الفصل الثامن والثلاثون

ترهب القلب

أبل حاكم منف، وتهيأت النفوس لإتمام الزواج بالرغم من أن هرميون كانت تستمهل عمتها حتى يجيء جواب الحارث، وترى رضاه ضروريًا، وبالرغم من أن لمياء آذنت أمها أنها لا تجد في نفسها ارتياحًا إلى الزواج من ابن عمتها هذا، وإن لم تستطع أن تبدي سببًا لهذه الكراهية تقتنع بها أمها، وخُيّل إلى أمها في ذلك الوقت أنه نشور هواها الدفين، أو هو ما بقي من أثر مقارنة كمال خلق ورقة وأدبه إلى جراءة دميان وصلفه. نعم، إنها لم تر من لمياء هيامًا بورقة، ولكنها كانت تشعر أن تعلقها به ليس إلا عرضًا من أعراض حب قد لا تكون تعرف يومئذ أنه الهوى، ولكنه الهوى على كل حال عرفت أو لم تعرف. فهي إذا لم تجد في ابن عمتها ما كانت تجده في ورقة؛ فذلك لأنها لم تحب ابن عمتها بعد، ولكنها ستحبه بعد الزواج فلا خوف من هذا، ولكن الحقيقة أنها بالرغم من دوام تفكيرها في ورقة ومناجاة قلبها له في كل خلوة وفي كل ليلة كانت تعتقد أن الدهر قد قطع بينهما وفرق، ثم لا وصل بعد هذا ولا اجتماع، وأصبحت ترى أن لمياء الماضي قد ماتت كما تموت الراهبة، وأصبح سواء في الدنيا أن تتزوج دميان أو سعفان ما دام أهلها يريدون زواجها، ويرون هذا حدثًا عظيمًا حين أن لم تعد تهمها نفسها. سوى أنها رأت دميان ذات يوم في بستان القصر، وكان فريدًا وكانت فريدة فحيّته ورد التحية كأنما هي ابنة البستاني الهينة عليه، ولم يبتسم أو ينهض للقائها والحديث معها على عادة الخاطبين أو الأصدقاء، فتنبّهت نفسها على ألم مهانة نالتها؛ إذ شعرت كأنه يريد أن يقول لها: إن زواجي منك برغم إرادتي، وإذا أنا رضيت بأن أتزوج منك فذاك نزولًا على حكم أمي، لا لرغبة مني فيك أو لمزية لك. فاحتملت آلامها وصعدت حتى إذا لقيت أمها أبدت لها عدم ارتياحها إلى هذا الزوج، وذكرت بعض ما لقيت منه من مظاهر الاستهانة بها، ولكن أمها استنتجت لها من ذلك الجفاف معاني التحشم والأدب الذي فطر عليه الفتى، وغير ذلك من القول الزائف. فعادت الفتاة إلى سابق سكوتها وارتقابها يوم ينتهي أمرها بزفافها إلى دميان، وانتحارها بالزواج.

على أن والدتها كانت قد بدأت ترى عود ابنتها يذبل، وجنحت نفسها إلى العدول عن زواجها، ولاسيما بعد ما سمعت قصة فتور دميان من ناحيتها وإهماله شأنها، وبعد ما كانت تسمع من أخبار مبهمة عنه، ولكنها كانت قد قبلت هذا الزواج، وإن كانت قد علقته على رضا الحارث، وكانت العمة قد عدت هذا القبول منها نهاية القبول، وأخذت تعد للحفلة عدتها من التفكير والتدبير، وشايعها زوجها في ذلك إلى أبعد مدى؛ إذ كانت صاحبة الرأي الأعلى في بيتها، بل وفي كل شيء حتى في حكم مصر نفسها، ولم ينفع هرميون جوار أبيها؛ لأنه على ما كان يعرف من فساد خلق ابن أخته امتنع عن أن يبدي لها رأيًا فيما عرضته أخته، قولًا بأنه أقل الناس خبرة بالناس. على أنه لم يشأ أن يعترض مشيئة أخته ثقة منه بأن نصيحته لابنته لن تنتهي إلى خير، ولا سيما لأن أخته كانت قد أرسلت منذ مدة خطابًا إلى البطريق أنستاسيوس اليعقوبي تلتمس منه أن يباركها بزيارته إياها في منف، وتنازله بقضاء أشهر الشتاء في ضيافتها؛ ليتولى في غضونها مراسيم إكليل ابنها دميان على لمياء ابنة الحارث حفيدة قوزمان، ورد عليها البطريق المحترم قابلًا دعوتها ومجيبًا هذا الرجاء إكرامًا لها ولزوجها وأخيها قوزمان وللحارث زوج ابنة أخيها، وأنه ينوي أن يعجّل بالقدوم عليها بعد انصراف أثناسيوس بطريق أنطاكية الحبيب الذي جشم نفسه مشقّة الأسفار؛ ليقيم اتحادًا بين كنيستي أنطاكية والإسكندرية١ اليعقوبية، وأنه لهذه المناسبة السعيدة قد أرسل إلى أسقف كنيسة المعلقة٢ يعلمه بأنه سيقيم عيد ربه ومخلصه يسوع هذا العام في كنيسته.

رأت هرميون أن الأمر أصبح أعقد من كل معقد، وأن ما أملت من رفض الحارث هذا الزواج الذي أصبحت تكرهه كما تكرهه لمياء لفرط ما أثر فيها وجدها بورقة وامتهان دميان إياها، ويأسها من كل فرج — لم يعد يفيدها شيئًا. فعلمت على تنشيط ابنتها بالتأميل الفارغ، وافتراء صفات المحاسن في دميان على أمل أن ينصلح حاله بعد الزواج، ولكنها كانت تؤنب نفسها على هذه الأكاذيب، وتلوم نفسها على تعجلها بإبداء القبول من ناحيتها، حين أنها كانت، لو لم تتأثر بجو اللقاء الذي غمرها حين وردت بالسفينة على عمتها، قادرة على الرفض الصريح. زادت شقوتها حينما دخل عليها أبوها وفي يده طومار الرسالة التي كتبها ربان السفينة ينبئ قوزمان بما رأى وما سمع من حزن الحارث ومرضه ورفضه، وأنه يرى دميان أسوأ زوج لابنته، وقد أقره قوزمان على هذا الرأي، واعتذر إلى ابنته من كتمانه أمره؛ لأنها قبلت زواجه من ابنتها قبل مجيئه من الإسكندرية، وما إن قدم لها الرقعة التي كان يكتبها الحارث قبل أن يصاب بحمى الدماغ، ورأت فيها ذمها وتأنيبها ولعنها إذا هي أقرت هذا الزواج — حتى هلعت المسكينة، وشعرت بلعنة الزوج تنتابها فبكت بكاءً مرًّا حتى لم يدر أبوها كيف يعزيها، بل ولا كيف يستره عن عمتها وابنتها. فاكتفى من الأمر بأن أوصد باب الغرفة من الداخل، وعاد إليها يشهد بكاءها حتى تفرغ ما في قلبها، وهو يحاول تهدئتها بوعود منه لا يملك تنفيذها، ولكنها وعود رأى أن يشغلها بها عن البكاء. بيد أنها لم تهدأ حتى رأت لمياء؛ فقد دخلت عليها من باب آخر هو باب الطرقة المؤدية إلى الغرف التي خصصت لجدها قوزمان: هدأت لأنها لم تكن تريد لابنتها أن تعرف سببًا بكائها فهي لا تريد أن تقف معهما تستمع وتعلم بأن أمها أضحت أشد رغبة منها في إلغاء خطبتها، ولكنها تجد أنها أصبحت مغلولة إلى عنقها بما تعجلت به عمتها نيفرت من التدبيرات قبل أن يجيء جواب الحارث، بل قبل أن تمكنها من فحص الأمر ومعرفة عواقبه؛ ولذلك طلبت إلى لمياء في لطف الأم الحزينة أن تنتظر في غرفة جدها حتى تدعوها. فلم تأبه لمياء لهذا الطلب، وقالت بلسان لم تتعوده أمها: لم أعد أملك أن أجيب هذا الرجاء يا أماه. إن كان بكاؤك لأمر خاص بك فيجب عليّ أن أعرفه لأحمل معك ألمه، وإن كان بكاؤك لأمر خاص بي فيجب عليّ أن أعرفه؛ لأني أحق بألمه. قالت هرميون: في الأمور ما لا يكون من الخير للأم أن تطلع ابنتها عليه. قالت: إن كان من حقك على أبيك أن تفاتحيه في شأنك وتحزنيه لحزنك، فمن حقي عليك مثل ذلك؛ إذ أنت أمي، قالت هرميون وقد أدركت أن الفتاة لقيت على الأقل برهانًا جديدًا على شقوتها من زواجها بدميان ولا ترى أن تسمعه الآن: ولكني بلغت رشدي يا بنيتي، ولي بأمور الحياة خبرة لا تكون لمن هي في مثل سنك، ولي أن أتولى أمر نفسي بنفسي وأمرك كذلك. أما أنت فلم تبلغي سن الرشد بعد. قالت لمياء: إذا لم أكن بلغت رشدي فكيف رضيت أن تلقي بي في دنيا لا بد لي من تمام الرشد فيها؛ دنيا الزوجية التي تتطلب العقل والصبر والأناة، وتتطلب فوق هذا — لمثل حالتي — القدرة على التضحية. قالت هرميون وقد أدركت ما وراء ذلك: أتوسل إليك بحق محبتي لك أن تتركينا؛ لنتدبر مخرجًا مما يحيط بنا من الضائقة قالت لمياء: المخرج في يدي يا أماه لا في يدك، فقد أفلت الأمر من يدك أنا أعلم أنك تريدين أن تتحلَّلي من عقد ارتبطت به مع عمتك في شأني؛ لأنك علمت أنك تورطت، ولأن أبي رفض، كما يبدو لي من وصول هذه الرسالة إليك، وأشارت إلى الرسالة وكانت لا تزال ملقاة على كرسي بجوارها من يراها من ينظر، وإذ لم تجدي المخرج فأنت تبكين. المخرج في يدي يا أماه كما قلت لك، سأخرجك من ورطتك التي أوقعك فيها مكر عمتك وجبروتها، قال قوزمان: كيف يكون هذا يا لمياء؟ قالت: ألقي بنفسي في النيل، إنه أحن منكم صدرًا وأوسع رحمة. فنهضت أمها مزعورة، وأمسكت بيد لمياء كأنما رأتها قد هرعت إلى جسر بابليون، وتوشك أن تلقي بنفسها في التيار فهي تمنعها من ذلك، وقالت بصوت مذعور: النيل! لم هذا يا ابنتي؟ قالت: لأنك لا تريدين أن تفعلي ما يجب فعله، وهو أن تذهبي من فورك؛ لتقولي كلمة واحدة من أجلي. تقولين هكذا! إني آسفة جدًّا؛ لأن ابنتي لا تريد هذا الزواج ولأن والدها لا يريده، وأنك لا تملكين بعد هذا تنفيذ وعدك لها! فسكتت هرميون ونكّست رأسها. فقالت لها لمياء: أتستطيعين هذا يا أماه؟ فنظرت هرميون إلى ابنتها؛ لتكشف عن سر هذا السؤال، ولكن لمياء وقفت أمامها كالخشبة لا يبدو من أسرارها شيء. ثم قالت: إذا كنت لا تملكين ذلك فحمِّلي جدي رسالتي هذه ورسالتك إليها. قال قوزمان: هذا ما كنت أخشاه؛ ألا تدخران لي إلا السيئة؟ ستثور نيفرت ثورة الضبع، لا لخيبة رجائها؛ بل لأنها دعت البطريق الأكبر من الإسكندرية ليتولى الإكليل، وقد وعد بالحضور قريبًا، ولا بد أن يرافقه في قدومه طائفة من أساقفة الكنائس ورجال الكهنوت للخدمة، فكيف يكون موقفها يوم يحضرون للإكليل ولا إكليل. قالت: وتريد أن يجتمع الناس؛ ليشهدوا إكليلي كما يشهد المعيدون ذبح حمل يعدونه لمائدتهم! لا. لن أكون حملهم في ذلك اليوم! لا تحزني يا أماه! دعوا كل بطارقة المسيحية تأتي لتزوجني فسأجهر أمامهم حين يجيئون بي لأعلن كلمة الرضا أني رافضة، وسأعلن في حضرتهم المقدسة ما أخفيته عنك وعن أبي وعن ورقة نفسه: وهو أني خلعت دين المسيحية ومذاهبها جميعًا، واتبعت ملة الحنيفية الموحدة بالله. ملة آبائي الأكرمين. ليس أكرم من أن أجهر في حضرة الإكليروس جميعًا أن لا إله إلا الله وحده وأن محمدًا رسول الله. فسأكون أول مسلمة هبطت وادي النيل، وأول من جهر بالإسلام فيه، وأكرم بذلك حالًا.

كانت هرميون وقوزمان يسمعان هذا الكلام من لمياء، وبهما من هول ما تنذرهما هول شديد من الفضيحة الكبرى التي سيذيع أمرها في ربوع مصر وبواديها، ولكنهما كانا يريان على لمياء شيئًا من مظاهر جنون اليأس فأشفقا عليها، وخشيا أن يستولي عليها، فانبرت أمها تقول لها لتريح فؤادها من عوامله: لا بأس عليك يا لمياء، سأنقض هذا الزواج، وسأذهب الآن إلى عمتي. تعالي أنت معي إلى مخدعك فاستريحي ريثما أذهب إلى عمتي. قال قوزمان: لن يتم هذا الزواج فاطمئني يا لمياء، وسأعود بك إلى الإسكندرية قريبًا، وألقى البطريق وأعلنه بالواقع قبل أن يتهيأ للمجيء. إنك أكرم عندي من كل إنسان. ثم تناولها في صدره وأخذ يقبلها عن حنان حقيقي وشفقة. فخارت قوى لمياء المسكينة وبكت على كتف جدها بكاءً يفتت الصخر، وهلعت أمها لذلك فتناولتها وأجلستها على فخذها، وأخذت ترفه عنها وهي لا تنقطع عن البكاء. فتاة في مقتبل الحياة، بريئة طاهرة نبيلة تعبث بها المقادير من أول يوم، ويجتمع كل من لهم بها علاقة على أن يجمعوا عليها الهمَّ واليأس والضنى، وهم لو تركوا الدنيا تسير معها فيما أرادت لها من الخير؛ لكانت أسعد خلق الله، ولكنهم كانوا يعترضون مشيئة القدر الصالح في كل خطوة من خطواتها، وكل خفقة من خفقات قلبها، وهي صابرة وراضية ومستسلمة، حتى كادوا يسلمونها إلى الجنون. اجتمع العرف والرياء والجبن والسفالة على العبث بقلبها النبيل، وقتلها في روعة الصبا! قبح العرف وقبح الحياء وقبحت المجاملة! تقضي على الجمال والحق والسعادة! ومع ذلك فقد كان منهم يقول إنه يعمل للخير! كانت لمياء بينهم كالزهرة الناضرة ادعوا أنهم يريدون أن يسقوها ماء النبع الصافي فرووها ماء النار.

حملها جدها على كتفه، وسار بها إلى مخدعها حتى أرقدها في فراشها، وجلسا بجوارها يعتذران إليها مما جرى، ويؤكدان لها أنهما لن يسمحا بأن يتمَّ هذا الزواج.

وكانت أمها تعجب لتغيرها وتشددها اليوم في الرفض، وكانت تظن أن لمياء لقيت دميان في البستان كما لقيته منذ أيام وجرى منه مثل ما جرى أو أكثر، فثارت كرامتها لذلك، وجاءت مصممة على إحباط كل مشروع من هرميون، ولكن هرميون لم تشأ أن تتأكد من حدسها خشية ما تهيج الرواية من نفسها. غير أن الحقيقة غير ذلك.

فالحقيقة أن لمياء لقيت في القصر إنسانًا ملأ قلبها قوة، وأفعم نفسها حياة وردها إلى يقظتها التي كان الوجد بورقة قد ذهب بها، حتى عدت نفسها جثة لم يعد يهمها في أي أرض تلقى. ذلك هو المجاور بطرس البحريني شيطان الإسكندرية الذي يلبس في بيت أستاذه قوزمان مسوح القديسين. لحق هذا الفتى إلى أستاذه قبل أن يرحل الحارث بزوجته وابنته لمياء بسنة، وكان لمياء تعرفه حق المعرفة؛ لكثرة ما كانت تلقاه في رحبة البيت أو في بستانه، وتتعجب لفرط أدبه معها وشدة ورعه حين أن نظراته كانت تذعرها لما ترى فيها من بريق خاص يميزها عن سائر العيون التي تراها، وتعجب لوسامته وحسن بشرته حين أنها كانت تستشف من ورائها قوة خفية كقوة الثعبان، ولذلك كانت تخشاه من غير ما سبب وتزورّ عنه. على أنها يومئذ لم تكن تهمه في شيء لصغرها، فلم يأبه لمظاهر خشيتها واسترابتها إلا بمقدار ما يخشى من أثر ذلك بتغير أهلها عليه، واستمر معها على تأدبه وتكمله وعظيم الرعاية لها في بيت أستاذه، حتى يجمع أهل البيت على وصفه بأنه القديس الشاب المسكين الذي يدعوه طلب العلم إلى التماسه منهم في كل هذه الذلة. أما اليوم وقد غابت لمياء عنه ما غابت، وعادت على غير انتظار فتنة لكل عين، ومتعة لكل قلب، فقد تنبهت شياطين نفسه، وهام بها هيامًا لم يستطع أن يطفئ أواره، وإن استطاع أن يخفي لهيبه، واشتهى وتمنى لو تكون له، وهو يعلم أن دون نيلها خرط القتاد، ولكن ذلك لم يكن لينزل في قلبه اليأس، فقد كان يحدث نفسه بقوله: نعم، إنني لا أعرف اليوم لي حيلة تتحقق بها أمنيتي، ولكني قد أوفق إلى حيلة في الغد، فلماذا اليأس؟ ولماذا لا أمهد للمستقبل؟ وعلى هذا عمد إلى التحبب إليها، ولفت نظرها إليه. فكان يبالغ في رعايتها في أدب خالص كانت شغلة الوجد تصبغه صبغة الإخلاص، وزاد هيامه ووجده ما عرف من أنها توشك أن تزف إلى دميان. إذن فلتكن خطوته الثانية أن يحول دون هذا الزفاف بكل وسيلة حتى يردها خالصة للطامع فيها، ولن يعدم بعد ذلك حيلة في حمل أمها على تزويجها منه رغبة منه أو رهبة، ولكن كيف يكون هذا؟ وبأي عمل يبدأ في تنفيذ خطته؟ لم يكن له إلا أن يستعين بلمياء نفسها على ذلك. يجب أن يملأ قلب لمياء بغضًا لدميان، وذعرًا من دميان؛ ليقطع بذلك ثلاثة أرباع الطريق المرسوم، وكان هذا من أهون الأمور عليه؛ لأن دميان كان مهلهل العرض لولا أنه ابن مقوقس منف.

أخذ يحتال للقائها والانفراد بها؛ للتحدث إليها بوشايته، ولكن القصر كان غاصًا بالعيون في كل مكان، وأهون مظاهر الاستهانة يودي به وبمشروعه، ولذاك أسقط فرصة لقائها في الردهات والبستان من عداد وسائله. كما أنه رأى أنه لا يستطيع أن يدخل عليها غرفتها القريبة من غرف أستاذه الذي يعمل معه فيها؛ لما في ذلك من الريب التي يجب أن يتجنبها، وإلا طُرد من القصر شر طردة. إذن فلينتظر ويرقب الفرص.

جاءت له الفرصة المشتهاة ذات يوم. ذلك أن إحدى الجواري تسلّمت رسالة قيل لها إنها للأستاذ قوزمان، وإذ إنها لا تملك أن تذهب بها إليه في غرفه فقد جاءت إلى هرميون؛ لتتدبر في تسليمها إليه، وذكرت لها أنها جاءت مع بريد عيذاب. فقدَّرت هرميون أنها رسالة الحارث، ولذلك لم تشأ أن ترسلها إلى أبيها، بل أرسلت لمياء في طلبه؛ لتقرأها عندها أو تقرأها في حضوره ما دامت خاصة بها، وكان بطرس معه على عادته في خلوته مع جدها يقرأ له ويتذاكر معه. فما أن تهيأ قوزمان للسير إلى ابنته حتى تبدّى بطرس من وراء ظهر قوزان يستمهل لمياء بالإشارة، ويشفع الإشارة بمظاهر الرجاء والإلحاح، وهال لمياء أن يستوقفها هذا الكاتب، وهو لم يجرؤ فيما مضى من أيامه قبل سفرها إلى مكة أو بعده أن يكلمها بله أن يختال جدها ويستوقفها، فهذا ما لا يبيحه عرف الماضي في الإسكندرية ولا عرف الحاضر في قصر الحاكم، ولكنها لم تجد بدًّا أن تتمهل في وقار لترى ما وراء ذلك. فقد يكون الأمر جللًا، ولذلك تلكأت في الخروج مع جدها، واتجهت إلى بطرس تقول له: أراك تريد أن تحادثني في أمر ذي بال! قال: نعم يا مولاتي، ما كنت لأجرؤ على أن ألتمس منك التمهل إلا لأمر جلل. إن أباك رجل جليل وأمك سيدة نبيله، وأنت أشرف العذارى، ولقد عشت في بيتكم عيشًا كريمًا، فمن حقكم عليّ أن أخلص لكم النصيحة، لا أرجو عليها جزاءً ولا شكورًا فقد أسلفتموه. قالت: هلا قلت ما لديك لجدي؟ قال: لقد قلته وهو يعرف بعضه من قبل، ولكنه لم يشأ أن يتدخّل، وأرى الأمر عصيًّا، ولذلك رأيت أن أقوله لك أنت؛ لأنه خاص بك، ولو لقيت الشر بعد ذلك. هذا أقل ما يجب لك عليّ. قالت: وما هذا؟ قال: لا تقبلي الزواج من دميان ولو ألقيت في النار فهي أبرد منه وأحن. قالت: ويحك؟ أتقول هذا عن دميان؟ قال: إني لك صديق، ولا يهمني سواك، وإذ إنك لا تعرفين ما في دنيانا هذه من الشرور فعليّ أن أدلك على ما أنت قادمة عليه من الشر؛ لتتقيه ولو نالني الشر. ليس الرجل عدوي ولا أنا ذو مأرب. قالت: ألا تخبرني السبب؟ قال: ألا تشعرين بما يقبض نفسك يا مولاتي. قالت: بلى، ولكني لا أدري له سببًا، ومن الظلم أن تجزي أحدًا بغير سبب تستبينه فقال: السبب عندي يا مولاتي. لقد نظرت بعيني روحك إلى روحه فعرفت أنها روح شريرة. قالت: خبرني لماذا كانت في نظرك كذلك؟ قال: أقسمي لي ألا تبوحي به عني. قالت: أقسم ألا أبوح، قال: هو فتى الخمر والفسق والبغايا، واعلمي يا سيدتي أن معه الآن واحدة منهن جاء بها من الإسكندرية، وأنزلها بجوار حصن بابليون الذي يعمل فيه؛ ليكون قريبًا منها في كل وقت، ولا يعرف بأمرها سواي وسوى أمه؛ ولذلك تريد أن تزوجه منك أملًا أن ينصرف بك عنها، ولكن هيهات! إنه يحبها حبًّا شديدًا، وأزيد على ذلك أن له منها بنتًا تسمَّى هرميون باسم أمك، وولدًا من أخرى هجرها في الإسكندرية اسمه قوزمان باسم جدك. أما سمعته ليلة اجتمعتم كلكم في البستان يقول: إن أحب الأسماء إليه اسم هرميون وقوزمان؟ قالت: بلى، فمن أخبرك بذلك؟ أنت لم تكن معنا، قال: هو الذي أخبرني هازئًا بكم وبجهلكم، وإنما قال لي ذلك لأني مطلع على أمره. إذن فقد ثبت لك قولي. قالت: نعم، ولقد كنت أرى مظاهر ذلك على وجهه، ولكني لا أملك أن أدفع هذا السوء عني إلا إذا استهدفت لغضب أمي وعمتي وزوجها، وكل نساء القصر، وكل من فيه من الأبناء والبنات، وسيقولون عني ما لا يجمل. قال: لن يكون قولهم أشقى لك من حياة تشبه الدعارة، ولا آلم لنفسك من آلامك يوم يتركك هنا؛ ليجتمع بصديقته وبنته. حافظي على كرامتك ودينك يا ابنة أشرف الرجال، ولا تخشي لومة لائم في الحق. تؤثرين أن تتزوجي رجلًا فاسقًا لا شرف عنده ولا قلب يجيء إليك كل يوم بيد دنسة، وفم ملوث، وقلب مع غيرك إرضاءً لمن يهمهم أمرك! هذه عمتك أقرب الناس إليك تضحي بك من أجل ولدها. فلماذا لا تضحين برغبتها الشريرة السافلة من أجل حياتك أنت. اعلمي يا لمياء أني أحب لك الخير، وأسدي إليك النصح الخالص، وقد أمرنا القديسون أن نسارع إلى إنقاذ الناس ما استطعنا، ولست أستطيع إلا أن أخبرك بما أعلم، وما كنت لأعلم لولا أنني كنت في السوق في الإسكندرية يوم أرادت رفيقته فيها أن تحرق البيت عليه فأنقذته من النار ومن الشرطة والسجن محافظة على شرف سيدي قوزمان، وأنا الذي أتلوى عنه وربي كتم أنفاس هذه المرأة فأدفع إليها نفقة ابنه قوزمان كل شهر؛ لأني بحمد الله غني بمالي من الأملاك الواسعة في جزيرة منوف، وإن كنت أكره أن أقول ذلك.

كل ما ذكره بطرس صحيح إلا فيما يختص بالأملاك فما كان يملك شيئًا، وإلا ما روى عن رفيقة الإسكندرية فإنها خدينته هو، والطفل قوزمان ولده هو، ولكنه عزاه يوم ولد إلى دميان بهتانًا، وحكاية حرق البيت صحيحة كذلك، ولكن المرأة أرادت إحراقه هو لا دميان، وإنما فعلت ذلك؛ لأنه جاء به إليها وحمّلها نفقات كثيرة أبد ثلاثٍ ليال متوالية تقاضاها من دميان أضعافًا مضاعفة، ثم لم يعطها منها شيئًا، وكانت هي الليالي التي تذكّر الحارث أنهم جاءوا بدميان على أثرها إلى بيت خاله مخمورًا مهدمًا، وكان بطرس هذا رفيقه في فجوره بل دليله في كل فجوره، وأستاذه المحنك. ثم لما وضعت خدينة الإسكندرية ولدها من بطرس جاء إلى منف؛ ليقنعه بالبهتان أنه ولده، وأنذره بفضيحة أمره لدى أبويه إذا هو لم يسترض المرأة بنفقة للولد. فرضي دميان بذلك، وصار بطرس يتقاضى للمرأة مرتبًا للنفقة على الطفل، ولا تدري المرأة من ذلك شيئًا بتاتًا، ولكي يبقى احتياله مستورًا أقنع السيد دميان بأن من الخير له ألا يبدو للمرأة ولا للولد، ويكتفي من الأمر بأن يرسل إليه النفقة باستمرار، وهو يتولى عنه تسليمها إليها، وما دامت ساكتة فهذا غاية المنى. على أنه لما جاء إلى منف مع قوزمان واجتمع به في بعض خلواته، وعرف ما يدبرون من زواجه أخبره أن الطفل كبر وأصبح مرتبه القديم ضيئلًا، وأن أمه طلبت زيادته، ونصح له أن يجيبها إلى ذلك، وإذ إنه عائد إلى الإسكندرية؛ ليأتي لخاله بكتب وأدوات من منزله، إذ عزم أن يقضي الشتاء كله في منف، ولا بد له أن يلازمه فيها فقد نصحه أن يعطيه نفقة هذه المدة؛ ليسلمها إياها، وأبان له أن أوجب ما يجب عليه، في الوقت الذي يفكر فيه في الزواج من لمياء، أن يبقى جو علاقته بالخدينة الإسكندرية جو وئام ورضا تام، وإلا كانت المصيبة كبيرة، وزيادة في تدليسه نصحه لهذا أن يكتب إليها رسالة رقيقة تتضمن المحبة والوعد بقرب اللقاء ويحملها قبلات الشوق إلى ولده العزيز. ففعل دميان كما نصح له الشيطان، وأعطاه قدرًا صالحًا من المال، وكتب له الرسالة المطلوبة بإملاء بطرس نفسه، فأخذهما بطرس، وسافر إلى الإسكندرية؛ لينفق المال في أهوائه، وليستفيد بالرسالة فيما يرى.

وقد جاء الوقت المناسب للاستفادة من الرسالة، فقدمها إلى لمياء على أثر حديثه معها قائلًا إنه لم يتمكن من إيصالها إلى صاحبتها، وأبقاها الرب معه لهذا اليوم. فتناولتها لمياء وقرأتها، ورأت توقيع دميان عليها وردتها إليه في سكوت وانصرفت بغير تعليق، ولكنه كان سكوتًا لم يغب عن بطرس معناه فقد رأى لمياء يمتقع لونها وتضطرب، فأدرك أن سمه سرى إلى القلب، ومن ثم ذهبت لتلقى والدتها، وتعلنها بما أعلنت، وكان ما كان من هلع والدتها عليها لما رأت عليها من مظاهر الجنون الذي كاد يستولي عليها لولا أن سارعت أمها وجدها إلى استرضائها بالوعد الصريح الذي قطعته على نفسها.

١  بطلر وتاريخ البطارقة.
٢  في حصن بابليون شمالي مصر (القديمة).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤