الفصل الثاني والأربعون

غرام مفاجئ

ذهب ورقة إلى كنيس اليهود في حيِّهم شرقًا فيما وراء كنيسة المار مرقص، وأنهى إلى الحبر رسالة المقوقس فتلقَّاها الحبر باستياء عظيم، ولكنه كان في الواقع استياءً متكلفًا. فقد كان اليهود يبيتون الشر للروم فعلًا، واجتمع أحبارهم بمن جاءوا من بلاد القدس؛ للعمل على الإسراع في القضاء على حكمهم في مصر، ولكنَّ الحبر لم يكن له إلا أن يتظاهر بأن سوء الظن باليهود في غير محله بعد ما ثبت للأمير ولاؤهم. قال ورقة: إن الأمير يُعد السيد الحبر الكبير مسئولًا بالذات عن كل حركةٍ من شأنها تعطيل الجند عن مدافعة المحاصرين، ولا يريد أن يتهمه بأنه اجتمع بإسحاق بن مرداس والحبر اليمني، ولا أنه هو الذي دبر لهما الاجتماع ببعض قساوسة اليعاقبة في سرب قصر ليونوتس المتهدم. فلما سمع الحبر هذه التهمة اضطرب وهلع، وأخذ يقسم أغلظ الأقسام على أنه لم يرهما ولم يجتمع بهما، وخانه حجاه فجعل كل إنكاره منصرفًا إلى أنه لم يشترك في شيء، ونسي أنه إنما كان يقر بأنهما وجدا، وبأن كان هناك اشتراك في مؤامرة. فنهض ورقة يقول: لقد بلّغت رسالة الأمير وهو لا يرجو إلا أن تعوها. ثم خرج بين التحية والإجلال من الحبر ورفقائه، وامتطى جواده إلى كنيسة الأنجيليون للقاء أندرونيكوس بطريق اليعاقبة.

هناك تلقاه قسيس مهيب الطلعة برتبة مطران عرف أنه وكيل البطريق فلما لقيه أحس ورقة كأنما قد رآه في سرب القصر مع المتآمرين، وتنبه إلى ذلك لما رأى الرجل الذي كان معه. فلما واجهه قال: إنه آتٍ برسالة من عند المقوقس يبلغها إلى البطريق نفسه، ولذلك يرجو منه أن يستأذن له في الدخول عليه. فاعتذر الوكيل بعدم استطاعته ذلك؛ لأن البطريق مريض لا يقوى على مقابلة أحد، وأنه إذا تفضل فأنهى إليه رسالة الأمير فهو ضمين له بتنفيذ مشيئته فيها، وكان الرجل يتكلم وفي صوته رعدة لم تخف على ورقة فقال: لمن أوجّه القول من رؤساء هذه الكنيسة الموقرة؟ قال مخاطبه: لوكيلها تيوناس أيها الضابط الشريف قال: ومن هذا الذي يشهد معك الحديث، ويسمع معك رسالة الأمير؟ وكان داعيه إلى هذا السؤال أنه اشتبه في الرجل الثاني أيضًا فقد أحس أنه بطرس البحريني بعينه إلا أنه حلق لحيته وشاربه وحواجبه كذلك، وأحنى ظهره ولبس لباس الكنيسة، ولكنه لم يشأ أن يفاجئه وانتظر جواب الوكيل. قال: هذا كاتبي. قال: منذ متى؟ قال: منذ … جاءنا من كنيسة منوف قال ورقة: عرفت مخاطبيَّ إذن. اسمعا. فاضطرب الرجلان، وبدا الذعر على أعينهما، ولكنهما تماسكا فانصرف ورقة يقول: إن مولاي يحذركما من أن تعودا إلى مثل ما كنتما فيه بالأمس مع إسحاق بن مرداس والحبر اليمني في سرب قصر الحاكم ليونوتوس، وهو ينذركما، وينذر البطريق، وسائر رجال الكنيسة معكما أنه إذا قامت في هذا الحي اليعقوبي حركة أو شغب من شأنه أن يشغل الجند عن مدافعة الفرس فدمكم على رءوسكم … ثم نهض لينصرف، وقد حاول الرجلان أن يردَّا تهمة التآمر التي ألقاها ورقة عليهما، وانبرى بطرس على عادته من الزئاط يفند التهمة، ويستعدي الرب على الظالم، واستقام عوده منه على غير وعي فكان صوته وعمله أدل عليه مما بقي من صورته، ولكن ورقة لم يلتفت إليهما، وخرج ولم يرد بكلمة حينما كان يسايرانه إلى الباب، وركب جواده وانصرف.

عجب بطرس ووكيل الكنيسة كيف عرف أنهما كانا في ذلك السرب بالأمس، وثبت لبطرس ما سمعه من أن ضابط المخفر في رقودة كان يبحث عنه فلم يصدقه ولم يصدقه المطران، ولذلك عادا إلى الغرفة صامتين من فزعهما. فلما استقرا عادا إلى التساؤل والرجم بالغيب، وهما يكادان يحسان شفرة السيف فوق رقبتهما، وأخذ كل منهما يفكر في طريقة للهرب من الإسكندرية على الفور واتفقا على ذلك، ولكن الأبواب كانت في ذلك الوقت مقفلة لا يدخل أحد منها ولا يخرج بسبب الحصار إلا ما كان على البحر فقد كان هنك اثنان: أحدهما باب ميناء لوكياس، ميناء قصر الإمارة التي لا يدخلها إلا سفن الأمير أو الإمبراطور وتحميها الغلايين الحربية الخاصة، وباب الخليج عند اتصاله بالبحر في الميناء الغربية. كان هذا الباب مباحًا للجمهور والصيادين، غير أنه كان كسائر أبواب المدينة قد أقفل، وإن ظل في صون بطس الحرب والحرَّاقات التي كان الميناء الغربية مخصصة لها١ ولا بد أن يلقيا مشقة في الخروج منه، ولكنهما استهانا بهذه المشقة، وقررا الخروج على الفور قبل أن يجيء ضابط المخفر برجاله؛ ليقبض عليهما. بيد أن هذين الرجلين كانا لا يملكان أن يطيلا مكثهما خارج الإسكندرية، وإذا سهل خروج الإنسان من باب البحر فلم يكن من السهل العودة منه إلا بجواز، أو أن يكون الطارق عالمًا بكلمة السر التي يتقاضاها الحراس من راغبي الدخول وهي تتغير كل يوم، ومن أين لهما أن يعرفاها يومئذ؟ على أنه لم يكن هذا بالمهم في ذلك اليوم، ولذلك عمدا إلى تنفيذ أهم الجانبين على أن ينظرا في الجانب الآخر عند سنوح الحاجة إليه. فاستأذن الوكيل من البطريق في الخروج من الإسكندرية والاستقرار بدير الهانطون حتى حين، وأبدى له ما كشف من أمره فأذن له، وأوصاه أن يعد موكبًا عظيم الشأن من أساقفة الدير وقساوسته ورهبانه، ومعهم أندر نسخ الإنجيل والتراتيل، وأغلى الصلبان للقاء السلار شاهين الفارسي في معسكره والاحتفاء به، وتقديم ولاء اليعقوبية كلها إليه؛ إذ هو يمثل ملك الملوك كسرى أبرويز حامي اليعقوبية. ففرح المطران الجليل لهذه المهمة العالية، وخرج من فوره تحدوه الرغبتان، وأما بطرس فلم يكن في حاجة إلى استئذان أحد؛ لأنه لم يكن إلا صديقًا كنسيًّا لا أكثر ولا أقل، ولذلك عمد إلى مرافقة الوكيل حيث أراد، وهو في تلك المدة متعجب كيف عرفه ورقة حتى بعد أن أزال كل شعر وجهه وعوج قامته، ولكنه سُرّ في النهاية؛ إذ يخرج من بلد يلقى فيها شيطانًا أشد منه مكرًا وأنفذ حيلًا.

خرج الرجلان من باب البحر، وذهبا من فورهما إلى دير الهانطون فبلغاه بعد ثلاث ساعات قضياها غيظًا من حبوط المؤامرة، وكشف رسول القصر ما كان لكلٍّ منهما فيها من اليد الطويلة، ولكنهما حمدا الرب على أنهما أصبحا بعيدين عن يد الأمير التي كانت لولا حصار الفرس أطول من كل يد.

على أن ورقة لم يكن في نيته أن يستحث الأمير على الرجلين. كان يعلم أن التهمة لا تثبت عليهما في شيء، وأن لن يكون من ورائها إلا اضطراب الحال في رقودة، وادعاء اليعاقبة أنه بهتان مما اعتاده الروم، وظلم يريدون توقيعه عليهم جزاء ما ظهر لكسرى في بلاد القدس من أن دينهم الرومي كفر في كفر، وأن دين اليعاقبة هو الدين الصحيح، وإذ مرَّ ورقة على صديقه حارس المخفر؛ ليبلغه ما كان من انصراف كل ما كان في قلب الأمير من ناحية المؤامرة — ذكر له ما وقف عليه كذلك وما يرى، فأقره ضابط المخفر على رأيه، وعدَّه كل السداد، وكذلك ارتآه الأمير عند ما لقيه في العشية وشكر لورقة حسن رأيه.

كان التعب قد أخذ من ورقة كلَّ مأخذ، ولكنه كان إذ ترك المخفر قد وجد نفسه في طريق لمياء، بل الواقع أنه لوى عنان جواده نحو بيت قوزمان باختياره. فما إن عطف داخلًا الطريق المؤدي إليه حتى شاهد لمياء في الشرفة مطلة على البستان متجة البصر نحو البحر تستنشق نسيم البحر والقصر معًا، وتفتش فيه عن أنفاس ورقة؛ لتنعشها حتى تلقاه في الضحى. فقد علمت منه أن الصباح له والنهار لولا أنه مضطر إلى الرقاد في بعض ساعاته؛ ليسترد عافيته للسهر على الأمير، ولكنها سمعت وقع سنابك الجواد من الخلف فالتفتت فإذا هي تراه فشهقت شهقة الفرح بمرآه، وبقيت في مكانها لا تدري ماذا تفعل؟ كانت تلقاه قبل يومها على أنه صديق يحبه كل إنسان، سوى أن حبها إياه غرام تخفيه، أما اليوم وقد عرفت ما عرفت من خالتها وحديثها مع أمها بالأمس في شأنه، ووقفت على خبيئة نفسه في الصحراء، وما قال لها في الطريق من معان إلى مصر من حديث هواه النقي الذي كتمه في قلبه وعمل على إخماده في قلب لمياء، وسمعت جدها يقول: إنه يجب عليهم أن يسارعوا بتزويجه من لمياء اغتنامًا لنعمة الله السانحة قبل أن يعرفه سادة الإسكندرية وأغنياؤها فيتألفوه، وتتهافت بناتهم عليه ويزوجوه منهم، وعرفت أن خالتها وجدها ذهبا إلى القصر؛ ليستقويا بجاه الأمير على تردد أمها أو بالأحرى ليقويها على تزويجها من ورقة، ويعطيها عذرًا تتقدم به لأبيها يوم تلقاه؛ لتزويجها ابنته من فتًى غير قرشي ولا ثقفي ولا من أعيان الجزيرة، وإن كان أحق في نظرهم ونظر الحارث نفسه أن يكون على رأس أولئك السادة في السيادة، وأجدر أن تفخر به العرب في عكاظ — فقد أصبح ذا معنى آخر لا يقوى حياؤها على مواجهته. هذا ما كانت تعرفه وتستنج منه، وكان سببًا في اضطراب قلبها لدن رؤية ورقة اضطرابًا من نوع جديد. أما ما جرى بعد ذلك بعد ما عادت هيلانة وقوزمان من القصر؛ لينهيا إلى هرميون رسالة الأمير، وحكمه بتزويج ورقة ولمياء اليوم — فلم تعرف من تفصيله شيئًا؛ لأنها كانت في فراشها عند ما جاءوا، وإن كانت القهرمانة قد أسرت إليها في الصباح شيئًا من هذا في صورة مبهمة؛ لأن أهلها كانوا في تلك الساعة نيامًا أثر ما سهروا. نعم، باتت ليلتها قلقة تفكر في ورقة وفيما سمعت، وتؤمل الآمال، وتيقظت مبكرة. بيد أنها ذهبت إلى الشرفة تنظر صوب البحر؛ لتكون مع ورقة حتى يفيق، ولتستقبله حين يجيء في الضحى، ولم تكن تدري أن ورقة بات ليله سهران يفكر فيها، ثم جرى ما جرى من اجتماع المجلس، وأنه أتم مهمتين كبيرتين قبل أن تلتمس هي أرض الشرفة؛ لأنه شرع فيهما بعد الفجر بقليل، فأحر به أن يكون في بيت قوزمان ولمّا يمض على شروق الشمس غير قليل.

وكان أصعب شيء على ورقة أن يلقى لمياء، وتفع عينه على عينها بعد ما جرى ليلة أمس في غرفة الأمير، لأمرين؛ أولهما: ما أعلنت هيلانة من حبه للمياء، وكان يرجو أن يظلَّ دفينًا، وثانيهما: التماسه من مولاه أن يعفيه من الزواج بها؛ لنفس السبب الذي يمنع هرميون على فرط حبها له وثقتها به، وهو واجب الحصول على رضا الحارث. على أن ورقة كان يشعر أن رضا الحارث لا يكفي في جعل هذا الزواج مبارك القسمات. فلن يمحو رضا الحارث أنه ليس من قريش ولا من ثقيف ولا من كرام العرب. كل ما يترتب على رضا الحارث أن يتم الزواج، ومعنى رضا الحارث رضاه بالمعرَّة بين العرب في مكة وبلاد العرب؛ لأنه يزوج ابنته من فتى كانت أمه سبية وجارية، وكان أبوه نجارًا يرتزق من خدمة الكرام، وهو — أي ورقة — لا يطاوعه قلبه أن يحمل أستاذه الذي يحبه ويرعاه كل هذا من أجله. نعم إن رسول الله وهو ابن عبد المطلب عظيم العرب وعنوان شرفها قد زوج زينب ابنة عمته من زيد بن حارثة: وهو — وإن تبناه — سبيٌّ ومشترى، ولكن العرب يعدُّون رسول الله قد خرج عليهم في دينهم، فإذا هو خرج عليهم فيما تعارفوا عليه في المصاهرات فالأمر أهون مائة مرة، بل لا يستحق أن يذكر. أما الحارث فلم يخرج عليهم في شيء. إنه لا يزال مستمسكًا بمكيته وطائفيَّته على كرهه الوثنية، وعلى أنه حنيفي، وعلى أنه يعرف صدق الرسول ويقره، فهو إذن ممن يستمسكون بعرف قريش وثقيف، وحقًّا أن ورقة مسلم، والإسلام يرفع الحدود، ويسوي بين الناس، ويبدأ بهم حياة جديدة يستبقون فيها إلى ذروة الشرف بالتقوى والجهاد في سبيل الله، ولكن الحارث لم يشأ أن يسلم بهذا، وإن كان يقول به. ثم كان ورقة يقول في بعض سوانحه: أراني مبالغًا كثيرًا في توسيع مسافة الخلف بيني وبين الحارث. إن كانت أمي سبية من بني لحيان فما من ذنبها أن سبيت، وما من ذنب أهلها أنهم لم يعرفوا أين ذهب بها؟ بيد أن أنها ما همت بالخنى، بل فرت منه إلى بيت النبوة وضرب بها المثل في العفة، وما أنا بنتاج الخنى بل نتاج الطهر على يد الحنيفي الأعلى — من قبل رسول الله — فلماذا لا أفخر بهذا حين لا يستحيي أمثال عمرو بن العاص من أنه ابن إحدى تلك الجواري البغيات اللائي كن يساعين بالفحشاء في مكة، ولا يزال أعيان المشركين يستولدونهن وهم لا يرون في ذلك معرة، وهي المعرة العليا، وأبي! من هو؟ نجار، لولاه لبقي بيت الله عاريًا … عربي أزكى منهم محتدًا؛ لأنه من الحيرة وبلاد الرخاء، وما هم؟ رعاة أغنام، وإن علوا فتجار في مكة يأكلون مما يبتزون من الجاهل بالأسعار، ويرتزقون ارتزاق الكهنة من أغبياء الأرض؛ إذ يبيعونهم البزة مما يأتي به الأغبياء أنفسهم من الغلال قربانًا للأصنام، بالشيء الكثير، قولًا بأنه فيها سر البركة والحياة السرمدية … وغير ذلك من الأباطيل والكلام الفارغ الذي لا يزال مقدسًا في هذه الأرض المسكينة. أبي كان عالمًا بصناعته، وما يقتضي لها من علم الأولين والآخرين، وكانوا جهلاء بكل شيء. أبي كان يعرف الجمال ويحبه وكان يتصوره ويصوغه، وهم لا يتصورونه ولا يشتهونه ولا يخطر لهم على بال. أبي كان ينفع الناس بالحق، وما نفعوا الناس في شيء. هم يعيشون في مكة ليتصيدوا الحجاج كما يعيش الذئاب في مراتع الأغنام ليأخذوها من آذانها، ولو خرجوا إلى الدنيا لماتوا جوعًا، ولو كان الحارث غير عالم أو غير طبيب؛ لكان في الأكثر مثل أبي جهل أو ابن أبي معيط في السفاهة، وأنا لست عالمًا مثله ولا طبيبًا، ولكني في طريقه، ولي من العلم بالعقاقير ما لا يبذني فيه إلا قليل. نعم أخذت ذلك عنه وعن نعيم، ولكنه أخذها هو أيضًا عمن سبقه في الدنيا. كما أني فوق هذا رجل يغالي الأمراء بي، ويحكمون بأني موضع الثقة العالية الجديرة بالسفارة بين العواهل. فماذا يخسر الحارث بمصاهرتي؟ لا شيء، إذن فما يكون على صواب في أن يأبى عليّ لمياء التي غذيتها بروحي وغذتني بروحها فكنت لها أبًا وكانت لي أمًّا. نحن أولى بأنفسنا لأننا ولدنا أنفسنا، ولم يلد هو إلا بدنها. أيأباني حين يرضى لها بفتى غلف من بني عبد الدار يعد نفسه؛ ليرث أهله في ابتزاز الأعراب من خدمة أحجار الكعبة؟ لمياء لي، ولو كره أبوها ما دام على كل ذلك الباطل.

كانت هذه هواجس ورقة وهو ينعطف في الزقاق الذي فيه بيت قوزمان، فما إن رأى لمياء في الشرفة حتى فارقته كل تلك الهواجس، وخُيل إليه أنه يرى أباها إلى جانبها، وأنه يقول له: ما فاتني ما ذكرت يا ورقة، ولكنا نعيش في دنيا لا بد لمن يريد أن يتعرف طريقه في رقعتها المتدخلة الطرق المتوشجة المسالك من أن يسير برأي الناس وعرفهم، وإلا أبوا عليه أن يسلك ويسير. أنت عندي كريم ومحبوب، ويجب عليك أن ترعى حرمتي فيما بقي لي في الحياة من الأيام، وإلا أتلف العرب أيامي، ولولا أني أعرف فيك النبل وأرجوه ما رضيت أن تعاشرني منذ جئت بك لأعلمك. لا تخني يا ورقة. لا تخني! ولا تختم أيامك معي بنكران لجميلي عليك.

لم يطق ورقة أن يستمر في الاستماع إلى صوت ضميره فأسقط من عينه دمعة، ثم اتجه إلى الله بقلبه يقول: رباه! أنت أعلم بسري ونجواي، وأنت أبصر بالحق فاهدني واعصمني من الزلل — اهدني الصراط المستقيم، ولا تؤاخذني بما هجست به نفسي. فإنك أعلم بتواضعي ورضاي بما قسمت لي، ولكنه كان في ذلك الوقت الذي يناجي فيه ربه يرعى حق الفتاة التي كان واثقًا أنها إنما نهضت مبكرة ووقفت في الشرفة تتسلف قدومه. فتقاها بإشارة المودة والحب في تحية القادم. فلم يكن لها بد من أن تتلقاه كذلك، وإن لم يفارقها ما كانت فيه من الحياء والاضطراب. ثم نزلت إلى الطابق الأول من البيت؛ لتفتح له الباب، وتدخله حين كان يترجل. فلما فتحت لمياء باب البيت كان ورقة يفتح باب الحديقة فلما وقعت عليه عينها وقفت وقفة حائر لا تدري أتستمر واقفة لتحدثه أم تذهب لتعلن أهلها بمقدمه؟ كان الرأي الثاني أقرب إليها، ولذلك تركت الباب، وعادت تنبه خالتها دون أن تنتظر لحظة ليحييها ورقة بالكلام كما حياها وحيته بالابتسام المفعم بكل معاني السعادة لمرآها وكل معاني ما كان فيه بالأمس. على أنه وجد فيما فعلت لمياء مخرجًا له من موقف كل ما كان يمكن أن يحدث فيه خطأ، حتى الكلمة العارضة، حتى التحية. على أنه قد قال كل شيء وفعل كل شيء، ولم يعد هناك حاجة إلى الكلام، ولأن لمياء قد عرفت من نظراته وابتساماته اليوم كل خفي كما عرف من ابتسامتها ونظرتها كل شيء كذلك.

وفيما هو يدخل جواده في الحديقة، وهو متجه إلى الدرج الرخامي في جره الجواد من لجامه — كان صاحبه أورست مارًّا بالزقاق في طريقه إلى متجره، وكانت هيلانة قد نهضت وجاءت إلى الشرفة، ووقفت تحيي ورقة بابتسامة كمشرق الشمس ملئت محبة ونعمة، وكلمات كنغم الموسيقى ابتعثه الفرح والأمل، واشتغل ورقة بالحديث معها والتسليم عليها عن رؤية صاحبه، واشتغل صاحبه عن تنبيهه إليه بما فتنه من جمال هيلانة، وسحر ابتسامتها، وبنور السعادة التي كانت تلقيها على ورقة، وعلى الحديقة كأنما هي شمس أخرى يطلع بها الصباح على أزهارها خاصة. على أنه لم يكن يستطيع أن يستمر في استراقه هذه النظرات من هيلانة؛ لأنها لمحته، ورأت على وجهه معالم المسرة لرؤيتها فطربت نفسها أن يكون لها من فضل الله مزيَّة أن تسعد قلوب الرجال بحسن طلعتها، وزادها الطرب رواءً وسحرًا وحلاوة نغم. فلفت أورست نظر صاحبه إليه بتحية جهر بها فلما لمحه ورقة ارتد مسرعًا للقائه حيث سمع صوته وسلم عليه، ووقفا يتحادثان، وألح أورست عليه أن يزوره اليوم، ويتغدى معه كما وعد، ولكن ورقة كان في حاجة إلى النوم فقال له: لم تغف عيني لحظة واحدة وحقك يا أورست من قبل أن ألقاك أمس، ولا أدري كيف أجيب هذا الرجاء؟ ألا تعفيني؟ قال: تعال فنم عندي. إني أعزب ولن تضايق أحدًا. فصمت ورقة ولم يرد؛ إذ كان عليه وعلى أهل بيت قوزمان كلهم أن يكونوا في القصر في العشيّ. فقال أورست: أراك مشغولًا. قال ورقة: أعفني بحقك من هذا اليوم. سأجيء إليك في الغد. ليس هذا اليوم ملكي. فرضي أورست بهذا الوعد وحيا ورقة تحيَّة حارة بعثها في نفسه ما لقي في قلبه من الحرارة لدى مرأى هيلانة مشرقة في شرفة البيت في جمال الأنوثة الناضجة التي تعبث بفؤاد رجل في مثل سن أورست منيفًا على الأربعين، وله مثل بصره بدقائق الجمال وتفاصيله، وانصرف وهو على هذا الحال مشغول القلب بمن رأى بعد ما استرق لنفسه لمحة من صاحبة الشرفة يتغذى بها في الطريق إلى متجره، ولكنها كانت إذ ذاك تنظر إليه مرتاحة إلى قسامته وجمال هندامه. فلما غاب أرادت أن تعرف من الرجل قبل أن تشتغل بالحديث مع ورقة في شئونه على ألا يبدو منها كبير اهتمام بمن شغلها مرآه في الحقيقة فقالت لورقة: من هذا الذي حرمنا بعض حرية لقائك بما لك عندنا من المحبة والحنو؟ قال: شكرًا لسيدتي على هذا اللقاء الأوفى. هذا صاحبي أورست الذي جاء بناقتي من أثريب بفضلك. قالت: التاجر الذي ذكره كوسموس. قال: نعم بل أكبر تجار الغلال في الإسكندرية، وأحد نوابها في المجلس، وكانت هرميون قد جاءت هي أيضًا وجاء قوزمان هو ولمياء فقالوا له: ألا تصعد؟ اربط جوادك حيث شئت واصعد. قال أريد أن أنام. هذا وقت نومي قال قوزمان مبتسمًا: اصعد فنم في فراشي. إنه دفِئ الآن جدًّا. ثم ضحك وقال: اصعد. اصعد. إني أريدك. انزلي فهاتيه يا لمياء. فاختفت لمياء لتنزل وتأتي به، وخشي ورقة بعد ما اعتذر بأنه راغب في النوم أن يُقال له: لم جئت إن كنت تريد النوم؟ فقال لهم ستقولون: فيم جئت إن كان هذا وقت رقادك؟ ولكن الحقيقة أني كنت موفدًا إلى حبر اليهود برسالة من الأمير وأخرى إلى أندرونيكوس، ولم أطق أن أعود حتى أراكم. قالوا: مرحبًا.

وكانت لمياء قد بلغت مكانه فأخذته من يده وصعدت به درج الحديقة، ثم درج السلم في فسحة٢ البيت، وهي تحادثه في غير ما في نفسها إلا أنها قالت: أرى هذه الملابس أليق بك من ذلك الثوب الأسود الذي كنت تلبسه في الصحراء. قال ورقة مبتسمًا: كنت ألبسه حدادًا على نفسي كما يفعل أهل هذه البلاد. أما الآن … فأغضت لمياء طرفها مبتسمة في خفر ودّ لو يلتهمه بالتهامها، وكان في تلك الأثناء ينظر إليها بعين السعادة التي في الدنيا كلها لولا لمحة كانت وراء تلك السعادة لم تخف عنها، ولكنها كانت قد لقيت أهلها عند السلم فتركته لهم. هناك فتح الشيخ ذراعيه فتلقَّاه بينهما وقبله، وهو يقول له بصوت الأب الشاكر لله فضله عليه: مرحبًا بزوج لمياء! وكانت كلمة منتزعة من قلب مفعم بالحنو والرضا والإعزاز، فانحنى ورقة مغرورق العين يقبل يده حين كانت هيلانة وهرميون واقفتين والدموع في عيونهما فرحًا به وسعادة بأنه أصبح لهم جميعًا. ثم سلمتا عليه فانحنى على يد هرميون يقبّلها فقبلته في عارضه قبلة الأم. أما هيلانة فجالت في المجلس مرحّبة ومتكلمة بما جعل الموقف هينًا، وأما لمياء فاختفت إذ ذاك؛ لتخفي بعض عبرات لم تقو على كبحها، وظلت بعيدة عنهم حتى حين.
١  بطلر.
٢  الفسحة عندنا نحن المصريين هي المكان الحادث بين الغرف على الجانبين أو حيث تكتنف به، ولا أعرف لها كلمة في العربية الصحيحة يمكن أن يعرف بها القارئ قصدي؛ لكثرة التشكيك فيما اختار لها اللغويون من كلمات فقد اختاروا لها كلمة ردهة، وبهو وغير ذلك، والقواميس لا تقيد ما أرادوا، ولست في مقام التجهيل هنا فأكون من المشككين؛ بل إني لأوثر أن أتهم بالجهل مع الإبانة على أن أدعي العلم مع الإضرار بالناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤