الفصل التاسع عشر

نَعَم … هِي أقْدَم

يجوز للمؤلف أن يتولى عرض كتابه إذا كان العرض عرض بيان وتفسير ولم يكن عرض تقريظ وتقدير؛ لأن صاحب الدار أدرى بالذي فيها كما يُقال.

يجوز هذا وتختلف فيه الأقوال.

ولكن الأمر الذي لا خلاف فيه أن المؤلف يجوز له، بل يجب عليه أن يعرض آراء نقاده؛ لأنه مسئول أن يصحِّح أخطاءه إذا كشف النقاد عن شيء منها، أو مسئول أن يصحِّح أخطاءهم إذا كانوا هم المخطئين.

وهذا هو العرض الذي أستجيزه وأستوجبه في هذا المقال؛ لأنه تصحيح لآراء النقاد في الرسالة التي ألفتها عن قدم الثقافة العربية وبيَّنت فيها الشواهد التي تثبت أنها أقدم من الثقافة اليونانية وأقدم من الثقافة العبرية.

وقد كنت أتوقع الدهشة التي يحدثها بيان هذه الحقيقة في أذهان بعض القراء من الشرقيين فضلًا عن الغربيين، فسميتها لذلك ﺑ «الحقيقة المفاجئة» في مقدمة الرسالة، وقلت: إنها مفاجأة «لا تزول بغير المراجعة والبحث المستفيض».

وتيسر لي على أثر ظهور الرسالة أن ألمس آثارًا مختلفة لهذه المفاجأة عند أناس مختلفين من الغرباء عن العربية، ومن أبناء العربية أنفسهم، فكان أعجبها أن إحدى القارئات الأوروبيات بلغ بها استغرابها لصدور هذا الرأي مني أنها اعتقدت وصرحت لي بأنه رأي أبديه الآن مجاراة لتيار الدعوة العربية في حركتها الجديدة!

هذه الفتاة الأوروبية تعرف لغتنا وتشتغل بتحضير رسالة عن القصص العربي في عصرنا، ولم تقرأ الرسالة كلها ولكنها فُوجِئت بالعنوان وحده وبالمقدمة بعد صفحة أو صفحتين منها، فخُيِّل لها كما أسلفت أن البحث مقترح علينا لمجاراة الدعوة العربية في إبانها.

قلت للآنسة المستعربة المستغربة: إنني لا أرى حرجًا في مجاراة الدعوات العامة إلا أن يكون ذلك خلافًا للحقيقة أو إقحامًا للآراء في غير موضعها، ولكنها تظن ظنًّا يغنيني عن الإفاضة في الرد عليه أن الفكرة قديمة عندي لم أعلنها اليوم ولم يفتني إبداؤها في مناسباتها، ومنها كتابي عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية، وقد تكفل مقال العالم الباحث الأستاذ علي أدهم الذي كتبه نقدًا لرسالتي الجديدة بتصحيح هذا الظن قبل كتابة هذا المقال، فكتب في مجلة «الرابطة الإسلامية» يقول:

إن هذه الفكرة — فيما أعلم — ليست طارئة عند الأستاذ العقاد، فما أزال أذكر نقدًا كتبه الأستاذ لكتاب العالم البحاثة المرحوم الأستاذ أحمد أمين «فجر الإسلام»، في أواخر العشرينيات، فقد أخذ على الأستاذ أحمد أمين في هذا النقد ذهابه إلى أن اليونان هم أول من وضع أسس التفكير الفلسفي الصحيح، وعاد الأستاذ إلى تناول هذا الموضوع من زاوية أخرى في كتابه القيم عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية، ونقده للأستاذ أحمد أمين وما ذهب إليه في كتابه المذكور يمهدان ذهن قارئه إلى ما أسماه في كتابه الجديد حقيقة مفاجئة.

نقول: وهذا لون من ألوان الدهشات التي توقعتها ورأيتها قد يذهب به هذا البيان الوجيز، فلا حاجة به إلى تفصيل فوق هذا الإيجاز.

أما المفاجأة لي حقًّا فهي أن الفكرة لم تقع موقع المفاجأة كما كنت أنتظر عند عالم من علماء الروس في العصر الحاضر، وهو الأستاذ سورين شيرويان الذي ألف كتابه لنيل شهادة الدكتوراه عن أبي العلاء المعري وزار القاهرة لإتمام بحوثه في الآداب العربية، فقد سأله محرر «الجمهورية» قائلًا: إن الرسالة أثارت «دهشة الكثيرين بما تضمنته من آراء عن سبق الثقافة العربية للثقافة اليونانية والعبرية»، فأجابه الأستاذ بأنه «في الواقع لم يدهش لذلك» … ثم قال: «وقد سبق أن نُوقِشت هذه المسألة في موسكو منذ سنوات، وكانت الفكرة أن الثقافة اليونانية سبقت الثقافات جميعًا، وليس هذا صحيحًا …»

وقد نُشِر هذا الحديث في عدد «الجمهورية» الذي صدر في الثامن والعشرين من شهر نوفمبر الماضي، واستغربته أول الأمر فعددته من مفاجآت الفكرة التي تلازمها في حالتيها من التأييد والتفنيد، ثم لاح لي أن الأستاذ شيرويان خليق أن يعلم تاريخ الأبجدية «الكيرلية»؛ لأنها تُستخدَم في كتابة اللغة الروسية كما تُستخدَم في كتابة بعض اللغات من أمم أوروبا الشرقية، ولا بد أن يهديه علمه بتاريخ هذه الأبجدية إلى العلم بتاريخ الثقافة «المكتوبة» في بلاد اليونان، فلا يخفى عليه إذن جانبها الأصيل وجانبها المنقول والمستعار.

وقرأت للدكتور محمد مندور أخيرًا فصلًا في صحيفة «الجمهورية» أيضًا يرفض فيه القول بسبق الثقافة العربية للثقافتين اليونانية والعبرية، ويرى أننا لم نفرق بين السامية والعربية ولا بين الثقافة والحضارة، وأن تقديم ثقافة العرب في التاريخ على ثقافة اليونان والعبريين زعم لا يستند إلى أساس.

ونعود فنقول: إننا توقعنا الدهشة وتوقعنا أنها «لا تزول بغير المراجعة والبحث المستفيض».

وهذا ما لم يصنعه الدكتور محمد مندور؛ لأنه كتب ما كتب قبل مراجعة الرسالة نفسها، وفيها الكفاية لتصحيح ظنه في أمر الثقافة وفي أمر التفرقة بين السامية والعربية.

وإن إشارة واحدة لتكفي لتصحيح هذا الظن السريع؛ لأننا تكلمنا عن تعليم الكتابة وتعليم العقيدة وهما من شئون الثقافة قبل الحضارة على كل معنى من معانيها، فإذا سبق العرب اليونان إلى تعلم الكتابة، وسبقوا العبريين إلى رسالة العقيدة، فلا شك أنه سبق ثقافي لا يُوصَف بأنه من مظاهر الحضارة غير الثقافية؛ إذ ليس للحضارة معنى — حين تنفصل عن معنى الثقافة — غير مظاهر العمران الملموسة في العواصم والمدن الكبيرة وما ينتقل من هذه المظاهر إلى القرية والبادية.

ونحن لم نقصر مصدر الكتابة على الأبجدية الفينقية، بل ذكرنا الأبجدية اليمنية والأبجدية بين وادي النهرين وبلاد كنعان، فإذا قيل إن تسمية الفينقيين باسم العرب خطأ تاريخي — وهو ما لا نسلمه — فالحقيقة التي لا شك فيها أن اسم العرب يشمل أبناء البلاد الذين يشتركون في سكنى الجزيرة من اليمن إلى وادي النهرين إلى بادية الشام إلى جنوب فلسطين.

ونوجز القول فنسأل: من هم سكان جزيرة العرب؟ ومن هم المهاجرون منها قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة؟ إن لم يكونوا عربًا فمن هم العرب في ذلك الزمان؟ وإذا نُسِب إليهم فضل سابق في الكتابة والفلك وشعائر الدين، فماذا نسميه إن لم نسمه فضلًا عربيًّا عند المقابلة بين فضائل الأجناس واللغات؟!

هذه كلمة موجزة ولكنها كافية، في «دهشة تلك الحقيقة وحقيقة تلك الدهشة» يسترشد بها من يريد التوسع والمزيد من «المراجعة والبحث المستفيض.»

أما الذين لا تنفعهم هذه الكلمة الموجزة ولا تنفعهم مطولات الأسفار في هذا المقام، فهم أولئك النفر الحريصون على السمعة الرخيصة بالتحقيق والتدقيق، وعندهم أن هذه السمعة سهلة الكسب جدًّا بذريعة واحدة، وهي مخالفة الرأي المحبوب أو القريب من الشعور، فإذا قيل عن أحد إنه يخالف ما يحبه الناس ويألفونه بشعورهم وعاطفتهم فهو إذن ذلك المحقق المدقق الذي يتوخى الصواب؛ لأنه لا يتوخى مرضاة الجمهور، وليس أقدر على كسب سمعة التحقيق والتدقيق بهذه السهولة من العاجزين عن كل تحقيق وتدقيق؛ لأن موافقة الجمهور ومعارضته على الغيب تستويان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤