المنظومات الصوفية

هذا بحث لو أطلناه طال: لأن الصوفية عاشوا دهرهم كله في ظلال الشعر والغناء، ولهم على النهضات الموسيقية فضل عظيم، وكانوا في أكثر أحوالهم يتمثلون بالأشعار فينقلونها من الصبوات الحسية إلى الأغراض الروحية، وشواهد ذلك تعد بالألوف، ويكفي أن نذكر ما وقع لأبي الحسن بن الصباغ وقد مر وقت الضحى ببساتين قوص فسمع حمامة على شجرة تغرد بصوت شجي فاستمع ثم تواجد، واستغرق وأنشد:

حمام الأراك ألا خبِّرينا
بمن تهتفين ومن تندُبينا
فقد شق نوحك منا القلوب
فأزريت ويحك ماءً معينا
تعالي نُقم مأتمًا للفراق
ونندب أحبابنا الظاعنينا
وأسعد بالنوح كي تُسعدي
فإن الحزين يواسي الحزينا

ثم بكى طويلًا وأنشد:

أيبكي حمام الأيك من فقد إلفِهِ
وأصبر عنه كيف ذاك يكون
وما لي لا أبكي وأندب ما مضى
وداء الهوى بين الضلوع دفين
وقد كان قلبي قبل حبك قاسيًا
وإن دامت البلوى به سيلين
ألا هل على الشوق المبرح مسعد
وهل لي على الوجد الشديد معين

ثم خر مغشيًّا عليه فلما أفاق أنشد:

غنني في الفراق صوتًا حزينًا
إن بين الضلوع داءً دفينا
كل أمر الدُّنا حقير يسير
غير أن يفقد القرين القرينا
ثم جُد لي بدمع عينيك بالله
وكن لي على البكاء معينا
فسأبكي الدماء فضلًا عن الدمـ
ـع ويوم الفراق أبكي العيونا١

ولهذا الحديث نظائر كثيرة في كتب الصوفية. وهو يشهد بأنهم كانوا ينقلون الصبوات الحسية إلى الأغراض الروحية.

ثم اندفع أدباء الصوفية فنظموا بأنفسهم أشعارًا كثيرة تشرح ما يعانون من خطرات القلوب. وأكثر ما أجادوه وصف أخلاق الرجال، كالذي يقول:

أنت بالصدق قد خَبَرْت رجالا
قد أطالوا البكا إذا الليل طالا
وملأت القلوب منهم بنور
في نفيس اليقين يا من تعالى
وتوليتهم وكنت دليلًا
وكسوت الجميع منهم جمالا
فإذا ما الظلام جن عليهم
وصلوا بالكلال منهم كلالا
عفروا بالتراب منهم وجوهًا
ذاك لله خشية وابتهالا
هجرت للمنام منهم عيون
فاستطار المنام عنهم فزالا
إنما لذة البكاء لمريد
أسلم الأهل للديار وجالا
خاضعًا باكيًا حزينًا ينادي
يا كريمًا إذا استُقيل أقالا
ويستطيع القارئ الرجوع إلى كتاب نشر المحاسن الغالية ففيه شواهد كثيرة من منظومات الصوفية تبين كيف حاولوا تقييد أكثر المقامات والأحوال.٢

ونريد هنا أن نمر مسرعين على بعض الآثار التي حاول أهلها تقعيد التصوف على نحو ما صنع ناظمو المتون في أكثر الفنون.

والذين سنتحدث عنهم في هذا الباب لهم خصائص شعرية تغاير الخصائص المعروفة عند شعراء الوجدان من الصوفية أمثال ابن الفارض والشبلي والحلاج وهم جماعة من كبار الأدباء حاولوا تقعيد التصوف فوصلوا إلى غاية من النجاح لا يمكن إغفالها في مثل هذا الكتاب.

وليتذكر القارئ أننا لا نريد الاستقصاء؛ لأن هذا الباب وحده يحتاج إلى فصول طوال، وإنما نريد فقط أن ندل على ناحية أدبية شغلت جماهير المريدين حينًا من الزمان.

وما أنكر أن بعض المنظومات يغلب عليها الضعف ولكن هذا لا يمنع من وضعها في الميزان؛ لأن الأدب يؤرخ فيه القوي والضعيف، وهو في جميع أحواله يصور تطور المشاعر والأذواق.٣
١  جامع كرامات الأولياء جزء ١ صفحة ١٦٤.
٢  انظر الجزء الثاني صفحة ٥٠، ٥١، ٥٧، ٧٩، ١٠٧، ١٤٥، ١٦٧، ٢٠٧، ٢٣١.
٣  المنظومات التي وضعت لتقييد قواعد التصوف كثيرة جدًّا، ولأكثرها شروح ضافية، وهي بذلك ثروة أدبية ولغوية. ومن أمثلة ذلك المنظومة المسماة بهداية الأذكياء إلى طريق الأولياء للشيخ زين الدين بن علي، وقد شرحها السيد بكري بن السيد محمد شطا الدمياطي. وهذا الشرح نشرته مكتبة مصطفى الحلبي سنة ١٣٤١.
وكذلك (مرثية خالد) وقد شرحها شهاب الدين الألوسي وسمى شرحه (الفيض الوارد، على مرثية خالد)، وهو مطبوع على الحجر وفيه كثير من الفوائد اللغوية والصوفية والفقهية وأعظم منظومة في قواعد التصوف هي منظومة حسن رضوان، وسيأتي الكلام عليها في سياق هذه الفصول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤