الحب الحب الحب!

بداية الصوفية في الحب

يجب أن يكون عنوان هذا الفصل على هذه الصورة، فما أعرف كلمة من أسماء المعاني شغلت الصوفية كما شغلتهم كلمة الحب، ويكفي أن نتذكر أن أناشيد الصوفية تدور كلها حول الحب، وأن التصوف لا يصلح إلا بفضل الحب، ولا يفسد إلا بسبب الحب؛ فالحب هو الأول والآخر في حياة أولئك الناس.

وأغلب الظن عندي أن الصوفية ابتدأوا حياتهم بالحب الحسي، ثم ترقوا إلى الحب الروحي، والانتقال من حب الجمال إلى التصوف معقول؛ ولا سيما في حالة الحرمان من المحبوب، والحرمان قد يكون من آثار التصون والتجمل والعفاف، ثم يصير بأصحابه إلى الضعف فلا ترى منهم غير الأنين والحنين، وكذلك كان العذريون فهم في الأغلب ضعفاء، والضعف الحسيّ هو بداية الإقبال على المعاني الروحية في أكثر الأحوال.١
وتمرس الصوفية بالحب في مطلع الشباب هو السر فيما يظهر عليهم من معاني الظرف، وقد حدثوا أن حد تلامذة ابن جابر الإشبيلي قال لغلام جميل الصورة: بالله أعطني قبلة تمسك رمقي. فشكاه الغلام إلى الشيخ وقال له: يا سيدي، قال لي هذا كذا. فقال له الشيخ: وأعطيته ما طلب؟ فقال: لا. فقال الشيخ: فما هذه الثقالة؟ ما كفاك أن حرمته حتى تشتكي به أيضًا؟!٢

وكان ابن جابر هذا من المعروفين بالزهد والصلاح.

وخرج أبو حازم الصوفي يرمي الجمار ومعه قوم متعبدون وهو يكلمهم ويحدثهم ويقص عليهم، فإذا هو بامرأة حاسر قد فتنت الناس بحسن وجهها وألهتهم بجمالها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام، وقد فتنت الناس وشغلتهم عن مناسكهم؛ فاتقي الله واستتري، فإن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ. فقالت: يا أبا حازم، إني من اللاتي قال فيهن الشاعر:

أماطت كساء الخز عن حر وجهها
وأرخت على المتنين بردًا مهلهلا
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فقال أبو حازم لأصحابه: تعالوا ندع الله لهذه الصورة الحسنة ألا يعذبها الله بالنار. فجعل أبو حازم يدعو وأصحابه يؤمنون، فبلغ ذلك الشعبي فقال: ما أرقكم يا أهل الحجاز وأظرفكم! أما والله لو كان من قرى العراق لقال: اعزبي عليك لعنة الله!٣

ونحن نرى ذلك ظرفًا صوفيًّا قبل أن يكون ظرفًا حجازيًّا.

والصوفية أنفسهم يعرفون محنتهم بالعلاقات الغرامية وفيهم من يعتذر بأن الهوى لم يغز قلوبهم إلا لحكمة إلهية فيقول:
إن الله جل ثناؤه إنما امتحن الناس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه، وليشق عليهم سخطه ويسرهم رضاؤه، فيستدلوا بذلك على قدر طاعة الله عز وجل؛ إذ كان لا مثل له ولا نظير، وهو خالقهم غير محتاج إليهم، ورازقهم مبتدئًا غير ممتنٍّ عليهم، فإن أوجبوا على أنفسهم طاعة من سواه كان هو تعالى أحرى بأن يتبع رضاه.٤

ظرف الصوفية

وهم يقيسون الحب الروحي بالحب الحسي، ويقولون: إذا استولى الحب أدهش عن إدراك الألم، والتجربة أعدل شاهد على ذلك، ويذكرون أن سمنون المحب قال: كان في جوارنا رجل له جارية يحبها غاية الحب، فاعتلت، فجلس الرجل يصنع لها حيسًا، فبينا هو يحرك ما في القدر إذ قالت الجارية: آه. فدهش الرجل وسقطت الملعقة من يده، وجعل يحرك ما في القدر بيده حتى تساقط لحم أصابعه، وهو لا يحس بذلك.

قال العاملي — وهو من أنصار الصوفية — فهذا وأمثاله قد يصدّق به في حب المخلوق، والتصديق به في حب الخالق أولى؛ لأن البصيرة الباطنة أصدق من البصر الظاهر، وجمال الحضرة الربوبية أوفى من كل جمال، فإنه الجمال الخالص البحت، وكل جمال في العالم فهو مختلط ناقص.٥

بين النوازع الحسية والعواطف الروحية

وشعراء الصبوات هم ألسنة أرباب العوارف الروحية، وقد سمع أبو الفتح الأعور الصوفي هذا البيت:

وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج

فتواجد وصاح ودق صدره إلى أن أغمي عليه وسقط، فلما انقضى المجلس حركوه فوجدوه ميتًا، فغسلوه ودفنوه.

وهذا البيت الذي قتل رجلًا صوفيًّا هو من قطعة لرجل فاجر هو عبد الصمد بن المعذل الذي يقول:

يا بديع الدل والغنج
لك سلطان على المهج
إن بيتًا أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج
قال ابن أبي حجلة: «والصوفية إذا قالوا: وجهك المأمول حجتنا نقلوه إلى ما لهم في ذلك من المعاني».٦

ونقل الأنطاكي قول البهاء زهير في هجر الدلال:

عتب الحبيب فلم أجد
سببًا لذاك العتب حادث
ما كنت أعلم أنه
ممن تغيره الحوادث
ثم قال: وفي هذا الاصل كلام للعارفين، وكل يأخذ ما يناسبه من الإشارات، والبهاء زهير لا يكثر عليه مثل هذا، فلقد سمعت مولانا عارف الوقت الشيخ شمس الدين البكري أدام الله مدده يقول: إنه كان إمامًا عارفًا، أو ذا لسان عارف».٧

فالبهاء زهير على هذا عارف القلب أو عارف اللسان؛ أي إنه يتكلم فيعبر عن المعاني الروحية بألفاظ حسية، وكل الشعراء ذلك الرجل إن شاء الصوفية.

وقد يروق لهم أن يتعقبوا أخيلة الحسيين بالنقد والتجريح، كالذي وقع لهم في لوم من ينام في غيبة حبيبه ليرى طيف الخيال؛ إذ قالوا: إن تخصيص النوم بأنه يريهم أحبتهم نقص بيِّن في مودتهم، فإن الحال إذا تمكنت لم تفترق الروحان وإن افترق الشخصان، فالمحب المشاهد لصاحبه على كل حال مستغن عن الاستعانة على إحضاره برؤية الخيال».٨

وكيف تحتاج هذه اللمحة إلى تقييد، ونحن نرى جمهور المؤلفين في الحب والمحبين لا يخلون من نزعة صوفية، فابن داود صاح الزهرة، وابن حزم صاحب طوق الحمامة، وابن القيم صاحب الروضة، والأنطاكي صاحب تزيين الأسواق، كل أولئك فيهم نفحات صوفية، والجمع بين النزعة الحسية والروحية يظهر لهم من الأمور التي لا تحتاج إلى جدل ولا تأويل.

ولابن القيم في هذا مذهب طريف؛ فهو يذكر الأدب في الصبوة الحسية ثم يؤيده بالأدب في العلاقة الروحية كأن يقول: ومن علامات الحب إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه، ورميه بطرفه نحو الأرض، وذلك من مهابته له، وحياته منه، وعظمته في صدره؛ ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم، بل يكون خافض الطرف إلى الأرض، قال تعالى مخبرًا عن كمال أدب رسوله في ليلة الإسراء: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ، وهذا غاية الأدب؛ فإن البصر لم يزغ يمينًا ولا شمالًا، ولا طمح متجاوزًا إلى ما هو رائيه، ومقبل عليه كالمتشارف إلى ما وراء ذلك؛ ولهذا اشتد نهي النبي للمصلي أن يزيغ بصره إلى السماء … الخ.٩ وكان يقول: ومن علامات المحبة كثرة ذكر المحبوب واللهج بذكره وحديثه، فمن أحب شيئًا أكثر من ذكره بقلبه ولسانه، ولذلك أمر الله سبحانه عباده بذكره على جميع الأحوال، وأمرهم بذكره أخوف ما يكونون فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، والمحبون يفتخرون بذكر أحبابهم وقت المخاوف وملاقاة الأعداء، كما قال:
ذكرتك والخطي يخطر بيننا
وقد نهلت منا المثقفة السمر

وفي بعض الآثار الإلهية: إن عبدي كل عبدي يذكرني وهو ملاق قرنه؛ فعلامة المحبة الصادقة ذكر المحوب في الرغب والرهب، كما قال بعض المحبين في محبوبته:

يذكرنيك الخير والشر والذي
أخاف وأرجو والذي أتوقع١٠

تأييد الحب الحسي بالمعاني الدينية

قلت: إن أكثر الصوفية عرفوا الحب الحسي في مطلع الشباب، فلأذكر أن هذا هو السر في التباس الأمر على فريق منهم عند التفرقة بين الشهوات الحسية والمعنوية، فظلوا يحنون إلى الجمال المحسوس، بحجة أنه يقربهم إلى الجمال المعقول «وإنما تسترت هذه الطائفة لهواها وشهواتها، وأوهمت أنها تنظر عبرة واستدلالًا، حتى آل ببعضهم الأمر إلى أن ظنوا أن نظرتهم عبادة؛ لأنهم ينظرون إلى الجمال الإلهي، ويزعمون أنا الله سبحانه وتعالى عن قول النصارى يظهر في تلك الصورة الجميلة، ويجعلون هذا طريقًا إلى الله، كما وقع فيه طوائف كثيرة ممن يدعي المعرفة والسلوك».١١
ومن رأي ابن الجوزي أن أكثر المتصوفة قد سدوا على أنفسهم باب النظر إلى النساء الأجانب لبعدهم عن مصاحبتهن، وامتناعهم عن مخالطتهن، واشتغلوا بالتعبد عن النكاح، واتفقت صحبة الأحداث لهم على وجه الإرادة، وقصد الزهادة، فأمالهم إبليس إليهم، وهم في ذلك على أقسام: القسم الأول: أخبث القوم وهم ناس تشبهوا بالصوفية ويقولون بالحلول، ويزعمون أن الحق تعالى اصطفى أجسامًا حل فيها بمعنى الربوبية، والقسم الثاني: قوم يتشبهون بالصوفية في ملبسهم ويقصدون الفسق، والقسم الثالث: قوم يستبيحون النظر إلى المستحسن، واستئناسًا بما روي عن الرسول: اطلبوا الخير عند حسان الوجوه، وقوله: ثلاثة تجلو البصر: النظر إلى الخضرة، والنظر إلى الماء، والنظر إلى الوجه الحسن. وهما حديثان لا أصل لهما عن رسول الله. والقسم الرابع: قوم يقولون: نحن لا ننظر نظر شهوة وإنما ننظر نظر اعتبار، فلا يضرنا النظر، وذلك في رأي ابن الجوزي محال.١٢

فتنة الصوفية بالأحداث

وقد شغل ابن الجوزي نفسه بتعقب الصوفية، فنقل عنهم حكايات غريبة، وعلق عليها تعليقات تدل على بصر بدقائق علم النفس والأخلاق، ولا بد لنا من عرض نماذج من ملاحظاته؛ لأنها ثمرة من ثمرات التصوف، وكل ما كتب للتصوف أو عليه فهو مظهر من آثاره في الحياة العقلية والذوقية.

نقل بسنده أن عبد الله بن الزبير الحنفي قال: كنت جالسًا مع أبي النصر الغنوي وكان من المبرزين العابدين، فنظر إلى غلام جميل فلم تزل عيناه واقعتين عليه حتى دنا منه فقال: سألتك بالله السميع، وعزه الرفيع، وسلطانه المنيع، إلا وقفت علني أروى من النظر إليك. فوقف قليلًا ثم ذهب ليمضي فقال له: سألتك بالله الحكيم المجيد، الكريم المبدئ المعيد، إلا ما وقفت! فوقف ساعة، فأقبل يصعِّد النظر إليه ويصوبه، ثم ذهب ليمضي. فقال: سألتك بالواحد الأحد، الجبار الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، إلا وقفت! فوقف ساعة فنظر إليه طويلًا، ثم ذهب ليمضي، فقال: سألتك باللطيف الخبير، السميع البصير، وبمن ليس له نظير، إلا وقفت! فوقف فأقبل ينظر إليه ثم أطرق رأسه إلى الأرض، ومضى الغلام، فرفع رأسه بعد طويل وهو يبكي فقال: قد ذكرني هذا بنظري وجهًا جل عن التشبيه، وتقدس عن التمثيل، وتعاظم عن التحديد، والله لأجهدن نفسي في بلوغ رضاه بمجاهدتي جميع أعدائه، وموالاتي لأوليائه، حتى أصير إلى ما أردته من نظري إلى وجهه الكريم، وبهائه العظيم، ولوددت أنه قد أراني وجهه وحبسني في النار ما دامت السموات والأرض، ثم غشى عليه.

ونقل بسنده أن أحدهم قال: كنت مع محارب بن حسان الصوفي في مسجد الخيف ونحن محرمون، فجلس إلينا غلام من أهل المغرب فرأيت محاربًا ينظر إليه نظرًا أنكرته، فقلت له بعد أن قام: إنك محرم في شهر حرام في بلد حرام في مشعر حرام، وقد رأيتك تنظر إلى هذا الغلام نظرًا لا ينظره إلا المفتون! فقال لي: تقول هذا، يا شهواني القلب والطرف! ألم تعلم أنه قد منعني من الوقوع في شرك إبليس ثلاث؟ فقلت: وما هي؟ فقال: سر الإيمان، وعفة الإسلام. وأعظمها الحياء من الله تعالى أن يطلع علي وأنا جاثم على منكر نهاني عنه، ثم صعق حتى اجتمع الناس علينا.

وهنا يقول ابن الجوزي في التعليق على هاتين الحادثتين:
انظروا إلى جهل الأحمق الأول ورمزه إلى التشبيه، وإن تلفظ بالتنزيه، وإلى حماقة هذا الثاني الذي ظن أن المعصية هي الفاحشة فقط، ما علم أن نفس النظر بشهوة يحرم، ومحا عن نفسه أثر الطبع بدعواه الت تكذبها شهوة النظر.١٣

وروى بسنده أن بعضهم قال: قلت لأبي الكميت الأندلسي وكان جوالًا في أرض الله: حدثني بأعجب ما رأيت من الصوفية فقال: صحبت رجلًا منهم يقال له مهرجان، وكان مجوسيًا فأسلم وتصوف، فرأيت معه غلامًا جميلًا لا يفارقه، وكان إذا جاء الليل قام فصلى ثم ينام إلى جانبه، ثم يقوم فزعًا فيصلى ما قدر له، ثم يعود فينام إلى جانبه، حتى فعل ذلك مرارًا، فإذا أسفر الصبح أو كاد يسفر أوتر، ثم رفع يديه وقال: اللهم إنك تعلم أن الليل مضى علي سليمًا لم أقترف فيه فاحشة، ولا كتبت علي فيه الحفظة معصية، وأن الذي أضمره بقلبي لو حملته الجبال لتصدعت، أو كان بالأرض لتدكدكت، ثم يقول: يا ليل اشهد بما كان مني فيك، فقد منعني خوف الله عن طلب الحرام، والتعرض للآثام، ثم يقول: سيدي! أنت تجمع بيننا على تقى، فلا تفرق بيننا في يوم تجمع فيه الأحباب! فأقمت معه مدة طويلة أراه يفعل ذلك في كل ليلة، وأسمع هذا القول منه. فلما هممت بالانصراف من عنده قلت له: سمعتك تقول إذا انقضى الليل كذا وكذا فقال: وسمعتني؟ قلت: نعم! قال: فو الله يا أخي إني لأداري من قلبي ما لو داراه سلطان من رعيته لكان الله حقيقًا بالمغفرة له، فقلت: وما الذي يدعوك إلى صحبة من تخاف على نفسك العنت من قبله؟

ونقل بسنده أن أبا حمزة الصوفي قال:

رأيت ببيت المقدس فتى من الصوفية يصحب غلامًا مدة طويلة، فمات الفتى وعال حزن الغلام عليه حتى صار جلدًا وعظمًا من الضنى والكمد، فقلت له يومًا: لقد طال حزنك على صديقك، حتى أظن أنك لا تسلو بعده أبدًا فقال: كيف أسلو عن رجل أجل الله عز وجل أن يصيبه معي طرفة عين أبدًا، وصانني عن نجاسة الفسوق في خلال صحبتي له وخلواتي معه في الليل والنهار.

ويقول ابن الجوزي في التعقيب على هاتين القصتين:

هؤلاء قوم رآهم إبليس لا ينجذبون معه إلى الفواحش فحسن لهم بداياتها فتجعلوا لذة النظر والصحبة والمحادثة، وعزموا على مقاومة النفس في صدها عن الفاحشة، فإن صدقوا وتم لهم ذلك فقد اشتغل القلب الذي ينبغي أن يكون شغله بالله تعالى لا بغيره، وصرف الزمان الذي ينبغي أن يخلو فيه القلب بما ينفع في الآخرة بمجاهدة الطبع في كفه عن الفاحشة، وهذا كله جهل وخروج عن آداب الشرع، فإن الله عز وجل أمر بغض البصر؛ لأنه طريق إلى القلب، ليسلم القلب لله تعالى من شائب يخاف منه، وما مثل هؤلاء إلا كمثل من أقبل إلى سباع في غيضة وهي متشاغلة عنه لا تراه، فأثارها وحاربها وقاومها، فيا بعد سلامته من جراحه إن لم يهلك.١٤

واستطرد ابن الجوزي فذكر أنه كان ببلاد فارس صوفي كبير فابتلي بحدث فلم يملك نفسه أن دعته إلى فاحشة، فراقب الله عز وجل، ثم ندم على هذه الهمة، وكان منزله على مكان عال ووراء منزله بحر من الماء، فلما أخذته الندامة صعد السطح ورمى بنفسه إلى الماء، وتلا قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ فغرق في البحر.

قال ابن الجوزي: انظر إلى إبليس كيف درج هذا المسكين من رؤية هذا الأمرد، وإدمان النظر إليه، إلى أن مكن المحبة من قلبه، وإلى أن حرضه على الفاحشة، فلما رأى استعصامه حسن له بالجهل قتل نفسه فقتل نفسه، ولعله هم بالفاحشة ولم يعزم، والهمة معفو عنها لقوله عليه السلام: عفى لأمتي عما حدثت به نفوسها، ثم إنه ندم على همته والندم توبة، فأراه إبليس أن من تمام الندم قتل نفسه كما فعل بنو إسرائيل، فأولئك أمروا بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ونحن نهينا عنه بقوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ فلقد أتى بكبيرة عظيمة، وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: من تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًأ فيها أبدًا.١٥

ونقل أن يوسف بن الحسين كان يقول: كل ما رأيتموني أفعله فافعلوه إلا صحة الأحداث فإنها فتنة الفتن، ولقد عاهدت ربي أكثر من مئة مرة أن لا أصحب حدثا ففسخها عليّ حسن الخدود، وقوام القدود، وغنج العيون، وما سألني الله معهم عن معصية، وأنشد قول مسلم بن الوليد في معنى ذلك:

إن ورد الخدود والحدق النجــ
ــل وما في الثغور من أقحوان
واعوجاج الأصداغ في ظاهر الخد
وما في الصدور من رمان
تركتني بين الغواني صريعًا
فلهذا أدعى صريع الغواني
وفي التعقيب على هذا التصريح الفاتك يقول ابن الجوزي:
هذا الرجل قد فضح نفسه في شيء ستره الله عليه، وأخبر أنه كلما رأى فتنة نقض التوبة، فأين عزائم التصوف في حمل النفس على المشاق؟ ثم ظن بجهله أن المعصية هي الفاحشة فقط، ولو كان له علم لعلم أن صحبتهم والنظر إليهم معصية، فانظر إلى الجهل كيف يصنع بأربابه.١٦

وقد أطلنا الاقتباس من ابن الجوزي لأن الصفحات التي كتبها في هذا الموضوع من خير ما قرأنا في الدراسات النفسية والخلقية، ولأنها تصور ما كان يعرض للصوفية من الحيرة المطبقة في تفهم الفروق بين مسالك الرشد والغي، ومعالم الهدى والضلال.

هجوم ابن الجوزي عليهم

وقد فصل ابن القيم أحوال المحبين، وعرض لمن عرفوا بالتصون والعفاف، فقال عن محمد بن داود الأصبهاني، وكان من أهل المروءة والدين، ومن أصدق الناس في العشق العفيف:
وأما قصة محمد بن داود الأصبهاني فغايتها أن تكون من سعيه المعفو، لا من عمله المشكور، وسلط الناس بذلك على عرضه، والله يغفر لنا وله، فإنه تعرض بالنظر إلى السقم الذي صار به صاحب فراش، وهذا لو كان ممن يباح له لكان نقصًا وعيبًا، فكيف من صبي أجنبي؟ وأرضاه، الشيطان بحبه والنظر إليه عن مواصلته، إذ لم يطمع في ذلك منه، فنال منه ما عرف أن كيده لا يتجاوزه، وجعله قدوة لمن يأثم به بعده كأبي محمد بن حزم الظاهري وغيره، وكيد الشيطان أدق من هذا.١٧

وهذا نظر قريب من نظر ابن الجوزي، ويمتاز مع ذلك بالتلطف والرفق فهو يعترف بعفاف ابن داود، ولكنه لا يجعله قدوة لمن سواه، وحسب ابن داود من السلامة أن لا يحشر في زمرة الآثمين.

رأي ابن القيم في صبابة ان داود

ونستطيع الجزم بأن صحبة الأحداث كانت من الفتن الظاهرة في حياة الصوفية، وكانت لهم في هذا الباب كنايات، من ذلك قولهم للغلام الصبيح (شاهد) ومعناهم فيه أنه لحسن صورته شهيد بقدرة الله عز اسمه على ما يشاء، ويحكى أن أصحاب أبي علي الثقفي تحاموا لفظة (الشاهد) بين يديه هيبة له، فتواصوا فيما بينهم أن يقولوا للغلام الصبيح (حجة)، فاتفق أنهم صحبوه في بعض الطريق فتراءى لهم من بعيد غلام فقال أحدهم (حجة)، وهو يظن أن أبا علي لا يفطن لمغزاه، فلما قرب الغلام منهم كان غير مليح، فالتفت أبو علي إليهم وقال: داحضة.١٨
ويؤيد هذا أن أكثر من ألفوا في التصوف عرضوا لهذه المسألة وأطالوا في الزجر والترهيب، وقد عقد لها القشيري فصلًا قال فيه:
ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث، ومن ابتلاه الله بشيء من ذلك فبإجماع الشيوخ ذلك عبد أهانه الله عز وجل وخذله، بل عن نفسه شغله، ولو بألف كرامة أهّله، وهب أنه بلغ رتبة الشهداء … أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق؟ وأصعب من ذلك تهوين ذلك على القلب، حتى يعدّ ذلك يسيرًا، وقد قال الله تعالى: «وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم». وهذا الواسطي رحمه الله يقول: إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف. سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت أبا عبد الله الحصري يقول: سمعت فتحًا الموصلي يقول: صحبت ثلاثين شيخًا كانوا يعدّون من الأبدال، كلهم أوصوني عند فراقي إياهم وقالوا: اتق معاشرة الأحداث ومخالطتهم … فليحذر المريد من صحبة الأحداث ومخالطتهم، فإن اليسير منه فتح باب الخذلان، وبدء حال الهجران، ونعوذ بالله من قضاء السوء.١٩
ونظر محمد بن أسباط الصوفي إلى أبي المثنى الشيباني، وقد نظر في وجه غلام مليح فقال: إدمان النظر، يكشف الخبر، ويفضح البشر، ويطول به المكث في سقر.٢٠
وقال المعلى الصوفي: شكوت إلى بعض الزهاد فسادًا أجده في قلبي، فقال: هل نظرت إلى شيء فتاقت إليه نفسك؟ قلت: نعم! قال: احفظ عينيك، فإنك إن أطلقتهما أوقعتاك في مكروه، وإن ملكتهما ملكت سائر جوارحك.٢١
وقال مسلم الخواص لمحمد بن علي الصوفي: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله في أمرك كله، وإيثار ما يحب على محبتك، وإياك والنظر إلى كل ما دعاك إليه طرفك، وشوقك إليه قلبك، فإنهما إن ملكاك لم تملك شيئًا من جوارحك، حتى تبلغ بهما ما يطالبانك به، وإن ملكتهما كنت الداعي لهما إلى ما أردت، فلا يعصيان لك أمرًا، ولا يردان لك قولًا.٢٢
وقال الأسود بن طالوت: نظر إليّ أبو عمر الصوفي، وقد أطلت النظر إلى غلام جميل، فقال: ويحك، إن طرفك لعظيم ما جتنى من البلاء، قد عرضك للمكروه وطول العناء، لقد نظرت إلى حتف قاتل للقلوب، وبلاء مظهر للعيوب، وعار فاضح للنفوس، ومكروه مذهل للعقول، أكلّ هذا لاغترار بالله جرأك عليه حتى أمنت مكره، ولم تخف كيده؟ اعلم أنك لم تكن في وقت من أوقاتك، ولا حالة من حالاتك أقرب إلى عقوبة الله منك في حالتك هذه، ولو أخذك لم يخلصك الثقلان، ولم يقبل فيك شفاعة إنس ولا جان.٢٣
ورأى بعض الزهاد صوفيا يضحك إلى غلام جميل فقال له: يا خرب القلب ويا خرب الطرف، أما تستحي من كرام كاتبين، وملائكة حافظين، يحفظون الأفعال، ويكتبون الأعمال، وينظرون إليك، ويشهدون عليك، بالبلاء الظاهر، والغل الدخيل المخامر، الذي أقمت نفسك فيه مقام من لا يبالي من وقف عليه، ونظر من الخلق إليه.٢٤

الدفاع عن الصوفية

ولكن ما دلالة هذه الشواغل؟ هي بلا جدال باب من الأخلاق والمخلصون من الصوفية عرفوا خطر هذه المزالق الوجدانية، وتنبهوا إلى خطرها في عالم الأخلاق.

ولابن الجوزي أن يقول فيهم ما شاء، فلن ينكر أحد أن هؤلاء القوم وقفوا موقف التحرز والخوف من فتن جائحة كانت تقتل الكرامات والعزائم والنفوس في كثير من الأندية الأدبية والسياسية، وكانوا وحدهم أصحاب الضمائر في عهود كان فيها استهداء الغلمان شريعة من شرائع الاجتماع.

وهل من القليل أن يتواصى الصوفية بالحذر من صحبة الأحداث في أزمنة كان يشتري فيها الغلمان المتخيرون ليمسوا زينة القصور في قرطبة والقاهرة ودمشق وبغداد؟

إن من سوء الرعاية أن نغفل أثر هذا التحرز في عالم الأخلاق، لقد كان الصوفية يؤاخذون على النظرة في أيام كانت تكتب فيها أخبار الفسق والمجون بعبارات مكشوفة ينكرها الأدب ويأباها الحياء.

ومن الذي يضمن أن يكون ابن الجوزي صادقًا في كل ما كتب عن مغامز الصوفية؟

أولئك قوم كانت لهم في شبابهم صبوات، فلما منّ الله عليهم بالتوبة والهداية ظل خصومهم يتذكرون ماضيهم، ويضيفون إليه ما شاء الإفك والبهتان، ليغضوا من أقدارهم وليصرفوا عنهم الناس.

ونحن مع ذلك لا ننكر أن من الصوفية من زلت أقدامهم في صحبة الأحداث، فالعصمة لله وحده، وادعاء العصمة هو في ذاته وقاحة خلقية، ولا يدعي التصون المطلق إلا خادع أو مخدوع، ولكن من المكابرة أن نجحد ما أثر عن الصوفية من الفضل في هذا الباب، وهل في الأدب كله كلمة أبلغ وأفصح وأنصع وأصدق من قول الواسطي طيب الله ثراه: «إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف!».

أترون كيف تضطرم نار الغيرة على الكرامة في أحشاء هذه الحروف؟ وهل رأيتم صدقًا أكرم وجهًا من صدق هذا المعنى؟ هل رأيتم احتقارًا للشهوات الحسية أعنف من هذا الاحتقار؟ أرأيتم كيف تكون بلاغة من من خبر الدنيا، وعرف مكارهها، وتبين عناصر الشر فيها، واهتدى إلى معالم النجاة والهلاك؟ الحق أن هذه المسألة في غاية الدقة: فالصوفية على خطر، وناقدوهم على خطر الصوفية على خطر؛ لأن الاعتبار بالجمال قد يكون وسوسة خفية من مكر الشيطان.

وناقدوهم على خطر؛ لأن الإحساس بروعة الجمال قد يكون بابًا إلى صقل النفس والوجدان.

وقد يكون الماضي كله ضلالة من الضلالات يوم تنكشف الحقائق، ويتبين أن الوجود كله معقود الأواصر بقوة كهربائية لا نملك منها الفرار، قد يظهر يومًا أننا لا نملك الرغبة، ولا نملك الزهد، وإنما نحن مسخرون في وجود عجيب يربطنا بقوة قاهرة حول تيارات من الحسن والقبح. إنه ليوم عصيب، ذلك اليوم الذي نعرف فيه أننا لا نملك غير الثرثرة، وأن قانون الوجود يسخرنا كما يشاء، وأن تاريخ المذاهب الأخلاقية لم يكن إلا مظهرًا من مظاهر ذلك القانون.

أترون الرجل يخرج على مألوف العرف وهو طائع؟ أترونه يثور على التقاليد الدينية والاجتماعية وهو مطلق الاختيار والحرية؟ ولماذا لا يكون هذا النزاع بين الغواية والهداية نزاعًا فرضته تلك القوة الكهربائية التي لم نعرف من أسرارها إلا شيئًا يشبه السراب حين يتمثل في الأحلام؟

ثم ما رأيكم في هذه الفلسفة؟ أترونها نوعًا من الشطح؟ ليكن ذلك، فنحن من تلاميذ الصوفية، وهم أقدر الناس على الشطح والهيام في أودية الخيال!

ولكن حذار أن تنكروا أن الفتن التي اصطدم بها الصوفية كانت مما لا يمكن تحاشيه في هذا العالم الغريب، إن الدنيا خلقت كما شاء البارئ أن تخلق، ففيها الخير والشر، والرشد والغي، والهدى والضلال، وفيها ما شاء البارئ من السم والترياق، فانظروا كيف شئتم، ولكن تأدبوا، وتذكروا أن النار إن سلطت عليكم فستحولكم إلى رماد مهين مهما اعتصمتم بالفروض والظنون.

قولوا — إن شئتم — إن هناك قوانين أخلاقية عاش بفضلها العالم إلى اليوم ثم تذكروا أن هناك شيئًا اسمه الوقاحة، وشيئًا اسمه الحياء، فإن وصلتم إلى هذه الغاية فاعترفوا — إن كنتم منصفين — أن الصوفية تفردوا بين الناس بالحرص على فضيلة الحياء.

إن الوسوسة الخلقية هي في ذاتها أدب عظيم، والصوفية هم الذين ملأوا الدنيا بالتنفير من فتنة الجمال، والجمال في ذاته نفحة إلهية، ولكن الفسق يحوله إلى عصارة قذرة لا يسكن إليها رجل في شمائله ذوق، وفي روحه صفاء.

وكيف كان الفسق قذرًا مع أنه من النتائج الطبيعية لنظام الأرواح والأبدان؟

عند هذه المشكلة نتبين رغبة الإنسانية في الكمال المطلق، فالفسق لا يقع إلا بسبب نزعتين: الاستعلاء الآثم من جانب، والاستحذاء الساقط من جانب، ولا كذلك العفاف فإنه لا يكون إلا بفضل عاطفتين شريفتين: الإبقاء الكريم من جانب، والإباء النبيل من جانب.

فإن قلتم: وكيف اعترفت بهذه المصطلحات؟ فإني أجيب بأن بقاءها على هذه الأزمنة الطوال يدل على أن تلك القوة الكهربائية لها في بقائها سر خاص. وحين يصح أن هناك فروقًا جوهرية بين التحليق والإسفاف في عالم الأخلاق فسنعرف أن الصوفية كانوا أشرف الناس.

على أن التحرز فيه معنى المقاومة، والمقاومة من أصول التغلب في هذا الوجود، ولو قد نظر ابن الجوزي هذه النظرة لعرف فضل هذا المعنى في قصة ذلك الصوفي الذي ابتلي بحب الجمال المحسوس، ثم قاوم وغالب حتى فارق الحياة وهو نقى الثياب.

وإنا لنرجو القارئ أن يرحمنا من تهمة التعصب للصوفية، فنحن — يشهد الله — لا نحب إلا الوقوف في صف المظلومين، والصوفية قاسوا من الظلم ألوانًا كثيرة، منها اتهامهم بالفسق والمجون، وممّن؟ من ناس يتركون قصور الوزراء والأمراء والملوك تعج بالدنس والرفث والقذارة والرجس، ثم يوجهون جهودهم إلى حرب طائفة من الفقراء الذين لا يجدون الكفاف إلا بشق الأنفس في هذا العالم السخيف.

يرحمكم الله، أيها المؤلفون في الأخلاق، فأكثركم من أهل الجبن والتلفيق وأي مظهر للجبن أقبح وأبشع من أن تصنف الكتب الطوال العراض في مثالب الصوفية، على حين يترك الملوك الظالمون في العصور الماضية بلا رقيب ولا حسيب؟

أين ما وضع ابن الجوزي وأمثاله في نقد الاستبداد، وكان يعيش في عصر لا تحترم فيه ملكية ولا تحفظ حقوق؟ أين ما كتب هؤلاء المتفيهقون في الفساد الخلقي والاجتماعي الذي كان يندلع لهيبة من قصور الأمراء والوزراء؟ أين ما دونوا من أصول الأخلاق القومية والدولية في أزمان طغى فيها تيار المطامع الأجنبية، وتعرضت ديار العرب والإسلام للخراب والإقواء؟

إن الفقير كان ولا يزال مكشوف العورات، والغنى منذ الزمن القديم يستر العيوب. ألم نجد ناسًا ينكرون أن يكون الرشيد عرف مجالس الشراب!

ولكن ما هذا؟ لعلنا نسرف في اتهام الإنسانية بإيثار الملق والمداهنة والرياء؟

إن الصوفية كانوا دعاة الأخلاق، فمن واجب الناس أن ينبهوهم إلى ما ينزلقون فيه، ومن حق الناس أن يحسدوهم على دعوى التفرد بالشرف والاستقامة والتدين، فالصوفية هم الذين خلقوا أسباب الحسد، وهم الذين دعوا الناس إلى محاسبتهم على ما يقولون وما يعملون.

أما الملوك والأمراء والوزراء فلم يكن فيهم من يدعي أنه نموذج في الأخلاق، ولهذا سكت عنهم أكثر المؤلفين في الأخلاق، وأريد المؤلفين المخلصين، أما المنافقون فلم يكن لهم بد من مداراة أصحاب الملك، وأرباب الجاه والثراء.

لكل إنسان أن يعيش كيف يشاء، وعلى الله حساب الناس فيما يسرون وما يعلنون، ولكن ليحذر من ينصب نفسه داعية للخلق الجميل، فإن الناس سيحاسبونه على كل صغيرة وكبيرة، وسيقولون فيه كل شيء، بالحق وبالباطل، فلينظر أين يضع قدمه، وأين يوجه خطراته النفسية والروحية، وكيف تكون صلته بالله وصلته بخلق الله. إن الدعوة إلى الخلق الجميل كالدعوة إلى الدين الحق، وقد رأينا كيف عانى الأنبياء، من ظلم الجاهلين والسفهاء، فمن تسامت نفسه إلى الدعوة إلى البر والشرف فليوطن نفسه على احتمال الضيم والأذى والعقوق.

رأي ابن القيم في الجمال

ولنقيد أن هذه الأزمات لا تقع إلا حين تكون الريب والشبهات، فإذا صفت النفس، وأمن المريد من عنف الشهوة، فإن الصوفية يطلقون لأخيلتهم العنان في تصوير الجمال، وقد تحفظ ابن القيم ما شاء أن يتحفظ ولكنه عقد فصلًا مهمًا في كتاب (روضة المحبين) وهو الفصل التاسع عشر الذي تكلم فيه عن «فضيلة الجمال، وميل النفوس إليه على كل حال».

وقد قسم الجمال إلى قسمين: ظاهر، وباطن، وبين أن الجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته، وهو يزين الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال. وأما الجمال الظاهر فزينة خص الله بها بعض الصور عن بعض، وهي من زيادة الخلق التي قال الله تعالى فيها: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ.

قال ابن القيم: وكما أن الجمال الباطن من أعظم نعم الله تعالى على عبده فالجمال الظاهر نعمة منه أيضًا على عبده، فإن شكره بتقواه وصيانته ازداد جمالًا على جماله، وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه قلبه له شينًا ظاهرًا في الدنيا قبل الآخرة، فتعود تلك المحاسن وحشة وقبحًا وشينًا، وينفر عنه من رآه، فكل من لم يتق الله عز وجل في حسنه وجماله انقلب قبحًا وشينًا يشينه بين الناس، فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، وقبح الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره.٢٥
وكان النبي يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر كما قال جرير بن عبد الله — وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسميه يوسف هذه الأمة — قال: قال لي رسول الله : أنت امرؤ قد حسن الله خلقك فأحسن خلقك.٢٦
وقال بعض الحكماء: ينبغي للعبد أن ينظر كل يوم في المرآة، فإن رأى صورته حسنة لم يشنها بقبيح فعله، وإن رآها قبيحة لم يجمع بين قبح الصورة وقبح الفعل.٢٧

ومن الواجب أن نتأمل ما في هذا الكلام من التربية الخلقية، فابن القيم يجعل الحسن الظاهر من طيبات الأرزاق، ولكنه يشترط لذلك أن يحسن الخلق ويكمل الدين، وهو يلح في هذا المعنى بصيغ مختلفة من التأكيد، ويستشهد بكلام الرسول وكلام الحكماء.

وهذا التأكيد يدل على قوة الحاسة الخلقية، فالحسن الفاجر هو في الواقع حسن وضيع، وفي الخلق السليم جمال أبرع من الجمال المحسوس، والمعنويات في جوهرها أشرف من المحسوسات، والعقل الصحيح يتمثل المحسوس من صور التقريب للمعقول، والجمال الحسي لا يمكن أن يكون غاية إلا عند أهل الضعة والإسفاف من طلاب الدون في عالم الشهوات.

والجمع بين المعقول والمحسوس هو غاية الغايات، ولا يتفق ذلك إلا حين يشاء الله أن يسبغ نعمه على بعض العباد، كالذي وقع في حياة محمد بن عبد الله ويوسف بن يعقوب.

صور مبتكرة في التنفير من الحب الأثيم

ويمضي ابن القيم فيقول: ولما كان الجمال من حيث هو محبوبًا للنفوس، معظمًا في القلوب، لم يبعث الله نبيًا إلا جميل الصورة، حسن الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت، كذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

وكان النبي أجمل خلق الله وأحسنهم وجهًا، كما قال البراء ابن عازب رضي الله عنه وقد سئل: أكان وجه رسول الله مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. وفي صفته : كأن الشمس تجري في وجهه. يقول واصفه: لم أر قبله ولا بعده مثله. وكان رسول الله يستحب أن يكون الرسول الذي يرسل إليه حسن الوجه، حسن الاسم، وكان يقول: إذا أبردتم إلي بريدًا فليكن حسن الوجه، حسن الاسم. وقد روى الخرائطي من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: من آتاه الله وجهًا حسنًا، واسمًا حسنًا، وخلقًا حسنًا، وجعله في موضع غير شائن له، فهو من صفوة الله من خلقه. وقال وهب: قال داود: يا رب، أي عبادك أحب إليك؟ قال: مؤمن حسن الصورة. قال: فأي عبادك أبغض إليك؟ قال: كافر قبيح الصورة. ويذكر عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان ينتظره نفر من أصحابه على الباب فجعل ينظر في الماء ويسوي شعره ولحيته، ثم خرج إليهم، فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: نعم! إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال … ودخلت امرأة جميلة على الحسن البصري فقالت: يا أبا سعيد، أيحل للرجال أن يتزوجوا على النساء؟ قال: نعم. فقالت: وعلى مثلي؟ ثم دلت، فقال الحسن: ما على رجل كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدنيا.٢٨

وكذلك يدور ابن القيم حول الجمال يمدحه ويطريه ويصف به أشرف الناس، وما كان لنا أن نهتم بهذا لولا دلالته على نزعة أصيلة من نزعات الصوفية: فالنبي جميل، والله جميل، وصفوة الله من خلقه هم المؤمنون من أهل الجمال.

وأظرف موقف في هذه الأحاديث هو موقف الحسن البصري وقد رأى تلك الحسناء، والحسن البصري هو إمام الصوفية، وهو مع ذلك يعرف كيف يقول: «ما على رجل كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدنيا».

وهي عبارة بصرية تمثل اللهفة والشوق إلى أفنان الجمال.

دعوة النفس إلى حرب الهوى

أولئك هم الصوفية، وتلك نظراتهم إلى صباحة الوجوه، أفلا يكون لذلك أثر في فهمهم للأدب وتصورهم للأخلاق؟

وكيف يمكن أن لا تؤثر هذه النزعات في اتجاهاتهم الخلقية والأدبية؟ إن الخلق يصدر عن النفس، والأدب ينبغ من القلب، وأمثال هذه النفوس والقلوب لا تفيض إلا بالرحيق السلسبيل في الأدب والأخلاق. ولا يمكن أن يمتري منصف في قوة الخلق عند أولئك القوم، وإن جهد ناس في رميهم بالحصيات، أما الأدب فحسبهم من التفوق فيه أن تفردوا بالإخلاص، والإخلاص هو أساس العظمة في جميع الميادين.

بين العقل والدين

واهتمام الصوفية بالجمال ساقهم إلى فن من الأدب الرفيع: هو الكلام عن فضل العفاف، وكلامهم فيهم مزاج من الأدب والأخلاق، ومن الصحف الباقية ما كتبه ابن القيم عن عفاف يوسف، إذ بين «أن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره، فإنه كان شابًا، والشباب مركب الشهوة، وكان عزبًا ليس عنده ما يعوضه، وكان غريبًا عن أهله ووطنه، والمقيم بين أهله وأصحابه يستحي منهم أن يعلموا به فيسقط من عيونهم، فإذا تغرب زال هذا المانع، وكان في صورة المملوك والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، وكانت المرأة ذات منصب وجمال، والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليس كذلك، وكانت هي المطالبة فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة، وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافه من فجوره، وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان ومكانه الذي لا تناله العيون، وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة، وأتته بالرغبة والرهبة، ومع هذا كله عف لله ولم يطعها، وقدم حق الله وحق سيده على ذلك كله، وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف كانت تكون حاله».٢٩

إن حوادث الصوفية في الحب العفيف كانت تروى، وهي آيات من الأدب الممتع، وأي جمال فات هذه القصة، وقد رواها المبرد بسنده عن رجاء بن عمرو النخعي قال:

كان بالكوفة فتى جميل الوجه، شديد التعبد والاجتهاد، فنزل في جوار قوم من النخع فنظر إلى جارية جميلة فهويها وهام بها عقله، ونزل بالجارية ما نزل به، فأرسل يخطبها من أبيها، فأخبره أبوها أنها مسماة لابن عم لها، فلما اشتد عليهما ما يقاسيانه من ألم الهوى أرسلت إليه الجارية: قد بلغني شدة محبتك لي، وقد اشتد بلائي بك، فإن شئت زرتك، وإن شئت سهلت لك أن تأتيني إلى منزلي، فقال للرسول: ولا واحدة من هاتين الخلتين، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، أخاف نارًا لا يخبو سعيرها، ولا يخمد لهيبها، فلم أبلغها الرسول قوله قالت: وأراه مع هذا يخاف الله؟ والله ما أحد أحق بهذا من أحد، وإن العباد فيه لمشتركون. ثم انخلعت من الدنيا وألقت علائقها خلف ظهرها وجعلت تتعبد، وهي مع ذلك تذوب وتنحل حبًا للفتى وشوقًا إليه حتى ماتت من ذلك، فكان الفتى يأتي قبرها فيبكي عنده، ويدعو لها، فغلبته عينه ذات يوم على قبرها فرآها في منامه في أحسن منظر، فقال: كيف أنت، وما لقيت بعدي؟ فقالت:

نعم المحبة يا سؤلي محبتكم
حب يقود إلى خير وإحسان

فقال: على ذلك، إلام صرت؟ فقالت:

إلى نعيم وعيش لا زوال له
في جنة الخلد ملك ليس بالفاني
فقال لها: اذكريني هناك، فإني لست أنساك. فقالت: ولا أنا والله أنساك، ولقد سألت مولاي ومولاك أن يجمع بيننا فأعني على ذلك بالاجتهاد. فقال لها: متى أراك؟ فقالت: ستأتينا عن قريب فترانا، فلم يعش الفتى بعد الرؤيا إلا سبع ليال حتى مات رحمه الله.٣٠

فهذه القصة من وضع الصوفية، وهي من القصص التعليمية التي ألفت لرياضة النفس على إيثار العفاف، وهي — على جمال مغزاها من الوجهة الخلقية — متخيرة الألفاظ، بارعة الخيال.

وأجمل من هذه القصة وأمتع ما حدثوا أن امرأة جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، فنظرت يومًا إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحدًا يرى هذا الوجه ولا يفتن؟ قال: نعم. قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير. قالت: فائذن لي فيه فلأفتننه! قال: قد أذنت لك. فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام، فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أمة الله، استتري! فقالت: إني قد فتنت بك! فقال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو دخلت قبرك وأجلست للمسائلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. ثم قال: اتقي الله فقد أنعم عليك، وأحسن إليك.

فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعت؟ فقالت: أنت بطال ونحن بطالون! وأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، فكان زوجها يقول: ما لي ولعبيد بن عمير، أفسد عليّ أمرأتي، كانت في ليلة عروسًا فصيرها راهبة.٣١

أرأيتم ما في هذه القصة من وجوه التربية الخلقية؟

إن هذا الفن من الأقاصيص هو من وضع الصوفية ومن نحا نحوهم من أهل الزهد والعفاف، وهو بما فيه من عناصر الصدق والإخلاص خليق بمطاردة ما وضع المفسدون من أخبار الفسق والمجون، فإن لم يكن الصوفية خلقوا هذا الفن فهم الذي أحيوه وأذاعوه، فإليهم الفضل في حياته على كل حال، وهو فضل ليس بالقليل.

ويتصل بهذا روايتهم للأخبار القصيرة التي تردع الهوى، وترد شارد العقل، من أمثال هذه الكلمات:

قال إبراهيم بن أبي بكر بن عياش: شهدت أبي عند الموت فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فما أتى أبوك فاحشة قط. وقال عمر بن حفص بن غياث: لما حضرت أبي الوفاة أغمي عليه فبكيت عند رأسه، فقال لي حين أفاق: مايبكيك؟ قلت: أبكي لفراقك، ولما دخلت فيه من هذا الأمر — يعني القضاء — فقال: لا تبك، فإني ما حللت سراويلي على حرام قط، ولا جلس بين يدي خصمان فباليت على من توجه الحكم عليه منهما. وقال سفيان بن أحمد: شهدت الهيثم بن جميل وهو يموت، وقد سجّي نحو القبلة، فقامت جارية تغمز رجليه، فقال اغمزيهما، فإن الله يعلم أنهما ما مشتا إلى حرام قط.٣٢

ولهذه الكلمات نظائر كثيرة جدًا، وهي تؤيد ما ذهبنا إليه من أن اهتمام الصوفية بالجمال ساقهم إلى فنون ممتعة من صور الأدب والأخلاق.

ولكن هل وقفت الصوفية في حرب الهوى عند ابتداع هذه الأقاصيص؟ هيهات! فقد وضعوا طرائق للرياضة النفسية تعد من أبدع الدساتير في عالم الأخلاق، وهم يوصون مدمني الشهوات بملاحظة الأمور الآتية، وهي كفيلة بتخليص أسير الهوى من براثن الشيطان:
  • الأول: عزيمة حر يغار لنفسه وعليها.
  • الثاني: جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.
  • الثالث: قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير العيش ما أدركه العبد بصبره.
  • الرابع: ملاحظته حسن موقع العاقبة، والشفاء بتلك الجرعة.
  • الخامس: ملاحظته الألم الزائد على لذة طاعة هواه.
  • السادس: إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذة مرافقة الهوى.
  • السابع: إيثار لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية.
  • الثامن: فرحه بغلبة عدوه، وقهره له. ورده خائبًا بغيظه وغمه وهمه، حيث لم ينل منه أمنيته.٣٣
  • التاسع: التفكير في أنه لم يخلق للهوى، وإنما هيء لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصية الهوى.
  • العاشر: أن لا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالًا منه، فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه، فيؤثر النافع على الضار، والإنسان أعطى العقل لهذا المعنى.٣٤
  • الحادي عشر: أن يسير بفكره في عواقب الهوى: فيتأمل كم أفاتت معصيته من فضيلة، وكم أوقعت في رذيلة، وكم أكلة منعت أكلات، وكم من لذة فوتت لذات، وكم من شهوة كسرت جاهًا، ونكست رأسًا، وقبحت ذكرًا، وأورثت ذمًا، وألزمت عارًا لا يغسله الماء، غير أن عين الهوى عمياء.
  • الثاني عشر: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر، وما فاته وما حصل له.
  • الثالث عشر: أن يتصور ذلك في حق غيره حق التصور، ثم ينزل نفسه تلك المنزلة، فحكم الشيء حكم نظيره.
  • الرابع عشر: أن يتفكر فيما تطالبه به نفسه من ذلك، ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنه ليس بشيء.
  • الخامس عشر: أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى، فإنه ما أطاع أحد هواه إلا وجد في نفسه ذلًا، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم، فهم أذل الناس بواطن، قد جمعوا بين الكبر والذل.
  • السادس عشر: أن يوازن بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه، وبين نيل اللذة المطلوبة، فإنه لا يجد بينهما نسبة ألبتة، فليعلم أنه من أسفه الناس يبيعه هذا بهذا.
  • السابع عشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه، فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وسقوط همة، وميلًا إلى هواه طمع فيه وصرعه، وألجمه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد، ومتى أحس منه بقوة عزم وشرف نفس وعلو همة لم يطمع فيه إلا اختلاسًا وسرقة.
  • الثامن عشر: أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئًا إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة، وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق، وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولي بهواه، ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة، فما قارن الهوى شيئًا إلا أفسده.
  • التاسع عشر: أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنه يطيف به ليعرف أين يدخل عليه حتى يفسد قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلًا إلا من باب الهوى فيسري منه سريان السم في الأعضاء.
  • العشرون: أن يتذكر أن مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقوة في لسانه، وأن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه، وأنه ما من يوم إلا والهوى والعقل يعتلجان، فأيهما قوي على صاحبه طرده وتحكم وكان الحكم له، وأن الله سبحانه جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين، وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين.
  • الحادي والعشرون: أن يعرف أن الهوى تخليط ومخالفته حِمية، وأنه يخاف على من أفرط في التخليط وجانب الحمية أن يصرعه داؤه. وأن الهوى رق في القلب، وغل في العنق، وقيد في الرجل، ومتابعه أسير، فمن خالفه عتق من رقه وصار حرًا، وخلع الغل من عنقه، والقيد من رجله، واستطاع مسايرة الصالحين.٣٥

وهذه الأمور لخصناها من كلام مطول أثبته ابن القيم في نهاية كتابه الممتع (روضة المحبين) وقد وصل به اجتهاده إلى نحو خمسين وسيلة لدعوة النفس إلى حرب الهوى. وفي هذه الشواهد مقنع لمن يمتري في مزج الصوفية بين العقل والدين، فهم لا يعتمدون على الشرع وحده، وإنما يجعلون الكرامة الإنسانية مما تنصب له الموازين، وهل كان الشرع في جوهره إلا مبعث يقظة للعقل والوجدان؟

١  من الصوفية من صرح بأن عشق الغلمان وصور الحسان هو قنطرة إلى عشق الإله، وذلك الصوفي هو صدر الدين الشيرازي، وهذا الرأي الصريح كان من أسباب ثورة رجال الدين عليه. (انظر أطروحة أبي عبد الله الزنجاني، ص٢٥.)
والواقع أن الذين ثاروا عليه لم يفهموا ما يرمي إليه، فقد كان الرجل من القائلين بوحدة الوجود، والصور الجميلة من أنفس العناصر في الوحدة الوجودية، وربما كان التأمل فيها هو الذي ألهم الصوفية فتنة القول بالحلول أو القول بوحدة الوجود.
وما نقول به يختلف عما يقول به الشيرازي بعض الاختلاف، فالميل إلى الجمال هو في رأينا تربية للذوق تنتهي بالانتقال من المحسوس إلى المعقول، وهو عند الشيرازي خطوة أساسية في سبيل الوصول؛ إذ كان الجمال المحسوس جزءًا من الجمال المطلق الذي يتكون من المحسوس والمعقول.
والظاهر أن الشيرازي أجرأ منا وأصرح.
٢  نفح الطيب، ج٢، ص٣٢٢.
٣  زهر الآداب، ج١، ص١٥٢، والكشكول، ص١٢٩، وروضة المحبين، ص٢٤١.
٤  كتاب الزهرة، ص١٨.
٥  الكشكول، ص٢٦٣.
٦  ديوان الصبابة، ج٢، ص٧٠، على هامش تزيين الأسواق، طبع سنة ١٢٩١هـ.
٧  تزيين الأسواق، ج٢، ص٦٦.
٨  الزهرة، ص٢٥٩.
٩  روضة المحبين، ص٢٥٢.
١٠  روضة المحبين، ص٢٨٣.
١١  روضة المحبين ص١٣٤ ومن هذا يظهر أن صدر الدين الشيرازي مسبوق إلى القول بأن عشق الجمال قنطرة إلى عشق واجب الوجود.
١٢  تلبيس إبليس ص٢٦٤–٢٦٦.
١٣  تلبيس إبليس ص٢٦٦، ٢٦٧.
١٤  تلبيس إبليس ص٢٧٠.
١٥  تلبيس إبليس ص٢٧٢.
١٦  التلبيس ص٢٧٣.
١٧  روضة المحبين ص١٤٣.
١٨  كنايات الثعالبي ص٢٠ وانظر يتيمة الدهر ج١ ص٣٠٩.
١٩  القشيرية ص١٨٤.
٢٠  زهر الآداب ج٣ ص٢٢٧.
٢١  زهر الآداب ج٣ ص٢٢٧.
٢٢  زهر الآداب ج٣ ص٢٢٧.
٢٣  زهر الآداب ج٣ ص٢٢٨.
٢٤  زهر الآداب ج٣ ص٢٢٨.
٢٥  روضة المحبين ص٢٣٨.
٢٦  روضة المحبين ص٢٣٨.
٢٧  روضة المحبين ص٢٣٨.
٢٨  تخيرنا هذه الشواهد من الصفحات ٢٣٨–٢٤٢ من روضة المحبين.
٢٩  روضة المحبين ص٣٤٢.
٣٠  روضة المحبين ص٣٤٨.
٣١  روضة المحبين ص٣٦٤ وتأمل كلمة (راهبة).
٣٢  روضة المحبين ص٣٦٣.
٣٣  العدو في هذا المقام هو الشيطان.
٣٤  أي أن ما يدركه البهيم يجب أن يدركه الرجل بالعقل.
٣٥  انظر روضة المحبين ص٥٠٣–٥١٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤