نقل الأقاصيص الغرامية إلى الجواء الصوفية

أقاصيص الحب

كان عند العرب فن أدبي معروف هو أقاصيص الشهداء في الحب وكان الأصمعي أشهر رواة ذلك الفن، ففي كتاب الأمالي وكتاب تزيين الأسواق وديوان الصبابة ومصارع العشاق نرى الأصمعي يواجهنا من حين إلى حين بأخبار من صرعهم الحب بعد سماع أشعار النسيب، كأن يقول: رأيت بالبادية رجلًا قد دق عظمه، ونحل جسمه، ورق جلده، فتعجبت منه، ودنوت منه لأسأله عن حاله فقالوا: أذكر له شيئًا من الشعر يكلمك، فقلت:

سبق القضاء بأنني لك عاشق
حتى الممات فأين عنك المذهب

فشهق شهقة ظننت أن روحة فارقته. ثم أنشأ يقول:

أخلو بذكرك لا أريد محدثًا
وكفى بذلك نعمة وسرورا
أبكي فيطربني البكاء وتارة
يأبى فيأتي من أحب أسيرا
فإذا أتى سمج بفرقة بيننا
أعقبت منه حسرة وزفيرا

فقلت له: أخبرني عنك، فقال: إن كنت تريد علم ذلك فاحملني وألقني على باب تلك الخيمة ففعلت فأنشأ يقول بصوت ضعيف:

ألا ما للمليحة لا تعود
أبخل ذاك منها أم صدود
فلو كنتِ المريضة كنت أسعى
إليك ولم يُنَهْنِهْنِي الوعيد
فإذا جارية مثل القمر قد خرجت فألقت نفسها عليه، فاعتنقا، وطال ذلك وسترتهما بثوبي خشية أن يراهما الناس، فلما خفت عليهما الفضيحة فرقت بينهما فإذا هما ميتان.١

ومن ذلك ما حدث الجاحظ إذ قال: كان محمد بن حبيب الطوسي جالسًا مع ندمائه، وقد أخذ الشراب برءوسهم إذ غنت جارية له من وراء ستارة:

يا قمر القصر متى تطلع
أشقى وغيري بك يستمتع
إن كان ربي قد قضى كل ذا
منك على رأسي فما أصنع
وعلى رأس محمد غلام على أحسن ما يكون من الجمال، وبيده قدح، فوضع القدح من يده وقال: تصنعين مثل ذا — ورمى بنفسه من الدار إلى دجلة — فلما رأت الجارية ذلك هتكت الستارة ورمت بنفسها على أثره، فغرقا جميعًا، قال الجاحظ: فقطع محمد الشراب بعد ذلك شهرًا.٢

عثمان الغريب

ولهذا الفن شواهد كثيرة جدًّا، وقد ضمخ الأدب العربي بعبير الأنفاس الوجدانية، وكان الناس يغرمون بتقييد أوابده في العصر الأموي والعصر العباسي.

فلنذكر في هذا الفصل كيف انتقل هذا الفن إلى الرحاب الصوفية، وكيف صار في أنديتهم أنفس ما يدور من الأسمار والأحاديث.

روى صاحب الروض الفائق عن عبد الصمد البغدادي قال: كنت أتجر من بغداد إلى بلاد اليمن، وأحج في كل سنة، فبينما أنا في بعض السنين في الطريق بين منى وعرفة إذ رأيت شابًّا حسن الشباب، نقي الأثواب، كأن وجهه قنديل، وهو راقد على الرمل، وتحت رأسه حجر، وهو يعالج سكرات الموت، فتقدمت إليه، وسلمت عليه، وقلت له: ألك حاجة؟ قال: نعم، تقيم عندي ساعة حتى أقضي نحبي، وألحق بربي، فقلت له: ما الذي تريد؟ فقال: إذا أنا مت فوارني التراب، وخذ هذه المعضدة من كتفي، فإذا وصلت إلى صنعاء اليمن فسل عن دار الوزارة، فإذا خرجت إليك عجوز وبنات فادفع إليهن هذه المعضدة وقل لهن: عثمان الغريب يقرئكن السلام. ثم غاب عن حسه ساعة ثم أفاق وهو يقرأ (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) ثم شهق شهقة فارق فيها الدنيا، فغسلته وكفنته ووجهه يضيء ويتلألأ نورًا، ثم صليت عليه في جماعة ودفنته، ثم أخذت المعضدة، فلما وصلت إلى صنعاء اليمن سألت عن الدار فخرجت إلي عجوز وبنات فدفعت إليهن المعضدة، فلما رأينها أخذن في البكاء والنحيب، وخرت العجوز مغشيًّا عليها، فلما أفاقت قالت: وأين ذهب صاحب هذه المعضدة؟ فأخبرتها بخبره وما كان منه، فقالت: هو والله ولدي عثمان، وهؤلاء أخواته، ترك أهله وحشمه وخدمه وزهد في الدنيا وخرج سائحًا على وجهه لا ندري أين ذهب، فجزاك الله عني وعن ولدي خيرًا، ثم بكت وجعلت تقول:

يا فقيدًا أضحى وحيدًا غريبًا
يا عزيزًا أمسى ذليلًا كئيبًا
قد هجرت الديار من بعد أنس
وسكنت القفار فردًا سليبًا
وتغربت في البلاد حزينًا
بانفراد ولست تدعو مجيبًا
منذ فارقتني تنغص عيشي
ولقد كنت لي خليلًا حبيبًا
ليتني مت قبل يومك قهرًا
ليتني كنت من حماك قريبًا
فعليك السلام مني حقًّا
كلما حرك النسيم قضيبًا٣

ففي هذه الأقصوصة خصائص الأقاصيص الغرامية: فالشهيد (شاب حسن الشباب، نقي الأثواب) والذي يحضره رجل ظاهر المروءة يواسيه ساعة الموت، ويحمل سلامه إلى أهله بعد أن يواريه التراب، فإن فاته أن ينطقه بالشعر لم يفته أن ينطق أهله بأبيات فيها بكاء وأنين.

البراقع على أوجه الشبان

وحكى بعضهم قال: كنا مارين على دجلة بين البصرة والأبلة وإذا قصر حسن له منظرة، وعليه رجل، وبين يديه جارية تغني وتقول:

في سبيل الله ود
كان مني لك يبذل
كل يوم تتلون
غير هذا بك أجمل

فإذا شاب تحت المنظرة بيده ركوة وعليه مرقعة يسمع، فقال: يا جارية! بحياة مولاك أعيدي:

كل يوم تتلون
غير هذا بك أجمل
فأعادت، فقال الفقير: هذا والله حالي مع الله، وشهق شهقة خرجت بها روحه، فقال صاحب القصر للجارية: أنت حرة لوجه الله تعالى، وأعتق جميع مماليكه وتصدق بالقصر وبجميع ماله، وائتزر بخرقة وارتدى بأخرى وذهب على وجهه، فلم ير له أثر، ولم يعرف له خبر.٤

وحدث أبو على الروزباري قال: جزت يومًا بقصر فرأيت شابًّا حسن الوجه مطروحًا وحوله ناس مجتمعون فسألتهم عنه، فقالوا: إنه جاز بهذا القصر فسمع جارية تغني وتقول:

كبرت همة عبد
طمعت في أن تراكا
أو ما حسب لعين
أن ترى من قد رآكا٥
وقال ذو النون المصري: سمعت برجل باليمن قد سما على المحبين، وفاق على المجتهدين، وعرف بالعلم والحكمة، فخرجت حاجًّا، فلما قضيت نسكي مضيت إليه لأسمع كلامه وأنتفع بموعظته، أنا وأناس معي يطلبون مثل ما أطلب، وكان معنا شاب عليه سيما الصالحين، وشعار المحبين، فخرج الشيخ إلينا فجلسنا إليه فبدأ الشاب بالسلام والكلام، فصافحه الشيخ وأقبل عليه فقال له الشاب: يا سيدي، قد جعلك الله طبيبًا لأسقام القلوب، وبي جرح قد أعيا الأطباء، فإن رأيت أن تتلطف بي ببعض مراهمك فافعل، فقال الشيخ: عما بدا لك فاسأل. فقال: ما علامة الحب لله؟ قال: أن تنزل نفسك منزلة السقيم، ألا تراه يحتمي من الطعام، حذرًا من السقام؟ فصاح الفتى صيحة ظننا روحه قد خرجت، فلما أفاق قال: يرحمك الله! فما علامة المحبين؟ قال: إن درجة المحبين رفيعة، فقال: صفها لي، فقال: إن المحبين لله تعالى نظروا إلى نور جلال الله فصارت أبداهم روحانية، وعقولهم سماوية، تسرح بين صفوف الملائكة بالعيان، وتشاهد تلك الأمور باليقين، فعبدوه بمبلغ استطاعتهم، لا طمعًا في جنته، ولا خوفًا من ناره، فشهق الفتى شهقة خرجت فيها روحه.٦

صرعى الغناء

وأقاصيص ذي النون كثيرة، وقد ساق بعضها ابن خلكان، ثم بدا له أن يدفع ما قد ترمي به من المبالغة فقال: وقد جرى في زمني شيء من هذا يليق أن أحكيه، وذاك أنه كان عندنا بمدينة إربل مغن موصوف بالحذق والإجادة في صنعة الغناء يقال له: (الشجاع جبريل) فحضر سماعًا سنة عشرين وست مئة، فإنني أذكر الواقعة وأنا صغير، وأهلي وغيرهم يتحدثون بها في وقتها، فغنى الشجاع القصيدة الطنانة البديعة التي لسبط بن التعاويذي وأولها:

سقاك سار من الوسميِّ هتان
ولا رقت للغوادي فيك أجفان

إلى أن وصل إلى قوله:

ولي إلى البان من رمل الحمى وطر
فاليوم لا الرمل يصبيني ولا البان
وما عسى يدرك المشتاق من وطر
إذا بكى الربع والأحباب قد بانوا
وليلة بات يجلو الراح من يده
فيها أغن خفيف الروح جذلان
خال من الهم في خلخاله حرج
فقلبه فارغ والقلب ملآن٧
يذكي الجوى بارد من ثغره شبِمٌ
ويوقظ الوجد طرف منه وسنان
إن يمس ريان من ماء الشباب فلي
قلب إلى ريقه المعسول ظمآن
بين السيوف وعينيه مشاركة
من أجلها قيل للأغماد: أجفان
فلما انتهى إلى هذا البيت قام بعض الحاضرين وقال له: يا شجاع، أعد ما قلته، فأعاده مرتين، أو ثلاثًا، وذلك الشيخ متواجد. ثم صرخ صرخة هائلة ووقع، فظنوه قد أغمي عليه، فافتقدوه بعد أن انقطع حسه فوجدوه قد مات. فقال الشجاع: هكذا جرى في سماعي مرة أخرى فإنه مات فيه شخص آخر.٨

فتنة القوالين

والمغني الذي ينشد الأشعار في المحافل كان يسمى (القوال) وللقوالين نوادر كثيرة مع الصوفية، من ذلك ما وقع حين زار ذو النون بغداد فقد حضر أحد تلامذته مجلس أحد القوالين فلما طاب السماع وتواجد السامعون صرخ ذلك التلميذ ووقع فحركوه فوجدوه ميتًا، فوصل الخبر إلى ذي النون فقال لأصحابه: تجهزوا حتى نصل إلى ذلك القوال، فلما وصلوا إليه غنى ذو النون وأصحابه والقوال يسمع، ثم صرخ ذو النون فوقع القوال ميتًا، فقال ذو النون: قتيل بقتيل، أخذنا ثأر صاحبنا!

التذكير بالمشكلات الأخلاقية

وقد تتجه هذه الأقاصيص إلى التذكير بالمشكلات الأخلاقية، حدث ذو النون قال: رأيت فتى ظاهره الجنون، فعلمت أنه بحب مولاه مفتون، فسمعته يبكي ويقول في مناجاته: مولاي، قربت المحبين، وطردتني، فما ذنبي! وخصصتهم بالوصال منك، وهجرتني، فوا كربي! أيقظتهم للقيام بين يديك، وأنمتني، فوا ندمي! لذذتهم في السحر بمناجاتك، وما لذذتني، فوا ألمي! ثم أخذ في البكاء.

قال ذو النون: فحرك منى ما كان ساكنًا، وهيج من شوقي ما كان كامنًا، فقلت له: يا فتى، ما هذا البكاء؟ فقال: يا ذا النون، أخبرني، سواد الثوب يزول بالماء والصابون، وسواد القلب بماذا يزول؟٩

التشابه بين أخبار العشاق وأخبار الصوفية

والقصص الصوفي كالقصص الغرامي فيه الصحيح والسقيم، والمبتذل والطريف، والمهم أن نسجل هذه الظاهرة الأدبية التي تمثل الاستشهاد في الحب، حب الله، فقد كان ما أوحته من الأقاصيص متعة الأسمار حينًا من الزمان.

ومن المؤكد أن القصص الصوفي فرع من القصص الغرامي، والذين وضعوا الأقاصيص الصوفية لحظوا في الصياغة ألوان الأقاصيص الغرامية، والرواة في الحالين من أهل الأدب والبيان.

ولنذكر في ختام هذا الفصل أن أخبار الصوفية تشبه أخبار العشاق، فقيس بن الملوح فتنته ليلى فترك أهله وخرج هائمًا يتنقل تنقل المجنون من أرض إلى أرض، وإبراهيم بن أدهم أحب الله فخرج من ماله وجاهه وهام مع الهائمين.

وشهداء الحب في الحالين فتيان صباح الوجوه، لهم قلوب وأذواق، وفيهم شمائل الملوك، والرواة في الحالين قوم تفتنهم المشاهد المحزنات، وتروقهم حلاوة الأشعار والأسجاع. ولو جمعت الأقاصيص الغرامية والأقاصيص الصوفية في كتاب واحد لكانت المأساة واحدة، وإن اختلف اسم المحبوب.

نقل الشعر من المحسوس إلى المعقول

ويتصل بهذا الفن تحويلهم قصائد المجون إلى عظات، فقد ذكروا أن ابن الجوزي خرج يومًا لبعض شونه فسمع قائلًا يقول:

إذا العشرون من شعبان ولت
فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار
فقد ضاق الزمان عن الصغار
فخرج هائمًا على وجهه إلى مكة، فلم يزل يعبد الله بها حتى مات، ففهم من الشاعر انصرام العمر وضيق الزمان.١٠
قال في لطائف المنن: واعلم أن هذه المفهومات المعنوية الخارجة عن الفهم الظاهر ليست بإحالة اللفظ عن مفهومه، بل هو فهم زائد على الفهم العام يهبه الله لهذه الطائفة من أرباب القلوب، وهو من باطن الحكم المندرج في ظاهره اندراج النبات في الحبة.١١

وأنشد إنسان في مجلس مكين الدين بن الأسمر:

لو كان لي مسعد بالراح يسعدني
لما انتظرت لشرب الراح إفطارا
الراح شيء شريف أنت شاربه
فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا
يا من يلوم على الصهباء صافية
خذ الجنان ودعني أسكن النارا

فقال بعض فقهاء الظاهر: لا يجوز قراءة هذه الأبيات، فقال مكين الدين: دعوه فإنه رجل محجوب. يعني أنه لا يفهم إلا الشراب الحسي دون المعنوي، وهو جمود.

«وقد يختلف الشرب لجماعة من آنية واحدة لاختلاف مقامهم، كقضية الرجال الذين سمعوا قائلًا يقول: (يا سعتر بري) وكانوا ثلاثة، فكل واحد سمع ما يليق بحاله، فسمع الأول: الساعة ترى بري، وسمع الثاني: إسع ترى بري، وسمع الثالث: ما أوسع بري! فالأول كان مستشرفًا، والثاني كان مبتدئًا، والثالث كان واصلًا».١٢

وسيجيء لذلك تفصيل في الجزء الثاني عند الكلام عن الحب.

والقوم يستبيحون إلقاء الحقائق بالإشارات اللطيفة والغزل الرقيق، وهم سادة الناس في علم الذوق، ولو جردوا تعابيرهم من الاستعارات التمثيلية لأضافهم العوام إلى الملحدين. ولو خلت الدنيا من أصحاب الأذواق لأمست ظلمات من فوقها ظلمات.

١  ديوان الصبابة ص٢٧٢.
٢  ديوان الصبابة ص٢٧٣.
٣  نشر المحاسن الغالية جزء٢ صفحة ٢٠٤.
٤  نشر المحاسن الغالية جزء٢ صفحة ٢٠٤.
٥  نشر المحاسن الغالية جزء٢ صفحة ٢٠٤.
٦  الروض الفائق ص٣٩٨.
٧  القلب بالضم هو السوار شبه بقلب النخلة في بياضها.
٨  وفيات الأعيان ج١ ص١٨٠.
٩  الروض الفائق ص٣٧١.
١٠  شرح ابن عجيبة ص٢٦٢.
١١  شرح ابن عجيبة ص٢٦٢.
١٢  شرح ابن عجيبة ص٢٦٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤