كلمة المؤلف

بقلم  محمد زكي عبد السلام مبارك

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتديَ لولا أن هدانا الله.

أما بعد، فهذا كتاب التصوف الإسلامي، وهو كتاب شغلت به نفسي نحو تسع سنين، وأنفقت في تأليفه من الجهد والعافية ما أنفقت، في أعوام عجاف لو ابتلي بمثلها أصبر الصابرين وأشجع الشجعان لألقى السيف وطوى اللواء، فقد كنت في حرب مع الناس ومع الزمان، ويا ويح من ابتلته المقادير بإفك الناس وغدر الزمان.

ولكن الله عز شأنه لم يخلق الشر إلا لحكمة عالية، فقد قويت عزيمتي بفضل ما عانيت في حياتي من ضروب الاضطهاد، واستطعت أن أقيم الدليل على أن الظلم قد يعجز عن تقويض عزائم الرجال.

وهل كان من هوايَ أن أسرف على نفسي مثل الذي أسرفت فأقضي عشرين سنة في الحياة الجامعية بين القاهرة وباريس كانت كلها نضالًا في نضال؟!

هل كان من هواي أن تخلو حياتي من الهدوء والطمأنينة فلا أصبح ولا أمسي إلا في عراك وكفاح؟!

هل كان من هواي أن أنتهي إلى ما انتهيت إليه، فلا يكون لي من نعيم الحياة إلا ما أصوره بقلمي من حين إلى حين لأوهم نفسي أني أعايش الأحياء؟!

تباركت يا ربي وتعاليت، فلولا لطفك وتوفيقك لما استطعت بفضل الجد أن ألقى أهل زماني بالاستطالة والكبرياء.

ومن هم أهل زماني؟

هم الكسالى الظرفاء الذين حرمهم الله نعمة البلاء بإقذاء العيون تحت أضواء المصابيح.

•••

ينقسم هذا الكتاب إلى قسمين: التصوف في الأدب، والتصوف في الأخلاق.

وقد كان هذا الموضوع فيما يظهر غامضًا أشد الغموض، فقد طلب مجلس الأساتذة بكلية الآداب أن نقدم له مذكرة نشرح بها الغرض من هذا الكتاب ليقبل أو يرفض جعله موضوع رسالة لامتحان الدكتوراه، وقد أجبنا يومئذ بأننا نريد أن نبين كيف استطاع التصوف أن يخلق فنًّا في الأدب ومذهبًا في الأخلاق، وهو موضوع يستحق الدرس بلا جدال.

وكان مجلس الأساتذة على حق، فقد كنا في حيرة مظلمة الأرجاء، وكنا لا ندري كيف نتوجه، وكل ما كنا نملك حينذاك هو الاطلاع على العناصر وتصور ما لها من أهمية لو وضعت في نظام واضح مقبول.

ولكن السبيل إلى ذلك كان في غاية من العسر والصعوبة، فقد كنا جمعنا ألوفًا من الجُذاذات لا ندري كيف نربط بعضها ببعض، وكيف نسوي منها رسالة للدكتوراه في الفلسفة تستوفي الشرائط الجامعية.

وتجسم الخطر حين نظر المؤلف فرآه يخترق المصاعب وحده بلا هادٍ ولا معين، فقد كان ظفر بإجازة الدكتوراه قبل ذلك مرتين، مرة من الجامعة المصرية ومرة من جامعة باريس، وكان ذلك كافيًا لأن ينصرف عنه الأساتذة ويتركوه يكتب ما يشاء كيف شاء.

ولكن أولئك الأساتذة الذين اعتمدوا على كفايته العلمية لم يتركوه بلا حساب، فقد تدخلوا في تصميم الرسالة وخربوها بأيديهم مرتين، فخرج منها كتاب نشر منذ سنين هو كتاب «المدائح النبوية في الأدب العربي».

والشر قد يكون بابًا من الخير في بعض الأحيان.

•••

نوقش هذا الكتاب بجلسة علنية في مساء اليوم الرابع من أبريل سنة ١٩٣٧، ناقشته لجنة عنيفة قهرت المؤلف على التواضع، وهو خلق لم يعرفه من قبل، واقترحت أن يحذف أشياء وأن يضيف أشياء.

وقد رجع المؤلف إلى الكتاب فنظر فيه من جديد وأضاف إليه طائفة من الفصول في الأدب والأخلاق، وحرر بعض الهوامش التي تحدد ما كان يحتاج إلى تحديد في بعض المواطن، وانتفع بإقامته في العراق فتعقَّب الصلات بين التصوف والتشيع، وقد أعانه ذلك على إمداد كتابه بحيوية جديدة سيرى القارئ شواهدها وهو ينتقل من بحث إلى بحث.

•••

هذا، وقد يجد القارئ ما يثيره في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فإن وجد ما يشوكه ويؤذيه فليرجع إلى ما شاكه وآذاه بالدرس والتأمل مرة أو مرتين أو مرات ليوافق أو يعترض على هدًى وبصيرة، وليتذكر أن الدراسات الفلسفية لا تقوى ولا تجود إلا إن سلمت سلامة تامة من الرياء وتخوف العواقب.

والمؤلف يرجو أن يتذكر القارئ أيضًا أن الصوفية كانوا من أقطاب الحرية الفكرية، فمحاربة هذه الحرية باسم الغيرة عليهم خطأ لا يقع فيه رجل حصيف.

وفي ختام هذه الكلمة الوجيزة أدعو الله تباركت أسماؤه أن يسبغ على هذا العمل الخالص لوجهه الكريم حلة القبول؛ إنه قريب مجيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤