الفصل الخامس والأربعون

شفاعة الحِب

جاءت رسالة قوزمان وبنتيه إلى بيت الحارث مع نفس صاحب السفينة الذي جاء بالرسالة الأولى. فقد استطاع في تلك المدة أن يعدّ وسقًا جديدًا من خيرات مصر؛ ليبيعه في بلاد العرب، وكان الحارث قد زايلته الحمى، واسترد شيئًا من العافية والقدرة على مقابلة الناس، ولكنه لم يتسلم الرسالة، بل تسلمها ولده النضر على غير علمٍ من أبيه، وفضها وأعادها إلى صاحب السفينة؛ ليقرأها له ليعرف ما فيها إذ كانت كلها بالرومية حتى رسالة لمياء، وإذ وجد أن هرميون تعلنه بعدولها عما كانت قد رضيت بإنفاذه من زواج لمياء بدميان، وتعتذر إليه من خطئها حتى مع تعليقها الأمر على شرط قبوله، ثم تترضَّى زوجها، وتطلب إليه العفو عنها؛ لما سببت له من الحزن الذي برح به، وتبدي له تمنيها لو كانت معه في جدة؛ لتقوم على خدمته، ووجد أن لمياء تغمر والدها بفيضٍ من المحبة والدموع، وقوزمان يدعوه إلى الإسكندرية ويهوِّن عليه الأمر، إذ يذكر أنه لا خوف عليهم من الفرس؛ لأن في مقدروهم أن يركبوا البحر إلى ما وراءها إلى قيرين (برقة) أو غيرها، خشي النضر أن يتأثر أبوه برجائهم فيرحل إليهم في الإسكندرية، وتكون هرميون قد انتصرت عليه، فعزم على ألا يطلع أباه على الرسالة، ولا أن يعلمه على الأقل بعدول هرميون عن تزويج ابنته؛ مقتًا منه لهرميون، واستبقاءً لوجد أبيه عليها ولو آذاه هذا الوجد، وكاشف أخته قُتيلة بذلك — وكانت قد حضرت من الطائف للقيام بشئون أبيها في مرضه — معتذرًا بأن حالة أبيها لا تسمح أن تهزه عواطف عنيفة تبعثها عواطف شوق الابنة وعبارات ترضي الزوجة، وحذر أخته أن تفاتح أباها في شيء من ذلك؛ لئلا يطلب إليه الرسالة، وهو لا يريد أن يطلعه عليها، ولكن قُتيلة كانت أرق قلبًا من أخيها، وأرعى لأبيها، فإنها رأته كثير التفكير كثير الزفرات فأدركت أنه يفكر في امرأته وابنته، وأنه في ضيق لما قدر من أن يكون السهم نفذ فتزوجت لمياء من دميان، وثبت لها هذا من هذيانه في نومه، وخشيت أن تعاوده الحمى، أو يصيبه الجنون وهو قريب ممن يكون في مثل حاله، فلم تعد ترى رأي أخيها النضر من صلاحية كتمان الأمر عن أبيها، وإن كانت تعلم أن النضر لم يرد هذا وحده؛ بل أراد أن يمنع عودة الصلة القلبية بين أبيه وامرأته الرومية وابنته منها، وعزمت قتيلة على تسرية همه بإفضائها إليه بما يسره، ولكن لم تجد الوقت المناسب للحديث معه في ذلك، حتى أفاق والدها ذات صباح، وجلس يستقبل الشمس تملأ غرفته وتنعش النفس — وقال لها: يا ليتني تخذت جدة مقامًا لهرميون! إذن لم يكن حدث ما حدث! فوجدت قتيلة في ذلك الوقت المناسب، وقالت: الحمد لله يا أبي على أن امرأتك نزلت على إرادتك فلم تزوِّج لمياء من ابن عمتها.

figure

فالتفت الحارث إليها يسائلها بنظارته في شيء من الدهشة، وقال: أنا لم أتمكن من أن أرسل إليها رد رسالتها حتى يكون لي لديها إرادة تنزل عليها أو تعلو. قالت قتيلة: بلى يا أبي، كان ما خططته في مطلع رسالتك كافيًا للدلالة على رفضك، فأرسله أخي مع صاحب السفينة الذي جاءك برسالتها، وأبدى له أخي أن من أسباب مرضك ما أصابك من الحزن لما علمت. قال: لقد أحسن صنعًا. قالت: ولقد عاد صاحب السفينة منذ أيام بما يفيد انتهاء الأمر إلى القطع، وسافرت لمياء وهرميون وجدها إلى الإسكندرية. هكذا علم صاحب السفينة من رسول القصر الذي كان أتى له بالرسالة من عيذاب، ولكن أخي لم يشأ أن يفاجئك بهذا الخبر السار، حتى تقوى على احتماله، ولقد رأيت العافية في وجهك هذا الصباح فأنهيته إليك. قال الحارث وقد أشرق شيء من النور في وجهه الحسن: الحمد لله يا بنيتي، ليس لي على شكره يدان. لم أجد وحقك فيمن رأيت من الشباب في بلاد الله فتى تحتقره العين وتمجه النفس كهذا الفتى دميان الذي كانوا يريدون تزويج لمياء منه؛ مخنّث مغرم بالنساء! تأملي في هذا. هذا أسوا صنف في الرجال. ألم يرسلوا معه رسالة؟ فحارت قتيلة بم تجيب، وأخوها قد حذَّرها، ولكنها لم تجد غير الصدق وسيلة قائلة لنفسها: أأرعى أخي على باطل ولا أرعى أبي على حق؟ ولكنها مع ذلك تلطفت فقالت: بلى، ولكنك كنت ضعيفًا لمَّا جاء بها صاحب السفينة، ولم تكن تملك أن تقرأ، ولا كان من المستحسن أن تشغل بها، فأبقاها أخي معه حتى تقوى. عسى أن يعود اليوم من مكة! على أن النضر لم يعد إلى جدة قبل أيام. فلما جاء تلقته أخته بما جرى ليتدبر فغضب عليها وأنَّبها، وكان النضر قد مزَّق الرسالة في بعض أحوال نزقة وألقاها. فلما سأله أبوه عنها ادعى أنه لا يدري أين هي؟ وأنه يرجح أنها سقطت منه في الطريق إلى مكة، وأراد أن يلهي أباه عنها فقال: إنها رسالة صغيرة كتبت فيما أظن على عجلة. فقال الحارث: ليتك تركتها مع أختك، أو تركتها بجوار فراشي. فما كنت قارئها حتى أقوى. قال: تالله تفتأ تذكر تلك الباغية حتى تهلك أسًى. قال: الله المستعان على ما تفعل معي يا بني، قال: عدت إلى شكوكك القديمة يا أبي! قال: شكوكي! ليتك قلت يقيني! قال: أنت وما ترى! ولكني أعدك أن ستأتي إليك هرميون ولمياء عما قريب على نفس السفينة التي سافرتا عليها! قال الحارث: من أين لك هذا؟ قال: مما وقع، فقد علمت الآن؛ إذ مررت بالسوق فالتقيت ببعض بحارة عيذاب أن الفرس نزلوا بلاد مصر، وتلقاهم قساوسة المصريين بالترحيب، وأنهم استولوا من الروم على منف وبابليون وأتريب ونيقيوس، ويوشكون أن يحاصروا الإسكندرية. فإذا لم يكن قوزمان قد رحل بابنتيه إلى الغرب صوب قيرين (برقة) لينجو وهو ما كنت أفعله لو كنت في مكانه فهو لا بد حاضر هنا ما دام طريق الصحراء والصعيد خاليًا. فلم يرد الحارث على كلام ولده، وانحنى يفكر في امرأته وابنته، ثم التفت عنه، واستلقى في فراشه؛ لكيلا يرى وجه ولده.

كان زياد في ذلك الوقت واقفًا بالباب على عادة الخدم استعدادًا لإجابة نداء سادته إذا هم احتاجوا إليه، وكان لا بد له في هذا الموقف أن يسمع ما جرى بين النضر ووالده من الحديث. فلما سمع ما قاله النضر من أنه فقد الرسالة، ولا يدري أين فقدها؟ وكان زياد يعلم أنه مزقها في مكة، أدرك أنه تعمد إخفاء الرسالة عن أبيه نكاية بسيدتيه هرميون ولمياء، وإنما أدرك ذلك؛ لأنه تذكر حديثًا جرى بينه وبين زوجته سودة خاصًّا بهذه الرسالة من ناحية عرضية. ذلك أنه كان قد ذهب إلى مكة في بعض حاجة السيدة وشم في أردائها رائحة طيبة فلما سألها عن مصدرها، روت له من أمرها أن سيدها النضر لما عاد من جدة وأخرج ما كان في جوالقه كان من بين ما فيه لفافات مخطوطة عرضها لعين زوجته حينما تناولها، وقال لها شامتًا: هذه من هرميون اللعينة وابنتها وأبيها إلى أبي يتزلَّفون فيها إليه. ثم مزقها طولًا وعرضًا وهو يسب هرميون ويشتمها، وأعطى سودة إياها، وقال لها: خذيها فأشعلي بها كانونك، وأن سودة لم تحرقها بل احتفظت بها؛ لأنها وجدت بها عطرًا جميلًا، فدستها في ثيابها لتعطرها بها. تذكر زياد هذه الحادثة حينما كان النضر يتكلم، وعزم على أن يأتي باللفافات من عند سودة ممزقة كما هي، عندما يعود إلى مكة عسى أن يكون فيها خير لسيدتيه المحبوبتين. على أنه كتم الأمر عن سيده حتى أرسلوه إلى مكة في حاجة لهم فأحضرها، ولم يقدمها إلى الحارث ويذكر له قصتها حتى خلا البيت برحيل النضر وقتيلة عن جدة، وسأل مولاه بحق لمياء أن يكتم الخبر عن سيده النضر؛ لئلا يؤذي سودة ويؤذيه معها. فطمأنه سيده وأثنى عليه وأثابه، وتناول الرسائل الممزقة يقرؤها ما استطاع أن يقرأ.

هل كان في استطاعة الحارث أن يجيب دعوة أحبابه؟ بل هل يجمل به أن ينزل على حكم امرأته، وقد سافرت بغير علمه، وأرسلت إليه كلامًا مرًّا؟ الجواب: نعم، لا مستحيل مع الحب فإنه يحبّ امرأته ويحب ابنته، والحب يقول: إنها لم تخطئ في الفرار، وأنه لا فائدة من استمرار تظاهره بالكدر منها، وهو لو رآها لاعتذر إليها، والواقع أن جوهر كدره كان لأنها لم تمكنه من التظاهر بالغضب عليها هنيهة تتلوها كلمة منها في شبه نغمة اعتذار فيعفو عنها، ثم يتكرم بأن يسير وراءها طائعًا أو يتقدمها مختارًا. إذن فليرحل إلى الإسكندرية ما دامت تدعوه وترجوه، ويرجوه كذلك حموه وابنته العزيزة لمياء التي كانوا قد أوشكوا أن يؤذوها من حيث لا يعلمون، ويجب لكي لا تتكرر هذه الحادثة أن يكون بجوارها، ولكن كيف يرحل والفرس منتشرون في البلاد، ولا بد أن تكون أبواب الإسكندرية مقفلة؟ الحب يقول: هذا لا شيء مطلقًا فإن هناك ألف وسيلة ووسيلة للقاء هرميون ولمياء. ليرحل إلى عيذاب إذن في الغد. لا داعي إلى قضاء يوم آخر في جدة، وليأخذ معه زيادًا. فقال له: ما رأيك يا زياد في أن نرحل في سفرة إلى الإسكندرية تشاهد فيها الدنيا وسيدتيك لمياء وهرميون، ونأتي بهما إلى جدة؟ قال زياد: لا رأي لي معك يا سيدي، وإن كنت أشتهي ذلك. قال: أشعر أني استعدت قوتي ونشاطي عندما خطر لي أن أذهب إلى مصر. إن سيدتك ترجو أن أجيئها لأعود بها هي ولمياء إلى جدة؛ لأنها تشعر الآن بالخطر المحيق. قال زياد: أصبح السفر إليها فرضًا يا مولاي، فقال الحارث: هيئ للرحلة في الغد إذن، وانظر هل من سفينة شاخصة إلى عيذاب.

•••

بلغا عيذاب، ولكنهما لم يستطيعا أن يقطعا الصحراء إلى قفط؛ إذ انتفى الأمن منها على أثر انتشار أخبار اندحار الروم في كل مكان، ولكن المقادير هيأت لهما صحبة بزعيم أحد مناسر اللصوص جاء إلى عيذاب يلتمس صيدًا فمرض، وعاده الحارث وشفاه؛ فحفظ له جميله، وتعهد بنقله إلى قفط سالمًا، ولكن الحارث لم يستطع أن يبحر من قفط إلى سيوط لا في البحر ولا في البر؛ لأن جنود الفرس كانوا قد انتشروا في الصعيد، وانتشرت أمامهم ووراءهم مناسر اللصوص من المصريين أنفسهم حتى أصبحت النقلة باختيار صاحبها حمقًا صريحًا. فانتظر الحارث في قفط حتى تهيأت الفرصة لذلك. كان لا بد لحاكمها الرومي من أن يرحل عنها قبل مقدم الفرس وإلا قتل، وإذ كان الحارث قد اتصل به من قبل وتألفه، والحاكم يعرف غايته، أعلنه بذلك سرًّا، وواعده في ظاهر المدينة من جنوب؛ ليعبر النيل إلى الشاطئ الغربي، وهناك ينتظران حتى يوافيهم جنده بحموله، ويسافروا جميعًا في طريق الواحة المقابلة، على أن ينعطفوا إلى الشمال في طريق الشاطئ بعيدين عن طريق الجند والمناسر معًا. على هذه الخطة عملوا ورحلوا عن قفط بعد أن قضى الحارث فيها قرابة شهرين، قاصدين إلى ما وراء الفيوم.

ولشد ما كانت شماتة الحاكم الرومي بقساوسة القبط؛ إذ كان يعلم أنهم على فرط ما أبدوا من الفرح، وما قدموا من براهين الترحيب القلبي بالفرس لم يلقوا من الفرس إلا رعاية متورّط لا يدري سر فرح المأكول بآكله. فما لبثوا أن انقلبوا عليهم بالأذى والابتزاز وإن لم يعترضوا لصلواتهم في كنائسهم وترهبهم في أديارهم١ بل تركوهم يصلون ما شاءوا، ويدعون ما شاءوا، وانصرفوا إلى ما جاءوا من أجله؛ فقد كان الفرس قومًا دنيويين يفتحون البلاد ليملكوها، ولا تهمهم الأديان ولا المذاهب، ولا يحملون أحدًا على قبول دينهم، ولذلك ما كانوا يتعرضون لأديان أهلها. جاءوا ليطردوا الروم، ويحلوا محلهم في استغلال مصر واستعباد أهل مصر، فإجلاؤهم إذا سر القبط لم يكن مقصودًا منه أن يفرح القبط؛ بل أن يتمكنوا من بلادهم، ويستولوا على خيراتها٢ فإن كان في الكنائس شيء من هذه الخيرات دخلوها للاستيلاء عليها لا ليمنعوا صلاة الناس فيها لمن يحبون من الآلهة! أما قساوسة القبط فكان كل ما يشغلهم من أمور الدنيا أن يقول لهم الحاكم إن دينهم هو الحق ودين غيرهم باطل؛ ولذلك يجب أن يفرحوا لدخول المجوس بينهم، ويجب عليهم أن يحملوا الناس على أن يعطوهم أموالهم وأنفسهم ووطنهم من أوله إلى آخره من أجل أن يقول لهم الحاكم: إنه هو الحق لا حق سواه، وأنكم أولاد الله الحقيقيون. أما غيركم فأولاد حرام! وكانوا على هذا الحال المزري منذ ما كان في هذا البلد السيئ الحظ بأهله أديان. غيَّر الكهنة دين هذا البلد ألف مرة، وكان كل دين قائم هو الحق، الذي يجب من أجل الاعتراف بحلاوته أن يعودوا فيحملوا المصريين على التفريط في وطنهم وأنفسهم، وينسون أنهم كانوا يفعلون مثل ذلك في عهد الدين السابق.

•••

لم تكن الفيوم قد وقعت بعدُ في يد الفرس، ولذلك بقي بها الحارث مدة في جوار صاحبه حاكم قفط الذي جاء معه، في انتظار أن يقوم منها عير إلى الإسكندرية، حتى علم هذا الحاكم أن هناك جماعة من جند الروم القدماء عازمين على السفر إلى الإسكندرية؛ ليعززوا حاميتها فتكلم معهم في شأنه، وسمحوا أن يلقاهم في مكان معين خارج الفيوم؛ ليرافقهم على أن يكتم يوم سفره حتى لا يتنبَّه اللصوص إليهم.

جاء يوم السفر فودع الحارث صديقه حاكم قفط، وشكره على فضله شكرًا جزيلًا، وأكرم جنوده بما أوجب عليه البر في ذلك المقام، وخرج هو وزياد إلى حيث يجتمع بعير الروم الراحل إلى الإسكندرية به، وانحدر معهم إلى البحر.

ولشد ما كانت دهشته؛ إذ رأى في العير بعد مسيرة ساعة صديقه الفيلسوف اليمني — نعيمًا الصيدلاني — الذي كان استودعه ورقة. أما كونه في مصر فلم يدهشه؛ لأنه كان يعلم شدة رغبته في رؤية مصر، وأما كيف أتى إلى مصر فكان هذا محل دهشته وعجبه؛ لأن الطريق فيها في هذه الأيام لم يكن مما يجوز لمثله أن يستسهله، وهو لا يطلب زوجة مثله يحبها أو ابنة شاقته الوحدة والشفقة إليها، ولذلك سأله في ذلك: فقال نعيم: قد يكون الصديق أحب إلى الإنسان من امرأته، ويكون للإنسان ولد من غير صلبه أحب إليه من ابن دمه، ولقد جئت إلى مكة؛ لأراك وأرى ولدي ورقة هناك، وعلمت أنك في جدة فجئت جدة، فقيل: رحلت إلى مصر، فأدركت أنك قصدت إلى بيت قوزمان؛ لترى امرأتك وابنتك؛ وإذ كنتُ عازمًا من قبل على السفر إلى مصر فقد وجدت الدافع إلى ذلك مزدوجًا، ولم أتهيَّب الطريق؛ لأنك لم تتهيبه، ولكن العجب أنك لم تصل بعدُ إلى الإسكندرية حين أني جئت في أثرك بعد شهرين. قال قضيتهما في الطريق. قال: ولكني لا أرى ورقة فأين ذهب! ألم يعد إليك؟ قال: لا: وا حسرتاه! لقد أهدر ولدي النضر دمه فرحله بنو هاشم إلى يثرب فهو هناك الآن. فلما سمع نعيم هذا الخبر حزن حزنًا عميقًا؛ لأنه كان يشتهي أن يرى ورقة، ولعله ما اشتد به العزم على السفر إلى مصر إلا أملًا في لقائه؛ إذ قدّر أن يكون الحارث قد عمل على إرجاعه، ولكنه سرَّى عن نفسه الهمّ على عادته بأن أسقط الأمر من قلبه؛ لينعم بلقاء الحارث.

قضت القافلة عشرة أيام حتى بلغت ديرًا قائمًا على مدى خمسة عشر ميلًا من الإسكندرية. هناك وقف بهم الضابط الرومي صاحب العير؛ ليردهم عن متابعته قائلًا: هنا مكان الافتراق أيها السادة الأغراب. لقد التمستم أن تسيروا في حمانا حتى تبلغوا الشاطئ، وها نحن أولاء قد بلغناه، وسنركب البحر من هذا المكان قاصدين إلى الإسكندرية، وهي لن تفتح اليوم بابها البحري لغير الروم؛ إنها في حصار كما تعلمون. نستودعكم الله. فتقدم الحارث ونعيم يودعانه ويشكرانه. على أن الحارث رجا منه أن يعمل على لقاء العالم قوزمان أكبر أطباء الإسكندرية وأشهر علماء معهدها فيخبره بمجيئه، وأنه سينزل في دير الهانطون في انتظار ما يفعله؛ للسماح له بدخول المدينة.

رحل الروم في سفينة صيد استأجروها إلى الإسكندرية، وقصد الحارث بنعيم وزياد على الأقدام إلى الدير القريب فقضوا في ضيافة أهله بقية يومهم، ثم خرجوا إلى طريق الإسكندرية قاصدين إلى دير كان للحارث بوكيله صحبة ومودة كان سببًا في إقراضه إياهم قدرًا من المال رمموا به الدير إثر من أنزل به أعوان بونوسوس من التهديم، وأعطوه في مقابل قرضه قطعة من السوق المجاورة للكنيسة، وإنما اضطر أهل الدير إلى الاستقراض؛ لأن بونوسوس ورجاله كانوا قد استولوا على جميع أملاكهم في مصر العليا والسفلى، وقطعوا عنهم المدد، واستولوا كذلك على كل ما كان في خزائن الدير، وسائر الأديار اليعقوبية من الأموال.

فرح الوكيل به فرحًا عظيمًا، وأنزله هو وصاحبه مكانًا مكرمًا، ولكن الحارث لم يرض أن يظل عالة على أهله بلا عملٍ حتى يرى نتيجة ما كلف به الضابط الرومي؛ بل أخذ في ثاني يوم يتولى هو ونعيم تطبيب مرضى الدير، وكذلك كل من كان يجيء من الجيرة يستطب برقى رهبانه وتعاويذهم، وظل على هذه الحال مدة طويلة لم يرد إليه في غضونها ما كان يؤمله، ولا عرف كيف يدخل إلى الإسكندرية؛ إذ كان جند الفرس معسكرين حول أسوارها، ومنتشرين في أرباضها، ومحاولة الخروج للنظر واستكشاف الحال ضرب من المجازفة بالحياة والكرامة معًا. فاستمر في الدير في انتظار وسيلة يأتي بها القدر.

ولكن هذه الوسيلة لم تتهيأ له على عجل كما كان يؤمل؛ إذ كانت أبواب الإسكندرية مقفلة بسبب الحصار فاضطر المسكين أن يقضي شهرًا آخر في ضيافة الوكيل.

هناك علم الحارث من وكيل الدير وحلقته أن الجيوش التي تحاصر الإسكندرية هي نفس الجيوش التي فتحوا بها القدس، وأن الكثرة فيها من عرب شمالي الجزيرة العربية٣ والقلة من الفرس، وأن السلار شاهين قائدهم الأعظم أحاط الإسكندرية بمجانيق عظيمة تلقي جلامد الصخر على الأسوار، ولكنها لا تفعل بها شيئًا يذكر، بل ترتدُّ عنها مهشمة كما ترتد كرات الصبية على ملقيها، وأن بعضها وقع في بعض أبراج كنيسة القديس مرقس القائمة بالقرب من السور الشرقي، ولكنها لم تبلغ منها مبلغ الأذى الكبير، وعلم أنهم أتوا بقواذف للنيران تحمل كتلًا مغمورة في النفط والكبريت، وتلقيها فيما وراء الأسوار، ولكنها لا تقع إلا على فضاء معد في الإسكندرية لمثل ذلك، وأتوا بدباباتهم العجيبة بل الصروح العالية المتحركة على عجل ملأى بالمقاتلة والسلاح أملًا أن يستطيعوا تقريبها من الأسوار ويركبوها، ولكنهم ما فعلوا بها شيئًا فقد كانت تزمجر بآلاتها وتخور؛ فتجيبها من أسوار الإسكندرية المنيعة الهازئة رعودٌ وبروق وصواعق من صخور ونيران تفتك بهم فتكًا ذريعًا فيضطرون إلى الارتداد عنها والعودة إلى مضاربهم؛ ليحاولوا الأمر بجهد أشد في يوم آخر، ولكنهم ما كانوا يظفرون في اليوم الآخر بأكثر مما ظفروا في الأول.

كانوا شجعانًا أشداء معودين النصر والغلب، وقد هدموا جميع أسوار الحصون في الشام وأرمينية، وكان آخر ما فعلوا هدمهم أسوار أورشليم وامتلاكها، ولذلك كانت خيبتهم في كل محاولة، شديدة عليهم محنقة لهم، ولكن جيوشهم في الشام والقدس كانوا في أكثرهم من عرب الجزيرة الأشداء يقاتلون رومًا فتت الحروب والهزائم في أعضادهم. أما هنا فيحاربون أقلية رومية تعتز بأكثرية عربية جمعوها من بلاد لوبيا في الغرب وسينا في الشرق وزنوج لا يعرفون هوادة ولا يفترون. كان هرقل قد استنفد غالبية العنصر الرومي الإسكندري في حروب هجومه على القسطنطينية أيام حارب فوقاس، وفي دفاعه في أرمينية؛ ليستردها من كسرى أبرويز، فالحرب في جوهرها حرب بين عرب وعرب تعززهم في الإسكندرية أقلية من الروم وفي خارجها أقلية من الفرس.

من أجل هذا الفشل الذي منيت به جيوش الفرس أمام أسوار مدينة الإسكندرية المنيعة أبد ثمانية أشهر زعم صغار الأحلام من السكان واللاجئين إلى عشرات الأديار القائمة في أرباض الإسكندرية من يعقوبية ورومية أنه يحق لهم أن يتمتعوا بالسخرية بجند السلار شاهين، وهم مارّون بأديارهم أو جالسون يستريحون في ظل جدرانهم، ولذلك لم يترددوا أن يسقطوا عليهم من الكوى المقفلة كلمات السخرية بهم وبإلههم ميترا. فانصرف الجنود عن أسوار الإسكندرية السميكة الراسخة إلى جدران الأديار الرقيقة المتزعزعة؛ ليهدموها، ويؤدبوا الساخرين منهم بما لدى الفرس من وسائل التأديب والانتقام مع فرط الاحتقار.

هذا ما علمه الحارث، وما رآه يوم أن فاض به الوجد؛ فاستقر به الرأي على أن يحاول الوصول إلى الإسكندرية بطريق البحر، فخرج قاصدًا إلى ميناء لوكياس — ميناء القصر — عسى أن يلقى فيها ضابطًا من ضباط الأسطول سمح الخلق يرضى أن يسير بكلمة منه إلى الأمير؛ ليسمح له بالدخول، وما كان يشك في قبول الأمير رجاءه؛ لأنه كان معروفًا لديه بأنه عديل أخيه تيودور زوج هيلانة ابنة قوزمان، وكثيرًا ما اجتمع به حينما كان يرافق قوزمان في زياراته له؛ إذ هو نسيب، وإذ هو عميد معهد العلم الإسكندري، وقد كان الحارث يفكر في هذه الوسيلة من قبل، ولكنه امتنع لسببين؛ أولهما: أنه كلف الضابط الفيومي لقاء قوزمان، وثانيهما: أن الطريق ملآن بجنود الفرس، ولن يرعى الجند أيام الحرب حق أحد أو كرامته، والطريق في البحر كالطريق في البر مصون بكشافة الأسطول الرومي، ولا بد أن يظنوا أنه دسيسة أو جاسوس، فيؤذوه، وربما قتلوه قبل أن يستبين لهم أمره.

فلما لم يظهر أثر لسفارة الضابط الرومي — إذ كان في الواقع قد قضى نحبه ثاني يوم دخوله الإسكندرية في هجمة كانت للفرس على أسوارها — وطال الانتظار قصر حبل الصبر من الحارث، وعزم أن يجازف، ولكنّ وكيل الدير لم يرض له هذا حتى يدبّره على وجهه أنفي لشرور في الطاقة تجاوزها؛ ذلك بأن يركب الحارث وصحبه إحدى السفن الشبيهة بسفن الصيد، وينضم باسمه إلى الصيادين إذا خرجوا في العصر إلى البحر الأعظم، وينزلج إلى ميناء لوكياس. نعم، إنه لن يلقى هناك من رجال الأسطول برًّا سريعًا، ولكنه يتفادى بعمله هذا إحدى العقبتين بل العقبة الكبرى، أي نواظير الميناء الغربية، الذين يتعاملون مع الجمهور فهم لهذا شديدو الحرص، شديدو الارتياب في كل إنسان، ومحال أن يأذنوا بمرور أحد لا يكون ممن يُسمح لهم بارتياد البحر، وهيهات أن ينجو الحارث من سوء ظنهم وعقابهم العاجل مهما كان بريئًا.

التمسوا الوسيلة إلى ذلك، وكتب وكيل الدير بخطه وخاتم الدير شهادةً بأن الحارث غريب جاء يلتمس أهله في الإسكندرية، وأنه من ذوي الصلة والقرابة بسمو الأمير، ورجا ممن يطلع على كتابه من اليعاقبة أن يساعده على بلوغ ميناء لوكياس، وخرج الحارث ونعيم وزياد في السفينة على نحو ما دبر الوكيل، وكانت الرقعة التي كتبها قمينة بتحقيق تدبيره على وجه أكمل.

بلغ الحارث وصاحباه ميناء لوكياس، ويا هول ما لقي: ما كاد رجال الأسطول يلمحونه حتى خرجت إليه حراقة عليها نفر من شياطين البحر جمعوا سفينته إليهم، ونزل بها ثلاثة رجال شاهرين السيوف يسائلونه من هو؟ ولم جاء؟ وكيف جاء؟ ولم ينتظروا حتى يجيبهم، بل تعاوروه ونقلوه هو وصاحباه إلى سفينتهم، وأنزلوهم في غرفة مما يعد لسجن الجنود حتى ينظروا في أمره.

كانت أوامر ضابط الميناء الأميري شديدة جدًّا، ولذلك كان في استطاعة الحارث أن يدنو بسفينة من الإسكندرية حتى يبلغ الأرض، دليل على تقصير كشافة الأسطول في أداء واجب الرقابة، ولذلك أرادوا أن يخفوا أمره عن ولاة الأمر بل فكر بعضهم في إغراقه هو ومن معه إخفاءً لتقصيرهم، ومال الرقباء إلى الأخذ بهذا الرأي وتنفيذه، ولكنهم أجلوه حتى يدخل الليل فينفذوه في خفاء، ولكن حدث ما لم يكن في حسبان أحد؛ ذلك أن هؤلاء الرقباء خطر لهم أن يفتشوا حقائب الحارث وزميله؛ ليأخذوا ما فيها، فلما جاء الليل نزلوا الزورق الذي جاء فيه الحارث، وتعجل أحدهم في الانتقال إليه، وزلت قدمه وهوى في البحر، وإذ كان يحاول النجاة أمسك بجانب الزورق فقلبه بمن فيه ممن سبقوه، وغرقوا أجمعين قبل أن يتنبه إليهم أحد.

ولكن الحارث بقي في سجنه هو وصاحباه يومين كاملين منسيين لا يذوقون طعامًا ولا شرابًا، وكادوا يقضون جوعًا، حتى إذا رأوا سفينة كريمة داخلة الميناء عليها علم القسطنطينية، خطر لهم أن ينبهوا إليهم من فيها فنادوا بأعلى أصواتهم: أيها الأمراء، انظروا إلينا وأنقذونا إننا محبوسون هنا منذ يومين وسنموت جوعًا! هذا ما قالوه، ولكن لم يسمع كلامهم أحد، فقد كان رجال الأسطول يحيون القادمين ساعة دخولهم فلم يلتفت إليهم أحد؛ إذ زعموا أنهم كانوا مثلهم يحيون.

فلما مرقت السفينة الإمبراطورية القادمة، وهدأت الأصوات عادوا إلى الصياح فالتفت إليهم بعض رجال الأسطول، وإذ رأوا أشباحًا غريبة السنحة عنهم والزي دنوا منهم، وساءلوهم؛ فانبرى الحارث يروي قصته على النحو الذي رآه أمثل به، وسرعان ما انتقل إليهم بعض ضباط السفينة وأخرجوهم، وساروا بهم إلى أمير الميناء.

كان أمير الميناء رجلًا مهذبًا، ولذلك ما سمع نبأهم حتى اعتذر إليهم مما لقوا، وأكرمهم بما وجب، وأمر لهم بحساء ساخن، ثم بطعام، وسمح للحارث أن يكتب ما يشاء للمقوقس؛ ليرسله إليه.

١  بطلر.
٢  قال بطلر في كتابه فتح مصر والإسكندرية صفحة ١٤ من الترجمة العربية للأستاذ أبي حديد: «الحق أن أمور الدين في القرن السابع كانت في مصر أكبر خطرًا عند الناس من أمور السياسة. كان كل الاختلاف على أمور العقائد والديانة، وكان الدين عندهم هو الاعتقاد المجرد بأمور معينة لا أنه المعين الذي يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل الصالح، وكان الناس لا يكادون يحسون بشيء اسمه حب الوطن، وما كانت عداوتهم عند اختلاف الجنس؛ لتثور ويتقد لهبها على الأكثر إلا إذا اختلف معها المذهب الديني.»
٣  بطلر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤