهة أحد التلال، به مياهٌ جارية، وبالقرب منه عين ماءٍ كادت تجفُّ حيث تطير منها كلَّ صباحٍ طيور الطيهوج.

سألَت: ألا تودُّ أن أقرأ لك؟ إن هناك نسمةً تهبُّ.

كانت تجلس على مقعدٍ من الخيش إلى جانب محفَّته.

– كلَّا شكرًا.

– ربما حضرَت الشاحنة.

– أنا لا تهمني الشاحنة في شيءٍ.

– إنها تهمني أنا.

– إنك تهتمين بأشياء كثيرة جدًّا لا تهمني في شيءٍ.

– ليس كثيرًا جدًّا يا هاري.

– ما رأيكِ في شراب؟

– من المفروض أن الشراب ضارٌّ بك. إن دليل «بلاك» الطبي يقول بضرورة تجنُّب المشروبات الروحية. يجب ألا تشرب.

فصاح: مولو!١
– أجل يا «بوانا».٢

قالت: يجب ألا تفعل ذلك. هذا ما كنت أعنيه بالاستسلام. إنه يذكر أن ذلك ضارٌّ بصحتك. إني أعرف أن ذلك ضارٌّ بك.

قال: كلا. إن ذلك مفيدٌ لي.

وجال في فكره أن الآن قد انتهى كل شيء. الآن لن تكون أمامه فرصةٌ أبدًا كيما يُنهي الكتاب الذي بدأه. هكذا انتهى الأمر بعراكٍ حول شراب. ومنذ نخرَت الغنغرينة في ساقه اليُمنى لم يعُد يشعر بألم، وذهب الخوف بذهاب الألم، وكل ما يشعر به الآن تعبٌ شديدٌ وغضبٌ من أن يكون هذا هو نهاية الأمر. ذلك أنه لم يعد يشعر بكثير حُبِّ استطلاعٍ والنهاية آتية. لقد تسلَّطَت عليه سنين كثيرة، ولكن لم تعد الآن تعني شيئًا في حدِّ ذاتها. كان غريبًا أن يتخلص من هذه الفكرة المستحوذة بسهولة من شعوره بالتعب.

والآن لن يستطيع أبدًا أن يكتب الأشياء التي ادَّخر كتابتها حتى يعلم عنها ما فيه الكفاية كيما يكتبها بحذق. حسَن، وهو لن يفشل كذلك في محاولة كتابتها. ربما لم يكن في مستطاعك أبدًا كتابتها، ولهذا أرجأت الأمر وأخَّرت البداية. حسَن، إنه لن يعرف الآن أبدًا.

قالت المرأة: أتمنَّى لو لم نكُن قد جئنا هنا. كانت تنظر إليه وهو يحمل الكأس وتعضُّ على شفتَيها … «إنك لم تكن لتُصاب بشيءٍ من هذا في باريس. كنتَ تقول دائمًا إنك تحب باريس. كان بوسعنا البقاء في باريس أو الذهاب إلى أيِّ مكانٍ. كنتُ مستعدةً للذهاب إلى أي مكان. قلتُ إنني كنتُ مستعدةً للذهاب إلى أي مكانٍ تريد. لو كنتَ تريد الاصطياد كان بوسعنا الذهاب إلى هنغاريا حيث نكون مرتاحَين.»

قال: «أموالك اللعينة!»

قالت: هذا ليس عدلًا. لقد كانت دائمًا أموالك بقدر ما هي أموالي، لقد تركتَ كل شيء وذهبتَ إلى حيث تريد أن تذهب وفعلتَ ما تريد أن تفعل. ولكني أتمنى لو لم نكن قد جئنا هنا.

– لقد قلتِ إنك تُحبِّين ذلك.

– كنتُ أحبُّه حينما كنتَ أنت على ما يُرام. ولكني أكرهه الآن. إنني لا أفهم لماذا يجب أن يحدث هذا لساقك؟ ماذا فعلْنا كيما نستحق أن يحدث هذا لنا؟

– أظن أن ما فعلتُ هو أنني نسيتُ أن أضع اليود على المكان الذي حككتُه أول مرة. ثم لم ألتفت إليه بعد ذلك لأنني لا أُصاب أبدًا بالعدوى. وبعدئذ، حين تعقَّدت الأمور، ربما كان استعمال محلول الفنيك الخفيف ذاك، حين نفدَت جميع المطهرات الأخرى، هو الذي شلَّ الأوعية الدموية الدقيقة وبدأ الغنغرينة. ونظر إليها ثم قال: ماذا غير ذلك؟!

– إني لا أعني ذلك.

– لو أننا استخدَمنا ميكانيكيًّا ماهرًا بدلًا من السائق غير المدرَّب، لكان قد فحص الزيت ولمَا كان قد حرق أبدًا محمل الكُريات في الشاحنة.

– إني لا أعني ذلك.

– لو أنكِ لم تهجري أهلكِ، أهل مقاطعات «أولد وستبري» و«ساراتوجا» و«بالم بيتش» الملاعين كيما تحبيني …؟

– لقد أحببتك. هذا ليس عدلًا. إنني أحبك الآن. سوف أُحبك دائمًا. ألا تحبني؟

قال الرجل: «كلا. لا أظن ذلك. إنني لم أحبكِ أبدًا.»

– ماذا تقول يا هاري؟ لقد جُنِنتَ.

– كلا. ليس لدي عقلٌ حتى أُجَن!

قالت: لا تشرب هذا. أرجوك يا حبيبي ألَّا تشرب هذا. يجب أن نبذل كل ما في وسعنا.

قال: افعلي أنتِ ذلك. أنا متعَبٌ.

والآن، في خياله، رأى محطة سككٍ حديدية في «كاراجاتش» وكان واقفًا فيها ومعه صُرَّة أمتعته. وكان النور الأمامي للقطار يقطع الظلمة الآن، وهو يغادر منطقة «تراس» بعد الانسحاب. كان ذلك أحد الأشياء التي ادَّخرها ليكتب عنها بعد ذلك. في الصباح عند الإفطار إذ يتطلع من النافذة ويرى الثلج على الجبال في بلغاريا وسكرتيرة «نانسن» تسأل الرجل العجوز إذا كان ذلك ثلجًا، فينظر العجوز ويقول لا، ليس هذا ثلجًا، الوقت مبكِّرٌ لنزول الثلج. والسكرتيرة تردِّد على مسامع الفتيات الأخريات: كلا، أترَين، إنه ليس ثلجًا، وهُن جميعًا يصحْن: إنه ليس ثلجًا، لقد كنا مخطئات. ولكن الحقيقة هي أنه كان ثلجًا، وقد بعثهن ذلك الضابط العجوز يخضْن فيه حين عقد اتفاقية تبادُل السكان. ولقد كان ثلجًا ما وطئنه هناك إلى أن مِتن جميعًا ذلك الشتاء.

ولقد كان ثلجًا أيضًا ذلك الذي هطل طيلة أسبوع عيد الميلاد تلك السنة هناك في «جاروتال»، تلك السنة كانوا يقيمون في منزل قاطع الأشجار، وفيه الموقِد الصيني المربَّع الكبير الذي احتلَّ نصف الحجرة، وكانوا ينامون على حشايا من ورق أشجار الزان، في ذلك الوقت الذي جاء فيه الجندي الهارب وقدماه داميتان على الثلج. قال إن الشرطة تُطارده، فأعطَوه جوارب من الصوف وشغَلوا رجال الدرك بالتحدُّث إليهم إلى أن انْمحَت آثار الأقدام بفعل الرياح.

وفي «شرونر»، يوم عيد الميلاد، كان الثلج باهرًا لدرجةٍ تؤذي العين، حين ينظر المرء من الحانة ويرى الناس تعود إلى بيوتها من الكنيسة. كان ذلك حيث صعدوًا في الطريق الذي مهَّدَته الزحَّافات ذات اللون الأصفر على طول النهر وتلال أشجار الصنوبر الشديدة الانحدار، وأدوات الانزلاق على الجليد فوق أكتافهم، وحيث جروا ذلك الجرْي الشديد عبر الطريق الجليدي عند منزل «مادلنر»، والثلج منبسطٌ كالكعكة يُحيط بها الصقيع، والنُّدف تهبط خفيفةً كالبودرة. واستعان في ذهنه الاندفاع الصامت الناتج عن السرعة إذ يهبط المرء كالطائر وهو ينزلق على الجليد.

كان الثلج قد احتجزهم طوال أسبوعٍ في منزل «مادلنر» ذلك الوقت عندما هبَّت العاصفة، فأخذوا يلعبون الورق وسط الدخان على ضوء القنديل، وكانت الرهانات تزداد كلما زادت خسارة الهر «لنت». وأخيرًا خسر كل شيءٍ، كل شيء؛ نُقود مدرسة الانزلاق على الجليد وكل مكسب الموسم، ثم خسر رأسماله نفسه. وكان باستطاعته أن يراه بأنفه الطويل يلتقط الورق ثم يفتح لعبة «عمياء». كان يُوجَد دائمًا ألعاب قمارٍ وقتها. وحين لا يكون هناك ثلج، نُقامر، وحين يكون هناك ثلج أكثر من اللازم نقامر. وفكَّر في الوقت الذي قضاه يُقامر على طول حياته.

ولكنه لم يكتب سطرًا عن ذلك، ولا عن يوم عيد الميلاد ذاك البارد الباهر، والجبال تتراءى عبر السهل حين طار جونسون عبر الخطوط ليقذف بالقنابل القطار الذي يُقِلُّ الضباط النمساويين الحاصلين على إجازة، ويحصدهم بمدافعه حين انتثروا يجرُون.

وتذكر إذ جاء جونسون بعد ذلك إلى حجرة الطعام وأخذ يحكي القصة وكيف ساد الصمت بعد ذلك، ثم أحدهم يصيح: أيها الوغد القاتل اللعين!

وكان هؤلاء النمساويون الذين قتلوهم آنذاك هم نفس النمساويين الذين شاركهم الانزلاقَ على الجليد بعد ذلك. كان «هانز» — الذي انزلق معه طوال تلك السنة — ضابطًا في قوات القيصر، وحين ذهبا معًا لصيد الأرانب البريَّة هناك عند التلِّ الصغير وراء طاحونة نشْر الخشب، تحدَّثا عن القتال في «باسوبيو»، وعن الهجوم على «برتيكا» و«أسالون»، وهو لم يكتب بعدُ حرفًا عن ذلك. ولا عن «مونتي كورنو» ولا عن «سيتي كومون» ولا عن «أرسبيدو».

كم شتاءً عاشه في نزُلَي «فوراك» و«آرل»؟ أربعة شتاءات. ثم تذكَّر الرجل الذي كان يعرض ثعلبًا للبيع حين كان يسير مع زوجته في بستان «بلودنز»، يستهدفان شراء هدايا هذه المرة، وطعم الكريز من شراب «الكيرش» المعتَّق، والاندفاع المُنفلِت لمسرى بودرة الثلج على قشرة الأرض، وهي تغنِّي «هاي هو!» إذ المرء يجري آخر مسافةٍ نحو الثلج المصمت، ثم يجري قاطعًا البستان في ثلاث دورات، ويخرج عبر الحفرة وعلى الطريق الجليدي وراء النزُل. ثم يحلُّ المرء أربطته ويخلع عنه زحافتَي الانزلاق ويسندها إلى حائط النزُل الخشبي، بينما يتبدَّى ضوء المصباح من النافذة. وفي الداخل، في وسط الدفء الداخن الذي يعبق برائحة النبيذ الطازج، كان ثمة من يعزف على الأوكورديون.

وسأل المرأة التي كانت تجلس إلى جواره في مقعدٍ من الخيش، الآن، في أفريقيا: أين نزلنا في باريس؟

– في فندق «كريون». أنت تعرف ذلك.

– ولماذا تظنِّين أنني أعرف ذلك؟!

– إننا ننزل دائمًا هناك.

– كلا. ليس دائمًا.

– هناك وفي «بافيلون هنري الرابع» في سان جرمان. لقد قلتَ إنك تحب ذلك الفندق.

فقال «هاري»: الحب كومة قاذورات. وأنا هو الديك الذي يقف فوقها كيما يصيح.

قالت: هل من الضروري إذا تعيَّن عليك أن ترحل أن تقتل كل شيء تخلِّفُه وراءك؟ أعني، أيتعيَّن عليك أن تأخذ معك كل شيءٍ؟ عليك أن تقتل جوادك وزوجتك وتحرق سرجك ودرعك؟

قال: أجل. إن نقودكِ اللعينة كانت درعي. طيري ودرعي.

– لا تقل هذا.

– وهو كذلك. سأكفُّ عن قول ذلك. لا أريد أن أجرح شعوركِ.

– لقد جاء ذلك متأخرًا شيئًا ما.

– وهو كذلك إذن. سوف أمضي في جرح شعوركِ. إنه يزيد من تسليتي. إن الشيء الوحيد الذي أحببتُ حقًّا أن أفعله معكِ لا يمكنني أن أفعله الآن.

– كلا، هذا ليس صحيحًا. لقد كنتَ تحب أشياء كثيرة، وقد نفذتُ كل ما كنتَ تريدني أن أفعل.

– أوه، بحق الله كُفِّي عن هذا الشقاق.

ونظر إليها فرآها تبكي.

قال: اسمعي. هل تظنين أنني أحب ذلك؟ إنني لا أعرف لماذا أفعل ذلك؟ أظن أنه شبيهٌ بمحاولة القتل كيما يستمر المرء على قيد الحياة. لقد كنتُ على ما يُرام حين بدأنا الحديث. إني لم أقصد أن أبدأ هذا الشقاق، والآن ها أنا أبدو أحمق كالبلهاء، وأشد ما أكون قسوةً معك. لا تُلقي بالًا يا عزيزتي إلى ما أقول. إنِّي أحبكِ حقًّا. إنكِ تعرفين أنني أحبكِ. إنني لم أحبَّ أحدًا قط كما أحببتكِ.

وانزلَق إلى الكذبة المعهودة التي يلجأ إليها لينال أغراضه.

– إنك طيبٌ معي.

قال: أيتها اللعينة. أيتها اللعينة الثرية. ذلك شِعر. إنِّي أفيض شِعرًا الآن. سُقمًا وشِعرًا. شِعرًا سقيمًا.

– كُفَّ عن ذلك يا «هاري». لماذا يتعيَّن عليك أن تتحول إلى شيطانٍ الآن؟!

قال الرجل: إني لا أحب أن أخلف أي شيء. لا أحب أن أخلف شيئًا ورائي.

•••

كان الليل قد انسدل الآن وكان قد نام قليلًا.

كانت الشمس قد غابت وراء التل، وثمة ظلٌّ يحوم عبر السهل وصغار الحيوانات تأكل بالقرب من المخيم، رءوسٌ سريعة محنية وذيولٌ متحركة. وراقَبها وهي تُقيم فاصلًا بينه وبين الأجمة الآن. ولم تعد الطيور تنتظر على الأرض، بل كانت كلها تجثم في ثقل على إحدى الأشجار. كان هناك المزيد منها. وكان خادمه الصبي يجلس إلى جوار محفته.

قال الصبي بإنجليزيته الركيكة: ذهبَت «ممصاحب»٣ لتصطاد. هل «بوانا» يريد شيئًا؟

– كلا.

كانت قد ذهبَت لتصطاد قطعةً من اللحم، ولمَّا كانت تعلم مدى شغفه بمراقبة مشهد الصيد فقد ذهبت بعيدًا كيما لا تسبب ضوضاء في ذلك الجانب من السهل على مرمى أبصاره. وجال في خاطره أنها دائمًا ترعى مشاعره، في أي شيءٍ تعرفه أو تكون قد قرأته أو سمعته.

لم تكن غلطتها أنه حين عرفها كان قد استُنفد بالفعل. كيف يتأتَّى لامرأةٍ أن تعرف أنك لا تعني شيئًا مما قلت، وأنك لم تقل ما قلت إلا بدافع العادة وكيما تحقق راحتك! وحين لم يعد يعني ما يقول، لاقت أكاذيبه نجاحًا بين النساء أكثر مما كان يُلاقي حين كان يُخبرهن بالحقيقة.

لم يكن الأمر بكذبٍ أكثر منه عدم وجود حقٍّ يُقال. لقد عاش حياته وانتهى ثم عاد يحياها من جديدٍ مع أناسٍ مختلفين ومزيدٍ من المال، في أفضل ما عهده من الأماكن، وفي أماكن جديدةٍ عليه أيضًا.

كنتَ تتحاشى التفكير وكان كل شيءٍ رائعًا، كنتَ مُزوَّدًا بباطنٍ قوي، حتى إنك لم تتمزق شعاعًا مثلهم، مثل ما حدث لمعظمهم، واتخذتَ موقفًا بألَّا تُعير العمل الذي تعودتَ أن تعمل اهتمامًا الآن حين لم يعد بإمكانك أن تقوم به. غير أنك قلت في داخليَّتِك إنك ستكتب عن هؤلاء الناس، عن المتْخمِين بالثروات، وإنك لستَ منهم في واقع الأمر، بل جاسوسٌ في بلدهم، وإنك سوف تتركهم وتكتب عنهم، حتى يكتب عنهم أخيرًا واحدٌ يعرف حقيقة ما يكتب عنه. ولكنه لم يكتب ذلك إطلاقًا؛ لأن كل يوم من عدم الكتابة، من الراحة والنعيم، من طريقة العيش التي يحتقرها، يُضعف من قدرته ويُوهن من إرادته على العمل، حتى إنه — في النهاية — لم يكتب أبدًا. إن معارفه قد ازدادوا راحةً حين لم يعد يكتب. وأفريقيا هي المكان الذي شعر فيه بأشد سعادة في أحسن أوقات حياته؛ لذلك فقد ذهب إلى هناك كيما يبدأ من جديد. ولقد رتَّب أمر هذه الرحلة بأقل قدرٍ من وسائل الراحة. لم يكن هناك من صعوبات، ولكن لم يكن هناك أيُّ ترفٍ. وظنَّ أن بوسعة العودة إلى الكتابة بالتمرين على هذه الصورة. ظنَّ أن بوسعه — على نحوٍ ما — أن يزيل الصدأ الذي ران على روحه، كما يفعل الملاكم حين يذهب إلى الجبال ليعمل ويتمرَّن كيما يحرق الشحم من جسده.

كانت تُحب ذلك منه. قالت إنها تحب ذلك. كانت تحب أي شيءٍ مثير، أي شيءٍ يتضمَّن تغييرًا في الصورة، حيث أُناسٌ جُدُد وحيث الأمور سارَّة. وقد شعر متوهِّمًا بعودة قوة الإرادة الدافعة له على العمل. أما وأن الأمور قد انتهت إلى هذا، وكان يعلم أنها النهاية، فعليه ألَّا يتحول إلى ذلك الثعبان الذي يعضُّ نفسه لأن ظهره قد انكسر. لم يكن ذلك ذنْب هذه المرأة. لو لم تكن هي لكانت أخرى. لو أنه عاش على أكذوبةٍ فيجب أن يحاول أن يموت عليها.

وسمع طلقةً فيما وراء التل.

كانت بارعةً في الصيد، هذه اللعينة الثرية الطيبة، هذه التي رعَت موهبته في حنان، وهي التي دمرَتها في نفس الوقت. هراء .. لقد دمَّر موهبته بيده. لماذا يتعيَّن عليه إلقاء اللوم على هذه المرأة لرعايتها إيَّاه حق الرعاية؟ لقد دمَّر موهبته بعدم استعمالها، بخيانة نفسه وبخيانة معتقداته، بالإفراط في الشراب حتى انثلمت أطراف مداركه، بالكسل، بالخمول، بالعنجهية، بالكبرياء والهوى، بكل الوسائل. ما هذا السرْد؟ كتالوج كتبٍ قديمة؟ وما هي موهبته على أية حالٍ؟ إنها موهبةٌ أي نعم ولكنه — بدلًا من أن يستخدمها — تاجَر فيها. إنها لم تتمثل أبدًا فيما أنجزه، بل فيما يستطيع إنجازه. ولقد اختار أن يكسب عيشه عن طريقٍ آخر غير القلم والورق. وكان من الغريب أيضًا — أليس كذلك — أنه كلما كان يقع في حبِّ امرأةٍ جديدة يكون لديها مالٌ أكثر مما لدى المرأة السابقة عليها. بيْد أنه حين لم يعُد يشعر بالحب، حين أصبح كَذُوبًا فحسب، كما يحدث الآن مع هذه المرأة التي لديها أكبر قدرٍ من المال، التي لديها المال كله، والتي كان لديها زوجٌ وأولاد، والتي كان لها عُشَّاق لم ترْضَ عنهم، والتي أحبَّته حبًّا صادقًا بوصْفه كاتبًا وإنسانًا وصديقًا، وبوصْفه من ثمين المقتنيات، من الغريب أنه حين لم يكن يحبُّها على الإطلاق كان كذوبًا في ادعائه الحب، استطاع أن يُعطي مقابل النقود أكثر مما كان يُعطي عادةً بدافع الحب الحقيقي.

وجال في خاطره أنه لا بد أننا قد خُلِقنا مهيئين لِما نفعل، والمرء مع ذلك يكسب عيشه من مواهبه. لقد باع حيويته، بشكلٍ أو بآخر، طوال حياته، وعندما لا يكون لعواطفه شأن بعلاقاته فإنه يوجِّه اهتمامًا أكبر للمال. لقد اكتشف ذلك، ولكن ليس بوسعه الآن أن يكتب عنه. كلا، إنه لن يكتب عن ذلك الأمر، رغم أنه يستحق.

ثم تجيء هي في الصورة الآن — في أفريقيا — تسير عبر الفضاء المكشوف تجاه المخيم. كانت ترتدي ملابس الصيد وتحمل بندقيتها. وكان كلٌّ من الصبيَّين يحمل مدفعًا رشاشًا، ويسيران خلفها. وجال بفكره أنها لا تزال امرأةً جميلة، وجسمها لطيف، وكانت ذات موهبةٍ عظيمة في أمور الحب والغرام. لم تكن بالحسناء، ولكنه يُحب وجهها، كما أنها تقرأ بشراهة، وتحب ركوب الخيل والصيد، وهي بالتأكيد تُفرط في الشراب. كان زوجها قد مات وهي لا تزال على درجةٍ من الشباب، فكرَّست نفسها وقتًا ما لولدَيها الفتيَّين، اللذين لم يكونا بحاجةٍ إليها ويشعران بالحرج وهي معهما، ولممتلكاتها من الخيول، وللكتب، ولزجاجات الشراب. وكانت تحب أن تقرأ في المساء قبل تناوُل العشاء، وتشرب الويسكي بالصودا وهي تقرأ. وحين يحل وقت العشاء تكون قد ثملت إلى حدٍّ ما، أما بعد زجاجة من النبيذ مع الطعام فإنها تكون ثملةً بما يكفي للذهاب إلى النوم.

كان ذلك قبل مرحلة العشق. فبعد أن اتخذَت عُشَّاقًا لم تعُد تُفرط في الشراب؛ لأنها لم تعُد مضطَرةً إلى الشرب كيما تنام. ولكن عُشَّاقها كانوا يبعثون فيها الملل. لقد كانت زوجةً لرجل لم يُثر فيها مللًا على الإطلاق، ولكن هؤلاء الناس أضجروها إلى حدٍّ بعيد.

ثم حدَث أن قُتل أحد ولدَيها في حادث طائرة، ولمَّا مضى وقتٌ على ذلك لم تعُد بحاجةٍ إلى عُشَّاق، وكان عليها أن تُولَد من جديد؛ لأن الشراب لم يعد يخفف من آلامها، وتملَّكها رعبٌ فجائي من الوحدة. ولكنها كانت تريد إلى جوارها شخصًا تحترمه.

وبدأ الأمر بسيطًا للغاية. كانت تحب ما يكتب، وكانت دائمًا تحسده على الحياة التي يحياها. كانت تعتقد أنه يفعل ما يريد تمامًا. ولقد كانت الخطوات التي حازَته عن طريقها، والطريقة التي وقعَت بها أخيرًا في غرامه جزءًا من سلسلةٍ منتظمةٍ أقامت بها لنفسها حياةً جديدة، بينما باع هو ما تبقَّى له من حياةٍ سابقة.

لقد باعها مقابل الأمان، ومقابل الرفاهية أيضًا، لا سبيل إلى إنكار ذلك. ومقابل ماذا أيضًا؟ إنه لا يعرف. إنها كانت لتجلب له أي شيءٍ يريد، كان يعرف ذلك. ولقد كانت امرأةً لطيفة، ولَعِينة في نفس الوقت. وقد كان يُفضِّل حبها على حبِّ أي واحدةٍ أخرى، هي لأنها أغنى، لأنها لطيفةٌ جدًّا وحسَّاسة، ولأنها لم تثُر عليه مطلقًا. والآن، فإن هذه الحياة الجديدة التي شيدَتها لنفسها تؤذن بالنهاية؛ لأنه لم يستخدم صبغة اليود منذ أسبوعَين حين دخلَت شوكة إلى ركبته بينما هم يهرعون لتصوير قطيعٍ من ذكور الظباء تقف رافعة الرأس، تحدِّق أمامها وخياشمها تُطالع الهواء، وآذانها تُرهف السمع استرقاقًا لأول ضوضاءٍ ترسل بها مهطعة داخل الغابة. وقد سقط أيضًا على الأرض قبل أن ينجح في التقاط الصورة.

ها هي قد حضرَت الآن.

وأدار رأسه على المحفَّة كيما ينظر إليها. قال: أهلًا.

فقالت له: لقد اصطدتُ كبشًا. سوف أحضر لك مرقًا دسمًا، وسوف أجعلهم يُعدِّون لك بطاطس مهروسة. كيف حالك الآن؟

– أفضل بكثير.

– أليس هذا رائعًا؟ كنتُ على يقينٍ من ذلك. لقد كنتَ نائمًا حين خرجتُ.

– لقد نمتُ نومًا عميقًا. هل توغلتِ كثيرًا في الغابة؟

– كلا. وراء التل لا غير. لقد اصطدتُ الكبش بطلقةٍ في الصميم.

– إنك بارعةٌ في التصويب.

– إني أحب الصيد. لقد أحببتُ أفريقيا. لو أنك كنت على ما يُرام لكانت هذه الرحلة أفضل رحلاتي. إنك لا تعلم أيَّ متعةٍ أحسُّ بها بالصيد معك. لقد أحببتُ هذا البلد.

– إني أحبُّه أيضًا.

– يا حبيبي! إنك لا تعلم كم هو رائع أن أرى حالك يتحسن! إني لا أحتمل غضبك. عِدْني أنك لن تكلمني غاضبًا كما فعلتَ سابقًا!

قال: أجل. إني لا أذكر ما قلتُ.

– إنك لستَ مضطَرًّا إلى تدميري. ما أنا إلا امرأة في منتصف العمر تحبُّك وتريد أن تفعل ما تحب. لقد سبق لي أن دُمِّرتُ مرتين أو ثلاث مرات. إنك لن تريد دماري مرةً أخرى.

قال: إني أودُّ أن أُدمِّركِ مراتٍ عدةً غرامًا وهيامًا.

– أجل. هذا هو الدمار الحسَن. هذه هي الطريقة التي خُلقنا كي نُدمَّر بها. ستكون الطائرة هنا غدًا.

– كيف تعرفين؟

– إني متأكدةٌ من ذلك. لا مفرَّ من وصولها. ولقد جهَّز الأولاد الأخشاب والحشائش لتمييز مكان الهبوط. لقد ذهبتُ إلى هناك ورأيتُ المهبط مرةً أخرى اليوم. هناك متسعٌ من المكان للهبوط، وقد جهَّزْنا العلامات على الجانبَين.

– ما الذي يجعلكِ تعتقدين أنها ستصل غدًا؟

– إني متأكدةٌ من ذلك. لقد حان موعد وصولها منذ فترة. وعندئذٍ سوف يعالجون ساقك، ثم يتهيأ لنا أن نُدمِّر نفسَينا غرامًا. ولن نعود إلى ذلك الحديث المرعب.

– هل لنا في كأس؟ لقد غربت الشمس.

– أتظنُّ أن ذلك مناسب؟

– إني أتناول كأسًا الآن.

– إذن، سنشرب معًا. وهتفَت باللغة المحلية: يا غلام، اثنين ويسكي بالصودا.

وقال لها: يحسُن بك ارتداء حذاء الرقبة الواقي من الناموس.

– سأنتظر حتى أستحم …

وشربا معًا بينما الظلمة تتكاثف. وقبل أن ينسدل الظلام ولا يعود هناك ما يكفي من الضوء للصيد، عبر ضبع الخلاء أمامهما في طريقه للدوران حول التل.

قال الرجل: هذا اللعين يمرُّ من هنا كل ليلة. كل ليلة طوال أسبوعين.

– إنه ذلك الذي يصيح في الليل. لا يهمني ذلك. رغم أنه حيوانٌ قذر.

وكان باستطاعته، إذ هما يشربان معًا وليس ثمة من ألمٍ سوى عناء الاضطجاع في وضعٍ واحد، وإذ الصِّبية يوقدون نارًا تتقافز ظلالها على المخيمات، أن يشعر بعودة التوافُق إلى هذه الحياة المتمثلة في الاستسلام اللذيذ. إنها طيبةٌ جدًّا معه. وكان هو قاسيًا وظالمًا تجاهها هذا الأصيل. إنها امرأةٌ ممتازة. رائعة حقًّا. وعندئذٍ خطر له أنه سوف يموت.

جاءه هذا الخاطر مندفعًا، ليس كاندفاع المياه أو الرياح، بل على صورة فراغٍ فُجائي يعبق بالشر، والشيء الغريب أن الضبع كان يواكب حافة ذلك الخاطر.

سألَته: ما الأمر يا «هاري»؟

قال: لا شيء. يحسُن بكِ أن تتحولي إلى الجانب الآخر. ناحية الريح.

– هل بدَّل الغلام أغطية الفراش؟

– أجل. إنني أستخدم حامض البوريك الآن.

– وكيف تشعر؟

– مهزوزٌ شيئًا ما.

قالت: سوف أذهب الآن لأستحم. وبعد ذلك سآكل معك ثم نُدخل محفتك إلى الخيمة.

قال لنفسه إنهما أحسَنا صنعًا بالكفِّ عن الشجار. إنه لم يتشاجر أبدًا لمدةٍ طويلة مع هذه المرأة، بينما كان يتشاجر مع النساء اللائي أحبَّهن حبًّا صادقًا، شجارات طويلة لدرجةٍ مات معها كل شيءٍ جميل بينه وبينهن. لقد أحبَّ أكثر من اللازم، وطلب أكثر من اللازم، وضيَّع كل شيء.

وفكَّر في ذلك الوقت عندما كان وحيدًا في مدينة القسطنطينية، بعد أن تشاجر في باريس ورحل. وتردد أولًا على العاهرات، وحين انتهى من ذلك ولم ينجح في قتل شعوره بالوحدة بل زادها سوءًا، كتب إليها، الأولى التي هجرَته، خطابًا يُخبرها فيه كيف أنه لم ينجح أبدًا في قتل حبِّها في قلبه … وكيف أنه ظن ذات مرةٍ أنه يراها خارج فندق «الريجنس» فكاد أن يُغمَى عليه وشعر بالدوار، وكيف أنه يتتبع أي امرأةٍ تشبهها في أي شيء، على طول البوليفار، خائفًا أن يكتشف أنها ليست هي، خائفًا أن يفقد الشعور الذي يهبه له هذا الظن، وكيف أن أي امرأةٍ عرفها جعلَته يفتقدها أكثر وأكثر، وكيف أنه لا يهم أي شيء فعلَته؛ لأنه يعرف أنه لا يستطيع أبدًا مداواة نفسه من غرامها. وكتب هذا الخطاب في النادي، في هدوءٍ واتزان، وبعثه إلى نيويورك طالبًا منها أن تراسله على عنوان مكتب عمله في باريس. بدا له هذا آمنًا. وفكَّر في تلك الليلة التي اشتدَّ فيها شوقه إليها على نحوٍ ملأ نفسه بالفراغ والغثيان، فطفق يدور أمام محل «مكسيم»، ثم تعرَّف على فتاةٍ أخذها معه للعشاء. وبعد ذلك ذهبا معًا يرقصان، وكانت لا تجيد الرقص، فتركها ليرقص مع أرمينيةٍ حسناء احتضنته بذراعيها. وأخذها من جنديٍّ بريطانيٍّ بعد عراكٍ معه. وطلب منه الجندي أن يذهب معه إلى الخارج، وتعاركا في الشارع على البلاط وسط الظلام. وضربه مرتين، بشدة، على جانب الفك، ولمَّا لم يسقط عرف من فوره أن المعركة ستكون طويلةً. وضربه الجندي في بطنه، ثم إلى جوار عينه. وتطوَّح واقعًا، وهجم عليه الجندي ومزَّق ردن معطفه، ولكنه لَكَم الجندي مرتين وراء أذنه ثم طوَّحه بعيدًا عنه مُهمِّشًا إيَّاه بقبضته اليمنى. وحين سقط الجندي عنه، ارتطمَت رأسه بأحجار الطريق، أما هو فجرى سريعًا بالفتاة لأنهما سمعا الشرطة الحربية في الطريق إليهم. ودلفا إلى عربة أجرةٍ وذهبا إلى فندق «هيسا» على ضفاف البوسفور حيث أمضيا ليلتهما. وتركها وحدها عند مطلع النهار، وتوجَّه إلى «بيرا بالاس» بعينٍ سوداء وهو يحمل معطفه على ذراعه لأن أحد ردفيه قد تمزق.

ورحل في نفس تلك الليلة إلى الأناضول. وتذكَّر كيف كان القطار خلال الرحلة يخترق حقول الخشخاش التي يزرعونها للحصول على الأفيون، والشعور الغريب الذي يبعثه المنظر في النفس، وكيف تبدو جميع المسافات خاطئة، ثم تذكَّر الهجوم الذي شنُّوه مع ضباط القسطنطينية الذين وصلوا حديثًا، والذين لم يكونوا يعرفون شيئًا قط، وكيف أطلقَت المدفعية النيران على القوات، والمراقب البريطاني وهو يبكي كالطفل.

كان ذلك هو يوم شاهَد لأول مرةٍ رجالًا موتى يرتدون تنورات الباليه البيضاء وأحذيةً مقلوبة عليها كرياتٌ صوفية. وكان الأتراك يتقدمون باطِّرادٍ وبثقل، وشاهَد الرجال ذوي التنورات يجرون، والضباط يطلقون عليهم النار ثم يجرون هم أنفسهم، وجرى هو والمراقب البريطاني أيضًا حتى آلمَته رئتَيه وامتلأ فمُه بطعم المرارة. وتوقَّفا وراء بعض الصخور، وخلفهم كان الأتراك يتقدمون بثقلهم المعهود. وشهد بعد ذلك الأشياء التي لم يكن بقدرته أن يفكر فيها، وشهد بعدها أيضًا أشياء أسوأ بكثير. ولذلك فإنه حين عاد إلى باريس تلك المرة لم يستطع أن يحكي عن تلك الأيام أو أن يتحمَّل ذكْرَها. وهناك، حين كان يمر أمام المقهى كان يرى ذلك الشاعر الأمريكي جالسًا وأمامه كومٌ من الأطباق، وعلى وجهه البطاطسي ترتسم نظرة غباء، يتحدث عن حركة الدادائية مع روماني يقول إن اسمه «تريستان تزارا» يرتدي دائمًا مونوكلًا ويشكو الصداع. ثم هناك في الشقة مع زوجته التي عاد إليه حبُّها مرةً أخرى، وانتهى كل الشجار، وانتهى كل الغضب، سعيدًا بعودته إلى بيته، ومكتبه يرسل له بريده إلى الشقة. وهكذا، يومًا ما، وصل الخطاب الذي يردُّ على الرسالة التي سبق أن بعثها إلى صديقته، على صحفةٍ ذات صباح، وحين رأى الخط تجمَّد جسده كله وحاول أن يدسَّ الخطاب تحت خطابٍ آخر. ولكن زوجته صاحت به: ممن هذا الخطاب يا عزيزي؟ وكان هذا نهاية بداية ذلك الموضوع.

عادت إلى ذهنه الأوقات الجميلة معهن جميعًا، والمشاجرات. كن دائمًا يختزنُ أحسَن الأماكن كيما يبدأن فيها الشجار. ولماذا كُنَّ يتشاجرْن حينما يكون هو في أفضل حالاته؟ إنه لم يكتب أبدًا عن ذلك؛ لأنه في البداية لم يكن يريد أن يُسبِّب ألمًا لأيٍّ منهن، وكذلك لأنه كان هناك، فيما يبدو، موضوعاتٌ كثيرةٌ أخرى يكتب عنها. ولكنه كان يعتقد أنه سوف يكتب أيضًا عن تلك الموضوعات الأخرى يومًا ما. كان هناك الكثير مما يصلح للكتابة. لقد رأى العالمَ وهو يمرُّ بنقطة تحوُّل، لا الأحداث فحسب، رغم أنه رأى الكثير من الأحداث وراقب الناس فيها، ولكنه كان يرى أيضًا التحوُّل الدقيق ويستطيع أن يتذكَّر كيف كان حال الناس في أوقاتٍ مختلفة. لقد عاش ذلك ورصَده ومن واجبه أن يكتب عنه، ولكنه الآن لن يفعل ذلك أبدًا.

قالت: كيف حالك الآن؟ كانت قد خرجَت من الخيمة بعد أن استحمَّت.

– على ما يُرام.

– أيمكنك أن تأكل الآن؟

ورأى الصبيَّ خلفها يحمل المنضدة الصغيرة والصبي الآخر يحمل الأطباق.

قال: أريد أن أكتب.

– يجب أن تتناول بعض المرق كيما يشد أزرك.

قال: سوف أموت الليلة. لا حاجة بي إلى شدِّ أزري.

قالت: لا تبالغ في الأمور يا هاري أرجوك.

– لماذا لا تستخدمين أنفك؟ لقد تعفَّن نصف فخذي الآن. لماذا بحق الجحيم أتناول المرق؟ يا غلام أحضر لي ويسكي بالصودا.

فقالت برِفق: أرجوك أن تتناول المرق.

– حاضر.

وكان المرق ساخنًا جدًّا، وتعيَّن عليه أن يمسك بالفنجان إلى أن يبرد بما فيه الكفاية ثم دفعه إلى جوفه دون أن يتذوقه.

قال: إنكِ امرأةٌ لطيفة. لا تُلقي بالًا لما أقول.

ونظرَت إليه بوجهها الحبيب المعروف الذي طالما ظهر في المجلَّات النسائية الشهيرة، والذي لم يتدهور إلا قليلًا من جرَّاء الشراب، ومن جرَّاء السهر، إلا أن تلك المجلات لم تُظهر محاسنها الخفية، ولا يدَيها الرقيقتين الصغيرتين. وإذ نظر ورأى ابتسامتها اللطيفة المعهودة، شعر بالموت يأتي ثانيةً. وفي هذه المرة لم يكن في عجلةٍ من أمره. كان نفخة هواءٍ كالريح الذي يُمايل الشمعة ويُطيل شعلتها.

– يمكنهم أن يحضروا شبكة النوم فيما بعد ويعلقوها من الأشجار ويوقدوا النيران. إني لن أدخل إلى الخيمة هذه الليلة. لا يستحق الأمر عناء الانتقال. إنها ليلةٌ صافية. ولن يسقط المطر.

إذن … فهكذا تموت، وسط همسات لا تسمعها. حسَن، لن يكون هناك مزيدٌ من الشجار. إن بوسعه أن يَعِد بذلك. إنه لن يفسد الآن التجربة الوحيدة التي لم يمر بها أبدًا من قبل. قد ينجح في ذلك. إنه قد أفسد كل شيءٍ. ولكن … ربما ينجح هذه المرة.

– هل يُمكنكِ أن تكتبي ما أُمليه؟

قالت: إنني لم أتعلَّم ذلك من قبل.

– لا عليكِ.

ليس هناك متسعٌ من الوقت طبعًا، ولو أن الأمر يبدو واضحًا لدرجةٍ قد يمكنك معها أن تضعه كله في فقرةٍ واحدة إذا أمكنك أن تُجيد صياغتها.

كان هناك بيتٌ من كُتل الأخشاب ملطَّخٌ هنا وهناك بالمونة البيضاء قائمٌ على تلٍّ أعلى البحيرة. وكان ثمة جرسٌ مُقامٌ على عمودٍ خشبيٍّ إلى جوار الباب لدعوة الناس إلى تناوُل الطعام. وخلف المنزل تقع الحقول، وخلف الحقول الأشجار التي يُؤخَذ منها الخشب. وثمة صفٌّ من شجر الحور اللومباردي يمتدُّ من المنزل حتى المدفأة. وأشجار حول أخرى على طول النتوء البحري. وثمة طريقٌ يصِل إلى التلال على طول حافة الأشجار، وكان يقطف الفراولة البرية من ذلك الطريق. ثم حدث أن احترق ذلك البيت الخشبي، واحترقَت كل البنادق التي كانت معلقةً على الرفوف المصنوعة من أقدام الغزلان فوق المدفأة المكشوفة، وبعد ذلك أصبحَت مواسير البنادق — والرصاص ذائبٌ في خزاناتها وكعوبها محترقةٌ تمامًا — ملقاةً على كومة الرماد الذي كان يُستخدَم كقلويٍّ لصناعة الصابون في الغلَّايات الحديدية الكبيرة، وسألت جدَّك إذا كان يمكنك أخْذُها لتلعب بها فقال: كلا. أترى، أنها كانت لا تزال بنادقه، ولم يشترِ أي بنادق أخرى غيرها، كما أنه لم يعُد يصطاد بعدها أبدًا. وأُعيدَ بناء المنزل في نفس موقعه من العروق الخشبية هذه المرة، وطُلِي باللون الأبيض، ومن شُرفته يرى المرء أشجار الحور ووراءها البحيرة، ولكن لم تكن هناك بنادق أخرى بعد ذلك. وأضحَت خزانات البنادق التي كانت معلَّقةً على أقدام الغزلان على الحائط في المنزل الخشبي القديم راقدةً هناك على كومة الرماد ولم يلمسها أحدٌ قط.

وبعد الحرب، في الغابة السوداء، قُمنا باستئجار غديرٍ يزخر بأسماك الأطروط. وكان ثمة طريقان للوصول إليه، أولهما من الوادي عند «ترايبورج» إلى طريقٍ جانبيٍّ يصعد في الجبال، مرورًا بكثيرٍ من المزارع الصغيرة ذات البيوت التي يشتهر بها الريف الألماني، إلى أن يفضي إلى الغدير، حيث يبدأ صيدنا. والطريق الثاني يمرُّ من حافة الغابة إلى أعلى التلال من خلال غابات الصنوبر، خروجًا إلى حافة المرج إلى الجسر. وكانت هناك أشجار سندر على طول الغدير، الذي لم يكن كبيرًا بل كان ضيقًا، صافيًا، جاريًا، مكوِّنًا بحيراتٍ في الأمكنة التي ضربَت فيها جذور الأشجار. وكان موسم الصيد طيبًا بالنسبة لصاحب الفندق في «ترايبورج». كان كل شيءٍ بهيجًا، وكنا جميعًا أصدقاء حميمين. وفي العام التالي جاء التضخم ولم يكْفِ المال الذي ربحه صاحب الفندق في العام الذي قبله لشراء التجهيزات اللازمة لفتح الفندق فشنق نفسه.

بإمكانك أن تُملي هذا ولكن ليس بإمكانك أن تُملي مشاهد ميدان «كونتر سكارب»، في باريس، حيث بائعو الأزهار يصبغون أزهارهم في الطريق وتسيل الصبغة على الرصيف عند رأس خط الأوتوبيس، والشيوخ والعجائز سُكارى على الدوام بالنبيذ وبالبراندي الرديء، والأطفال سائلةٌ أنوفهم في البرد، ورائحة العرق النتن والفاقة والسكْر في مقهى «أما تيرز»، والعاهرات في مرقص «ميزيت» الذي كان يُقيمان أعلاه. وبوابة المبنى التي احتفَت بجندي الحرس الجمهوري في شقتها، وخلع عنه خوذته ذات الريش المصنوع من شَعر الجياد ووضعها على الكرسي. ونزيلة الحجرة التي تقع في آخر الصالة، التي يعمل زوجها في سباق الدراجات، وفرحَتُها ذلك الصباح في محل الألبان حين فتحَت صحيفة «الأوتو» ووجدَت أنه قد حاز المرتبة الثالثة في سباق «باريس-تور»، أول سباقٍ كبيرٍ يشترك فيه، وتورَّد وجهها وضحكَت ثم صعدَت إلى الطابق العلوي تصيح وهي تمسك الصحيفة الرياضية الصفراء في يدها. وزوج السيدة التي تدير مرقص ميزيت، ويعمل سائقًا للتاكسي، وحين كان يتعيَّن عليه هو، «هاري»، اللحاق بطائرة الصباح الباكر، طرَق عليه الزوج الباب لإيقاظه وشرب كلاهما كأسًا من النبيذ الأبيض عند حوض البار قبل أن ينطلقا إلى المطار. كان يعرف كلَّ جيرانه في ذلك الحي آنذاك، لأنهم كانوا جميعهم فقراء.

وكان قاطنو ذلك الميدان ينقسمون إلى فئتين: السُّكارى، والرياضيون. فالسكارى يقتلون فاقتهم عن طريق الشراب، والرياضيون يستهلكونها في الرياضة. كانوا سلالة أهل «كوميون باريس»، ولم يكن صعبًا عليهم معرفةُ أين ينحازون في السياسة. كانوا يعرفون من أغتال آباءهم وأقاربهم وإخوانهم وأصدقاءهم حين جاءت قوَّات «فرساي» واحتلَّت المدينة بعد «الكوميون» وأعدمَت كل شخصٍ وجدَته متورِّمَ اليدين أو يرتدي قلنسوة، أو يحمل أيَّة علامةٍ أخرى تنمُّ عن أنه عاملٌ وفي هذه الفاقة، وفي ذلك الحي المجاور لجزارة «شفالين» وبقالة النبيذ، قام بكتابة خطة كل ما سوف يكتبه بعد ذلك. لم يكن هناك مكان في باريس أحبَّه مثل هذا المكان: الأشجار المنبسطة في غير نظام، البيوت البيضاء العتيقة المكسوة بالجص والمطلي أسفلها باللون البُنِّي، والصف الأخضر الطويل من الأوتوبيسات في ذلك الميدان، وصبغة الأزهار الأرجوانية على الرصيف، والانحدار المفاجئ للتل عند شارع «الكاردينال ليموان» نحو نهر «السين»، وفي الناحية الأخرى العالم الضيق المزدحم لشارع «موفتار». وذلك الطريق الذي يفضي إلى «البانثيون» والآخر الذي كان يقطعه دومًا بالدراجة — الوحيد المُغطَّى بالأسفلت في ذلك الحي، الذي ينبسط ممهَّدًا تحت عجلات الكاوتشوك — بمنازله الطويلة الضيقة والفندق الرخيص العالي الذي مات فيه الشاعر «بول فرلين». كانت الشقة التي يعيشان فيها لا تحتوي إلا على غرفتين فقط، وكانت لديه غرفةٌ في الطابق العلوي من ذلك الفندق يدفع فيها ستِّين فرنكًا في الشهر، حيث كان يكتب، وبوسعه أن يرى منها أسطُح باريس ومداخنها وكل تلالها.

أما في الشقة فلا يمكنك سوى رؤية الغابة ومحل بائع الفحم. وكان يبيع النبيذ أيضًا، النبيذ الرديء … ورأس الحصان الذهبي خارج جزارة «شيفالين» حيث اللحوم حمراء وذهبيةٌ مُعلَّقة في الفترينة المكشوفة، ومحل البقالة المطلي بالأخضر حيث كانوا يشترون نبيذهم، نبيذٌ جيدٌ ورخيص. وما بقي بعد ذلك فهو الجدران المطلية بالجص ونوافذ الجيران. الجيران الذين يفتحون نوافذهم ويأخذون في الهمهمة حين يستلقي أحدهم سكرانًا بالليل يئنُّ ويتوجع في تلك الحالة من الثمالة الفرنسية المشهورة التي كانوا يحاولون قبل ذلك أن يجعلوك تعتقد أنها لا تُوجَد أبدًا. يهمهمون: «أين رجل الشرطة؟ حين لا نريده يكون دائمًا واقفًا هناك. إنه ينام في أحد الفنادق. اتصلوا بقسم الشرطة.» إلى أن يُلقي أحدهم جردل ماءٍ من إحدى النوافذ فيتوقف الأنين. «ما هذا؟ ماء؟ هذا عظيمٌ!» وتغلق النوافذ «وماري»، الخادمة، تحتجُّ على يوم العمل ذي الثماني ساعات بدلًا من التسع ساعات فتقول: «إذا كان الزوج يعمل حتى السادسة مساء، فإنه لا يثمل إلا قليلًا عند عودته إلى المنزل ولا يضيع نقودًا كثيرة. أما إذا عمل حتى الخامسة مساء فقط فإنه سيشرب كل ليلةٍ ولن يتبقى معه أية نقود. إن الزوجة هي التي ستُعاني حقيقةً من تقصير ساعات العمل.»

وكانت المرأة تسأله الآن، هنا، في أفريقيا: هل تحب أن تتناول مزيدًا من المرق؟

– كلا، وشكرًا جزيلًا. إنه لذيذ للغاية.

– حاوِل أن تشرب قليلًا.

– إني أُفضِّل تناوُل بعض الويسكي بالصودا.

– إنه ليس مناسبًا لصحتك.

– كلا، إنه ضارٌّ بي. لقد كتب «كول بورتر» كلمات الأغنية وموسيقاها، إنكِ ستجنين بي غرامًا.

– إنك تعرف أنني أُحب أن أدعك تشرب كما يحلو لك.

– أوه، أجل، إلا أنه ضارٌّ بي.

وجال في فكره: حين تذهب، سأفعل ما يحلو لي، لا كل ما يحلو لي بل كل ما هو موجود. آه … لقد كان متعبًا. متعبًا جدًّا. سوف ينام بعض الوقت. ورقد ساكنًا، ولم يكن الموت موجودًا. لا بد أنه ذهب إلى مكانٍ آخر. إنه يتجول اثنين اثنين، بالدرَّاجات، وفي صمتٍ شديد، فوق الأرصفة.

كلا، إنه لم يكتب أبدًا عن باريس. ليس باريس التي يُحبها. ولكن … ماذا عن بقية الأشياء التي لم يكتب عنها أبدًا؟ ماذا عن المزرعة، واللون الرمادي الفضِّي لشجرة «المريمية»، والمياه الرقراقة السريعة في قنوات الري، واخضرار البرسيم القاتم، ويمضي الطريق صُعُدًا في التلال. والماشية في الصيف خجولة كالغزلان والثغاء، والضوضاء المنتظمة، والكتلة البطيئة التحرُّك تُثير غبارًا والقطيع يهبط في الخريف. وخلف الجبال، ووضوح القمة الحاد على ضوء الماء، والهبوط ركوبًا بمحاذاة خط القطار في ضوء القمر الباهر عبر الوادي. وتذكَّر الآن الهبوط عبر الأشجار في وسط الظلمة مُمسكًا بذيل الحصان حين لم يكن باستطاعته الرؤية، وكل القِصص التي انتوى أن يكتبها.

عن الصبي الشغَّال نصف المعتوه الذي تركوه في المزرعة ذلك الوقت وقالوا له أن يحرس التبن، وذلك الوغد العجوز من «فوركس» الذي ضرب الصبي عندما حاول منعه من سرقة بعض العلف. ورفض الصبي وقول العجوز إنه سيضربه ثانية. وأحضر الصبي بندقيةً من المطبخ وأطلق عليه النار حين حاول الدخول إلى المخزن. وحين عادوا إلى المزرعة كان قد مضى أسبوعٌ على العجوز وهو ميتٌ، وقد تجمَّد جسده في حظيرة المواشي، والكلاب قد أكلَت أجزاء من جثته. وجمعتَ أنت ما تبقَّى، ملفوفًا في ملاءةٍ ووضعتَه على زحافة وربطتَه عليها بالحبال وجعلتَ الصبي يُساعدك في جرِّها، واصطحبتموها أنتما الاثنان وقطعتُما الطريق على زلَّاجات الجليد ستِّين ميلًا إلى المدينة لتسليم الصبي، وهو لم تكن لديه فكرةٌ أنهم سيقبضون عليه. يظن أنه قد أدَّى واجبه وأنك صديقه وأنهم سيكافئونه على ما فعل. وهو قد ساعد على جرِّ جثة العجوز حتى يعرف كل شخصٍ كيف كان العجوز شريرًا وكيف أنه حاول سرقة بعض العلف الذي لا يخصُّه، وحين وضع الضابط القيود في يدَي الصبي لم يصدق عينيه، ثم أخذ في البكاء. هذه قصةٌ ادَّخرها كيما يكتبها. كان يعرف عشرين قصةً جيدة على الأقل من تلك الأيام. ولكنه لم يكتب أبدًا واحدةً منها. لماذا؟

قال: قولي لهم أنتِ لماذا؟

– لماذا ماذا يا عزيزي؟

– لماذا لا شيء.

إنها لم تكن تُفرط في الشراب، الآن، منذ أن استولَت عليه. ولكنه إن عاش فلن يكتب عنها أبدًا، إنه متأكدٌ الآن من ذلك. ولا عن أيٍّ منهن. فالثريات مضجرات ويُفرطن في الشراب، أو هن يدمن لعب الطاولة. إنهن مضجرات ويُكرِّرن أنفسهن. وتذكَّر «جوليان» المسكين ورُعبَه الرومانسي من الأثرياء وكيف أنه بدأ مرةً قصةً بقوله: «إن المفرطين في الثراء يختلفون عنِّي وعنك.» وكيف أن أحدهم قال لجوليان: «أجل، فإنهم يملكون نقودًا أكثر.» ولكن هذا لم يَرُق لجوليان. كان يعتقد أنهم جنسٌ خاصٌّ فاتن، وحين اكتشف أنهم ليسوا كذلك حطَّمه ذلك الاكتشاف مثلما حطَّمه أي شيءٍ آخر.

لقد كان يحتقر أولئك الذين يتحطمون. ليس على المرء أن يحب الأمور لأنه يفهمها. لقد آمن أن بإمكانه أن يقهر أي شيء، لأنه ما من شيء أصابه بالأذى لو أنه لم يكن يهتم به. حسَن. الآن لن يهتم بالموت. إنه الشيء الوحيد الذي أحسَّ بالخشية منه دائمًا هو الألم. إن بوسعه احتمال الألم ككل رجلٍ آخر، إلا إذا استمر مدةً طويلة وأضناه، ولكن هنا، كان ثمة شيء يؤلمه أشد الألم، وعندما أحسَّ به يُحطمه تحطيمًا، توقف الألم.

وتذكَّر منذ زمان طويل حين أُصيب «ويليامسون»، ضابط المدفعية، بقنبلةٍ يدوية ألقاها أحد أفراد دوريةٍ ألمانية، حين كان آتيًا عبر الأسلاك الشائكة، وتضرَّع للجميع وهو يصرخ أن يقتلوه كان رجلًا بدينًا، عظيم الشجاعة، وضابطًا ماهرًا، رغم أنه يدمن التهويل في الأمور. ولكنه في تلك الليلة أُصيب وهو بين الأسلاك الشائكة، وشعلةٌ من النار تُضيئه، وأمعاؤه مدلاةٌ على الأسلاك، ولذلك فإنهم كي يحملوه اضطُروا إلى قصِّ الأسلاك حتى يخلصوه منها. وصاح بي: أطلق النار عليَّ يا «هاري». بحق المسيح اقتلني. وكانوا قد تناقشوا مرةً بأن الله لا يمكن أن يُنزل بأحدٍ مصيبةً إلا في حدود احتماله، وكانت نظرية أحدهم أن تفسير ذلك هو أنه أحيانًا يُصيب الألم الشديد صاحبه بالإغماء بطريقةٍ آليةٍ فلا يشعر بشيءٍ بعد ذلك. ولكنه دائمًا كان يتذكر «ويليامسون» في تلك الليلة؛ إذ إنه لم يُصبْ بالإغماء، إلى أن أعطاه كلَّ ما لديه من أقراص المورفين التي ادَّخرها لنفسه، وحتى حينذاك فإنها لم تؤدِّ مفعولها على نحوٍ فوريٍّ.

وحتى ما يحدث الآن، ما يمرُّ به، كان هيِّنًا جدًّا. وإذا لم يتدهور الحال مع مرور الوقت فلا ثمة داعٍ للقلق. عدا أنه كان يفضِّل رفقةً أفضل. وفكَّر برهةً في الرفقة التي يودُّ أن تكون معه. وجال بخاطره: كلا، إذا كان كل ما تقوم به تنجزه في مدةٍ طويلةٍ جدًّا، وفي وقتٍ متأخرٍ جدًّا، فلا يمكن لك أن تتوقع أن يكون الناس ما زالوا في انتظارك. لقد رحل الناس جميعًا، انتهى الحفل، وأنت الآن وحدك مع مضيفتك، وجال في خاطره: إنني أحسُّ بالملل وأنا أموت كما أحسستُ دائمًا مع كل شيءٍ آخر.

قال بصوتٍ مرتفعٍ: إنه شيءٌ مملٌّ.

– ماذا يا عزيزي؟

– أي شيء يستغرق المرء وقتًا طويلًا في أدائه.

وتطلَّع إلى وجهها الذي يقوم بينه وبين النيران. كانت تضطجع إلى الوراء في المقعد وضوء النيران يلتمع على وجهها ذي القسمات اللطيفة، وكان بوسعه أن يرى أنها غافية. وسمع الضبع يُطلق أصواتًا فيما وراء مجال النيران مباشَرةً.

قال: لقد كنتُ أكتب، ولكني تعبتُ.

– هل تعتقد أن بوسعك أن تنام؟

– بالتأكيد. لماذا لا تأوين إلى فراشك؟

– أحبُّ أن أجلس هنا معك.

سألها: هل تُحِسِّين بأي شيءٍ غريب؟

– كلا. إنني نعسانة ليس إلا.

قال: أما أنا فأشعر بشيءٍ غريب.

كان قد شعر لتوِّه بالموت يأتي مرةً أخرى.

قال لها: أتعلمين، إن الشيء الذي لم أفقده أبدًا هو حبُّ الاستطلاع.

– إنك لم تفقد أي شيءٍ مطلقًا. إنك أكثر من عرفتُ كمالًا.

قال: يا إلهي … ما أقل ما تعرف النساء! ما هذا؟ حدسكِ؟

ذلك أنه في تلك اللحظة حضر الموت وأرسى رأسه على قدم المحفَّة. وكان بوسعه أن يشمَّ أنفاسه.

وتحرك فوقه الآن، ولكنه لم يعُد له أي شكلٍ بعدُ. كان يشغل حيِّزًا وحسب.

– قولي له أن يرحل.

ولكنه لم يرحل، بل اقترب منه.

قال له: إن أنفاسك تحرقني، أنت أيها اللعين.

واقترب منه أكثر فأكثر، ولم يستطع الآن أن يتحدث إليه، وحين أدرك أنه لا يستطيع الكلام اقترب منه أكثر، وحاول الآن أن يُزيحه عنه دون أن يتحدث، ولكنه تحرك فجثم عليه حتى أصبح كل ثقله على صدره، وإذ هو جاثمٌ عليه وهو لا يستطيع الحركة أو الكلام، سمع المرأة تقول: «السيد نائمٌ الآن. احملوا المحفة برفقٍ وأدخلوها إلى الخيمة.»

ولم يستطع أن يتكلم كي يقول لها أن تجعله يرحل عنه، وكان الآن جاثمًا بثقلٍ أكبر حتى إنه يمنعه عن التنفس. وحينئذ، وحين كان الصبيَّان يرفعان المحفة، استقام الحال فجأةً وانزاح العبء الذي كان جاثمًا فوق صدره.

كان الوقت نهارًا، والصباح قد طلع منذ فترة، وسمع صوت الطائرة. وظهرَت صغيرةً جدًّا ثم دارت دورةً عريضة وجرى الصِّبية وأوقدوا النيران، مستخدمين الكيروسين، كوَّموا الحشائش كعلامات حتى أصبح هناك صفَّان كبيران في كل ناحيةٍ من المكان الممهَّد، وأطارَتها نسمة الصباح نحو المخيم. ودارت الطائرة دورتَين أخريين، خفيضة هذه المرة، ثم انسابت هابطةً واستقامت وهبطَت في سلاسة. ثم ها هو «كومبتون» العجوز يأتي ماشيًا تجاهه مرتديًا بنطالًا عليه سترة من التويد وقبعةٌ بُنِّية من اللباد.

قال «كومبتون»: ما الأمر أيها الديك العجوز؟

قال له: ساقٌ معطوبة. هل لك في بعض الفطور؟

– شكرًا. سأتناول بعض الشاي فحسب. لن أتمكن من اصطحاب السيدة. ليس هناك مكان إلا لشخصٍ واحد. إن شاحنتك في الطريق.

وانتحَت الزوجة ﺑ «كومبتون» جانبًا وطفقَت تتحدث إليه. وعاد «كومبتون» وقد زاد انشراحه.

قال: سندخلك إليها على ما يُرام. وسوف أعود لاصطحاب السيدة. والآن فإني أخشى أنه يتعين علينا الوقوف في «أروشا» للتزوُّد بالوقود. يحسن بنا أن نُسرع.

– والشاي؟

– لا يهمُّ.

ورفع الصِّبية المحفة وحملوها حول الخيمات الخضراء وعبر الصخرة، وخرجوا بها إلى السهل وعلى طول صفوف العلامات، التي كانت الآن تشتعل متوهجةً وقد التهمَت النار كل الحشائش، والهواء يروح عليها، إلى أن وصلوا إلى الطائرة الصغيرة. وكان من الصعب إدخاله إليها، ولكن ما إن دخل حتى اضطجع على المقعد الجلدي، وبرزت الساق المعطوبة من أحد جانبَي المقعد حيث يجلس «كومبتون» وأدار «كومبتون» المحرك ودلف إلى مكانه. ولوَّح مودِّعًا زوجته والصِّبية. وإذ تحول الضجيج إلى الزفير المعهود، مالا جانبًا «وكومبتون» يُراقب الحُفر التي تحفرها الخنازير البريَّة في الأرض، وزأرَت الطائرة وارتجَّت على طول الممرِّ بين النيران وارتفعَت مع آخر رجَّةٍ. وشاهدهم جميعًا يقفون أسفل منه، يلوِّحون بأذرعتهم، والمخيم إلى جوار التل، منبسطٌ الآن، في حين تمتدُّ آثار الحيوانات الآن في سلاسة حتى المستنقعات الجافة، وكان ثمة حياةٌ جديدة لم يرَها أبدًا من قبل. والآن … ظهور الحمُر الوحشية المستديرة الصغيرة، والتياتل، نقاطًا كبيرة الرأس تبدو وكأنها تتسلق إذ هي تتحرك في خطوطٍ طويلةٍ تجاه السهل، تتفرق الآن إذ الظل يرتفع في اتجاههما، فهي صغيرةٌ الآن، وحركتها ليس بها أي ركض، والسهل منبسطٌ على مشارف البصر، رمادي أصفر الآن، وأمامه ظهر «كومبتون» العجوز التويدي والقبعة البُنِّية اللبادية. ثم أشرفا على أول التلال والتياتل تنساب مصعدةً فوقها، ثم حلَّقا فوق جبالٍ ذات أعماق.

وحينئذ، بدلًا من الذهاب تجاه «أروشا»، انحرفا يسارًا، فاستنتج أن في الوقود بقية، ورأى حين نظر تحته سحابةً وردية اللون مليئةً بالثقوب، تتحرك فوق الأرض، وفي الهواء، كنُدف الثلج التي تُنذر بعاصفةٍ جليدية، تأتي من لا مكان، وعرف أنها جحافل الجراد الذي يأتي من الجنوب. ثم أخذا يصعدان ويتَّجهان نحو الشرق فيما يبدو، ثم أظلم الجو ودخلا في عاصفة، والمطر كثيفٌ فكأنما يطيران فوق شلال، ثم خرجا منها وأدار «كومبتون» رأسه وابتسم وأشار بيده. وهناك، أمامه، كان كل ما يستطيع أن يرى عريضًا عرض الدنيا بحالها، عظيمًا، سامقًا، ناصع البياض في الشمس إلى درجةٍ لا تُصدَّق، القمة الرباعية لجبل «كليمنجارو». وحينئذٍ عرف أنه ذاهبٌ إلى ذلك المكان.

•••

وعند ذاك فحسب توقف الضبع عن الخوار في الليل، وبدأ يُصدر صوتًا غريبًا بشريًّا يقترب من البكاء. وسمعَته المرأة وتحركَّت في قلق. ولم تستيقظ. ورأت نفسها في الحلم في بيتها في «لونج آيلاند» بولاية نيويورك، في الليلة التي تسبق ظهور ابنتها على المسرح لأول مرة. وبطريقةٍ ما، كان والدها حاضرًا، وكان جافًّا جدًّا معها. ثم تعالى ضجيج الضبع إلى درجةٍ أيقظَتها، وللحظةٍ لم تدْرِ أين هي وانتابها خوفٌ شديدٌ، ثم تناولت البطارية وسلَّطَت ضوءها على المحفة الأخرى التي أدخلوها إلى الخيمة بعد أن استغرق «هاري» في النوم. كان بوسعها أن ترى هيئته تحت حاجز الناموسية، ولكن ساقه كانت بارزةً على نحوٍ ما ومعلقةً على طرف المحفة. وكانت الضمادات قد سقطت كلها ولم يكن باستطاعتها أن تنظر إليها.

صاحت: يا غلام! يا غلا… يا غلا…

ثم قالت: «هاري»، «هاري»!

ثم ارتفع صوتها صائحًا: «هاري»! آه يا «هاري»!

ولم يكن ثمة جواب. ولم يكن بوسعها أن تسمعه يتنفس.

وخارج الخيمة كان الضبع يُطلق نفس الضجيج الغريب الذي أيقظها. ولكنها لم تسمعه لأن صوت دقات قلبها كان يعلو عليه.

١  أي يا غلام باللغة المحلية.
٢  أي السيد باللغة المحلية.
٣  تعني السيدة باللغة المحلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤