تمهيد

إن عصر الدولة الوسطى — وقد فصَّلْنا القولَ فيه على قدر ما سمحتْ به مصادرنا — عهدُ حضارة وثقافة وفن عظيم؛ فلقد قَطَعتْ فيه مصر شوطًا بعيدًا، صاعدة في معارف الرقي الإنساني من جميع نواحيه؛ ولكن ما لبث هذا العهد أن انقضى، وخَلَفَه عهد مظلم حالك، لا يكاد المؤرخ المحقِّق يَلْمح فيه ما يهديه إلى حال البلاد ونظمها ومقدار ثقافتها، اللهم إلا ومضات لا تكاد تلمع حتى تخبو، ثم تتوالى جحافل الظلام وتتلاحق بعد ذلك، فتحجب كلَّ شيء في جوفها القاتم العابس. كان ملوك هذه الدولة لا يكاد يستقر أحدهم في عرشه حتى تتزلزل قواعده، ويهوي بين عشية وضحاها، وهكذا ظلَّت هذه الحال المفجعة تطغى على البلاد على إثر سقوط الأسرة الثانية عشرة، حتى حوالي ختام الأسرة الثالثة عشرة، عندما ظهر على مسرح السياسة المصرية قومٌ مِن الأجانب ملكوا أزمَّة البلاد، وريفها بخاصة، وتَحكَّموا في أقدارها قرابة قرن ونصف قرن من الزمان.

وتدل معلوماتنا الحديثة على أن هؤلاء المغتصبين لم يهبطوا على البلاد فجاءة فاستولوا عليها كما يزعم المؤرخون، ولكنهم تسرَّبوا إليها ببطء وعلى مهل، حتى إذا نشروا ثقافتهم ومبادئهم، ووضَحَتْ أمامهم سبل مصر وشعابها، انقضُّوا عليها بجيش جرَّار، سيطروا به على الدلتا في بادئ الأمر، ثم امتد سلطانهم إلى مصر الوسطى، ولقد ألحق المصريون بهؤلاء الغزاة كلَّ نقيصة متأثرين بعدوانهم، فسمَّوْهم «الهمج» و«الهكسوس» (الرعاة) و«الطاعون» إلى غير هذه الأسماء التي يُضْفيها المغلوب على المغتصب القاهر. ولم يكن هؤلاء الغزاة الذين اجتاحوا مصر جملةً حوالي عام ١٧٣٠ق.م همجًا ولا متوحشين — كما تُحدِّثُنا التقاليد التاريخية التي وصلت إلينا عن تاريخ كتَّاب الإغريق — بل كانوا مثقفين ذوي حضارة وعرفان، فنَهِلَت مصر من موردهم، واستنارت بمدنيَّتهم التي انتظمت فنون الحرب ونواحي الصناعة، وأَخذَت عنهم كثيرًا من المخترعات التي لم تُعرف قبلُ في وادي النيل، ولقد كان ذلك حافزًا لنا على إفراد فصلٍ من هذا الكتاب لِبَحثِ أحوال أولئك الأجانب، وما خلَّفوه في البلاد من آثارٍ، وكيف هاجروا إليها أولًا، ثم كيف غَزَوْها جملةً، ومن أين أَتَوا، وإلى أي السلالات البشرية يَنتسِبون، وغير ذلك من المسائل المعضلة في تاريخ هؤلاء القوم.

ولقد عُنِينا بتحقيق مدة إقامتهم في ديارنا، إلى أن استيقظ الروحُ القومي، وهبَّ الوعي المصري، وشَعَرَ بما تعانيه البلاد من ذل ومهانة، في ظِلِّ الحكم الأجنبي الغاصب، وسيطرتِه على معظم تربة مصر، وهي أرض الدلتا التي تفيض بالثراء، ومصر الوسطى التي تنعم بأجمل الأجواء، وأطيب الغلات؛ من أجل ذلك هبَّ المصريون إلى ساحة القتال يناضلون عن استقلال بلادهم، يقودهم سلسلة من ملوك مصر الشجعان، لتخليص البلاد من النِّير الأجنبي، فاستُشهد منهم من استشهد في ساحة الشرف مدافعًا عن أرض الكنانة، وناضل منهم من ناضل حتى مات حَتْف أنفه، إلى أن قيَّض الله لمصر النصر النهائي، وتحرَّرَت البلاد منهم على يد الفرعون العظيم «أحمس الأول»، الذي طارد العدوَّ المستعمِر حتى خارج حدود مصر، ومما هو جدير بالذكر هنا أن الجنود السودانيين الشجعان قد أسهموا في القضاء على هذا العدوِّ المشترك منذ بداية الأمر؛ إذ كانوا يؤلِّفون فرقة في جيش الفرعون «كامس».

وقد كان «أحمس الأول» — مُجْلِي الهكسوس عن البلاد، وأولُ فراعنة الأسرة الثامنة عشرة — المؤسسَ الأول لبناء الإمبراطورية المصرية، التي امتدَّ سلطانها، وثَبَتَت دعائمها في أواخر عهد العاهل العظيم «تحتمس الثالث»، الذي يلقِّبه بحقٍّ مؤرخو الغرب «نابليون الشرق»، فصارت تمتد من أعالي نهر «دجلة والفرات» شمالًا حتى الشلال الرابع جنوبًا، وقد حافظ على كيانها أخلافُه حتى نهاية عهد «أمنحتب الثالث»، إلى أن جاء الفرعون «أخناتون» يحمل لواء عقيدة التوحيد، والإيمان بالإله الأحد الفرد الصمد، وأخذ في نشر تعاليمه السلمية علنًا بعد أن كانت تُذاع تحت ستار من الإبهام، غير أن انكبابه على نشر رسالته الروحية قد صرفه عن الالتفات إلى أحوال البلاد الداخلية والخارجية؛ مما أدى إلى تداعي ذلك البنيان الذي أقامه أجداده بحد السيف وحُسْن السياسة، فانتقصَت الدولة من أطرافها حتى انكمشَت في عقر دارها، ولكنَّ عهْده كان سحابة صيف تقشَّعت إثر اختفائه من مسرح الحياة، فقيَّض الله للبلاد جنديًّا من أبنائها الأبطال؛ وهو «حور محب»، الذي أعاد للبلاد بعضَ سُؤْدُدِها السالف وسمعتها الحربية التي كانت قد تداعت.

وسنحاول هنا أن نستعرض تاريخ الكنانة في عهد هذه الأسرة بطريقتنا الخاصة، التي يكون اعتمادنا فيها على الوثائق الأصلية، وآخِر البحوث العلمية التي نُشرتْ حتى الآن.

وعلى الرغم مما يَعترض مؤرخي العصور القديمة من عقبات، ومسائل معقدة لم يزل حلها معلقًا، والقولُ الفصل فيها متوقفٌ على نتائج الحفائر العلمية التي تقوم في مصر وغيرها من بلدان الشرق المجاورة؛ فإن لدينا مادة وفيرة تكْشف لنا القناع بعض الشيء عن حضارة البلاد وثقافتها، بصورة واضحة جليَّة في نواحٍ كثيرة كانت مجهولة، وبخاصة حياة الشعب، وما كانت عليه أحوال أفراده من صِلات اجتماعية تربط بعضهم ببعض، وبطائفة الحكام؛ وكذلك لدينا من الوثائق ما يضع أمامنا صورة مفهومة عن أعمال فراعنة هذه الأسرة في داخل البلاد وخارجها، وما تركوه لنا من آثار خالدة هنا وهناك.

وهذه المادة التي سنعتمد على استنباط تاريخ هذا العصر منها تنحصر أولًا فيما خلَّفه لنا عظماءُ القوم في نقوش مقابرهم الفاخرة في طول البلاد وعرضها؛ وثانيًا فيما تركه لنا الملوك من مبانٍ دينية، ومقابر ملكية وأوراق بردية في «طيبة» عاصمة مُلْكهم وغيرها دوَّنوا عليها كل أعمالهم العظيمة في كل مرافق الحياة.

والواقع أن المقابر التي نَحَتَها عظماء القوم، ورجال البلاط، والموظفون في عهد هذه الأسرة، والأسرات التي كانت فيها «طيبةُ» عاصمةَ الملك؛ تُعَدُّ بمثابة سجل تاريخي من الطراز الأول؛ إذ إنهم لم يغادروا صغيرة ولا كبيرة في نواحي حياتهم اليومية، العامة والخاصة، إلا أحصوها، ولم يَحِدْ عن هذا المنهج المحبَّب شريفٌ أو موظف منهم؛ فنرى رئيس الوزراء يصور لنا على جدران مزار قبره صورةً صادقة يوضِّح فيها كل مهامِّ أعماله الحكومية في داخل البلاد، كما يصوِّر لنا في منظرٍ آخَر استقبالَه للوفود الأجانب الذين أَتَوا إلى مصر حاملين ما فُرض عليهم من جزية للفرعون، أو جالبين الهدايا له؛ طلبًا في وده ومصادقته. فترى أمامك ممثلي الأقطار الخاضعة لمصر، وبخاصة السوري والفلسطيني والسوداني واللوبي، مقدِّمين ما عليهم من جزية، كما نرى «الخيتي» و«الكريتي» و«القبرصي» و«الآشوري» حاملين الهدايا، وكلٌّ منهم يرتدي لباسه القومي، مقدِّمًا ما تُنتجه بلاده من خيرات وطرائف؛ وفي ناحية أخرى دوَّن لنا القوانين والتعاليم التي يجب أن يسير على هديها هو وطائفة الموظفين الذين في رِكَابه في إقامة العدالة في البلاد؛ أو تراه يُشْرف على كل الأعمال العظيمة من مشاريع اقتصادية وزراعية وفنية وهندسية، ويوجِّه العمالَ إلى إدارة أعمالهم، حتى في أحقر المهن وأصغرها شأنًا، حتى يَعْلم كلٌّ أنه محيط بكل شيء، ومتنبه لكل صغيرة وكبيرة؛ وفي ناحية أخرى تراه مصوَّرًا وهو متربع على كرسيِّه المتواضع في قاعة العدل، يصرف العدالة بين أفراد الشعب، ويوجِّه رجالَ الدولة إلى تصريف مهامِّها، ويستقبل وفودَ المقاطعات، ويطَّلع على الضرائب وكيفية توزيعها وجمعها على حسب ما تقتضيه حالة النِّيل من زيادة أو نقص.

وعلى جدران مزار مقبرة أخرى نرى صاحبَ الأملاك أو الشريف وهو يُشْرف على سَيْر العمل في ضِياعه، وهنا تَرى صورةً صادقة عن حياة الفلاح المصري القديم تُطابِق حياته الزراعية الحديثة، فتراه يحرث الأرض ويبذر فيها الحب، ويتعهدها بالري، ثم يضمُّ المحصولَ ويدرسه ويخزنه للشريف، كما يحدث الآن مع فارق واحد هو أن صاحب الأرض في مصر القديمة مهما كانت مكانته كان ينزل للفلاح عن نصيب مُعيَّن يقتات به هو وأسرته، سواء أكان المحصول كثيرًا أم ضئيلًا؛ ولذا نلحظ أن الفلاح كان يعمل لسيده بقلب مطْمَئن ونفس راضية.

ونقرأ على جدران مقابر الموظفين من رجال الإدارة والجيش والسلك السياسي صفحاتٍ أخرى، تُبدي ما كانوا يقومون به من أعمال جِسام خدمةً لبلادهم وللفرعون الذي كانوا يحيطون به إحاطة النجوم بالقمر في ليلة صافية الأديم، وبخاصة إذا علمنا أن هؤلاء الموظفين في تلك الفترة من تاريخ البلاد لم يكونوا من طبقةِ أشرافٍ وراثيِّين، بل كانوا أفرادًا من عامِّة الشعب، شقُّوا طريقهم إلى المجد والرفعة بما قاموا به من خدمات مُخْلصة لبلادهم وللفرعون في ساحة القتال، أو في تسيير دفة الحكم في البلاد؛ لذلك كان كل واحد منهم يصوِّر لنا حياته من كل نواحيها؛ فيذكر لنا مناقبه، والوظائف التي تَقلَّدها، والإنعامات الملكية التي نالها جزاءَ ما قام به من جليل الأعمال في داخل البلاد وخارجها، غيرَ معتمِد على نسبته لأسرةٍ شريفة أو جاهٍ عريض، بل كان يفخر بأنه نشأ من أبوين رقيقَي الحال، ثم يشفع ذلك بالمناظر التي تصوِّر لنا ذلك كله، فنشاهده وقد أرسله الفرعون في بعثة إلى «سوريا» أو «فلسطين» أو «السودان» لإنجازِ مهامَّ سياسيةٍ أو لإحضار الأخشاب اللازمة لبناء المعابد والقصور، ثم نشاهد البعثة وقد وصلتْ سالمةً إلى ميناء «طيبة» محمَّلة بالخيرات، وعلى جدران مقبرة أخرى نشاهد أحد كبار رجال الجيش يمثِّل لنا حياة الجندي العظيم وهو يقوم بما فُرض عليه من واجبات، فنراه مع جنوده وضباطه وهو يوزع عليهم أرزاقهم وأعطياتهم، كما يعرض علينا كيفية تجنيدهم وتسليحهم واستعراضهم وتدريبهم على فنون الحرب، والفرعون يشرف على هذا بنفسه. على أن هؤلاء العظماء وكبار الموظفين لم ينسوا أن يصوِّروا لنا على جدران مزار مقابرهم نصيبَهم من الحياة الدنيا ومتاعِها؛ فقد صوروا لنا مناظر خروجهم للصيد والقنص في عرباتهم المطهَّمة، تتبعهم كلابهم المدرَّبة، أو وَهُمْ في قواربهم لصيد السمك، ومعهم أزواجهم وبناتهم، أو نراهم في حفل أُسَريٍّ دُعي إليه الأقارب والأصدقاء، وهنا نشاهد ما كان عليه المصري صاحب اليسار من أناقة الملبس وتسامُح في معاقرة الخمر والْتهام أشهى الأطعمة المختلفة الألوان، وفي هذا الحفل تَرى أواصر الأسرة المحكَمة والحب المتبادَل، كما تَرى من ناحية أخرى مقدارَ ما وَصَلَ إليه المثال من الدقة والإبداع في إخراج الصُّوَر وتنسيقها.

ولدينا طرازٌ آخَر من المقابر نرى على جدرانها أن الموظف قد عُني عناية خاصة بتصوير حياته الحكومية، فيمثِّل لنا الحفل بتنصيبه في وظيفته الجديدة بين يدَي الفرعون، ذاكرًا لنا كلَّ ما كان يحمله من ألقاب ووظائف وكيف درج فيها، ومعددًا لنا ما كان متَّصِفًا به من فضائل وعدالة فذَّة، وبالقرب من هذا الموظفِ آخَرُ قد عُني بناحية أخرى من حياته الحكومية، وبخاصة المشْرفون على غلات البلاد ومحاصيلها، وما كان لهم من شأن عظيم في حياة البلاد، ولا سيما إذا عَلِمنا أن حياة مصر كانت تعتمد على ما تنتجه من غلات، وما كان للقائمين بهذا العمل من مكانة خطيرة، ولا أَدَلُّ على ذلك من أن «يوسف» — عليه السلام — الذي يُحتمل أنه دخل مصر حوالي هذه الفترة، كان أول ما طَلَبَ من الفرعون هو أن يجعله على خزائن الأرض أمينًا؛ لذلك نرى المشرف على خزائن غلات مصر في ذلك العهد قد مثَّل لنا مهامَّ أعمالِه بدقة بالغة، مقدمًا للفرعون مقدار ما تُخرجه أرضُ مصر، وما يَفِدُ عليها من غلات من الخارج، كما كان يصوِّر لنا الحفل العظيم الذي كان يُعقد ابتهاجًا بِعيد الحصاد الذي كان يرأسه الفرعون بنفسه.

ومما يلاحَظ هنا أنه قد أتى على مصر فترة في عهد هذه الأسرة كان الفلاح فيها سعيدَ الحال موفورَ العيش، لدرجة — إذا صدَّقنا ما نشاهده في المناظر الباقية — أنه كان يرتدي الملابس الجميلة وينتعل النعال المتينة في أثناء قيامه بحصد المحصول مما يتمناه فلاح مصر اليوم.

وقد صوَّر لنا المصريُّ معتقداتِه الدينيةَ في شعائره التي نرى بعضها حتى الآن؛ فقد كان المصري في كل مناظر قبره يدوِّن الصلوات والتعاويذ الدينية لأجْل بقاء تماثيله وجسمه؛ حتى يَنعم بكلِّ ما كان يَنعم به في الحياة الدنيا التي صوَّرها على جدران قبره، والتي كان يأمل أن تكون حقيقة ملموسة، إذا ما تُلِيَت عليها الأدعية والصلوات الخاصة بذلك، ولعل هذا هو السر في تصوير كل هذه المناظر في تلك القبور، ولا نِزاع في أن المصري كان يُعَدُّ أكبرَ مُواطِنٍ أَحَبَّ وطنَه؛ إذ كان يَعُدُّه متاعه في الحياة الدنيا، ونعيمه المقيم في عالم الآخرة؛ لأنه كان يعتقد أن جَنَّة عالم الآخرة ليست إلا صورة أخرى لمصر وطنِه المحبوب.

من أجل ذلك كلِّه رأيتُ — وأرجو أن أكون قد أصبتُ الهدف — أنْ أتَّبع عهد كل فرعون بوصف قبورِ نخبةٍ من رجال عصره، شارحًا ما تنطوي عليه مَناظر مزارات قبورهم وما تَكشِف لنا من حياة الشَّعب الاجتماعية، وعلاقتهم بكبار رجال الدولة وبمليكهم. ولقد وَجَّهتُ عناية خاصة لقبر الوزير «رخ مي رع»، الذي يعد بحقٍّ أعظمَ وزراء مصر في عهد الأسرة الثامنة عشرة، بل في التاريخ المصري كله. والواقع أن قبر هذا الوزير، فضلًا عن فخامته وعظمته من حيث النحت والضخامة، سِجِلٌّ في تاريخ الحياة الاجتماعية والسياسية والفنية والهندسية. ولا نكون مبالِغين إذا قررنا هنا أنه يمثِّل أمامنا تمثيلًا حيًّا مملكةً بأَسْرها رُسمت على جدران قاعات مزاره الفسيحة الأرجاء، فنرى على أحدها الفرعون ينصِّب الوزير ويلقي عليه خطابًا رائعًا عن مهامِّ وظيفته في حفل عظيم رسمي، ثم نشاهده في قاعة العدل على كرسيِّه وحوْله أعوانُه وكَتَبَتُهُ على استعداد لسماع شكايا القوم والفصل فيها، وبعد ذلك نراه في مشهد آخر يَستقبِل الوفودَ من الممتلكات المصرية، ويستقبل وفود الأقاليم من كل مقاطعة يَعرضون عليه أحوال البلاد المختلفة، ونراه في منظر آخر يُشرِف على مشروعات الفرعون العظيمة؛ من بناء معابد ووضع تصميماتها، وتهيئة كل ما تحتاج إليه، حتى صناعة اللبنات كان يشرف عليها ويوجِّه العمالَ في كيفية صناعتها، كما كان يسهر على مصلحة العمال من نساء ورجال، وبخاصة الأسرى الذين كان يُحْسن معاملاتهم ويعطيهم نصيبهم من الحياة، وكذلك نشاهده يشرف على ممتلكات الإله «آمون» وعبيده في معبد الكرنك، وما يتبعه من المعامل والمصانع التي كان يقوم فيها أهل الحرف والصناعات بأعمالهم خير قيام، ولم يَترك لنا «رخ مي رع» حرفة أو صناعة إلا مثَّلها أمامنا تمثيلًا صادقة بكل آلاتها ومعداتها مما لم يجتمع في مزارِ مقبرةٍ أخرى بصورة واضحة جليَّة؛ فترى أمامك النجار يعمل بآلته، والخباز والحداد ودابغ الجلود والصائغ وصانع الأحذية والنحال، وتحضير الشهد وصَهْر المعادن وصبها، والمباني وكيفية إقامتها، والأحجار وقطْعها ونحْتها، وغير ذلك مما سيراه القارئ بعدُ مفصَّلًا.

وفي ناحية أخرى مِن قبره نشاهده بين أفراد أسرته في حفل أُسَري دعا فيه الأهل والخلَّان، وفي حفل آخر نراه داعيًا كبار موظفيه ليستأنس برأيهم في تصريف الأمور، وفي كل ذلك نرى الأزياء الخلابة وأنواع الطعام الفاخرة، هذا إلى مناظر دينية خاصة بإحياء تمثاله أو موميائه في عالم الآخرة، وترتيب الأوقاف الخاصة بطعامه الأبدي، وغير ذلك مما سنراه في مكانه. هذا إلى أنه قد تَرجم لنفسه ليُظهر للعالم ما كان عليه من أعباء جسام وما اتَّصف به من خُلُق كريم ومكانة فذة.

ولدينا صنف آخر من كبار رجال الدولة قد حاول أن يمثِّل في قبره مناظر تصفه في مكانة رفيعة، تضارع ما كان يعمل للفرعون نفسه كما فعل «سنموت» أكبر رجال الدولة في بلاط «حتشبسوت»؛ فقد زيَّن جدران قبره بمناظر تدل دلالة واضحة على أنه كان قاب قوسين أو أدنى من الاشتراك في المُلْك مع سيدته وصديقته «حتشبسوت»، كما تَرَك لنا بعض المناظر العلمية، وبخاصة المنظرُ الفلكي الذي حلَّى به سقف قبره، مما لا نجده إلا في قبور الملوك العظام.

ولا إخال القارئ الذي ينظر إلى التاريخ نظرة اجتماعية يجدنا قد شطَطْنا عن الصواب في الاهتمام بتصوير حالة الشعب وما كانوا عليه من نعيم أو شقاء، أو أنَّا قد جاوزْنا الحد في العناية بشرح ما على مقبرة «رخ مي رع» من مناظر تصف لنا الحياة المصرية كما كانت عليه منذ ٣٥٠٠ سنة تقريبًا، وفي رأيي أن هذا هو التاريخ الحي الحق، ذلك التاريخ الذي يُعنَى بالشعب وحياته من كل الوجوه، ولا غرابة في ذلك؛ فقد عَرَّف أحد المؤرخين المحدِّثين علمَ التاريخ بأنه هو «علم الاجتماع».

والمصدر الثاني الذي اعتمدنا عليه في كشف النقاب عن تاريخ هذه الفترة هو الآثار التي خلَّفها لنا فراعنة هذه الأسرة، وتنحصر في المعابد التي أقاموها للآلهة في مختلف أنحاء الإمبراطورية، وكذلك المعابد التي شيَّدوها لأنفسهم، والمقابر التي نحتوها في جوف الجبال في الجهة الغربية من النيل، هذا إلى البقية الضئيلة التي خلَّفوها لنا من مبانيهم الدنيوية، وما عُثر عليه من أوراق بردية في مختلف تلك الآثار.

والواقع أن ملوك هذه الأسرة قد اتخذوا معابد آلهتهم — الذين كانوا يهبُونهم النصر في ساحة القتال — سجلًّا لتدوين كل أعمالهم ومفاخرهم، إلى جانب الغرض الأصلي من إقامة هذه المعابد؛ وهو إقامة الشعائر الدينية للإله الذي كان يُعد والد الفرعون، وتلك مَزيَّة خاصة وظاهرة جديدة اختصَّ بها فراعنة الدولة الحديثة؛ لأن الإله في ذلك العهد أصبح هو المسيطر بنفوذه السياسي والديني على كل الإمبراطورية المصرية، وسادَت العقيدة بذلك كلَّ أرجاء الدولة. ولما كان الإله يُعد في نظر الشعب والدَ الفرعون، كان لزامًا على ابنه أن يدوِّن على جدران معابده ومعابد الآلهة الآخرين التابعين له، والذين آزروه وعزَّزوه ونصروه في ساحة القتال، كلَّ ما أحرزه من نصر حربي، كما يكشف عن خططه الحربية وما إلى ذلك من جِسام الأمور وجليل الأعمال التي تَمَّتْ في عهده في ظل عطف والده الإله، سواء أكان ذلك في داخل البلاد أم في خارجها. وفي الحق لم نجد لهذه الظاهرة أثرًا من قبل في كل ما بقي لنا من آثار ملوك الدولة المصرية السابقة إلا الشيءَ القليل؛ إذ كانت كل نقوشها بوجه عامٍّ خاصةً بالمراسيم الدينية وإقامة الشعائر.

ولا نزاع في أن معبد «الكرنك» أو معبد «الدير البحري» أو معبد «أمنحتب الثالث» الجنازي، وغيرها من المعابد التي أقيمت في المدن المصرية الأخرى أو في السودان، هي سجلَّات دوِّنت عليها حروبُ ملوكِ مصر في عهد الأسرة الثامنة عشرة، كما دوِّنت عليها بعوثُهم التجارية وعلاقاتهم الخارجية، وقد كانت ولا تزال معرضًا علميًّا من الطراز الأول لما كان عليه القوم من ثقافة عالية في مختلف العلوم والفنون — وبخاصة في فن البناء والنحت والحِرَف والصناعات الدقيقة — والأدب مما كان يعمله الفرعون إرضاءً لوالده الإله مستعينًا في تنفيذه بما يتدفق على الكنانة من الجزية والهدايا التي ترسلها البلاد الخاضعة لسلطان الفرعون بحدِّ السيف أو بالمهادنة والمصادقة، كما كانت هذه المعابد سجلًّا للملوك أنفسِهم يدوِّنون عليها تاريخ حياتهم وكيفية اتصالهم بالإله الأعظم صاحب السيادة العالمية «آمون رع» وقتئذٍ.

فبينا نرى الملكة «حتشبسوت» مثلًا تصوِّر لنا على جدران معبدها بالدير البحري تاريخ ولادتها وكيفية اعتلائها عرش الملك، نراها تمثِّل لنا في نفس المعبد البعثةَ البحرية السلمية التي أرسلتْها إلى بلاد «بنت»، وهي الأرض المقدسة التي كانت تمتدُّ على ساحل الصومال وبلاد اليمن، لتُحْضر البخور والأشجار العطرية لتغرسها في معبدها الذي بَنَتْه لنفسها ولوالدها الإله «آمون»، وتعود البعثة وسفنها محملة بكل طرائف بلاد بنت، مما وقفنا على كثير من أحوال أهلها وغلاتها وحيوانها وسمكها والأجناس التي تسكنها، ونرى كذلك «تحتمس الثالث» يدوِّن لنا على جدران «معبد الكرنك» تاريخ حروبه وفق يومياتٍ كانت تؤلَّف لهذا الغرض في ساحة القتال، ويقيم معبد للإله «آمون» الذي نَصَرَه في كل المواطن على هيئة خيمة حربية، مُشعرًا بذلك أن إلهه لم يكن إله سلم وحسب، بل كان إله نضال أَخَذَ يناصر ابنه الفرعون في ساحة القتال، وكذلك نراه يعرض علينا كل أنواع الهدايا والغنائم، والأعمال العظيمة الدينية التي قدمها للآلهة الذين وهبوه النصر في ساحة الوغى، ثم يعدِّد لنا أنواع الجزية التي كانت تُجبى من البلاد التي فتحها، وبخاصة الذهب والمعادن والأحجار والتحف الفنية التي كانت تأتي إلى خزائنه؛ مما يكشف لنا عن مقدار التقدم الفني والصناعي في ذلك الوقت، وكذلك العبيد والإماء التي كانت ترد إلى مصر، فكان لها الأثر السيئ في البلاد بعدُ. ويحدثنا عن أسطوله الذي كان يشدُّ أزره في تلك الأصقاع النائية من إمبراطوريته؛ مما ملَّكَه زمامَ البر والبحر، وقد دوَّن لنا كلَّ ذلك على جدران المعابد أو على لوحاتٍ تُنصب كالأعلام في جهات الإمبراطورية المختلفة.

وكذلك نجده يحدثنا في مواطن كثيرة عن حبه للرياضة البدنية في مختلف أشكالها، وضروب الفروسية التي ورثها عنه ابنه «أمنحتب الثاني» وغيره من ملوك هذه الأسرة. كما يحدثنا عن معاملته السمحة للأعداء وعلاقته بجنده ورجال بلاطه وحسن معاملته لهم، وما كان لذلك من الْتفاف الشعب حوله، وبخاصة الطبقة الوسطى الذين تألَّف منهم في آخر الأمر عظماءُ جيشه وحاشيته الذين أُنشئوا وتربَّوا مع أمراء البيت المالك، فأخلصوا من أجل ذلك لمليكهم في ساحة القتال وفي إدارة البلاد، ولا أَدَلُّ على ذلك من أن عددًا عظيمًا منهم كانوا إخوة للفرعون في الرضاعة أو تربوا معه في مدرسة واحدة، وقد كان لهؤلاء الملوك شأن آخر في معاملة أولاد الأمراء الذين أُتي بهم أسرى من البلاد المغلوبة على أمرها؛ إذ كان ينشِّئهم على حب مصر ثم يوليهم أمور بلادهم بعد موت آبائهم، وتلك سياسة انتهجتها دول أخرى قديمة وحديثة، ولكنها لم تأتِ بثمرتها المرجوَّة.

ومقابر هؤلاء الملوك ومعابدهم الجنازية سجلٌّ من طراز آخر يختلف اختلافًا بيِّنًا عن مقابر عظماء القوم؛ فمعظم عنايتهم موجَّهة إلى إخفاء مقابرهم في جوف الجبل؛ لما كانت تحتويه من أثاث فاخر عظيم القيمة، دَلَّ على ذلك مقبرة «توت عنخ آمون» مع أنه لم يكن من أعاظم ملوك تلك الأسرة، والواقع أن أثاث مقابر هؤلاء الملوك ينطق بما كانت عليه البلاد من ثراء مادي وغنًى فني وحياة رفيعة وبذخ وتأنُّق في سبل الحياة؛ مما يجعلنا نقف مشدوهين أمام ما وصلوا إليه من حضارة راقية.

ونقوش مقابرهم كانت من طراز فذٍّ؛ إذ كانت كلها خاصة بعالم الآخرة، وما كان يلاقيه الفرعون المتوفَّى من صعابٍ لا بد من التغلب عليها حتى يصل إلى جنة الخلد، كما شَرَحْنا ذلك عند الكلام على الحياة الدينية وكتاب الموتى.

وكانت معابدهم الجنازية تشبه معابد الآلهة في محتوياتها ونقوشها الدينية، وقد كانوا يقيمونها بعيدة عن المقبرة الأصلية على ضفة النيل الغربية، ولا غرابة في أنْ نجدها على طراز معابد الآلهة؛ إذ كان الفرعون يَعدُّ نفسه إلهًا أو ابن الإله وخليفته على الأرض، هذا فضلًا عن أن بعض الملوك كانوا يُتخذون آلهة بعد مماتهم أو كانوا يَبنون معابدهم على أنهم آلهة سيُعبدون فيها، ولا أدلُّ على ذلك من المعبد الذي أقامه «أمنحتب الثالث» لعبادته هو في «طيبة» الغربية، وقد كان الفراعنة يقفون على المعابد الأوقافَ العظيمة لإقامة الشعائر الدينية، كما كانوا يقفون الأملاك العظيمة على معابد الآلهة ويَكِلون أمر إدارتها وتثميرها في كلتا الحالتين للكهنة؛ مما أدى إلى زيادة نفوذ هذه الطائفة الدينية حتى أصبحت عاملًا كبيرًا في انحلال البلاد، حتى آلَ المُلْك فيما بعدُ إلى طائفتهم.

والظاهرة التي تبدو غريبة في تلك الأزمان القديمة، وهي التي وجَّهْنا لها بعضَ العناية عند التحدُّث على مقابر الأفراد والملوك، والمعابد الخاصة بالآلهة والملوك جميعًا؛ هي ما أَحْدثه أولئك القدماء من تخريب ومحوٍ وإثبات على جدران ما خلَّفه غيرهم؛ مما يصوِّر لنا ما كان عليه هؤلاء القوم من أحقاد، وما كان يحتدم في صدورهم من غلٍّ متبادَل، فنشاهد الملوك يكيد بعضهم لبعض، فيمحو الخلَف ما سطَّره السلَف من كتابة ويَنْسب لنفسه ما لم يكن لها. ولدينا أكبر دليل على هذه المأساة؛ ما قام به ملوك التحاسمة من محوٍ وإثبات في آثارهم، مما عقد علينا تتبُّع تواريخهم بصفة قاطعة حتى الآن، وتعدَّت هذه الظاهرةُ مقابرَ الملوك إلى مقابر وجهاء القوم الذين كانوا يَمْحون أسماء أسلافهم ويَنسبون آثارهم لأنفسهم أو يُتْلفون معالم أعدائهم، كل ذلك قد فوَّت علينا جزءًا عظيمًا من تاريخ هذه الفترة من حياة الشعب. ولكنَّا، مع القليل الذي أبقَت عليه يد التخريب، قد أمكننا أن نضع أمام القارئ صورة قد يكون بعض أجزائها مغطًى بحجاب شفيف، إلا أنها مع ذلك في مجموعها تقدِّم للقارئ فكرة مفهومة عن روح العصر، واتجاهاته المنوَّعة.

ولقد حاولنا في كل هذا البحث أن نعتمد على الوثائق الأصلية، وقد كان استعراضها أمام القارئ بما تحويه من مبالغات وتهويل ليرى بنفسه ويحكم إذا أراد، ثم شفعنا ذلك بالنقد والتحليل بقدر ما استطعنا، وقد يظن القارئ أننا قد بالغنا في الإكثار من ترجمة النصوص الأصلية، ولكنا قد دوَّناها هنا عن قصد؛ وذلك رغبة في أن نجعل أهل الجيل الحاضر يَعْرفون كيف كان أجدادهم القدامى يدوِّنون تاريخهم، ولِيأخذَ النشء الحديث كذلك — وبخاصة المثقفين منهم — تاريخَ بلاده من مصادره الأصلية، ويعرفَ كيف يفرِّق بالطرق العلمية الحقة بين خالصه وزيفه.

ولا شك أن التاريخ الصادق هو حياة الشعب وما تنطوي عليه تلك الحياة من تقدُّم ورقي أو انحطاط وتدهور، وإن إسعاد الشعب يتوقف على ما تنطوي عليه نفوس القادة وفْق ما أوتوا من ثقافة حقة وُجْهَتُها خيرُ الإنسانية، كما ضَرَب لنا المثلَ الأعلى في ذلك المضمارِ الوزيرُ «وسر» ومن بعده الوزير «رخ مي رع»، وغيرهما ممن كانوا يعتقدون أن عمل رئيس الوزارة، بل مهمته في الحياة تنحصر في إسعاد مصر وراحة شعبها، وأن ذلك لا يتأتى إلا بالعمل على توفير أسباب العدالة الاجتماعية.

والسلام على من اتبع الهدى، واتَّعظ بالماضي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤