دعاء الاستسقاء

الاستسقاء عند بني إسرائيل

دعاء الاستسقاء من التقاليد القديمة في الديانات السامية، وكان معروفًا عند بني إسرائيل، قال سعيد بن جبير: قحط الناس في زمن ملك من ملوك بني إسرائيل فاستسقوا، فقال الملك لبني إسرائيل: ليرسلن الله تعالى علينا السماء أو لنؤذينه، قيل له: وكيف تقدر أن تؤذيه، وهو في السماء، فقال: أقتل أولياءه وأهل طاعته فيكون ذلك أذى له.١
وقال سفيان الثوري: بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل، وأكلوا الأطفال، وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون، فأوحى الله عز وجل إلى أنبيائهم عليهم السلام لو مشيتم إلي بأقدامكم حتى تحفى ركبكم، وتبلغ أيديكم عنان السماء، وتكل ألسنتكم عن الدعاء، فإني لا أجيب لكم داعيًا، ولا أرحم لكم باكيًا، حتى تردوا المظالم إلى أهلها، ففعلوا فمطروا من يومهم.٢
وقال مالك بن دينار: أصاب الناس في بني إسرائيل قحط فخرجوا مرارًا، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلي بأبدان نجسة، وترفعون إلي أكفًّا قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بطونكم من الحرام، الآن قد اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني إلا بُعدًا.٣

وهذه الشواهد تدل على أنه كان مفهومًا عند بني إسرائيل أن الدعاء إنما يقبل من التائبين.

الاهتمام به في كتب الفقه الإسلامي

وقد اهتمت كتب الفقه الإسلامي بصلاة الاستسقاء، وبينت أنها تكون «إذا غارت الأنهار، وانقطعت الأمطار، أو انهارت قناة» وأنه يستحب للإمام أن يأمر الناس أولًا بصيام ثلاثة أيام، وما أطاقوا من الصدقة، والخروج من المظالم، والتوبة من المعاصي، وفي اليوم الرابع يخرج بهم وبالعجائز والصبيان متنظفين في ثياب بذلة واستكانة متواضعين. وقيل: يستحب إخراج الدواب لمشاركتهم في الحاجة، ولقوله : «لولا صبيان رضع، ومشايخ ركع، وبهائم رتع، لصب عليكم العذاب صبًا» فإذا اجتمعوا في المصلى الواسع من الصحراء نودي: الصلاة جامعة فصل بهم الإمام ركعتين مثل صلاة العبد بغير تكبير، ثم يخطب خطبتين، وبينهما جلسة خفيفة، ويكون الاستغفار معظم الخطبتين، ويقول في الدعاء:

اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا بإجابتك، فقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا، اللهم فامنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا وسعة أرزاقنا.

وصلاة الاستسقاء من أهم مظاهر التصوف، فإن المرء لا يقوم بها إلا وقد آمن إيمانًا صادقًا برحمة الله وفضله، وكيف يطمع المرء في أن تتغير القوانين الطبيعية فتمطر السماء لدعائه إلا إن وثق بأن الأمر كله لله، وأنه يحجب السماء حين يشاء، ويرسلها حين يشاء؟

وانظر هذا الخبر وتأمل ما فيه من صدق اليقين:

قال عطاء السلمي: منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فإذا نحن بسعدون المجنون في المقابر، فنظر إليّ فقال: يا عطاء! أهذا يوم النشور، أو بعث ما في القبور؟ فقلت: لا، ولكنا منعنا الغيث، فخرجنا نستسقي. فقال: يا عطاء! بقلوب أرضية؟ أم بقلوب سماوية؟ فقلت: بل بقلوب سماوية. فقال: هيهات! يا عطاء، قل للمتبهرجين لا تتبهرجوا، فإن الناقد بصير! ثم رمق السماء بطرفه وقال: إلهي وسيدي ومولاي! لا تهلك بلادك، بذنوب عبادك، ولكن بالمكنون من أسمائك، وما وارت الحجب من آلائك، إلا ما سقيتنا ماء غدقًا فراتًا تحيي به العباد، وتروى به البلاد، يا من هو على كل شيء قدير! قال عطاء: فما استتم الكلام حتى أرعدت السماء وأبرقت وجاءت بمطر كأفواه القرب، فولى وهو يقول:

أفلح الزاهدون والعابدونا
إذ لمولاهم أجاعوا البطونا
أسهروا الأعين العليلة حبًا
فانقضى ليلهم وهم ساهرونا
شغلتهم عبادة الله حتى
قيل في الناس إن فيهم جنونًا٤

وفي عبارة «بقلوب أرضية، أم بقلوب سماوية» ما يشعر بأدق المعاني الروحية، ولهذا أثر بالغ في تربية الأخلاق، إذ يروض المرء على الإيمان بأن الخير لا يصيب إلا المخلصين من الأتقياء.

نماذج من أدعية الاستسقاء

لم يقتصر المسلمون على دعاء واحد في الاستسقاء، كما اقتصروا على دعاء واحد في التشهد مثلًا، وإنما انطلقت قرائحم فافتنوا فيه افتنانًا عظيمًا. فكان الاستسقاء من أسباب الثروة الأدبية في الدعاء، وكان يتفق أن تختلف الأدعية على لسان الرجل الواحد حين يتكرر الاستسقاء، كما وقع لعلي بن أبي طالب، فقد خطب مرة فقال:
اللهم قد انصاحت جبالنا،٥ واغبرت أرضنا، وهامت دوابنا، وتخيرت في مرابضها، وعجت عجيج الثكالى على أولادها، وملت التردد في مراتعها، والحنين إلى مواردها، اللهم فارحم أنين الآنة، وحنين الحانة، الله فارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها. اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير٦ السنين، وأخلفتنا مخايل الجود، فكنت الرجاء للمبتئس والبلاغ للملتمس، ندعوك حين قنط الأنام، ومنع الغمام، وهلك السوام، أن لا تؤاخذنا بأعمالنا، ولا تأخذنا بذنوبنا، وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق،٧ والربيع المغدق والنبات المونق، سحًا وابلًا تحيي به ما قد مات، وترد به ما قد فات. اللهم سقيًا منك محيية مروية، تامة عامة طيبة مباركة، زاكيًا نبتها، ثامرًا فرعها، ناضرًا ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيي بها الميت من بلادك. اللهم سقيًا منك تعشب بها نجادنا، وتجري بها وهادنا، وتخصب بها جنابنا، وتبقل بها ثمارنا، وتعيش بها مواشينا، وتندي بها أقاصينا، وتستعين بها ضواحينا، من بركاتك الواسعة، وعطاياك الجزيلة، على بريتك المرملة، ووحشك المهملة، وأنزل علينا سماء مخضلة٨ مدرارًا هاطلة، يدافع الودق منها الودق،٩ ويحفز القطر منها القطر غير خلب برقها،١٠ ولا جهام عارضها،١١ ولا قزع ربابها،١٢ ولا شفان ذهابها،١٣ حتى يخصب لإمراعها المجدبون، ويحيا ببركتها المسنتون،١٤ فإنك تنزل الغيث بعد ما قنطوا وتنشر رحمتك وأنت الولي الحميد.
وخطب مرة أخرى فقال بعد التحميد:

ألا وإن الأرض التي تحملكم، والسماء التي تظلكم، مطيعتان لربكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجعًا لكم، ولا زلفة إليكم، ولا لخير ترجوانه منكم، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فأقامتا.

إن الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات، وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر، وقد جعل الله الاستغفار سببًا لدرور الرزق، ورحمة الخلق، فقال: سْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِي فرحم الله امرءًا استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته.

اللهم إنا خرجنا إليك من تحت الأستار والأكنان، وبعد عجيج البهائم والولدان، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، وخائفين من عذابك ونقمتك، اللهم فاسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا أرحم الراحمين. اللهم إنا خرجنا إلينا، نشكو إليك بما لا يخفى عليك، حين ألجأتنا المضايق الوعرة وأجاءتنا المقاحط المجدبة، وأعيتنا المطالب المتعسرة، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة، اللهم إنا نسألك أن لا تردنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين، ولا تخاطبنا بذنوبنا، ولا تقابسنا بأعمالنا، اللهم انشر علينا بركتك، ورزقك ورحمتك، واسقنا سقيا نافعة مروية معشبة تنبت بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافعة الحيا، كثيرة المجتنى، تروى بها القيعان، وتسيل البطنان، وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار، إنك على ما تشاء قدير.١٥

وعند درس الخطبة الأولى نجد الخطيب ترفق في الدعاء حين اهتم بوصف حيرة الدواب في المرابض، وملالها من التردد في المراتع، والحنين إلى الموارد، وعجيجها على أولادها التي أودى بها الظمأ القتال، ونجده تلطف حين دعا الله أن لا يؤاخذهم بأعمالهم، ولا يأخذهم بذنوبهم، ثم نجده أغرق في وصف الغيث المرجو، والخصب المأمول، وكذلك كان صدر الخطبة نفحة وجدانية يتمثل فيها الجزع والإنابة، وكان شطرها الثاني بابًا من الصنعة والافتنان في التخييل والتمثيل.

وصدر الخطبة الثانية توحيد صرف، فالأرض والسماء من جنود الله، تجودان حين يشاء، وتمسكان حين يشاء، ثم يمضي الخطيب فيذكر أن نقص الثمرات ابتلاء من الله يصيب الناس حين تسوء أعمالهم ليتذكروا وينيبوا، وأن كشف الشر موقوف على الاستغفار، وهو بذلك يوجه قلوب المستسقين إلى المتاب، ويختم خطبته بدعاء طويل هو نموذج لرقة التوسل والابتهال.

والمعاني تختلف في هاتين الخطبتين بعض الاختلاف، وذلك يدل على أن الخطيب كان له في كل موقف شعور خاص، وأساس البلاغة أن يعبر المرء عما يساور نفسه عند الخطاب. ولا يعتمد على معانيه القديمة إلا المجدبون في عالم البيان.

فكاهة شعرية

وعند النظر فيما أنشأ أئمة المسلمين من أدعية الاستسقاء نجد الفن ظاهرًا ظهورًا قويًا، ولا كذلك المحفوظ من أدعية الرسول؛ فهي أدعية بسيطة قوامها الصدق، والفن فيها قليل، حدث الخطيب البغدادي بسنده قال: أتت النبي بواك فقال: «اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريًا مريعًا، عاجلًا غير آجل، نافعًا غير ضار».١٦

ومن الملح المتصلة بدعاء الاستسقاء قول أبي علي بن المحسن بن علي:

خرجنا لنستسقي بيمن دعائه
وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرضا
فلما ابتدا يدعو تقشعت السما
فما تم إلا والغمام قد انفضا١٧
١  الإحياء ج١ ص٣١٧.
٢  الإحياء ج١ ص٣١٧.
٣  الإحياء ج١ ص٣١٢.
٤  الإحياء جـ١ ص٣١٨.
٥  انصاحت: جفت ويبست من الجدب.
٦  الحدابير جمع حدبار وحدبير وهي السنة المجدبة.
٧  المنبعق: الذي انشق من ثقل الماء.
٨  مخضلة: مبللة.
٩  الودق: المطر.
١٠  البرق الخلب: ما يطمع في المطر ولا مطر معه.
١١  العارض الجهام: السحاب لا مطر فيه.
١٢  الرباب السحاب الأبيض، والقزع الخفيف المتفرق.
١٣  الشفان الريح البادرة. والذهاب جمع ذهبة وهي الأمطار اللينة.
١٤  المسنتون الذي أصابهم القحط.
١٥  نهج البلاغة ج١ ص٢٧٩.
١٦  تاريخ بغداد ج١ ص٣٣٦.
١٧  ص١١١ خاص الخاص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤