الفصل العاشر

الحارث بن كلدة الثقفي

كان الحارث بن كلدة الثقفي أشهر أطباء العرب يومئذٍ، ملأ صيته العراقين واليمن وما بينهما،١ وجاوزها إلى مدائن كسرى والإسكندرية، وكثيرًا ما دعاه عواهل تلك الأقطار؛ لتطبيبهم ممَّا كان يعجز عنه حذاقهم على أنه كان بفطرته نَزَّاعًا إلى النقل، شديد السأم من الإقامة مدة طويلة بمكانٍ واحد، فما أن ينزل بناحية حتى يعاجله التفكير في الرحلة إلى ناحيةٍ أخرى في طلب العلم والصحة، والأنس بالأصدقاء والخلان، وما كان يجيء إلى مكة إلا ليزور قبر امرأته الوهبية أم أولاده: النضر الطبيب وقتيلة الشاعرة،٢ وأولاد أختها الكبرى، وليتفقد أحوالهم، وينفحهم بهداياه الغالية، وشيء من فيض ماله الكثير. من هناك يرحل إلى اليمن مارًّا بنجران فيقضي بها شطرًا من العام في زيارة صديقه أبي الحارث الأسقف الوقور، وبقية من أقارب بني الحارث ظلوا في ربوعها بعد انتقال دولتهم إلى بني الديَّان، ومن هناك يرحل إلى صعدة وصنعاء؛ ليجتمع فيها بأحبار اليهود وعلمائهم الذين كانوا أول من أخذ العلم بالطب عنهم، ومن هناك يكر عائدًا إلى مكة، ليرحل منها إلى الحيرة، ومدائن كسرى ودمشق والقدس والإسكندرية، وهكذا دواليك.

ولكنه كان في سنواته الأخيرة يطيل مكثه في الإسكندرية على غير عادته، وإذا جاء إلى مكة لم يذهب بعدها إلا إلى اليمن متعجلًا، ومنها يعود بطريق البحر إلى عيذاب في سواحل مصر، ومنها إلى قفط وقوص، ثم ينحدر مع النيل إلى منف والإسكندرية. ذلك لأنه كان قد اتصل فيها بالعالم قوزمان الطبيب وتزوج ابنته هرميون، وأعقب منها ابنة سماها لمياء اجتمعت فيها محاسن العرب والروم من الخلق والخلق معًا، وتكشفت يومًا بعد يوم عن زهرة فاتنة لكل من رآها، فكانت متعة أبيها، ونجعة قلبه، وقرة عينه، حتى لم يعد يفكر في مكة ولا من له فيها من البنين والبنات. وكان كلما أرسل إليه ولده النضر رسالة شوق وعتاب، أرسل إليه يعتذر بكثرة مشاغله، وما كانت مشاغله إلا بفاتنته لمياء الصغيرة.

على أنه كان في مكة يوم أصيب باقوم في قدمه. ذلك لأنه لم يشأ أن يبقى في الإسكندرية بعد ما تراكمت عليه أسباب الذعر مما يحيق بها؛ وألفى نفسه وامرأته وابنته في أنياب العطب غير مرة.

كان فيها يوم ورد إليها نبأ ثورة رهيبة قام بها في بيزنطة جندي سوقي مشوه الخلقة يُدعى فوقاس أفسد الجيش بأكاذيبه ووعوده، وتمكن بذلك من قتل الإمبراطور الطيب الخيّر موريقوس، وقتل كل أولاده وبناته وأمراء بيته واعتلاء العرش مكانه،٣ وكذلك في سنة ٩٠٩ يوم جاء النبأ بأن هرقل ابن أمير أفريقية (تونس) — وكان قد غضب لهذه الجريمة — دعي إلى القسطنطينية لطرد الإمبراطور المغتصب فوقاس، فخرج بجيشين؛ أحدهما: سار به في البحر إلى بيزنطة؛ ليطرد منها هذا الإمبراطور المغتصب المكروه، والثاني: سار به بالبر بقيادة صديقه نيقتاس مارًا بطرابلس وبرقة قاصدًا الإسكندرية، وكانت عاصمة الإمبراطورية الثانية؛ ليستولي عليها، ويطرد الوالي الفوقاسي منها، وكان الحارث يود أن يغادرها لولا أن امرأته كانت مريضة. فلما أبلت كان نيقتاس قد حاصرها فأقفلت أبوابها، وأصبحت جميع الطرق غير آمنة، بل انتشرت عصابات اللصوص وقطاع الطرق في جميع نواحي القطر، حتى أصبح البقاء في الحصاد آمن وأكرم.٤
فلما انتهى الحصار بانتصار نيقتاس ولاح الأمن كأنما استتب في الديار عزم على الرحيل بزوجته وابنته إلى مكة من طريق الصحراء، ولكنه علم أن الإمبراطور فوقاس أرسل أمير الشرق بونوسوس أغلظ قواده كبدًا وأسلفهم نفسًا؛ ليسترد الإسكندرية من نيقتاس، وليعفِّي أثر حي اليعاقبة خاصة من الإسكندرية، وهو حي رقوده، وذلك انتقامًا منهم لقتلهم تيودور بطريق الروم، ولفرحهم بزوال دولته من مصر، وأن بونوسوس هذا قد نشر جيوشه في العامرة والغامرة، وأباح لمناسر اللصوص أن يسرقوا ويقتلوا ويفضحوا الأعراض. فآثر الحارث ويل الحصار وانتظار العاقبة على أن يغامر بنفسه وزوجته وابنته في طريق الصحراء وغير الصحراء، والحال على ما علم، وبقي في الإسكندرية على مضض شديد إلى أن اضطر بونوسوس إلى ترك الحصاد والعودة على عجل إلى أنطاكية مقر إمارته في الشام قبل أن يقطع عليه الطريق. فقد بلغه أن كسرى أبرويز بلغ بجيوشه أرمينية وحدود الشام؛ ليأخذ بثأر الإمبراطور موريقوس الذي قتله فوقاس، وكان لموريقوس على أبرويز فضلان؛ الأول: أنه ردّه إلى عرش فارس لما اغتصبه منه وزيره بهرام٥ والثاني: أنه أكرمه فزوّجه من ابنته مارية ابتغاء حقن دماء شعبين عظيمين لم يهدأ لهما سيف في قراب منذ كانا متجاورين.

عندئذٍ أراد الحارث أن يرحل عن الإسكندرية ذات الثورات والبلايا، ويعود إلى البلاد التي جعل الله بينها وبين مطامع الشعوب فلاة لا مطمع فيها لطامع، فعاشت لقاحًا لا يملكها مالك. ولكنه لم يستطع أن يحمل زوجته على قبول السفر، حتى رأى قوزمان نفسه والد امرأته أن من الخير لهم أن يبعدوا عن مصر كلها، ولكنه نصح لهم أن يأخذوا طريق النيل إلى قفط، ومنها بالجمال إلى عيذاب على شاطئ البحر؛ لينتقلوا في سفينة إلى جدة فمكة، وكتب بذلك إلى أصدقائه في مصر العليا فسهلوا نقلة الحارث وكذلك كان، واستطاع أن يبلغ مكة دار الأمن والسلام، ويسري عن نفسه سحابة الذعر الذي تملكه أربعة عشر عامًا في الإسكندرية، ولما جاء ورقة يخبر سيده ابن نوفل بما نزل بعمه باقوم نهض ابن نوفل من فوره إلى دار الحارث، ورجا منه أن يسير معه إلى باقوم، وأخبره خبره. فنهض الحارث، واحتمل ورقة حقيبة أدواته ولوازمه، وسارا إلى حيث رقد باقوم.

فحص الحارث عما أصاب باقوم فوجد أن مشط القدم قد تهشمت عظامه، ولا يجدي فيها تجبير ولا مروخ، وأنه إن تركها على أمل أن تلتئم ويزول ما تحدثه من الألم فلن ينتفع بها. على أنه كان يرجح أن يصيبها العفن ويمتد وراءها ويموت الرجل، ولذلك أشار ببتر هذا الجزء المهشم على الفور قبل أن يسري القيح منه إلى سائر البدن.

لم يكن لأحدٍ بعد هذا الإيضاح أن يتردد في النزول على رأي الحارث، ومن ذا الذي كان يشك في صواب حكمه، وهو أشهر طبيب في الجزيرة العربية بأجمعها، ولذلك أقرّه ابن نوفل وباقوم نفسه، ورضي بقضاء الله، ورجا من الطبيب أن يشرع في بتره على الفور، وقال: إنه يرغب أن يعيش من أجل تماضر وولدها ورقة الذي يحبه حبًّا شديدًا، ويخشى عليه نكبات الأيام. ثم مدّ رجله مستسلمًا، وأغمض عينيه حتى لا يرى دموعًا كانت تتراءى بها عيون تماضر وورقة وسيده ابن نوفل نفسه.

استعد الحارث لعمله فأخرج مشرطه من جرابه وغسله وأحرقه، ثم طلب إلى نوفل وورقة أن يمسكا بساق الرجل وأعلى قدمه حتى لا تتحرك تحت المشرط، ففعلا، وشرع الحارث في عمله فجرح وقطع، وهم جميعًا معجبون بتجلد الرجل وصبره؛ لأنه لم يصرخ إلا مرة وسكت. على أنه كان قد أغمي عليه من شدة الألم ولم يفق إلا وقد ضمد الجرح، وأزالت تماضر آثار الدماء من الغرفة وأعادتها كما كانت.

figure
الحارث يبتر أصابع باقوم.

أفاق باقوم من غشيته شيئًا فشيئًا، فهنأه الجمع بسلامته، وإذ علم أنه لم يبق شيء شكر للحارث فضله، ولمولاه برّه، وإذ انحنى ورقة عليه يسأله عن حاله تناوله فقبله ودعا لامرأته بكل خير.

ارتاح الحارث لما رأى من همة الرجل وشكره وأحبه، وأخذ يتردد عليه كل يوم ليراقب حالة الجرح حتى التأم، ونجا باقوم من موتٍ كان محققًا، ولكنه لم يعد صالحًا لاعتلاء النصب للبناء. فعوّل على أن يتاجر في مواد العمارة يستقدمها من مصر، ويستعمل ورقة في هذا العمل ليخلفه فيه، وكان قراره هذا مريحًا لقلبه، مهونًا عليه ما أصابه في قدمه.

كثر التقاء ابن نوفل بالحارث بعد ذلك إذ كان هذا الحادث سببًا في تجديد مودتهما القديمة، وإحياء ذكريات ماضية، وأنس كل منهما بصاحبه، وكان ورقة ابن العفيفة يصحب ابن نوفل في كل اجتماع لهما، ويحضر مجالسهما مع الأبناء. بل كان إذا عاقه عائق عن الحضور معه افتقده الحارث وتساءل عنه وأرسل في طلبه، وابن نوفل فخور به؛ لأنه أستاذه، والحارث معجب به؛ لأنه وجده غلامًا فرهًا حسن الطلعة، شديد الذكاء، ولأنه خبره في أمور كثيرة فوجده صائب الرأي يحسن أداء ما كان يُعهد إليه من المهام. ذلك بأنه كان إذا غمَّ عليه الأمر لم يتركه ليستفتي صاحبه، بل كان يمضي فيه برأيٍ من عنده يكون فيه الصواب والسداد.

وإذ كان الحارث قد انتوى في نفسه الرحيل إلى اليمن أخذ يحبب إلى زوجته هذه البلاد السعيدة، ويذكر لها وللمياء ما فيها من الخيرات والبساتين والقصور والميادين، حتى حنّت نفسهما مثله إلى النقلة إليها، ولا سيما لأنهما كانتا قد بلغتا مكة في الربيع، وأخذتا تتذوقان حرارة السموم التي تتقدم الصيف، ولذلك أبدت هرميون استعدادها للسفر على الفور التماسًا لطيب الهواء في غياض صنعاء ورياضها، ولكن الحارث لم يكن يملك ذلك على شدة رغبته فيه؛ إذ كان معتزمًا أن يزف ابنته «قُتيلة» إلى ابن عمٍّ لها في الطائف، وكان لا بد له من المكث في مكة شهرًا لإتمام هذا الغرض.

في ذلك الشهر أخذ يفكر في مشاق السفر، ولا سيما بعد ما أصبح عليه أن يرعى في حموله زوجة وابنة، ورأى أنه لم يعد يستطيع أن يأخذ ابنه النضر ليعينه على عمله في التطبيب إذا عالج، وفي التحصيل إذا درّس ويهوِّن عليه مشقة النقل؛ لأن النضر كان قد تزوج وأعقب، ولذلك نزعت نفسه إلى ضم ورقة بن العفيفة إليه لما رأى فيه من الرجولة والذكاء، ولأنه كان فوق هذا يعرف الرومية عن باقوم فهو لهذا أصلح الناس، إذ يكون كذلك عونًا لامرأته على التفاهم مع الناس، وجلب حاجتها من الأسواق، ولكنه وجد أمامه عقبتين؛ أولاهما: أن أبويه في حاجةٍ إليه، وثانيتهما: أن ابن نوفل يستعين به في شئونه ودرسه، ويكرم أهله من أجل ذلك. فأخذه — إذا تيسر — يضر بابن نوفل وأهل ورقة معًا. كما أنه كان يعلم أن ابن نوفل بلا عقب، وأنه يحب الغلام ويكرمه بعاطفة أبوة لا يكبحها فيه إلا الوقار. فإذا هو طلب الغلام إليه، فإما أن يعتذر بحاجته إليه فيخجله، وإذا سمح له به كان هذا تورطًا منه في إجابته رجاء للحارث فيكون كالمغتصب، ولذلك آثر ألا يكلمه في هذا الشأن، وأخذ يفكر في سواه.

على أن ابن نوفل كان في الحقيقة يشتهي لو تيسر للفتى سبيل الحياة بما هو أحسن وأمثل، ولا يرى خيرًا له وهو يعرف القراءة والكتابة بالعربية والرومية في بلدٍ قلما وجد فيه من يعرف أن يخط حرفًا أو يعرف غير لغة الحديث، إلا أن يلحق بالحارث الطبيب الذي نبغ في بلاد العربية كشجرة مورقة؛ ليتعلم عليه ويأخذ عنه، ولكنه استحيا أن يفاتحه في الأمر؛ لأنه كان يعلم أن الحارث كثير الأسفار وفي تنقل ورقة معه كبر نفقة، ولذلك آثر ألا يكلمه هو أيضًا.

ولكن حدث ذات يوم أن جرى ذكر ورقة في غيبته، وكانت نفس الحارث مأزومة بحيرتها ومشتغلة برغبتها في أن يكون ورقة معه. فقال الحارث لابن نوفل: ولدك هذا يا ابن نوفل على تمام الاستعداد بفطرته، ولقد أصبح لمعرفته القراءة والكتابة بالعربية مهيأ للعلم والعلا لو وجد المعلم البار.

فانتهز ابن نوفل فرصة عطفه وتقدير للفتى وأجابه: هل في بلاد العرب من هو خير منك معلِّمًا أو أبر أبًا! ولكني أشفقت أن يثقل عليك، فإن رأيت أن تسبغ عليه فضلك فهو ولدك وولدي معًا، وعليَّ تدبير أمر أبويه إن شئت به خيرًا، وهو حقك يستحقه: فخذه وعلمه علم العقاقير، وعرّفه خواصها، ودله على منابتها ومظانها، فلعله إذا بلغ سن الفتوة مستطيع أن يتجر فيها في مكة، أو يكون طبيبًا ينفع الناس بطبه.

ولشد ما كان فرح الحارث لهذا الغرض وارتياحه إذ لم يكن هو البادئ به، وإن لم يكن فيه إجازة بأخذه معه حيث ينتقل، ولكن الحارث ترك هذا إلى ما بعد وأمَّل خيرًا فأجاب سؤل ابن نوفل من فوره شاكرًا، وأبدى أنه لا يجد في أخذ الغلام كلفة؛ لأنه سينتفع به بقدر انتفاع الغلام منه، وهوَّن الأمر على أبوي ورقة أن الحارث كان يوم عودته إلى مكة قد ذكر لسيدة قريش أنه لن يرحل عنها وعرفت العفيفة وباقوم ذلك، فكان سرورهما بما جرى الاتفاق عليه عظيمًا.

بقي الغلام يتردد كل يومٍ على بيت الحارث تردد التلميذ على معهد العلم، ثم يعود إلى أبويه في المساء، وظل يرافقه في زياراته وعياداته، ويشتغل معه في بيته وغير بيته بإعداد العقاقير لمختلف الأدواء، وكانا إذا وجدا بينها نوعًا ناقصًا خرجا إلى أودية مكة ومرابضها؛ ليبحثا عنه بين عشبها، ويأتيا به، أو يكتبا في طلبه من منابته، وقد يتغيبان عن مكة ليلة أو ليالي في سبيل ذلك، حتى ضَرِيَ أبواه بغيابه، وهما سعيدان بما كان يحدثهما الفتى عن سعادته في حياته الجديدة، إذ كان محل الرعاية من أستاذه والمحبة من امرأته هرميون وابنته لمياء؛ لأنه كان لسانهما الذي تكلمان به الناس، وعينهما وأذنهما اللتين تريان بهما وتسمعان؛ إذ لم تكن هرميون تعرف من العربية إلا ألفاظًا قليلة لا تنفع، ولم يزد علم لمياء وهي عربية الأب عن بعض جمل لا تسعف، ولذلك لم تكونا لتملكا صبرًا على غيبته عنهما ساعة واحدة ولو كان في عمله. على أن ورقة كان صبيًّا صبوح الوجه سعيد الطالع، يقبل على سائله بأدبٍ ومحبة ورغبة في إرضائه من غير ما تكلف لذلك، بل نضوجًا عن بر، وشعورًا بمسرة في أن ينفع الناس، وكان على هذا عف اليد والعين والضمير. فلم تملك هرميون ولا لمياء إلا الشكر لله عليه؛ واختصاصه برعايتهما، ومحبتهما اختصاص الابن البار والأخ الرحيم، ولم تكن لمياء لتكتم تعلقها به؛ لأنه كان سلوتها الوحيدة في معشر كان كل من يزورها من بناته ونسائه يضحك من لحنها في النطق، وعجزها عن أداء المراد، وينصرفن عنها للزراية بها في بيوتهن مدفوعات إلى ذلك بعاطفة حسد لها وغيرة منها؛ لما خصها الله به من نعمة الجمال، ورقي الحسن، وما ميزها به من الثقافة ودماثة الخلق، ولما اكتسبته في الإسكندرية من خصائص الحضارة في ملبسها ومظهرها، وإن لم تزد يومئذ على الثالثة عشرة من عمرها، وكان برّ هرميون بورقة يزيد في تعلق لمياء، وتعلق لمياء به يزيد في حب هرميون، وحبهما معًا ينضح على الحارث فيزيد في إكرام ورقة وتألّفه، وكانتا تقولان للحارث: إنه لمن نعم الله عليهما أن تجدا في مكة من يكلمهما بلغتهما الرومية، ويؤنس وحشتهما في بلدٍ لا تدريان كيف استطاع الإنسان أن يستعمرها، وهي قطعة من وادٍ غير ذي زرع،٦ لم يخلق الله فيه ماء٧ ولم يرد أن يرسل عليه سماء، وأنه لولا البيت الكريم، لم يكن يصلح إلا مدفنًا لمن يهلكه السفر في القوافل.

وكان الحارث يضحك لحديث امرأته مداريًا هواجس نفسه من أن ينقلب تعجبها كرهًا لمكة وإصرارًا على مغادرتها هي والبلاد التي لم تجد فيها أنيسًا إلا الصبي ورقة؛ لتعود به إلى الإسكندرية بلد الثورات والدماء، ولذلك كان يرى لورقة عليه فضلًا أكبر في أنها لم تكن حين تذم مكة تذكر له الإسكندرية أو النيل، ولا ما في مصر من الخصب والنماء، وطيب الهواء وعذوبة الماء، ولكن كان يعكِّر عليه صفوه من ذلك ولده النضر. فإنه لم يكن راضيًّا عما يلقى الغلام من الرعاية في بيت أبيه وكان يحادثه في ذلك لائمًا، وإذا لقي ورقة لقيه متجهمًا، وإن لم يجد في سلوكه ما يعاب، وإذا وجده سائرًا في حاجة لسيدته الرومية نبهه إلى التزام عمله في العقاقير وردَّه عن أداء هذه الحاجة، ثم انصرف إلى امرأة أبيه ينبهها إلى خطأ ما تفعل، ويطلب إليها الإقلاع عن ذلك، حتى أصبحت هرميون تكره رؤيته، وتود لو تملك أن تفارقه، ولكنها كانت تخشى إذا هي أيقظت في نفس زوجها الرغبة في النقلة إلى اليمن كما حدثها أن يأخذ ابن نوفل ولده، أو ترى سيدة قريش أن أمه أحق به، وفي ذلك شقاؤها هي وابنتها، ولذلك لم تعد تطالب الحارث بشيء مما وعدها من بساتين اليمن، ولا قصورها ومياهها، ورضيت أن تعيش في أجدب بقاع الله حتى ترى لها رأيًا، أو تتبدل الأمور من تلقاء نفسها فتواتيها بما هو خير.

استمر الأمر على هذا الحال شهرين أو يزيدان زفت فيهما قتيلة ابنة الحارث إل زوجها في الطائف، وذهبت هرميون ولمياء فيمن ذهب معها لشهود حفلة العرس. فأعجبت هرميون بالطائف أيما إعجاب، ودهشت إذ رأتها في صحراء العرب بلدًا أشبه بغياض الشام وقرى جباله في زرعه وضرعه، وعيونه وبساتينه، بل وفي برده وثلوجه على ما روى لها الناس من أمرها ليلتئذ، وعجبت لزوجها وهو ثقفي من أهل الطائف وأعيان أهلها كيف لا يجعلها مستقرًّا له، ويؤثر عليها مكة الجرداء. ولم تستطع أن تخفي دهشتها عن زوجها لما عادت إلى مكة؛ لأنه لم يذهب معهما إلى الطائف، ولا عجبهما من أنه لم يذكرها لها من قبل على حقيقتها، يوم كان يغريها بترك الدنيا في مصر والمجيء معه إلى الصحراء. فقال لها مازحًا: إنه لا يجب المبالغة ولا الفخر بمسقط رأسه مثلها، وأنه اكتفى من الأمر بما ذكره لها النضر عنها وأهل النضر. قالت: إنك لتعلم أني لم أعد أصدق حديث أحد في هذه البلاد بعد ما رأيت من مبالغاتهم وأخذهم باليقين فيما يجدون شبهة للحق فيه، ولقد كنت تقول لي عن هذه البلاد أشياء ظهر … فضحك الحارث ولم يدعها الحارث تتم جملتها لما يعرف فيها، وقبلها شاكرًا فضلها في رضائها بالمجيء معه إلى بلاده، وأبدى لها أنه ما كان يستطيع أن يتركها في بلاد لم يهدأ السيف فيها في قرابه يومًا، ولم تنقطع الحرائق منها، وما كان يقوى على أن يعيش بعيدًا عنها، ولو في الجنة، ولكن الواقع من أمر سكوته عن الحديث عن الطائف أنه كان قد غاضب إخوته وأهله فيها وهو فتى، فأقسم لينزحن عنها مفارقًا ويهجرها هجر الغريب عنها، حتى لا يعود إلى عشرتهم ولا إلى الاجتماع بهم. فباع كل ما كان له فيها، واتخذ مكة مستقرًّا لولده، وكان هذا سببًا في أنه لم يذهب مع الذاهبين بابنته إلى الطائف. ولم يضره هذا القسم؛ لأنه كان قلما يبقى في مكة حين يأتي إليها إلا أشهرًا، ثم يرحل إلى بلاد الحضارة التي أنسته الطائف وغير الطائف.

ولم تكن هرميون لترى صوابًا أن تطلب إليه النقلة إلى الطائف لا لأنه مقسم بل لأنها كانت تخشى ما خشيته من قبل من الوحدة فيها. بقعود ورقة عن الانتقال معهم، وقد أصبح من ضرورات حياتها. فقد كانت الطائف على مرحلة من مكة، فهي دار غربة للصبيان. فلم تفاتحه في ذلك، ولكن الحارث عرف ما وراء هذه السكتة فجاءها ذات يومٍ يقول: لعلك يا هرميون كنت تودين النقلة إلى الطائف لولا ما علمت من قسمي. قالت: لا وربي بل لأني إذا انتقلت إليها فسأكون فيها وحيدة أنا وابنتي. أما قسمك فقد بررت به ثلاثين عامًا، وحسب آلهتك منك هذا. قال الحارث: لا وحقك ما عنتني آلهتي بشيء وإنما عنتني نفسي. أقسمت أي عزمت وعاهدت نفسي. فإذا أنا حنثت فقد ذللت واتضعت. بيد أن ليس لي إلا إله واحد يا هرميون، هو ربُّ إبراهيم، ذو المجد والعلا، ولكني أعلنك بخبر تسرين له كل السرور. نادي لمياء لتسمعه. فلما جاءت قال لهما: لقد رأيتكما أغرمتما بما رأيتما في الطائف من ثلوج تذوب، وأنهارٍ تجري، وبساتين وغياض، وفاكهةٍ وأعناب، وثمراتٍ ورياض. قالتا: أجل إنها والله لجنة، أما مكة … قال: وفي ظني أن ليس لكما في الطائف بعينها مأرب خاص. قالت هرميون: كيف يكون لنا مأرب فيها، ونحن لم نعرفها إلا منذ حملنا ولدك إليها. قال: إن على مسافة ساعتين من مكة قرية ألطف من الطائف هواءً، وأكثر غياضًا. جنة صغيرة فيها ما تشتهيان وما لا تؤملان أن تجداه في صحراء العرب. جنة فوق جبل يكاد ينطح السحب. تلك هي قرية الهدى فوق جبال كرا التي تريانها من هنا. بيد أن الثلج يدوم على شعافها نصف العام، وهي بلدة يجتمع فيها أحيانًا بعض عباد اللات والعزى، ينحرون ويتقربون، ولقد اتفقت مع سيدة قريش وابن عمها على أن يصحبنا إليها ورقة، ويكون معي في الحل والترحال، ورضيت العفيفة وزوجها بذلك، على أن يزورهما إذا اكتمل البدر مرة، وإذا هل أخرى؛ ليقضي عندهما ليلة في كل زورة، وأن يمر بهما كلما دعتني الضرورة إلى نزول مكة وصحبني إليها، وهي — كما قلت — قرية يبلغها الراكب المجد في ساعتين. فإذا رضيتما بذلك فليكن الغد يوم النقلة.

لم يكن أطيب من حديث الحارث حديث، ولا أدعى إلى المسرة والرضا، ولذلك تهافتت عليه هرميون ولمياء، فقبلتاه وشكرتاه. ثم نهضتا من فورهما تجمعان الأمتعة، وإذا بورقة يدخل عليهما متهللًا؛ لأنه كان مع أبويه ساعة جاء ابن نوفل ليستأذنهما فيما أعلنه به الحارث من عزمه على الاصطياف في قرية هَدَى، ورغبته في أن ينتقل معهما ورقة، ويذكر لهما ما اشترطه عليه من زيارتهما وأنه (أي ابن نوفل) قد أهدى ورقة فرسًا؛ ليحمله بين الهدى ومكة، وأنه نزل على كل هذه الشروط ووعد بأكثر منها.

فلما رأتاه كذلك هللتا، ودعتاه إلى التعجيل بجمع الأمتعة؛ لينصرفا عن هذه النيران التي تتأجج في جحيم هُبَل في مكة حتى سودت جسمانه. فضحك ورقة لهذا الكلام؛ لأنه كان يعلم أنهما لا تؤمنان بهبل ولا غير هبل، ولكنهما أرادتا المزح معه والتهكم من آلهة قريش، فقد كان هبل في الكعبة، وكان من حجرٍ أسود، ولكن هرميون لم تشأ أن تقرّ بأنه كذلك، بل إن حر مكة قد أحرقه وسوده، كما تسوّد النيران أثافي القدور، ولكن ورقة لم ينصرف إلى ما دعتاه إليه، بل ذهب من فوره إلى الحارث فقبَّل يده شكرًا على برّه به، فقبّله الحارث في جبينه وأثنى عليه، ثم كلّفه أن يستعد للنقلة في الغد.

١  تاريخ الأطباء.
٢  كتب الأدب: ولهذه الشاعرة قصيدة بليغة تخاطب بها رسول الله لما أمر بقتل أخيها النضر؛ إذ أسر في واقعة بدر، وقيل: إنه لما سمعها الرسول قال ما معناه: لو أنها بلغته قبل أن يأذن بقتله لعفا عنه.
٣  سنة ٦٠٢.
٤  بطلر وجيبون.
٥  بطلر.
٦  القرآن الكريم.
٧  لم يكن في مكة يومئذ ماء يصلح للشرب فلم يكن فيها من الآبار إلا زمزم في الحرم وماؤها غضيض، ولكنهم كانوا يستقون من بعض آبار فيما وراءها ومنها بئر الحمام المشهورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤