حتشبسوت وتحتمس الثالث

مقدمة: تعقُّد الأمور بعد وفاة تحتمس الثاني بسبب وراثة العرش

لما ارتاح الملك «تحتمس الأول» من الحياة الدنيا وصعد إلى السماء، بعد أن أتمَّ سني حياته بقلب فَرِح — كما ينص التعبير المصري على لسان مدير أعماله «إنني» — كان الشيب قد خضب لحيته وذهب بشعر رأسه، ولا بد أنه قد مات محزونًا كسير القلب؛ إذ قد وارى التراب ثلاثة من أنجاله الذكور في حياته، أكبرهم «وازمس»، وقد توفي في أول حكمه، ثم لحق به أخوه «أمنمس» الذي كان قائدًا للجيش وولي عهده، وأخيرًا ابنة تُدعَى «نفرو بتي»، وهي ابنة زوجه الشرعية المسمَّاة الزوجة الملكية العظيمة «أحمس حنت تامحو» أكبر بنات سلفه «أمنحتب» الأول كما يدَّعِي بعض المؤرخين، وبنت أحمس الأول على أشهر الأقوال كما سنبرهن على ذلك بعدُ، وقد عاشت «أحمس» هذه بعد وفاة زوجها «تحتمس الأول»، وكذلك بقي لها بنت على قيد الحياة تُدعَى «حتشبسوت»؛ ولكن تحتمس كان له ابن آخَر من زوجةٍ تُدعَى «موت نفرت»؛ وقد كان الموقف إذن معقدًا كما سبق شرحه، فقد كان الوارث الحقيقي في مثل هذه الأحوال أكبر ابن شرعي خلفه الفرعون، ولكنه كان في هذه الظروف ابنة لا ابنًا وهي «حتشبسوت»؛ ومهام الملك كان لا بد أن يتولَّاها رجل.

fig26
شكل ١: الملكة حتشبسوت.

وقد كان الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق أن يتزوَّج «تحتمس» ابن الملكة «موت نفرت» من أخته «حتشبسوت»، وبذلك يُتوَّج ملك الوجه القبلي والوجه البحري، وقد كان هذا الزواج غير مُوفَّق، ولما توفي هذا الفرعون أصبح الموقف أشد تعقيدًا؛ إذ قد تكررت نفس المأساة ولم تُرزَق «حتشبسوت» من «تحتمس» الثاني إلا بنتين كبراهما تُسمَّى «نفرو رع»، والصغرى تُدعَى «مريت رع حتشبسوت»، وتوفي بعدها هذا الفرعون دون أن يعقب وارثًا شرعيًّا ذكرًا للعرش؛ وبذلك وجدت «حتشبسوت» نفسها بعد ذلك أمًّا لوارثة العرش، ورئيسة البيت المالك التي لا ينازعها منازع، وكانت لا تزال في مقتبل العمر وريعان الشباب، وقد وقع على عاتقها مسألة وراثة الملك في نفس الصورة التي وجدت فيها البلاد بعد وفاة والدها «تحتمس» الأول.

والواقع أن الموقف كان حرجًا، ولا بد من الخروج منه بصورة ترضيها وترضي الشعب المصري، وتدل شواهد الأحوال على أن «تحتمس» الثاني كان ميَّالًا إلى أن يخلفه ابنه «تحتمس» الذي أنجبه من إحدى زوجاته غير الشرعيات المسمَّاة «إزيس»، وقد كان «تحتمس» هذا لا يزال في طفولته لم يبلغ الحادية عشرة وقت وفاة والده؛ والظاهر أن والده كان قد وكَّلَ أمره إلى كهنة مبعد الإله «آمون» لتربيته تربية دينية، غير أنه لم يكن قد أصبح كاهنًا بعدُ، وقد كان تحتمس هذا هو الذي انتُخِب ليكون وارثًا لعرش الملك مع أخته «نفرو رع»، وتحدِّثنا الآثار أن «تحتمس» الثاني هو الذي اختاره وارثًا له كما سيقصه علينا «تحتمس» الثالث نفسه فيما بعدُ على آثاره، والظاهر أن هذا الملك الفتي كان متفانيًا في حب والده، فكان يمقت «حتشبسوت» التي كانت تتجاهل والده مدة حياته، واتخذت من اعتلال صحته فرصة للسيطرة على شئون البلاد، وقد كان لها هي من جهة أخرى حزب يشدُّ أزرها من أشراف البلاد وعظمائها طول عهد زوجها «تحتمس» الثاني، ولم ينفض عنها هذا الحزب بعد موته، بل أخذ يقوي حجتها في تولِّي الملك، غير أنه على ما يظهر لم يكن في مقدورها هي وحزبها أن يمنعوا تتويج الملك تحتمس الثالث؛ لأن حكم النساء كان غير مرغوب فيه.

(١) تحتمس الثالث يتولَّى عرش الملك

وتولَّى «تحتمس» الثالث عرشَ الملك، غير أن الوصاية بحكم التقاليد والشرع كانت لا بد أن تبقى في يد الملكة «حتشبسوت»، ما دام «تحتمس» وزوجه «نفرو رع» لم يبلغَا الحلم، ولم يكن في ذلك ما يدعو إلى الغرابة، وقد حدَّثنا عن ذلك مهندس البناء «إنني» في تاريخ حياته؛ إذ يقول في صراحةٍ: «ثم صعد «تحتمس» الثاني إلى السماء واختلط بالآلهة، ونصب في مكانه ابنه «تحتمس» الثالث ملكًا على الأرضين، وقد صار حاكمًا (تحتمس الثالث) على عرش مَن أنجبه، ولكن أخته (أخت تحتمس الثاني) الزوجة الملكية «حتشبسوت» كانت هي التي تدير شئون الأرضين حسب آرائها هي، وقد كانت مصر تعمل مطأطئة الرأس لها وهي صاحبة الأمر، وهي بذرة الإله الممتازة التي خرجت منه، وأمراس سفينة الوجه القبلي، ومرسى أهل الجنوب، والأمراس الممتازة لمؤخرة سفينة الوجه البحري، وهي سيدة الأمر، وآراؤها متفوقة، وكلتا الأرضين تطمئن عندما تتحدث، وقد جعلني عظيمًا، وملأ بيتي فضة وذهبًا، وكل الأشياء الجميلة الأخرى التي في بيت الملك دون أن أقول: إني في حاجة إلى شيء.»١
وهذا الوصف الرائع يقفنا على جلية الأمر؛ إذ لا بد أن تسير الأمور على هذه الحالة، ولم يكن لأي إنسان ممَّن كانوا ينظرون إلى الموقف من جهته القانونية أن يبدي أي اعتراض، وبخاصة إذا علمنا أن التأريخ كان بسني حكم «تحتمس» الثالث، وقد اتخذ لنفسه الألقاب الملكية الآتية عند اعتلائه عرش الملك، وهي التي يقول عنها في نقوشه فيما بعدُ: إن الإله «آمون» هو الذي اختارها٢ له، (١) فاسمه الحوري = الثور القوي المتوَّج في طيبة، أو الثور القوي الذي ينعم في الصدق، أو الثور القوي محبوب إله الشمس. (٢) ولقبه سيد العقاب والصل = باقٍ في الملك مثل إله الشمس في السماء، ومع هذا اللقب كان كذلك يُلقَّب: جاعل الصدق يضيء، محبوب الأرضين، عظيم القوة في كل الممالك. (٣) ولقبه حور الذهبي = عظيم القوة، متفوق في المظاهر، عظيم الشجاعة، ضارب شعوب الأقواس التسعة. (٤) ولقبه ملك الوجه القبلي والبحري = مثبت وجود إله الشمس. (٥) ولقبه ابن الشمس = «تحتمس»، وكان يضاف إليه أحيانًا الواحد الطيب صاحب الوجود، والواحد الطيب صاحب المظاهر، أمير الصدق، وأمير طيبة، وأمير عين شمس … إلخ.

(٢) ألقاب حتشبسوت قبل تولي الملك

أما «حتشبسوت» فقد كانت تُلقَّب الزوجة الإلهية، والزوجة الملكية العظيمة، وقد ظهرت في النقوش في بادئ حكمه مرسومة خلفه كما كانت والدتها تظهر خلف «تحتمس الثاني». ومما هو جدير بالملاحظة هنا حتى في قبرها الذي أقامته لنفسها حوالي هذا الوقت، أنها لم تتعدَّ أطماعها غير ما سمحت به التقاليد من الألقاب؛ إذ نجد أنها كانت تُلقَّب على تابوتها الأميرة العظيمة التي أُحِبَّتْ لرشاقتها، وسيدة كل الأراضي، والابنة الملكية، والأخت الملكية، والزوجة الملكية العظيمة، وسيدة الأرضين «حتشبسوت»، وقد اعترف بمكانتها بعض كبار رجال الدولة الذين كانوا معاصرين لها ممَّن خدموا البيت المالك منذ أن أسَّسه «أحمس» الأول، ولم يألوا جهدًا في إظهار شعورهم نحوها.

ونخص بالذكر منهم «أحمس نبتخبت» الذي مرَّ ذكره؛ إذ يقول: إن «حتشبسوت» قد أغدقت على الإنعام مرارًا، وقد كنت مربيًا لكبرى بناتها الأميرة «نفرو رع»، وهي لا تزال طفلة تُحمَل على اليدين. وكذلك كتب «إنني» بحماس: «إن جلالتها كانت تحبني، ولحظت قيمتي في البلاط، وملأت بيتي بالفضة والذهب وكل الأشياء الجميلة من البيت الفرعوني.» وكذلك نشاهد أن «توري» حاكم السودان نائب الملك، و«بنياتي» كان لا يزال موكلًا إليه قطع الأحجار في جبل «سلسلة»، وقد بقي «تحتمس» الثالث مدة سبع السنين الأولى بعد تتويجه على ما يظهر هو الحاكم للبلاد، ولم تحاول «حتشبسوت» أن تعلن نفسها ملكة على البلاد، وكل ما لدينا من الآثار يؤكِّد لنا ذلك، غير أنه ممَّا لا شكَّ فيه أن مقاليد الحكم كانت في يدها فعلًا؛ فمثلًا نجد في «سمنة» في بلاد النوبة نقشًا٣ مؤرَّخًا بالسنة الثانية، اليوم السابع من الشهر الثاني من الفصل الثالث، وفي هذا النقش ذُكِرت كل ألقابه، وقد أمر فيه بإقامة معبد وتجديد القربان للآلهة، وهي التي كان قد أسَّسها «سنوسرت» الثالث في عهد الأسرة الثانية عشرة. وقد ذكر لنا «تحتمس» أنه وجد في «سمنة» معبدًا مقامًا من اللبن، ولكنه أقام مكانه معبدًا بُنِي بالحجر الجيري الأبيض، وأهداه إلى الإله «ددون» إله بلاد النوبة، وكذلك إلى روح الملك «سنوسرت الثالث» مؤسِّس هذا المعبد، هذا إلى أنه قرَّر أن العيد المعروف «بهزيمة القبائل» الذي أسَّسه هذا الفرعون، لا بد أن يخلد وأن يكون تاريخ الاحتفال به في اليوم الواحد والعشرين من الشهر الرابع من الفصل الثاني، ثم يتحدَّث إلينا «تحتمس» الثالث عن عيد آخَر يحتفل به في الشهر الأول من الفصل الثالث، ويُحتمَل أن هذا هو عيد تتويج الفرعون. وأخيرًا يذكر لنا عيدًا ثالثًا يُعرَف بعيد «غل المتوحشين»، وهو العيد الذي أسَّسه «سنوسرت» الثالث تكريمًا لزوجه «مرسجر»، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعدُ.

وفي متحف «تورين» توجد بردية (رقم ١)، يذكر فيها كاتب يُدعَى «وسرمان» أنه خدم التاج ثلاث سنوات، وقد أرَّخ الورقة بالسنة الخامسة من حكم تحتمس الثالث، ولم يذكر اسم الملكة «حتشبسوت»، ممَّا يدل على أنه بعد توليته بخمس سنوات لم تعلن «حتشبسوت» نفسها ملكةً شرعيةً على البلاد رسميًّا.

(٣) مدير بيت الإله «سنموت» والدور الذي لعبه مع حتشبسوت

والظاهر أن «حتشبسوت» كانت تفكِّر منذ تولية تحتمس العرشَ في تكوين حزبٍ يضمُّ بين أعضائه كلَّ رجالات الدولة المخلصين، الذين أظهروا مهارةً وحذقًا من أبناء جيلها لتستعين بهم على قضاء مآربها، ولتضرب ضربتها الحاسمة عندما تحين الفرصة، على أنه لم يَفُتْها أن تجعل رجالَ الدولة القدامى لا ينفضُّون من حولها، وقد كان أول مَن وقع اختيارها عليه من شباب عصرها مدير بيت الإله «آمون» المسمَّى «سنموت»، وقد كان شابًّا نَشِطًا يسترعي محياه النظرَ، قادرًا طموحًا، وقد رأى بثاقب نظره أن الفرصة سانحة ليكون لنفسه منذ باكورة هذا العهد الجديد مجدًا خالدًا؛ ولذلك يقول لنا: لقد كنتُ في هذه الأرض تحت إدارة «حتشبسوت» منذ اللحظة التي لاقى فيها سلفها حتفه (أي: تحتمس الثاني)، فلم أضيع أي وقت لاكتساب حظوة الملكة التي كانت تقبض بيدَيْها القادرتين الخلَّابتين على أقدار البلاد وإدارتها.

ولا نزاع في أن «حتشبسوت» قد وحَّدت روحها بروح «سنموت» منذ أن وقع بصرها عليه، وقد كان مستقبلها مرتبطًا تمام الارتباط بأمر الوصاية، ومنذ اللحظة التي وطدت فيها أركانَ الوصاية على العرش بدأ نجم سعد «سنموت» السياسي يظهر في الأفق ويسطع، وقد كان أول خطوة في تمكُّن هذه العلاقة الوثيقة التي أحكمت أواصرها بينهما حقبة توفي على عشرة أعوام، هي أن تجعل «حتشبسوت» خدنها «سنموت» المربي الأول لابنتها الابنة الملكية، وأميرة الأرضين، والزوجة الإلهية «نفرو رع»، وأن يكون بجانب ذلك مدير البيت العظيم لأملاكها وأملاك ابنتها «نفرو رع»، ويُحتمَل كذلك أنه كان قَيِّمًا على أملاك ابنتها الطفلة «مريت رع حتشبسوت»، والواقع أنها بإسنادها كلَّ هذه الوظائف إلى «سنموت» قد جعلته شريكًا فعليًّا معها في حكم البلاد.

ولا نعرف عن ماضي هذا المحظوظ الجديد إلا النزر القليل، وإنْ شئتَ فقُلْ لا نعلم شيئًا البتة، وتدل الأحول على أن والدَيْه لم يكونَا من أصحاب المكانة في الحياة الاجتماعية؛ فقد كان والده يُدعَى «رعموس»، ووالدته السيدة «حات نوفر» وحسب، وكان له ثلاثة إخوة لم يتربَّع منهم واحد مكانةً رفيعة في الدولة إلا «سن من»، وتُعزَى رفعته هذه إلى أخيه «سنموت» الذي عيَّنه مساعدًا في إدارة شئون الأميرات، أما أخوه الثاني فكان كاهنًا بسيطًا لسفينة «آمون» المقدسة، والثالث وهو «با إري» كان يشغل وظيفة «مشرف على الماشية». وقد تزوَّج «سنموت» من اثنتين إحداهما تُسمَّى «نفرت حور»، والظاهر أنه لم يُرزَق أولادًا؛ ولذلك فإنه في أواخر أيامه وكَّلَ لأخيه «أمنحتب» القيام له بأداء الشعائر الجنازية التي كان يقوم بها ابن المتوفَّى حسب التقاليد المصرية المرعية. ويُلاحَظ أن «سنموت» لم يهتم بذكر وظائفه الدينية؛ إذ لم يكن لها علاقة في ترقيه، وإذا ما ورد ذكرها ذكرت بغير اهتمام وبصفة عابرة. والواقع أنه كان يحمل لقب «كاهن السفينة المقدسة للإله آمون» ورئيس كهنة معبد «منتو»، وكان من المعابد الصغيرة وقتئذٍ في بلدة «أرمنت»، هذا ولم تكن تغريه الوظائف الحربية في جيلٍ كانت تسوده السكينة والاستقرار.

وقد كان «سنموت» دائمًا إداريًّا من الطراز الأول، ويُحتمَل أنه بدأ حياته في إدارة ضياع «آمون» بمعبد الكرنك الشاسعة، فلقد كان مع صعود نجمه وعلوِّ منزلته ورفعة مكانته يُعرَف دائمًا بمدير بيت «آمون». والواقع أن كل شيء في إدارة ممتلكات معبد هذا الإله كانت بإشرافه، وكذلك كان المشرف على الغلال والمخازن، والحقول والحدائق، والماشية والعبيد، ومراقب قاعة «آمون»؛ كل ذلك في قبضته بوصفه مدير البيت العظيم، هذا وكان يُلقَّب كذلك المشرف على أعمال «آمون»، وأحيانًا كان يُلقَّب «مدير كل أشغال الملك في معبد «آمون»» أيضًا، ولما رسخت قدمه وأصبح صاحب حظوة في نفس «حتشبسوت» وتمكَّنَ من عطفها، أصبحت تحت إدارته كلُّ ثروة البيت المالك، وقد بدأ بالقيام بوظيفة مدير البيت العظيم للملكتين «حتشبسوت» وابنتها الصغيرة «نفرو رع»، وانتهى به الأمر بعد فترة من الزمن أن أمسى المراقب والمشرف، والمشرف على المشرفين لكل أشغال الفرعون، كما كان كذلك المسيطر على عبيد الفرعون والمالية والأسلحة وقصر التاج الأحمر. يضاف إلى هذه الوظائف العامة الرفيعة وظائف أخرى خاصة كان لا يشغلها إلا المقربون جدًّا، الذين كانت حظوتهم تسمح لهم بأن يشتركوا في الإشراف على إعداد أخصِّ أدوات الزينة الملكية للزيارات الرسمية وغيرها؛ ومن ثَمَّ نجده لا يفخر بأنه حاكم القصر الملكي وحده، بل كان يتيه عجبًا؛ لأنه ملاحظ الغرفات الخاصة والحمام، وحجرة النوم أيضًا. على أن الإنسان بعد أن يأتي على نهاية كل ما سردناه هنا عن قصة «سنموت»، يرى من الصعب عليه أن ينسب ما بلغه من المراتب إلى المهارة والحذق في تيسير الأمور وحدهما، وكثيرًا ما ينسب الإنسان إلى الأشخاص الذين يمثِّلون قصة من القصص أدوارًا لم يقوموا بها قطُّ في الحياة، وهذا هو الواقع في الحالة التي نحن بصددها على وجه خاص؛ إذ قد ذهب الكثيرون في العلاقة التي بين «سنموت» و«حتشبسوت» مذاهب شتى. وفي الوقت الذي كان فيه «سنموت» يجمع الوظائف التي تدرُّ عليه الذهب والفضة تباعًا في الكرنك والقصر، كانت «حتشبسوت» وقتئذٍ المسيطرةَ الوحيدةَ التي لا منازعَ لها في مصر.

fig27
شكل ٢: سنموت يحتضن الأميرة الصغيرة نفرو رع.

(٤) سلطان حتشبسوت والعقبات التي اعترضتها في تولِّي العرش

والواقع أنها منذ موت والدها كانت سيدة الأرضين، أولًا مع أخيها «تحتمس» الثاني الذي كان لا حول له ولا قوة، والآن مع ابنتها الطفلة وابن أخيها «تحتمس» الثالث، وما دام شريكاها لم يبلغَا الحلم، فقد كانت الحاكمة المطلقة في البلاد، ومع ذلك كانت تشعر في قرارة نفسها بأنه لو فُحِص موضوعها بعين العدل بوصفها الوارثة الشرعية لعرش والدها «تحتمس» الأول، لكانت هي الحاكمة المطلقة للبلاد شرعًا من بادئ الأمر، مع أن الفرق بين ما في يدها وبين ما تطمح إليه هو في اللقب وأسلوب الملكية، وقد منعته التقاليد فحرمه النساء، ولم تغتصبه امرأة منذ حكم الملكية «نفرو سبك» في أواخر عهد الأسرة الثانية عشرة.

والواقع أن تولِّي المرأة حكمَ البلاد المصرية كان من الأمور النادرة جدًّا، فقد ذكر لنا هردوت في كتابه عن مصر (الفصل الثاني الفقرة المائة) أن من بين الملوك الذين حكموا مصر وعددهم ٣٣٠ ملكًا، وهم الذين قرأ له أسماءهم أحدُ كهنة منفيس من كتابٍ لم يكن بينهم إلا ملكة واحدة تُسمَّى «نوتكريس»، وهي التي تولَّتِ العرشَ بعد قتل أخيها، وقد ذكر لنا «مانيتون» أنها آخِر ملوك الأسرة السادسة، وكذلك ذكر لنا «أرستاتونيس»، وجاء في ورقة «تورين» أيضًا أنها الخلف الثاني للملك «بيبي» الثاني، وقد كانت مدة حكمها عامًا واحدًا، ويقع تاريخ حكمها في نهاية عهد هام من التاريخ المصري؛ إذ بانقضاء مدة حكمها ينتهي عهد مملكة «منف»، وعلى الرغم من أن هذه الملكة كانت صاحبة شهرة فيما بعدُ في التقاليد المصرية، فإنه لم يصل إلينا شيء قطُّ عن حكمها، غير أن قائمة الملوك التي في متناولنا تحتوي ثلاث ملكات يحملن لقب ملكات شرعيات لبسن التاج. ففي نهاية الأسرة الثانية عشرة نجد الملكة «نفرو سبك» أو «نفرو سبك شدتي» أخت الملك «أمنمحات الرابع» قد تولَّتِ الحكم بعد وفاته (راجع الجزء الثالث من مصر القديمة)، وقد جاء ذكرها في ورقة «تورين» بوصفها ملكة تحمل لقب ملك مصر، أما الملكتان الأخريان اللتان ذكرهما «مانيتون»، فيقع حكمهما في الأسرة الثامنة عشرة، والظاهر من المعلومات التي وصلتنا حتى الآن أن «مانيتون» قد خلط في ترتيبهما التاريخي؛ إذ يقول لنا إن أولاهما قد جاءت في أواخر الأسرة الثامنة عشرة وسمَّاها «أكرفيس» Kerphs، وأنها ابنة الملك «هوروس» والخلف الثاني للملك «أمنحتب» الثالث، ولا بد إذن أن تكون إحدى بنات «أمنحتب» الرابع، غير أن كلتيهما كانت تحمل لقب الزوجة الملكية، ولكن قائمة الملوك «بسقارة»، وقائمة «العرابة» لم يذكرَا لنا اسمَيْ هاتين الملكتين، وكذلك لم يُذكَر فيهما اسم الملكة «نفرو سبك»، يضاف إلى ذلك أن «مانيتون» قد ذكر لنا ملكة تولَّتْ حكم البلاد في وسط عهد الأسرة الثامنة عشرة، وأنها كانت خلف الفرعون «أمنوفيس» الأول الذي حكم البلاد عشرين سنة وسبعة أشهر، وقد حكمت إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر، ثم جاء بعدها الملك «تحتمس» (أي: تحتمس الثالث).
ولا نزاع في أن «مانيتون» يقصد هنا على الرغم ممَّا في قائمته من الخلط والارتباك «الملكة حتشبسوت» = (سيدة النساء الشريفات)؛٤ ومن ذلك يرى القارئ أن حكم النساء كان نادرًا جدًّا في مصر، ولم تعترف به القوائم الرسمية كما ذكرنا. ومع ذلك نجد أن «حتشبسوت» كانت على وشك أن تخطو الخطوة الثانية لتقفز بها إلى عرش الملك رسميًّا، وكان «سنموت» في هذا الموقف يغضي بصره أو يتجاهل ما تريده «حتشبسوت»، بل من المرجح جدًّا أنه كان محرضًا فعَّالًا لها؛ إذ لا يمكن للمرء أن يتصوَّر نجاحها في مثل هذه المؤامرة الجرئية، دون أن يكون مدير خاصتها وبيتها له فيها النصيب الأوفر، بل كيف كان يمكن حدوث تعدٍّ على حقوق هذين الطفلين الملكيين دون اتفاق المربي الأعظم للملكة «نفرو رع» ورضائه التام، أو كيف كان يمكن إقامة أي مبنى في معبد «آمون» على يد غاصب بغير اتفاق ورضى من مدير المباني، وقد كان «سنموت» يشغل كل هذه الوظائف الضخمة، وقد كان مصيره في النهاية أن يقع عليه انتقام «تحتمس الثالث»، والواقع أنه في مثل هذه الأحوال لا يمكن تبرئته من الاشتراك في هذه السياسة المعوجة التي كانت تسير في تنفيذها سيدته التي رفعته إلى تلك المكانة العلية؛ غير أن السؤال الهام الذي يتساءله المرء عن سبب اتخاذ «سنموت» هذه الخطة: أكان ذلك لافتتان «سنموت»، أم كان طموحًا منه إلى مرتبة أعلى ممَّا وصله، حتى إنه ضرب بكل تقاليد القوم عرض الحائط؟

(٥) أسباب ادِّعاء حتشبسوت أحقيةَ عرش البلاد

ومن الجائز أن «حتشبسوت» من جهتها قد أقنعت الشعب بأنها بنت الإله «آمون» نفسه من جهة، وأن والدها قد نصبها على عرش البلاد من جهة أخرى، وجعلها وارثته الشرعية، وقد حاكَ خيالُ الكهنة قصةً طريفةً لذلك قد يكون في ثناياها شيء من الحقيقة، ومن المحتمل أن «حتشبسوت» قد أذاعتها قبل اغتصابها العرش مباشَرةً، لتكون بمثابة دعاية، وقد نقشتها على جدران معبدها «بالدير البحري» الذي يُعَدُّ بناءً فريدًا في بابه، نقشَتْ عليه «حتشبسوت» كلَّ تاريخ حياتها، وما قامت به من جليل الأعمال في حياتها كما سنفصل القول في ذلك بعدُ.

وسنورد هنا ملخصًا لهذه القصة من النقوش التي دوَّنتها «حتشبسوت» فيما بعدُ على معبد الدير البحري، في مناظر لا تزال باقيةً؛ ففي المنظر الأول من هذه المناظر نشاهد فيه مجلسًا من الآلهة يرأسه الإله «آمون»، وقد قرَّرَ فيه الجميع خلق «حتشبسوت»، وفي خلال هذه الجلسة يذكِّر الإله «تحوت» الإله «آمون» بوجود «أحمس» الجميلة زوج الأمير الذي أصبح فيما بعدُ «تحتمس الأول».

ويقترح عليه أن يتقمَّص صورته عندما يكون الأمير غائبًا، وبذلك يمكنه أن يدخل حجرةَ الملكة؛ ثم تحدِّثنا القصة أن الإله «آمون» قد تزَيَّا بزيِّ «تحتمس الأول»، ووجد الملكة في غفوةٍ في قصرها الجميل، فأيقظها شذى عطور الإله الذي استنشقته على الرغم من أنها كانت في حضرة جلالته (الملك) (ظنًّا منها ذلك)؛ وعندئذٍ ذهب إليها في الحال وضاجَعَها، وفرض عليها رغبته فيها، وجعلها تنظر إليه بوصفه إلهًا (بعد أن تمثَّلَ لها بشرًا سويًّا) من أجل ذلك فرحت عندما وقف أمامها وكشف لها عن جماله، وسرى حبه في أعضائها التي غمرها شذى العطر؛ وعندئذٍ قالت الملكة «أحمس» لجلالة هذا الإله «آمون» الفاخر رب طيبة: ما أعظم فخارك! إن رؤية محياك شيء بهي! لقد ألحقت جلالتي بجمالك، وإن روحك قد تمثَّلَتْ في كل أعضائي، وبعد ذلك فعل جلالة هذا الإله كلَّ ما يرغب فيه معها، ثم قال لها: «سيكون اسم ابنتي التي وضعتها في جسمك خنمت آمون «حتشبسوت»؛ لأن هذه هي الكلمة التي خرجت من فمك أنت، وستتولى الملك في هذه البلاد قاطبة، وستكون روحي روحها، وسيكون فضلي فضلها، وكذلك «تاجي» حتى يمكنها أن تحكم الأرضين.»

وبعد ذلك طلب الإله «آمون» مساعدةَ الإله «خنوم» صانع الفخار الإلهي ليصوِّر الطفل في صورةٍ تجمع كلَّ الجمال، وعندما أجاء الملكة المخاض اجتمع الآلهة، ووقف بجانبها القابلات عند الوضع، ولما وضعت الطفلة قدَّمَتْها الإلهة حتحور «لآمون» الذي باركها، وقدَّمها لكل الآلهة قائلًا: «تأمَّلوا أنتم! ابنتي حتشبسوت كونوا محبين لها.» وبعد ذلك نمت جلالتها بسرعة، وقد كان النظر إليها يفوق أي شيء، وقد أصبحت عذراء جميلة مزهرة مثل الإلهة «بوتو» في عصرها٥ (أي: حتحور).

ولا يعزب عن الذهن أن «حتشبسوت» لم تُذِعْ هذه الأقصوصة في عهد والدتها، بل كان ذلك بعد مماتها، فلا بد أن الملكة «أحمس حنت تاوي» قد ماتت وابنتها لا تزال تحمل لقب الزوجة المقدسة والزوجة الملكية العظيمة، فلم تَرَ ابنتها ملكة رسمية.

وكانت «حتشبسوت» تقصد من نشر هذه القصة التي ذكرناها هنا غرضين: الأول لتثبت أنها كانت ابنة تحتمس الدنيوية، والثاني أنها ابنة الإله «آمون» من جسمه؛ وذلك لأن دمها الملكي لم يكن خالصًا بالمعنى الحقيقي من جهة والدها؛ لأن جدتها عن أبيها لم تكن من دم ملكي، بل كان يعرف عنها أنها كانت من عامة الشعب، وبعد مرور عدة أعوام على ذلك أمرت بنقش وثيقة تثبت فيها أن والدها «تحتمس» الأول قد نصبها على ملك مصر في حفل عظيم من عظماء الشعب؛ إذ تدَّعِي فيها أن «تحتمس» الأول أرسل إليها وهي لا تزال طفلة، وقال لها:

تعالي لأضمَّ بهاءكِ بين ذراعي لأجل أن ترى إدارتك في القصر (بعد أن رأتها مع والدها في أنحاء البلاد)، فتقومي بأعمالك الشرعية الفاخرة، وتتسلَّمي شرفك الملكي، وإنك ستصبحين ممتازة بسحرك، وستصبحين غنية بقوتك، وإنك ستسيطرين على الأرضين، وإنك ستتغلبين على العصاة، وإنك ستشرقين في القصر وسيتحلى جبينك بالتاج المزدوج، وستسرين بإرثك لي، وإنك وُلِدت لي، وأنت يا أخت التاج الأبيض، والتي تحبها «وازيت» (صاحبة التاج الأحمر)، وسيقدم إليك التيجان مَن يجلس على عروش الأرض (آمون)، وقد أمر جلالتي أن يحضر أشراف الملك، والأعيان، والسمار، ورجال البلاط، ورءوس كبار المدنيين؛ لأعلن لهم مرسومًا بأن جلالتي قد ضمَّ بين ذراعيه جلالة ابنتي هذه في قصرها مقر الملك، وقد عقد الملك الجلسة بنفسه في قاعة طائفة «أمي ورت» (طائفة من الكهنة)، وقد كان هؤلاء القوم ساجدين على بطونهم في البلاط، فقال لهم جلالته: إن ابنتي هذه «خنمت آمون» «حتشبسوت» لها الحياة، أنصبها بوصفها نائبتي، وعلى ذلك فهي وارثتي في الملك، وهي التي ستجلس على عرش المدهش، وهي التي ستأمر وتنهى الرعايا في كل وظائف القصر، وهي التي ستقودكم فاسمعوا كلامها، فهي التي تربطكم بأوامرها، فمَن يقدم لها الطاعة فإنه سيعيش، أما مَن يقول سوءًا في حقها فإنه سيموت، وكل مَن يسمع اسم جلالتها عندما تعين ينبغي عليه أن يأتي وينادي بها ملكةً مثل ما كان يفعل عندما يسمع اسمي؛ وذلك لأن هذه الإلهة هي ابنة إله، والآلهة هم الذين يحاربون لها، وهم الذين يحوطونكم بحمايتهم كل يوم كما أمر والدها سيد الآلهة «آمون».

الشعب يرحب بالملكة حتشبسوت ويعترف بها ملكة: وعلى ذلك سمع أشراف الملك وأصحاب المقامات ورءوس المدنيين، هذا الأمرَ الخاص بإعلاء شأن ابنته ملكة الوجه القبلي والوجه البحري «ماعت كارع» لها الحياة مخلدة، فقبَّلوا الأرض تحت قدمَيْها، ووقعت كلمات الملك في نفوسهم، ودعوا كل الآلهة لملك الوجه القبلي والوجه البحري «عا خبر كارع» (تحتمس الأول) عاش مخلدًا، ثم خرجوا فَرِحين راقصين مغتبطين من عنده، وقد سمعهم كل الناس وكلُّ مَن في حجرات القصر الملكي، وقد أتوا وهلَّلوا وفرحوا بذلك أكثر من كل شيء، وقد كانت كل حجرة تختلف عن الأخرى (في إظهار فرحها)، وكان الجنود يأتون طائفة بعد أخرى يرقصون ويقفزون وقلوبهم فَرِحة، وقد أعلنوا اسم جلالتها ملكة، ولكن جلالتها كانت لا تزال صغيرة السن؛ والإله العظيم قد استمال قلوبهم نحو ابنته «ماعت كارع» عاشت مخلدة، ولقد كانوا يعرفون أنها حقيقة ابنة إله، وقد دهشوا من شهرتها العظيمة أكثر من أي شيء آخَر؛ ولذلك كان كل إنسان يحبها من قلبه، ويدعو لها كلَّ يوم، وكلُّ مَن … وسيكون نضرًا أكثر من كل شيء؛ وكل إنسان يذكر (بسوء) جلالتها يقرِّر الإله موته في الحال؛ لأن الآلهة هم الذين يحوطونها برعايتهم كلَّ يوم.

وهكذا سمع جلالة والدها هذا، ورأى أن كل الشعب قد أعلن اسم ابنته هذه ملكةً، مع أن جلالتها كانت لا تزال طفلة؛ ومن أجل ذلك فرح قلب جلالته أكثر من كل شيء آخَر، وأمر جلالته بإحضار المرتِّلين ليعلنوا اسمها العظيم بتسلُّمها شرفَ ملك الوجه القبلي والوجه البحري، وأن اسمها يختم به في كل الأعمال الخاصة بعيد ضمِّ الأرضين والطواف حول الجدار، ولأجل زينة كل الآلهة الموحدين للأرض؛ لأنه علم أن من الخير الاحتفال بالعيد في يوم رأس السنة بمثابة بداية سنين طيبة، وأن تحتفل لها في ملايين السنين بأعياد ثلاثينية عديدة جدًّا، وعلى ذلك أعلنوا أسماءها ملكة الوجه القبلي والوجه البحري.

هذا ما ادَّعَتْه «حتشبسوت» لنفسها في دعايتها التي قامت بها لأجل اعتلاء العرش، ويرى القارئ من ذلك أنها كانت على عرش الملك منذ حياة والدها، أيْ إنها كانت شريكةً له في حياته، هذا فضلًا عن أنها في نقوش أخرى تدَّعِي أن والدها قد درَّبها على صناعة الملك قبل أن يعلنها ملكة.

(٦) تولِّي حتشبسوت عرشَ الملك فعلًا

غير أن الواقع لا يتفق مع هذه الأقصوصة الجميلة؛ إذ ظلَّتْ بعيدةً عن تولِّي عرش البلاد بصفة حقيقية طوال مدة حكم زوجها «تحتمس الثاني»، وسبعة أعوام من حكم ابن زوجها «تحتمس الثالث»، وعندئذٍ كانت قد أحكمت مؤامرتها، واعتلَتْ عرشَ البلاد مدة ثلاثة عشر عامًا انزوى في خلالها «تحتمس» الثالث، فلم يسمع عنه التاريخ إلا في مناسبات قليلة.

وقد ظل الشكُّ يحوم حول العام الذي أعلنَتْ فيه «حتشبسوت» نفسها ملكةً شرعيةً على البلاد، وإنْ شئتَ فقُلْ: العام الذي اغتُصِب فيه الملك من ابن زوجها وابنتها الشرعيين، إلى أن كشف «لانسج» و«هايس» في شتاء عام سنة ١٩٣٦ عن قبر والدي «سنموت»، وممَّا وجد في هذا القبر أمكنه أن يحدِّد التاريخَ الذي اغتصبت فيه «حتشبسوت» عرشَ الملك، وقد حدده بين منتصف الشهر الأول من فصل الزرع، أو منتصف الشهر الثاني منه، في السنة السابعة من حكمها، أيْ حوالي ١٥ يناير أو ١٥ فبراير سنة ١٤٩٤ق.م، وفي هذا التاريخ أعلنت نفسها ملكة الوجه القبلي والوجه البحري، ومن ثَمَّ عرفت بذلك، ولا ندري لماذا تجرَّأَتْ «حتشبسوت» على اتخاذ هذه الخطوة دون أن تتبعها بما يليها من خطوات كان لا بد منها في مثل هذه الأحوال، وأعني بذلك القضاء على ابن أخيها جملةً، ولكنها وقفت عند هذا الحد، وتركت «تحتمس» الثالث يعيش في عزلة وفي أمان، ولكنه موحش، وقد كان اسمه يُذكَر أحيانًا على الآثار بصفة ثانوية، ولكن لا يُذكَر إلا بعد اسمها الذي كان يحتلُّ المكانةَ الأولى. والواقع أن «حتشبسوت» لم تكن سفَّاحةً ولا محاربةً، وما وصل إلينا من المعلومات عنها يدل على أنها كانت بعيدة عن العنف، ولم يكن حبُّ سفك الدماء من طباعها، ويمكن أن نستخلص ذلك من شخصيات الذين كانوا ملتَفِّين حولها، ويسيرون في ركابها، ونخصُّ بالذكر منهم «سنموت» و«حبوسنب» و«نحسي» و«توري»، وهم كهنة ورجال إدارة لا رجال حرب وسفك دماء، وسنتناول الكلام عنهم في حينه، على أن الحملة الوحيدة التي قامت بها كانت حملة سلمية أرسلتها إلى بلاد بنت بعد اغتصابها الملك كما سيأتي شرحه.

(٧) أعمال حتشبسوت

(٧-١) إقامة معبدها الجنازي المعروف باسم الدير البحري

أما باكورة أعمال «حتشبسوت» هي ورجل ثقتها عند بداية هذا العهد الجديد من تاريخ حياتها، فتمتاز بالمنهاج الضخم لإقامة معبدٍ كان الغرض منه دعاية سياسية قبل كل شيء، فقد كان المعبد الذي وضع «سنموت» تصميمه، وأتمَّ بناءه يُعَدُّ أكبر دعاية وأخلد عمل على مرِّ الدهور كُتِب بالحجر وعلى الحجر لتبرر اغتصابها للعرش، وقد كان غرضها أن تنقل جثمان والدها من قبره الذي جهَّزَه له مديرُ المباني «إنني» كما أسلفنا، إلى قبر جديد في «وادي الملوك»، على أن يُوضَع فيه جثمانها بعد وفاتها مع جثمان والدها الذي خلفته على عرش الملك متجاورين في تابوتين منفصلين، وأن تقام لهما الشعائر الجنازية في المعبد الذي أخذت في إقامته في الوادي؛ يضاف إلى ذلك أنها اعتزمت تخصيصَ رواقٍ يُنقَش على جدرانه مناظر تلك الأقصوصة المدهشة، التي كان الغرض منها إظهار «حتشبسوت» بمنظر الملكة التي أنجبها الإله الأعظم من ظهره، وأن الإله «آمون» ووالدها «تحتمس» الأول اشتركَا معًا في تتويجها ملكة شرعية على عرش مصر في حياة الأخير. يضاف إلى ذلك أنه لما كان والدها «آمون» سيشاركها هو ووالدها «تحتمس» الأول في هذا المعبد، فقد خصَّصَتْ أروقةً أخرى فيه ليُنقَش عليها مناظر تظهر فيها تعبُّدها وإخلاصها البنوي للإله، وقد تمثَّلَ ذلك التقى والتعبُّد في صورة الحملة التي أرسلتها إلى بلاد «بنت» في العام التاسع من حكمها، ثم في نقل المسلات من أسوان في السنة السادسة عشرة من سني توليها العرش.

وقد اختارت لإقامة هذا المعبد الجون العظيم الواقع في صخور صحراء لوبية عند الدير البحري، حيث أقام «منتوحتب» الثاني معبده منذ حوالي ستمائة سنة مضَتْ (راجع مصر القديمة ج٣)، ولا بد من أن معبد «منتوحتب» كان قد تهدَّمَ في ذلك الوقت بعض الشيء، ولكنه على أية حال كان نموذجًا يمكن مهندس الملكة أن يهتدي به في إقامة معبدها، غير أنه قد تدركه الخيبة في تقليده إذا لم يراعِ الحدودَ التي تفرضها طبيعةُ المكان الذي سيقام عليه البناء عند إنشائه من حيث الذوق والتأثير. ومنذ أن كشف عن معبد «منتوحتب» وتصميم بنائه، صار من المعتاد أن ينكر المهندسون على واضِع تصميم معبد «حتشبسوت» أيَّ ابتكارٍ في إقامة هذا المعبد، فمثلًا يقول الدكتور «هول»: «إن معبد «حتشبسوت» كان تقليدًا محضًا لمعبد سلفها، وإليه يرجع الفضل في تصميمه لا إلى الملكة أو مهندسها «سنموت».» غير أن هذا الحكم مبالغ فيه، حقًّا قد يكون مهندس «حتشبسوت» قد أخذ فكرة المعبد المدرَّج من بناء المعبد القديم الذي كان يقام معبد الملكة بجواره، غير أن هذا كل ما أخذه «سنموت» عن تصميم المعبد القديم. نعم، قد يكون «سنموت» قد عظمت في عينه فكرةُ هذا البناء عندما رآه وأخذ الفكرة عنه، وهذا بلا شك دليلٌ على حُسْن ذوقه، ولكن القول بأنه لم يُظهِر أيَّ عبقرية في إقامة البناء العجيب الذي شيده للملكة، كمَن ينكر على شاعر أخذ فكرة عن شاعر آخَر، وصاغها في قالب شعري خلَّاب يفوق القالب الذي احتذاه صناعةً ولفظًا وتنسيقًا.

fig28
شكل ٣: معبد الدير البحري.

والواقع أن «سنموت» بعد أن أخذ فكرةَ المعبد عن المهندس «ارتسن» سلفه (باني معبد منتوحتب الثاني)، عمل على تفخيمها وتنسيقها حتى أخرج للناس بناءً يمتاز عن سابقه في كل شيء إلا أعمال البناء نفسها، فعلى الرغم من أن المعبد الذي أقامه المهندس «ارتسن» على ما يقال يروق بهاؤه الناظرين إليه على حدة، فإنه عندما يقرن بمعبد «حتشبسوت» الذي يدل درجه المتتابع ومنحدراته الطويلة وأعمدته الأنيقة على حسن ذوق مهندسه، يظهر كأنه جذع شجرة بقي مغروسًا في الأرض إلى جانب شجرة نامية الأغصان وارفة الظلال، ومعبد «منتوحتب» كما هو يشتمل على منحدر واحد وطبقتين، ويشغل الجزء الجنوبي من جون للدير البحري العظيم، وقد تُرِك متسع عظيم في جهته الشمالية للمعبد الذي أقامته «حتشبسوت».

سنموت وتصميم معبد الدير البحري

وقد كان التصميم الذي قدَّمه «سنموت» للملكة عظيمًا، على الرغم من أنه أخذ فكرة إقامته في هذه البقعة عن سلفه؛ لأنه توسَّعَ فيه بطريقةٍ ابتدَعَ فيها شيئًا جديدًا من الدقة والتأثير، فقد كان الإنسان يصل إلى طبقاته الثلاث بمنحدرات خفيفة الميل، تُشعِر الناظر بأن المهندس قد أراد أن يجعل مبناه يكاد يكون أفقيًّا في هيئته الخارجية، بما أظهره من المهارة في جعل تدرجه لا يُحَسُّ. هذا إلى أن تناسُبَ قاعات العمد التي تواجه هذه المدرجات تكشف لنا كما يقول الأستاذ «برستد» عن حاسة التناسُب والتنسيق المتقن، ممَّا يدحض القول السائد بأن الإغريق هم أول شعب فهم فن تنسيق قاعات العمد الخارجية في المباني، وأن المصريين لم يعرفوا إلا استعمال العمد داخل مبانيهم وحسب، وقد دلَّتِ الحفائر التي عُمِلت حديثًا على أن «سنموت» قد أزال بعض المباني الدينية التي كانت موجودةً لإقامة معبد «حتشبسوت»، منها معبد صغير للملك «أمنحتب الأول» ووالدته «أحمس»، وكذلك معبد صغير من عهد الأسرة الحادية عشرة.٦

وقد زُيِّن الطريق الذي يبتدئ من باب المعبد شرقًا إلى مسافة نحو ٥٠٠ متر، حتى يصل إلى باب آخَر وجدت آثاره بتماثيل «بو الهول» في صورة الملكة نفسها على كلا الجانبين، وقد كان الرواق السفلي كذلك مزيَّنًا بمثل هذه التماثيل، وظاهرٌ أن تحتمس الثالث أزالها من أماكنها، عندما تربَّعَ على عرش الملك ثانيةً؛ وقد عثر على بعض أجزاء منها. هذا وقد عثر على تماثيل الملكة في صورة «أوزير»، واحد منها في النهاية القصوى من الرواق السفلي، وكذلك كان يوجد واحد منها في الرواق الأعلى، وفي قاعة العمد وُجِدت عدة كوًى كانت تحتوي تماثيل للملكة في صورة «أوزير».

وكان الرواق الأعلى في المعبد مؤلَّفًا من صفٍّ من تماثيل «أوزير» تمتد على طول المعبد، ويمكن للآهلين أن يروها عندما يعبرون إلى الشاطئ الشرقي من عند معبد الكرنك،٧ والواقع أن الطريق التي كان لا بد أن يمرَّ فيها موكب الإله «آمون» من الفخامة بقدرٍ عظيمٍ، وذلك عندما يقوم بزيارته من معبد الكرنك إلى معبد الدير البحري في وقت «عيد الوادي» المشهور، فقد كانت تماثيل «بو الهول» مصفوفةً على جانبي الطريق، كل منها رابض على قاعدته التي يبلغ ارتفاعها نحو ثلاثة أمتار، وعرضها نحو متر، مزيَّنة بإطاراتٍ صُوِّر عليها أسرى يرسفون في الأغلال، فكانت هذه التماثيل تصور أمام الناظر موكبًا مترامي الأطراف مؤلَّفًا من تماثيل أسود، نرى فيها قوة الفرعون تسيطر على مدن العالم المغلوبة على أمرها. ولا شك في أن هذه التماثيل حينما كان يسطع عليها شمس مصر في سمائها الصافية، تمثل صورة رائعة لما كان لمصر من قوة خارقة للعادة في ذلك العهد، ولكن لا نكاد نتأمَّلها حتى ندرك أن ذلك وَهْم كاذب، فإن ذلك البطل الفاتح الذي صُوِّر في هيئة أسد ذي لحية، هو في الواقع امرأة قد جلست على عرشها بمساعدة شرذمة قليلة من رجال البلاط، ومن المحتمل أنها لم تَرَ جيشًا غازيًا قطُّ، ومع ذلك نراها مرسومة وهي تطأ الأعداء بقدمَيْها، حتى أولئك الآشوريون الذين يسكنون في الجهات النائية غير المعروفة، ولا شك في أن هذا نوع من الزهوِّ لم يكن يحقُّ حتى لتحتمس الثالث أن يفاخر به.

وهكذا تضيع الحقائق التاريخية أحيانًا عندما تختلط بالفخر وحب الظهور، وبخاصة في التاريخ المصري المفعم بمثل هذه المناظر الكاذبة، وقد عُثِر على بقايا أكثر من مائة وعشرين تمثالًا من هذه التماثيل التي تمثِّل الملكة في صورة «بو الهول»، غير أنه لم يوجد منها واحد سليم، كما لم يمكن جَمْع أجزاء تمثال واحد منها؛ فقد أمر «تحتمس الثالث» بتحطيمهما جميعًا، وشتَّتَ أجزاءها في جهات مختلفة، وكانت كل هذه التماثيل تؤلِّف عنصرًا من عناصر بناء المعبد، اللهم إلا تمثالًا واحدًا من المرمر كان في مقصورة الملكة، فكان بعضها لتزيين الطريق المقدَّسة المؤدِّية للمعبد على كلا الجانبين، وكان البعض الآخَر مُقامًا في صور عمد في الأروقة، وبخاصة الرواق الأعلى فإن أعمدته كانت تتألَّف من تماثيل الملكة في صورة أوزير.

ومن التماثيل الطريفة التي وُجِدت: بقايا تمثال لمربية الملكة، وقد مُثِّلت جالسةً تحمل صورةً مصغَّرةً لملك،٨ وهذه المرضع تُدعَى «ين»، وقد نُقِش على ظهر التمثال أنه عمل لأجل مربية الملكة «ماعت كارع» (حتشبسوت)، غير أننا لم نعثر على تمثال مربيتها الأولى «ست رع» التي كانت تُعَدُّ من أكبر الشخصيات حظوةً عندها، وهم الذين كان على رأسهم «سنموت».

(٧-٢) الحملة على بلاد بنت

الغرض من الرحلة

بعد أن بدأت الملكة «حتشبسوت» في إقامة معبدها الجنازي الذي أرادت أن تدوِّن على جدرانه كلَّ ما قامت به من جليل الأعمال لوالدها «آمون»، ثم لنفسها، فكَّرَتْ في إرسال حملة سلمية إلى «بلاد بنت» لتحضر منها الأشجار ذات الروائح العطرية التي اشتهرت بها تلك البلاد النائية، وهي التي كانت تُعَدُّ في نظر المصريين بلادَ الآلهة، على أن فكرة الرحلة إلى هذه البلاد كما رأينا من قبلُ لم تكن بالأمر المستحدث لدى ملوك مصر؛ إذ الواقع أنها قد عملت عدة مرات في عهد الدولة القديمة، والدولة الوسطى، وقام بها بحَّارة مصريون (راجع مصر القديمة جزء٣). ولا شك في أن هذه البلاد كانت ذات قيمة عظيمة للمصريين؛ وبخاصة لأنها كانت منبع شجر المر (عنتي) الذي كان يُستعمَل بخورًا في الاحتفالات والشعائر الدينية، هذا فضلًا عن أنها كانت تمدُّ المصريين بمنتجات أخرى مثل التبر والأبنوس والعاج والحيوان، يضاف إلى ذلك أن المصريين كانوا يعتقدون أن لهم علاقةً قديمةً بهذه البلاد، وأنهم من نفس الجنس الذي تألَّفَ منه شعب «بنت»، فقد كان رجال شعبها يُرسَمون بلحًى تقليدية طرفها مقلوب كالتي يلبسها الآلهة المصريون، وكانت البلاد نفسها تُسمَّى في الأدب المصري الأرضَ المقدسةَ أو أرض الإله؛ غير أن الرحالات بين البلدين كانت قد انقطعت أسبابها لمدة طويلة من الزمن، وقد يُعزَى هذا إلى حالة البلاد التي كانت في اضطراب قبل عهد الهكسوس مباشَرةً وفي خلال حكمهم، وقد دبَّرَ شئون هذه الرحلة الكاهن الأعظم «حبوسنب»، ومن المحتمل أنه هو الذي وضع فكرتها؛ لأنه يقال إنها قد جاءت على لسان وحي «الإله آمون» وهو كاهن أكبر، وقد نُقِشت خطواتها ذهابًا وإيابًا على الجدار الذي يقسم الرواق الأعلى من المعبد، وبداية المنظر على يمين الناظر إذ يرى الإله «آمون» جالسًا.٩

ونشاهد كذلك الملكة تقصُّ ما قاله الوحي فاستمع إليه: «كان جلالة الملك يتضرع إلى رب الآلهة (آمون رع) عند درج مائدة قربانه، وعندئذٍ سمع أمرًا من العرش العظيم؛ إذ يقول وحي من الإله نفسه إنَّ طُرُقَ أرض بنت ستُقتحَم؛ وإن الطُّرُق العامة إلى الهضاب التي تنتج أشجار البخور ستُخترَق، وإني سأقود الحملة بحرًا وبرًّا لتُحضَر الأشياء العجيبة من تلك الأرض المقدسة لهذه الإلهة (حتشبسوت)؛ ولأجلي أنا مبدع جمالها.»

قيام الحملة

وقد وُضِع على رأس هذه الحملة رئيس الخزانة، ويُدعَى «نحسي» (= العبد)، وكانت الحملة تتألَّف من خمس سفن كبيرة شراعية يمكن عند الحاجة تسييرها بالمجاديف، ولما كانت تفاصيل رسم هذه السفن كما نشاهدها على جدران المعبد تُشعِر بأنها تشبه السفن الشراعية التي كانت تسير في النيل، وأنه ليس لدينا ما يوحي بأية عملية نقل، فلا بد إذن أن يفرض المرء أن هذه الرحلة قد عُمِلت في النيل، ومن ثَمَّ سارت في قناةٍ تخترق وادي طليمات إلى البحيرات المرة، ومن ثَمَّ إلى البحر الأحمر، أما في الأزمان القديمة فقد كان المعتاد أن تبدأ الرحلة من قفط على النيل، ثم تخترق الصحراء عن طريق وادي الحمامات المشهور بمحاجره إلى «القصير» الواقعة على ساحل البحر الأحمر، وهناك كانت تُبنَى السفن ليركبها رجال الحملة إلى بلاد «بنت»، ولكن هذه القناة التي سبقت قناة السويس الحالية، وهي التي نسمع عنها بعد ذلك بقرون قليلة على وجه التأكيد، يُحتمَل أنها كانت موجودةً فعلًا في عهد «حتشبسوت». وبعد ذلك تخبرنا النقوش أن الحملة وصلت إلى بلاد «بنت»، وعلى الرغم من أن الميناء التي رست عليها الحملة ليست معروفة، فإن المناظر التي رُسِمت على معبد الملكة تُظهِر لنا أن الأشجار فيها كانت متصلة حتى شاطئ الماء، ممَّا يدل على أنها كانت بعيدةً بعض الشيء عن مصبِّ النهر، الذي يُحتمَل أن يكون نهر الفيل الذي يقع بين رأس الفيل ورأس جردافوي. أما أكواخ السكان التي كانت تُبنَى تحت ظلال الأشجار فكانت من أشجار الدوم، وعلى شكل خلية النحل، وكان كلٌّ منها مُقامًا على طوار عالٍ يرتكز على أوتاد دُقَّتْ في الأرض، وكان الإنسان يصل إلى باب الكوخ بسلم، وربما كان ذلك لوجود الماء في هذه الأماكن، أما السكان فكانوا من صورهم يمثِّلون ثلاث سلالات مختلفة، اثنتان منها من الجنس الأسود الزنجي، أما السلالة الثالثة فكانت تُنسَب إلى الشعب المصري وهو الجنس السائد؛ وذلك لأن المصريين قد لوَّنوا أجسام هذه السلالة باللون الذي انتخبه المصريون لأنفسهم، وهو اللون الأحمر، وهذه السلالة الأخيرة المنتسبة للجنس المصري كان أفرادها يلبسون لحية مستعارة صغيرة أسطوانية الشكل، وهي تشبه اللحية المستعارة التي يلبسها الآلهة المصريون، ولكن كانت وجوههم حليقة تمامًا، وكانت شعورهم ترجل على الطريقة المصرية، وكذلك كانوا يلبسون القميص المصري القصير وحسب، وكانوا يستعملون الحمار لحمل أثقالهم، وكانت تحرس أكواخهم كلابٌ بيضٌ مرخية الآذان، وقد شُوهِدت كذلك النسانيس والقِرَدة يتسلَّقون فروع الأشجار ويقفزون من غصن إلى غصن، كما نجد كثيرًا من الطيور ممثَّلة، وقد شُوهِد في هذه البلاد الفهود وأفراس البحر والزرافة وغير ذلك من الحيوانات الأفريقية، ويُحتمَل أن أكواخ القوم قد أُقِيمت عاليةً تفاديًا من هذه الحيوانات الضارية التي كانت تأوي إلى الأدغال التي كانوا يسكنونها، أو اتِّقاءً لضرر رطوبة المكان الذي أُقِيمت عليه.

الوصول إلى بلاد بنت

وعندما رست سفن الحملة عند الشاطئ، نزل قائدها «نحسي» إلى الشاطئ أعزل، ولكن كان يتبعه حرسٌ من الجنود يحملون الحراب «والبلط» والقوس والنشاب والدروع، وبعد ذلك أُنزِلت الهدايا من السفن، واستُعرِضت بصفة مغرية على أخونة منخفضة؛ فنشاهد عليها معروضًا السماط من الخرز والأساور والخناجر «والبلط»، والصناديق المصنوعة من الخشب، وفي الحال حضر رئيس البلاد إلى البقعة التي عُرِضت فيها هذه الأشياء، وقد كُتِب على صورته عظيم «بنت» «برحو»، ولما كانت كلمة «برحو» قد تعني فقط متكلم القبيلة، فإنها قد لا تكون الاسم الحقيقي الذي كان يُدعَى به، وقد كانت تتبعه زوجه، وهي امرأة قد بدأ الكبر يبدو على محياها، وترتدي ملابس صفراء، ولا بد أنها كانت بدينةً فوق المعتاد في شبابها، ثم زالت عنها تلك البدانة المفرطة فارتخى جلدها، وتدلَّى في تجاعيد بعضها فوق بعض، وقد اتَّخَذَ المثَّال المصري من ساقَيْها القصيرتين، وفخذيها الضخمتين، موضعًا لتمثيلها بشيء من المبالغة الفكهة، وقد كتب فوقها: زوجة «إتي»، وهنا كذلك نعرف أن كلمة «إتي» قد تعني رئيسة؛ لذلك لا يُحتمَل أن هذا هو اسمها العَلَم، ويلاحظ خلفها ولدان وابنة، وقد مُثِّلوا ضخامَ الأجسام مثل والدتهن، وبعد ذلك يأتي ثلاثة أتباع يقودون حمارًا مسرجًا، وقد كتب فوقه المثَّال المصري: «الحمار الذي كان يحمل زوجه» (أي: زوج الرئيس)، وقد كتب فوق المنظر الذي يمثِّل هذه المقابلة التي كانت تتمثَّل في رجال الحملة والأهالي، ما يأتي: «وصول السفير الفرعوني إلى أرض الإله ومعه الجنود الذين يساعدونه، ومقابلته رؤساء «بنت»، ثم مجيء رؤساء بنت ليقدِّموا الطاعة برءوس خاشعة ليستقبلوا أولئك الجنود التابعين للفرعون، وقد قدَّموا المديحَ لرب الآلهة (آمون رع) … وعندما كانوا يلتمسون الأمان قالوا: لماذا أتيتم هنا إلى هذه الأرض التي لا يعرفها قوم (مصر)؟ هل نزلتم من مسالك السماء أم هل سحتم في ماء ذلك البحر الذي يملكه إله البلاد؟ أم هل سلكتم سُبُل إله الشمس؟ أما فيما يخص ملك مصر، أليس لجلالته طريق حتى يمكننا أن نذهب إليه ونعيش بالنفس الذي يمنحه.»

وقد نشأت بين الطرفين علاقات ودية، وعلى ذلك ضرب القائد المصري خيامه، وفيها أقام وليمة لضيفانه، وهنا تقول النقوش المفسِّرة: لقد نُصِبت خيمة السفير الملكي وجنوده في خمائل «بنت» ذات الشذى العطر، بالقرب من ساحل البحر لأجل أن يستقبلوا رؤساء هذه البلاد، وقد قُدِّم لهم الخبز والجعة والخمر واللحم والفاكهة، وكل شيء يوجد في مصر حسب التعليمات التي أعطاها البلاط. أما الرؤساء فأحضروا معهم هدية: أختام من الذهب، وعصي للصيد، وكومة عظيمة من راتنج (البخور)، وهو الذي يقدِّره المصريون بدرجة عظيمة.

شحن السفن بمنتجات بلاد بنت

أما الحادث الثاني الذي سنضعه هنا فهو شحن السفن بمنتجات البلاد المختلفة، مثل: العاج، والأبنوس، والأخشاب الأخرى، وجلود الفهد، والذهب، والبخور، والقِرَدة الحية، والنسانيس، وبخاصة أشجار البخور التي نُقِلت بجذورها محفوظةً في سلات وقدور من الفخار، والنقوش التي على هذا المنظر كالآتي:

شحن السفن بحمولة ثقيلة جدًّا بالأشياء العجيبة من أرض بنت وهي: كل الأخشاب الجميلة الغالية من أرض الإله، أكوام من راتنج (البخور)، وأشجار البخور المزهرة، والعاج، والعاج النقي، وبالذهب الأخضر (الناعم) من أرض «أمو»، وبخشب القرفة، وخشب خسيت (نوع من الخشب لم يُعرَف أصله غير أنه ذكي الرائحة) والبلسم (؟) (أموت) والراتنج، والتوتية، والنسانيس، والقِرَدة، والكلاب، وجلود الفهود الجنوبية، ومواطنين من سكان هذه البلاد وأولادهم، ولم يُؤْتَ بمثل هذا لأيِّ ملك وُجِد منذ الأزل.

fig29
شكل ٤: الجنود المصريون في بلاد بنت.

عودة الحملة إلى مصر

وبعد ذلك عادت الحملة، وعندما رست نجد السفن المحملة وحقائب البخور مرصوصة على ظهر السفن، وأشجار البخور في قدورها مزهرة، والقردة والنسانيس تتسلق أمراس السفن وغير ذلك.

والنقش الذي يتبع هذا المنظر يقول: «السياحة (إلى الوطن) والوصول بسلام: إن السياحة إلى طيبة قد قام بها بقلب فَرِح جنودُ ربِّ الأرضين، ورؤساء هذه الأرض (بنت) وخلفهم، وقد أحضروا معهم أشياء لم يحضرها من قبلُ أيُّ ملك …» ويلي هذه مشاهدة رئيس «إرم» و«إلم» ورئيسي «تميو» وهما قبيلتان غير معروفتين من بلاد بنت يتبعهما رجالهما، وكلهم قد ركعوا أمام «حتشبسوت» مقدمين لها الهدايا. والآن ترى بصورة أكثر تفصيلًا الأنواع العظيمة المختلفة من منتجات هذه البلاد، والمخلوقات الحية التي أُتِي بها إلى مصر؛ فقد كانت تحتوي على نوعين من الثيران ونوعين من الفهود، واحد منها يظهر أنه كان أليفًا؛ لأنه مُثِّل وحول رقبته طوق وله رسن، وزراف ونسانيس وقردة، وأشجار بخور نامية، وأخشاب ثمينة مثل الأبنوس والعاج، والتوتية للتكحُّل بها، وحقائب من البخور، وذهب وفضة، وسام ولازورد، وفيروزج، وأصداف، وعصي صيد، وغيرها؛ ثم قدمت الملكة «حتشبسوت» كلَّ هذه الأشياء إلى الإله «آمون»، وتنص النقوش هنا على أنها أشرفت على وزن الراتنج والمعادن الكريمة، وكانت جلالتها تعمل بيديها، فوضعت أحسن العطور على أعضائها، حتى إن عبيرها كان كالأنفاس القدسية، وانتشر شذاها حتى اختلط بشذى أرض «بنت»، وكان جسمها مرصَّعًا بالسام يسطع كالنجوم في قبة السماء على مرأًى من كل الأرض؛ فعمَّ الفرح كل الشعب، ودعوا إلى رب الآلهة، وامتدحوا صفات «ماعت كارع» الإلهية لما حدث لها من معجزات عظيمة؛ إذ لم يحدث مثل ذلك في عهد أي آلهة قبلها منذ الأزل.

وفي مقابل ذلك فرض أن «آمون» أجابها بالخطاب التالي:

مرحبًا بابنتي الجميلة محبوبتي، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «ماعت كارع» (حتشبسوت) التي تقيم آثاري الجميلة، والتي تطهر عرش تاسوع الآلهة الأعظم ليكون سكنًا لي بمثابة ذكرى لحبها. وإنك الملكة التي استولت على الأرضين «خنمنت آمون حتشبسوت» عظيمة القرابين، وما تقدِّمين من قرابين الطعامِ طاهِرٌ، وإنك تسرين قلبي في كل الأزمان، وإني قد منحتك كل الحياة، والسلام من عندي، وكل الثبات من لدني، وكل العافية مني، وكل الصحة من قِبَلي، وأعطيتك كل الأقطار، وكل البلاد ليسرَّ قلبك بها؛ لأني كنت منذ زمن طويل قد عزمت أن أمنحك إياها، وستراها الأحقاب عشرات الآلاف من السنين المفيدة التي فكرت في قضائها، ولقد أعطيتك بلاد «بنت» حتى حدود أقاليم الآلهة التابعة لأرض الإله، فإنه لم يطأ أرض خمائل البخور أحد، والناس لم تعرفها؛ بل كان يُسمَع بها مشافهةً عن طريق الإشاعة منذ زمن الأجداد.

على أن الأشياء العجيبة التي أُتِي بها هنا في عهد آبائك ملوك الوجه القبلي والوجه البحري قد نُقِلت من يدٍ إلى يد أخرى، وكذلك منذ عهد أجداد ملوك الوجه القبلي والوجه البحري الذين عاشوا في قديم الزمان، وقد سلمت على أن يدفع ثمنها غاليًا، وإنه لم يصل فعلًا إلى تلك الخمائل إلا رسلك، ولكني سأجعل جنودك تطؤها؛ لأني أقودهم بحرًا وبرًّا، وجاعلهم يخترقون مضايق مالية لا يمكن اختراقها، وقد جعلتهم يصلون إلى خمائل البخور وأرض الإله إقليم فاخر، وهو حقًّا مكان سروري، وقد أوجدته لنفسي ليكون تسلية لقلبي، وقد جمع الجنود البخور كما يرغبون، وحملوا سفنهم كما تشتهي قلوبهم من شجر البخور المزهرة ومن كل منتجات هذه البلاد الطيبة. أما أهل «بنت» الذين لم يعرفهم قوم مصر أولئك الأجانب أصحاب أرض الإله، فإني استملتهم بالحب، ليقدِّموا لك الحمد؛ لأنك إلهة، ولما لك من الشهرة في كل الممالك؛ وإني أعرفهم لأني سيدهم الحكيم … وإني «آمون رع» الخالق، وابنتي التي تغل الأرباب «الملك ماعت كارع» (حتشبسوت) ولقد أنجبتها لنفسي، وإني أنا الوالد الذي يبثُّ الخوفَ بين قبائل الأقواس التسعة عندما يأتون في سلام إلى كل الآلهة، وقد عاد الجنود ومعهم كل الأشياء العجيبة، وكل شيء طريف من أرض الإله أرسلت جلالتك في طلبها؛ فأكوام راتنج البخور، وأشجار نضرة تحمل بخورًا عذبًا، قد كُدست في قاعة الأعياد لتُحمَل إلى رب الآلهة: ليت جلالتك تجعلينها تنمو في (حدائق) معبدي حتى أستطيع أن أمتع قلبي بها، وإن اسمي أمام الآلهة، واسمك أمام كل الأحياء مخلد، وعلى ذلك فإن السماء والأرض قد غمرتا بشذى البخور، وسيكون عبيق العطر في البيت العظيم.

وأخيرًا نجد نقشًا ربما كان أهم نقوش الحملة إلى «بنت»؛ لأنه يمدنا بتاريخ عودة الحملة في السنة التاسعة، وفيه تحدِّث الملكةُ بلاطَها عن نجاح الحملة، فاستمع إليه: «في السنة التاسعة عُقِدت جلسة في قاعة الاستقبال ظهرت فيها الملكة متوَّجة بتاج «آتف» على العرش العظيم المصنوع من السام في وسط أبهة قصرها، وقد حضر الأشراف وعظماء رجال البلاط ليستمعوا إلى الخطبة، التي كانت ستُلقَى بمثابة تصريح للأشراف.

خطبة الملكة: لقد ظهرت مخلدة أمام وجوهكم على حسب ما رغب فيه والدي، حقًّا لقد كانت رغبتي هذه في عمل ذلك، لأعظم من أنجبني، وأعترف بجميل والدي الذي يمكنني من جعل قرابينه فاخرة وأقوم بما عجز عنه آبائي، وهم الأجداد الملكيون، كما فعلت الواحدة العظيمة (إزيس) لرب الأبدية (أوزير)، وإني أضيف زيادةً على ما كان يُفعَل سابقًا، وإني سأجعل الخلف يقولون: ما أجملها تلك التي حدث هذا على يديها! لأني سلكت مسلكًا حسنًا جدًّا معه، وكانت أعماق قلبي ممتلئة بفكرة ما يجب له (وإن بهاءه في السماء وعلى هذا العالم) … ولقد فطن لتفوقي عندما أتكلم عن أشياء عظيمة أقولها بينكم … ولقد صدر مرسوم من جلالتي يأمر قومي بإرسال خمائل البخور من «بنت»، وأن يجتازوا مسالكها، ويكشفوا اتساعها، ويفتحوا طرقها العامة على حسب أمر والدي آمون … وقد اقتُلِعت أشجار من بلاد الإله، وغُرِست في أرض مصر … وقال جلالتي: إني سأجعلك تعرف ما أمرت به؛ لأني أصغيتُ لوالدي، وسمعت ما رسم به، وهو أن تُؤسس له «بلاد بنت» في هذا المعبد، وأن تُغرَس أشجار «بلاد الإله» بجانب معبده في حديقته كما أمر. والآن وقد تمَّ ذلك … فقد أنشئت له «بلاد بنت» في هذه الحديقة كما أمرني في «طيبة»، وهي حديقة واسعة الفناء لأجله وسيتنزه فيها …»

(ونهاية هذا النقش مفقود.)

وتدل الكشوف الحديث على أن الأشجار العطرية التي أتي بها من «بلاد بنت» قد غُرِست فعلًا في حفرٍ نُقِرت في الصخر أمام المعبد، ومُلِئت بالطين الخصب، أو وُضِعت في جفان على مدرجات المعبد، وقد عثر على هذه الحُفَر الحفَّارون المحدثون في الردهة التي أمام المعبد، وقد وُجِد أن بعضها كان لا يزال محفوظة فيه جذوع هذه الأشجار الجافة، غير أن هذه الأشجار ظهر أنها شجر اللبخ أو «برسا».١٠

ولا نزاع في أن مناظر هذه الحملة تحتوي على تفاصيل كثيرة جديرة بالاهتمام من الوجهة الفنية والعلمية والاجتماعية، لمَن أراد درس الجهات التي تشير إليها، وهي تلك البلاد الواقعة على ساحل البحر الأحمر، وتشمل الصومال حتى خليج عدن، وما يقابلها من الجهة الأخرى. ومما يلفت النظر ملامح أهل «بنت» التي أحكم المثال إبرازها، وهي تشبه كثيرًا المصريين الذين نشاهدهم في رسوم الدولة القديمة وكذلك شكل اللحية، التي تشبه لحية الآلهة المصريين. ومما يلفت النظر بنوع خاص أنواعُ السمك التي نشاهدها مصوَّرة تحت السفن، فهي في الحقيقة ليسَتْ من نسج خيال المفتن، بل درست ووُجِد أن كلَّ نوعٍ منها قد وُجِد له نظيره في سمك البحر الأحمر، ممَّا يدل على قوة ملاحظة المصري القديم في إخراج صورة طبق الأصل، وهذا السمك إما أن يكون قد أُحضِر للمفتن المصري بخاصة، وإما أن يكون بعض رجال الفن قد صحبوا الحملة، وهذا الرأي الأخير هو المعقول.

وكذلك نلاحظ طائفة أخرى من التفاصيل في الملابس الحربية التي كان الجنود المصريون يرتدونها، والأعلام التي كانوا يحملونها، هذا إلى صور في قوارب مقدسة، «وبلط» وأقواس، وعصي رماية، وطبول يدقُّ عليها من كلا الجانبين، كل هذه الأشياء قد مُثِّلت في أشكال رائعة. والواقع أن النقوش التي خلدت ذكرى هذه الحملة العظيمة، تُعَدُّ فذَّةً وأفخم صورٍ نُشِرت لأيِّ رحلة كشفية عرفها العالم، وهي جديرة بذلك البناء الفخم الذي تزينه، ولكن السير «فلندر زبتري» قد نقدها بأنها جامدة لا روح فيها ينقصها قوة التعبير، ولا نزاع في أنها تنقصها تلك القوة والدقة المدهشة التي يصبها المفتن في صوره عندما يكون عليمًا بأصول التشريح.

وهذا ما نشاهده في نقوش الدولة القديمة عندما يسمو الفن بالمفتن إلى أعلى مراتبه في ذلك العصر السحيق، ولكن إذا نظرنا إلى نقوش الرحلة باعتبارها أجزاء من تصميم زخرفة عامة عُمِلت على نطاق واسع، فإنها تُعَدُّ ناجحة نجاحًا باهرًا، ومن المحتمل أنه لو وُضِعت فيها تفاصيل أكثر لكانت أقلَّ تأثيرًا في النفس في هذه الأحوال.

(٧-٣) وصف معبد الدير البحري

على أن السير «فلندر زبتري» عندما تحدَّثَ عن تأثير المعبد برمته، مدح هذا البناء العظيم بكلمات ستظلُّ على وجهٍ عامٍّ أكثرَ دليل على مهارة المصري في فن البناء والذوق السليم، فاستمع إليه: «فَلْيَقُمْ أيُّ نوعٍ آخَر من البناء هناك، فإنه لن يكون بجانبه إلا دخيلًا هزيلًا؛ وذلك لأن خطوط المدرجات والسقف المنبسطة الطويلة، والظلال العمودية التي ترسلها قاعات العمد، تنسجم انسجامًا تامًّا مع طبيعة المكان الذي يحيط بها.»

وقد وصف مستر «ربرت١١ هتشتر» معبد الدير البحري على ما هو عليه الآن وصفًا دقيقًا، فقال: «إن معبد الدير البحري يشبه حسناء رقيقة، قد تعطَّرَتْ وتزيَّنَتْ، يلفُّها رداءٌ جمَعَ بين الأبيض والأزرق والبرتقالي، وقد وقفت وقفة العالمة المتدلِّلة بجمالها، ومستندة إلى جبل يجمع بين اللون البرتقالي والقرنفلي والأحمر والأسمر والفاتح، ممَّا جعلها فاتنة الجيل المبتسمة.» وقد يكون هذا الوصف مطابِقًا لبعض الواقع، فإن «سنموت» قد صمَّم بناءه، ولكن ممَّا لا نزاع فيه أنه كان يترجم عن إلهام امرأة بما أقام من حجر وجص.

(٧-٤) مقبرة حتشبسوت وعلاقتها بمعبد الدير البحري

أما نحت قبر جديد للملكة «حتشبسوت» ووالدها، فقد عُزِي أمره إلى «حبوسنب»، وقد حفر خلف جدار الصخرة العظيمة الواقعة وراء المعبد نفقًا طويلًا في الجانب الشرقي من «وادي الملوك» حيث كان الباب، وقد كان غرض الملكة أن تكون حجرة دفنها تحت محراب معبدها في المعبد، وهي تقصد من وراء ذلك أن تعقد شعائرها الدينية الخاصة بروحها (كا) في معبدها الذي أقامته لذلك، على أن تقام هذه الشعائر في محراب المعبد الذي حُفِرت تحته مباشَرةً حجرة الدفن، وبذلك يمكن لروحها أو قرينتها أن تصعد من الصخرة الصماء لتستقبل الشمس المشرقة كلَّ يوم، وترحب بها على ردهات المعبد. ويبلغ طول النفق الذي يؤدِّي إلى حجرة الدفن هذه حوالي سبعمائة قدم، وعمقه عموديًّا يبلغ ثلاثمائة قدم، وهو منحرف نحو اليمين، وربما يرجع السبب في ذلك إلى عيب في الصخر، ممَّا جعل العمال ينحرفون عن الاتجاه المستقيم. وحجرة الدفن التي وُضِع فيها تابوت الملكة قد كُسِيت جدرانها الخشنة بقِطَع من الحجر الجيري الأبيض، عليها متون دينية، أما التابوت الذي كان فيه جثمان «حتشبسوت» فمصنوع من الحجر الرملي (كوراتسيت).

(٧-٥) نقل مومية تحتمس الأول والدها إلى قبرها

وكذلك وضعت الملكة تابوتًا آخَر لمومية والدها «تحتمس الأول»، الذي نقلته من مخدعه الأصلي ودفنته ثانيةً بجوارها، وقد حقَّقَ هذا الزعم وجود بعض قِطَع من جهازه الجنازي في مدفنها الأصلي؛١٢ إذ عُثِر على إناء كبير من المرمر باسمها، غير أنها كانت تُلقَّب هنا بالزوجة المقدسة «حتشبسوت»، وهذا لقب كانت تُنادَى به في عهد زوجها «تحتمس الثاني»، في الوقت الذي كان فيه «تحتمس الأول» قد دُفِن، وقد نبذت هذا اللقب وتسمَّتْ بأسماء الملك عندما نُحِت هذا القبر لها. وكذلك وُجِد إناء منقوش عليه اسم «تحتمس الأول» واسم زوج والده «أحمس نفرتاري»، وآخَر كُتِب عليه اسم «تحتمس الأول» واسم ولده «تحتمس الثاني» الذي قدَّمه له، وتلك الأواني لا يُحتمَل أن تكون ضمن أثاث الملكة الجنازي.
وهذه المغالاة في التعبُّد لوالدها قد جعلها تتخذ تلك الخطوة النادرة، وهي نقل جثمان والدها إلى القبر الذي أعَدَّتْه لنفسها، وذلك ما أحفظ «تحتمس الثالث»؛ إذ عُدَّ ذلك العمل إحدى الإهانات المتكررة التي كانت تنهال عليه في خلال تلك الفترة؛ لأن ذلك يجعل والده «تحتمس الثاني» أمام القوم مغتصبًا، وأن «حتشبسوت» قصدت أن تتجاهل ذكراه بربط حكمها بحكم والدها «تحتمس الأول» دون فاصل، وجعل إقامة شعائرها وشعائر والدها واحدة؛ ثم رأت الملكة فضلًا عن اقتسام قبرها مع والدها أن تضيف مقصورة في معبدها الجنازي بالدير البحري، قد أهدتها إلى روح والدها «تحتمس الأول»، وإلى روح والدته «سنسنب» التي كانت تُعَدُّ جدتها؛ على أنها لم تَقُمْ بعمل شيء مثل هذا «لتحتمس الثاني»، بل كان اسمه لا يكاد يُذكَر في كل نقوش المعبد، وإن كان «تحتمس الثالث» بدوره لم يُذكَر اسمه إلا نادرًا. وقد تغالت «حتشبسوت» في إظهار والدها على مباني المعبد لدرجة أنها رسمت صورته، وذكرته في النقوش التي على الجدران حتى يكون ظاهرًا يراه كل الناس، ويشعرون بأنه مرتبط بها روحيًّا.١٣

أما القبر الأول الذي كانت قد حفرته «حتشبسوت» في وجه صخرة تقع في وادٍ عميق، فقد هُجِر وبقي فيه تابوتها الجميل إلى أن كشف عنه «كارتر» في عام ١٩١٦، ولما ازداد خطر لصوص القبور في العهد المتأخر، اضطرَّ الكهنة إلى نقل الموميات من توابيتها ووضعها مع جماعة الملوك الذين جُمِعت جثثهم في مقبرة الملكة «أنحابي»، التي لم يكن قد تمَّ حفرها في الدير البحري، وهناك بقيت جثة الملكة هادئة في مضجعها مدةً تربو على ألفين وخمسمائة سنة، على مقربة من المعبد الذي كان يومًا موضوع فخارها. وعندما نقل «إميل بركش» الموميات الملكية من خبيئتها في عام ١٨٨١ بعد الميلاد، عرفت مومية «تحتمس الأول» في الحال، أما جثة «حتشبسوت» فلم يُعرَف لها أثر قطُّ، على أنه من المحتمل جدًّا أن تكون إحدى الموميات العدة التي لم تُعرَف شخصيتها بعدُ في هذه المجموعة الغريبة. والآن لا يمكن لمخلوق أن يقول إن هذه هي جثة «حتشبسوت» بعينها من بين هاتيك الجثث التي لم تُحقَّق، وربما سرها ذلك أكثر من أن تترك معروضة للمتفرجين كما كانت الحال إلى زمن غير بعيد، عندما كانت موميات بعض أعاظم ملوك التاريخ المصري معروضةً للنظارة تُشاهَد هي والآثار التي خلفوها على حدٍّ سواء.

وقد كان قبرها الضخم لا يزال مفتوحًا في عهد «سترابون» عام ٢٤ق.م، وكذلك فُتِح جزئيًّا في عهد حملة «نابليون» سنة ١٧٩٩، وقد قام ببعض العمل فيه «لبسيسوس» سنة ١٨٤٤، غير أنه لم يُعرَف في كلتا الحالتين بأنه قبر «حتشبسوت»، وأخيرًا كشف عنه «دافيز» سنة ١٩٠٣، وأتمَّ العمل الذي بدأه «دافيز» المستر «كارتر»، وقد وجد القبر منهوبًا نهبًا تامًّا، وكان أهم ما وُجِد فيه التابوتان المصنوعان من حجر «الكوارتسيت»، وهما اللذان كانا يضمان جسمَيْ «تحتمس الأول» و«حتشبسوت».

على أنه في الوقت الذي كان منكبًّا فيه «حبوسنب» في نحت مقبرة الملكة، كما أشرنا إلى ذلك، كان «سنموت» موجِّهًا عنايته بوجه خاص إلى إتمام المعبد كما ذكر لنا هو ذلك صراحةً.

وتدل الحفائر التي قام بها «ونلك» على أن تصميم المعبد الأصلي قد زيد فيه، ولم يتم بناؤه إلا في العام السادس عشر من حكم الملكة، أي حوالي عام ١٤٨٥ق.م،١٤ وفي الوقت نفسه كان نشاط «سنموت» رئيس الأعمال الملكية كلها قد ظهر في معظم بقاع الوجه القبلي ومصر الوسطى مما سنفصل فيه القول، وبخاصة المسلات العظيمة التي أقامها تخليدًا لذكرى هذه الملكة العظيمة في الكرنك.

(٧-٦) حتشبسوت تقيم مسلات

وقد ذكرنا من قبلُ أنه في عهد «تحتمس الثاني» أحضرت مسلتان لإقامتهما احتفالًا بعيد الملكة الثلاثيني، وهذا العيد كان أول خطوة حاولت بها أن تعلن نفسها ملكةً على البلاد، وقد تُرِكت هاتان المسلتان دون أن يُنقَش عليهما كلمة واحدة، ولكنها بعد هذا الحادث بثلاث عشرة سنة كان في مقدورها أن تنقشهما كما أرادَتْ، فحفرت على جهاتهما الأربع اسمها الجديد وألقابها، وذكرت أن المسلتين قد أقامتهما احتفالًا بعيدها الأول الثلاثيني، وتذكارًا لوالدها «تحتمس الأول» والإله «آمون». وعلى قاعدة إحدى هاتين المسلتين نقشت متنًا هامًّا بُدِئ بمديح نفسها، ثم ذكرت فيه أن هذين الأثرين قد قطعَا من أحسن أنواع جرانيت الجنوب، وأن قمتهما كانت من السام الذي يمكن مشاهدته من كلا جانبي النيل، عندما تسطع عليهما أشعة الشمس حين شروقها، وكذلك تحدثنا كيف أنها لم تَذُقْ طعمَ النوم ليلًا لتفكيرها في معبد «آمون» هذا؛ وذلك لأنها أبصرت أن الكرنك كان موطن الإله، والموضع الذي يميل إليه قلبه، وكيف أنها وهي جالسة ذات يوم في قصرها قد فكَّرَتْ أن «آمون» هو الذي برأها، وأنها قد أقامت هاتين المسلتين له، فتقول:

أنتم يا أيها الناس، يا مَن سترون آثاري هذه في السنين المقبلة، يجب أن تتحدَّثوا عمَّا فعلت، واحذروا أن تقولوا: لا نعلم لماذا قد عمل هذا، وأن جبلًا صُنِع كله من الذهب كأنه شيء عادي قد حدث، وإني أحلف بقدر ما يحبني إله الشمس، وبقدر ما يحبوني إلهي «آمون»، وبقدر ما يملأ أنفي بالحياة الممتعة، ولبسي تاج الوجه القبلي الأبيض، وبظهوري بتاج الوجه البحري الأحمر، وبما ضمَّ إليَّ الإلهان «حور وست» من نصيبهما في مصر، وبما أحكم من أرض مصر هذه مثل (حور) بن «إزيس»، وبما صيَّرني قويًّا مثل «أوزير» ابن السماء، وبمثل ما يغيب إله الشمس في سفينة المساء، ويشرق في سفينة النهار، وبقدر ما ينضم إلى «إزيس» و«نفتيس» والدتيه في السفينة المقدسة، وبقدر ما تبقى السماء، وبما صنعه إله الشمس ليبقى، وبخلودي في الأبدية مثل النجوم التي لا تغيب، وبذهابي وغيابي وراء جبال الغرب مثل «آتوم» (الشمس المغربة)، بهذا أحلف أن هاتين المسلتين اللتين عملتهما جلالتي من السام، هما لوالدي «آمون» حتى يصير اسمي مخلدًا باقيًا في هذا المعبد أبد الآبدين. وإني أحلف أن كل واحدة منهما قد صُنِعت من قطعة واحدة من الجرانيت الصلب دون شدخ أو وصلة، وأن جلالتي هي التي أمرت بعملهما، وقد بدأ ذلك من السنة الخامسة عشرة اليوم الأول من الشهر الثاني من الفصل الثاني، وإن العمل في المحاجر نفسها استغرَقَ سبعة أشهر.

والآن يتساءل الإنسان ما الداعي لهذا اليمين المغلظ الذي عقدته لنا حتشبسوت في ألوان شتى مما تعقد بها الأيمان العظيمة؛ هل عقدَتْ هذا اليمين لتؤكِّد لنا أن كلًّا من المسلتين كانت قطعة واحدة، وأن قطعهما لم يستغرق من الوقت أكثر من سبعة أشهر معدودات؟ إن هذا ليس بالأمر المستغرب؛ لأنه قد حسب أنه في مثل هذا الوقت يمكن إنجاز مثل هذا العمل،١٥ ولكن شواهد الأحوال تنبئ بأن الملكة إنما أغلظت أيمانها لتدلِّل على أنها لم تغتصبهما، بل أمرت «حتشبسوت» نفسها بصنعهما، وكذلك أرادت «حتشبسوت» أن تفهم العالم بأنها كانت صاحبة الأمر والنهي في السنة التي أمرت بقطع المسلتين فيها؛ ولذلك احتفلت بعيدها الثلاثيني الذي من أجله قطعت المسلتين مُبرهِنةً بهذا العمل على أنها كانت خلف «تحتمس» الأول على العرش، وقد أثبتنا فيما سبق أن المسلتين لم تُنقَشَا إلا بعد أن أصبحت هي الحاكمة المطلقة على البلاد، ولكنهما كانَا قد أُقِيما في عهد «تحتمس الثاني»، وعلى ذلك يكون قد مضى نحو خمس عشرة سنة بين نصبهما ونقشهما، أي إنها في كل ذلك كانت تريد أن تُثبِت أنهما قد أُقِيمتَا أولًا بأمرٍ من «حتشبسوت» نفسها لا بأمرٍ من «تحتمس الثاني»، ومن ثَمَّ كان حلفها هذا اليمين المغلظ على صدق ما ادَّعته.
وبعد ذلك تستمر الملكة في قولها عن المسلتين: «اسمعوا أنتم يا أيها الناس! لقد أعددتُ لهاتين المسلتين أحسن معدن «السام»، وقد كلته بالحقت (هو مكيال سعته خمسة لترات) كأنه حقائب (بر)، وقد حددت جلالتي المقدار بكميةٍ لم تَرَ الأجداد من قبلُ أكثرَ منها، فدَعْ أولئك الذين يجهلون الحقيقةَ يعرفونها مثل العالِمين بها، ولا تجعل مَن سيسمع ذلك يقول إن هذا الذي قلته مين وكذب، بل دعه يقول: ما أشبه ذلك بها! (أي: الملكة) إنها صادقة في نظر والدها «آمون». وإنه هو الذي جعلني أحكم على الأرض السوداء والأرض الحمراء، مكافأة لي على ذلك، وليس لي عدو في أي بلد، فكل البلاد خاضعة لي، وإنه وضع حدودي عند أقاصي السماء، وقد عملت لي دائرة الشمس (نفسها)، وقد أعطاني من وحدت معه هذا؛ لأنه يعلم أني سأقدِّمها له (ثانيةً). حقًّا إنني ابنته وهو الذي يرفع من شأني … وهو الذي أوجد مملكتي، والأرض السوداء والأرض الحمراء قد أصبحتَا تحت قدمي، وحدودي الجنوبية قد بلغت حتى بلاد «بنت»، وحدودي الشرقية قد وصلت إلى مستنقعات آسيا، والآسيويون في قبضتي، وحدودي الغربية بعيدة جدًّا عن جبال «مانو» (جبل خرافي تغيب وراءه الشمس)، وحدودي الشمالية قد وصلت … وشهرتي بين كل رجال البدو.»١٦

الملكة تقيم مسلتين بمعبد الكرنك

وتدل الآثار على أن الملكة «حتشبسوت» قد أقامت مسلتين أخريين في معبد الكرنك، غير أن موقعهما بالضبط لم يُعلَم للآن، ولم يَبْقَ منهما إلا قمة واحدة محفوظة الآن «بمتحف القاهرة»،١٧ والظاهر أن «حتشبسوت» قد أقامتهما احتفالًا «بعيد سد» العيد الثلاثيني الثاني، هذا مع العلم بأن المدة التي كانت تنقضي بين الاحتفال بهذا العيد والذي يليه لا تُحدَّد عادةً بثلاثين سنة، بل كان ذلك العيد يُقام حسب هوى الفرعون الحاكم وما تقتضيه الأحوال، وليس في مقدورنا الآن أن نحدِّد المدة التي انقضت بين الاحتفال بعيدها الأول وعيدها الثاني. وقد تُرِك لنا على نقوش الرواق الأسفل من معبد الدير البحري منظرُ نقْلِ مسلتين وإهدائهما، فنشاهد في النقوش سفن النقل ممثَّلة فعلًا ذاهبة نحو الشمال، كأنها منحدرة في النيل من أسوان حيث قُطِعت المسلتان، ثم نجد بعد ذلك في الجهة الشمالية من الجدار الإهداءَ في «طيبة»؛ ويبتدئ المتن الخاص بهاتين المسلتين بألقاب الملكة ومدائح فيها، ثم الأمر بجمع المواد لبناء السفن اللازمة لنقلهما، ويلي هذا أمرٌ بإعداد الرجال والجنود للنقل، وأخيرًا نقل المسلتين، وقد هشم جزء كبير من هذه النقوش؛ فبعد ذِكْر ألقاب الملكة نجدها تُوصَف بأنها هي هذا الجزء الفاخر من والدها «آمون رع» رب السماء، الذي لم يفصل بعيدًا عن والد رب كل الآلهة، والمضيئة اللمعان مثل إله الأفق، وإلهة الشمس التي تمنح النور مثل الشمس، والتي تنعش قلوب الأهلين، ومن شهرتها قد اشتملت الدائرة العظمى (الأرض)، ثم يلي ذلك بعض جُمَل غير متصلة لتهشيم المتن، نقرأ فيها ما يشير إلى بناء سفن كبيرة جدًّا لنقل المسلتين من محاجر «أسوان» إلى «معبد الكرنك»، ثم ما يشير إلى جمع كل الجيش لشحن المسلتين عند «إلفنتين»، وتجنيد الشباب من كل الأرضين قاطبةً.

هذا بالإضافة إلى مناظر محفورة نشاهد فيها المسلتين موضوعتين على هذه السفن التي كانت تجر إلى أسفل النهر بسبعة وعشرين قاربًا تسير بالمجاديف، وهذه القوارب كانت مرتَّبةً في ثلاثة صفوف، كل منها يقوده قارب رئيسي، في حين أن قوارب أخرى مرافقة للسابقة كان فيها كهنة يرتلون الصلوات، ويحرقون البخور، رجاء نجاح المشروع، والنقوش التي على هذا المنظر تتحدَّث عن «السياحة شمالًا مع التيار بقلب فرح»، وتشير إلى عيد الملكة الثلاثيني، ثم نقرأ عن رسو السفن بنجاح عند «طيبة» المظفرة، في حين أن السماء تبتهج والأرض في عيد. ونشاهد على الشاطئ عند الكرنك جنودًا يحملون أغصان الأشجار احتفالًا بهذه المناسبة، كما نشاهد فرقةً من الرماة يتقدَّمهم حامل بوق، كما نشاهد الكهنة والجزارين يعدون الضحايا والجنود والضباط مسرعين ذهابًا وإيابًا، وهنا يقول المتن عند ذلك: «فرح بحَّارة سفن الملكة فيصيحون: أصغوا إلى الصياح! إن في السماء لعيدًا، وإن في الأرض لفرحًا؛ لأن «آمون» قد زاد في عدد سني ابنته التي أقامت هذه الآثار لتجلس على عرش «حور» الأحياء مثل إله الشمس مخلدًا. وهناك صيحات من مجندي الجنوب والشمال، ومن شباب طيبة، ومن فتيان «خنتنفر» (النوبة) بحياة وفلاح وصحة ملك الوجه البحري والوجه القبلي منخبر رع (تحتمس الثالث)، حتى تكون قلوبهم فَرِحة مثل إله الشمس مخلدًا.» ونلاحظ أنه قد نُقِش فوق ضحايا القربان ما يأتي: «قربان لروحك يا رب الآلهة لأجل أن تمنح «ماعت كارع» الصحة في هذا العيد الثلاثيني لملايين السنين.»

وممَّا يلفت النظر هنا أن الجماهير كانت تحيي «تحتمس الثالث» كما كانت تحيي «حتشبسوت»، ومن ذلك يتَّضِح جليًّا أن «حتشبسوت» على الرغم من قبضها على كل السلطة في يدها، وأنها كانت الحاكمة المطلقة اسمًا وفعلًا، فإنها كانت مضطرةً إلى أن تعترف ولو شكلًا بأن «تحتمس الثالث» كان شريكًا لها في الملك، على أن ذلك ليس بالمثال الوحيد الذي لدينا من هذا النوع عن ذِكْر «تحتمس الثالث» بصفة ثانوية مع «حتشبسوت»؛ إذ لدينا مثَلٌ آخَر، وهو لوحة دُوِّن عليها إصلاح قلعة الجبانة في «طيبة»، نجد فيها أن الملكة قد ذكرت ألقابها وأسماءها، ثم تتحدث عن العمل الذي قامت به هي في هذه القلعة محبةً منها لوالدها «آمون»، وكل ما فعلته لتحتمس الثالث هو أنها سمحت بأن تمثل صورته على أعلى اللوحة، واقفًا وراء صورتها في استكانةٍ وذلةٍ، واسمه لم يُذكَر قطُّ في إهداء هذه اللوحة،١٨ وهكذا كانت «حتشبسوت» من وقت لآخَر تسمح بنقش اسمه أو صورته على جدران المعبد، ولكن وجوده لم يَكَدْ يُحَس؛ إذ كان يُرسَم خلفها، ولا بد من أن هذه الأعمال كانت تحزُّ في نفسه، وتجعله يتَّقِد غيظًا منها، ومن أولئك النفر الذين كانوا عونًا لها على إثبات تلك الأفعال التي كانت تتنافى مع التقاليد والحق معًا؛ ولذلك كان أول ما قام به بعد اختفاء تلك العاهلة الطموحة، التنكيل بأولئك الذين ساعدوا على إقصائه عن عرش ملكه الشرعي كما سنرى بعدُ.
وفضلًا عن المسلات التي أقامها «سنموت» لسيدته، يقصُّ علينا ما قام به في معبد «الأقصر» وفي معبد الإله «آمون»؛ حيث وُجِد له تمثال هناك، وفي «أرمنت» حيث وضع أساس معبد، ويحتمل مقبرة للعجل المقدَّس للإله «منتو».١٩

(٨) سنموت يُقِيم لنفسه مقبرةً في جبانة شيخ عبد القرنة

على أنه لم يَنْسَ نفسه في هذا الوقت، بل كان قد أصبح رجلًا ميسورًا، ولا أدل على ذلك من أنه أقامَ لنفسه قبرًا فخمًا يشعر بثراء صاحبه وكثرة ماله؛ فقد أقامه في جبانة «شيخ عبد القرنة» التي تقع على تلٍّ عالٍ، وفي هذه المقبرة عثر «إثناسي» على تمثالٍ له من الجرانيت ممثَّل فيه وهو مُمسِك بالطفلة «نفرو رع»، والتمثال موجود الآن بمتحف «برلين»، ومن المدهش أنه كشف في نفس المقبرة عن تمثالين مثل الأول، وهما الآن بالمتحف البريطاني، وفي هذا القبر كذلك وجد «لبسيوس» لوحةً من حجر «الكوارتسيت» تشبه في رسومها وصناعتها اللوحةَ التي عثر عليها «ونلك»، وبالقرب من هذا المكان أيضًا رأى «ديفز» قطعًا من تابوت من «الكوارتسيت» عليها اسم «سنموت»؛ وقد ذُكِر على كل تماثيل «سنموت» التي وُجِدت في قبره أنها هدية ملكية، وكذلك التمثال الذي وُجِد في معبد الإلهة «موت»، وآخَر يُحتمَل أنه وُجِد في «الكرنك»، وهو الآن بمتحف «شيكاجو»، وقد أهدَتْه الملكة هذين التمثالين أيضًا، ولكن من الطبيعي أن الرجل الذي كان في يده كل الأعمال الملكية، كان من السهل عليه أن يحصل لنفسه على بعض ما أنتجته تلك المصانع الملكية.

ولعمر الحق لقد كان كلُّ ما يريد «سنموت» أن يظهر به من مظاهر العظمة والأبهة والفخار في أعين الشعب قد دوَّنه على هذه التماثيل؛ ليكون إعلانًا ثابتًا أمام أهل جيله، ومخلدًا له عند الأجيال المتعاقبة، ويمكننا أن نضع أمام القارئ صورةً عن تقدير «سنموت» لنفسه من مجموعة تماثيله، ومن النقوش الأخرى المختلفة كما يأتي يتحدَّث عن نفسه، فيقول:

لقد كنتُ أعظم العظماء في كل الأرض، وكنت أمين أسرار الملك في كل أماكنه، وناصحًا خاصًّا على يمين الملك، مأمون الحظ، أُعطِيت شرف الاستماع منفذًا، محبًّا للصدق، لا أُظهِر تحيُّزًا، وإني إنسان تصغي القضاة إليه، وصمتي هو البلاغة بعينها، وقد كنتُ إنسانًا يعتمد السيد على ما ينطق به، ومَن تنشرح سيدة الأرضين بنصيحته، ومَن قد أفعم قلب الزوجة المقدسة به تمامًا، وكنتُ شريفًا يُصغَى إليه؛ لأني كنتُ أعيد كلمات الملك للرفاق، وكنتُ إنسانًا تُعرَف خطواته في القصر، ونجي الملك المخلص، أدخل محبوبًا وأخرج محظوظًا، أُدخِل السرورَ على قلب الفرعون كلَّ يوم؛ وكنت نافعًا للملك، مخلصًا للإله، لا غبار عليَّ أمامَ الشعب، وكنتُ إنسانًا منح الفيضان حتى أستطيع إدارة النيل، وأُسنِدت إليَّ شئون الأرضين، وما يُجنَى من الجنوب والشمال كان تحت تصرُّفي، وأعمال كل الممالك تحت إدارتي، يضاف إلى ذلك أني كنتُ أطَّلِع على كتب الكهنة، ولم يوجد شيء منذ الأزل كنتُ أجهله.

(٨-١) مكانة سنموت في التاريخ

ولا نزاع في أن معظم هذه الجمل التافهة إلى حدِّ السخرية ليست إلا صيغًا محفوظة لإطراء النفس، قد استعملها أفرادٌ كثيرون قبل «سنموت» من عظماء القوم منذ أزمان سحيقة، غير أنها في حالة بطلنا هنا لم تكن كلها مبالغًا فيها، وأن «سنموت» كان حقيقة شخصية من أعظم العظماء في البلاد قاطبة، ولا أدل على ذلك ممَّا وُجِد مدوَّنًا على قطعة من الفخار عثر عليها الأستاذ «ونلك»؛ فقد خطَّ عليها كاتب بالمداد الأسود حسابًا يشمل خمسة الأشهر الأول من سنةٍ ما من هذا العهد، فقيد مواد ما خص الفرعون منها ويبلغ عددها أربع عشرة، وما خص ضياع الملكة خمس عشرة، وما خص بيت المال تسع عشرة، وما خص «سنموت» تسع عشرة، ففي هذا المتن ذكرت السلطات الأربع في البلاد، فلم يُذكَر من بينها بالاسم المجرد إلا «سنموت»، أي إن هذا الكاتب كان يعتبر «تحتمس» و«حتشبسوت» والمالية مجرد مؤسسات، أما «سنموت» فكان لا يحتاج إلى لقب يفسِّر لنا مركزه أو مَن هو.

أما مقدار ما بلغه «سنموت» من الافتنان والجرأة في الرفع من شأن نفسه ما يشاهد من وضْعِ صورةٍ له خلف كل باب من أبواب معبد الدير البحري، وذلك أن معبد الملكة «حتشبسوت» كان ذا ردهات عظيمة تؤدِّي إلى مقاصير عدة؛ ولذلك كان له نحو عشرين خزانة صغيرة أو يزيد لحفظ أدوات العبادة، وقد كان لكلٍّ من هذه المقاصير والخزانات باب خشبي يفتح إلى الداخل، وعندما يقام احتفال كان الكهنة يفتحون الأبواب، ويقومون بأداء الشعيرة، ثم يُغلَق الباب ويُختَم كرَّةً أخرى؛ فلم يمكن بهذه الكيفية أن يوجد فرد في المقصورة والباب مغلق عليه، وعلى ذلك لم يكن في استطاعة إنسان أن يرى ما كان مخبَّأ على الجدار الواقع خلف الباب عندما يكون مفتوحًا، وقد استفاد «سنموت» من هذا الوضع، فأمر برسم صورته وهو يتعبَّد أمام الآلهة، وقد كلَّفَ نحَّاتًا أن يكرِّر هذه الصورة ويضعها في الجدران خلف باب كل مقصورة أو خزانة في المعبد، وقد نحت كلًّا منها بما يناسب المقام، على أن يجعل الصورة تتجه يمينًا أو شمالًا لتكون دائمًا مواجهة للمذبح.

وقد كتب أمام كل صورة صيغة الدعاء الذي يُتلَى ويتبعه باسم «سنموت»، والواقع أن هذا العمل كان يُعَدُّ جرأةً منقطعة القرين؛ إذ إن ذلك من حقِّ الملوك وحدهم، فهم الذين كانوا يصورون في محراب المعبد لمناجاة الآلهة، ولم يكن لأحد من الشعب أن يرسم في مثل هذه الأحوال إلا إذا كان تابعًا للفرعون وحسب، وفي هذه الحالة كان يرسم بصورة صغيرة جدًّا بالنسبة للفرعون، والواقع أن «سنموت» كان ضمن عصابة سياسية مجرمة تترنح نحو الهلاك، وأعني بها عصابة الملكة «حتشبسوت».

ونحن نعلم أن «حتشبسوت» قد اختفت من مسرح الحياة قبل إتمام المعبد، وأن كل عصابتها قد انتقم منهم «تحتمس الثالث»، ولا بد من أنه في هذه الفترة قد أفشى أحد أعداء «سنموت» سرَّ وضع «سنموت» صوره هذه في هذا الوضع الشاذ؛ ولذلك فإنها كما نشاهدها الآن قد هُشِّمت تهشيمًا مريعًا لانتهاكه حرمةَ المعبد لفعلته هذه، وكذلك لتشيعه السياسي، ومع ذلك فإن الذين كُلِّفوا بهذا التهشيم قد أخطأهم حسابهم فتركوا بعضها، وبخاصة في الخزانات الصغيرة التي كان لا ينفذ النور إليها، ويمكن الإنسان أن يرى الآن منقوشًا أمام صور «سنموت» ما يأتي: «تقديم لمديح للإلهة «حتحور»» وأمام صورة أخرى نقرأ: «تقديم المديح لآمون لأجل حياة وسعادة وصحة «حتشبسوت» من مدير البيت «سنموت»».٢٠ على أن «سنموت» قد ذهب في غلوائه إلى أكثر من ذلك؛ إذ كشف الأستاذ «ونلك» حديثًا عن قبرٍ جديدٍ له كان القصد منه أن يكون على غرار مقبرة «حتشبسوت»؛ ولذلك حفر نفقه وحجرة دفنه تحت معبد الدير البحري مباشَرةً، وفي سقف حجرة الدفن المزيَّنة بالنقوش التي أعَدَّها «سنموت» لنفسه هنا، أمَرَ بأن يُنقَش بحروف جميلة ضخمة ما يأتي: «عاش «حور» طويلًا، صاحب الأرواح العظيمة، محبوب الإلهتين، النضر السنين، حور الذهبي صاحب الأكاليل المقدسة، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «ماعت كارع» محبوبة «آمون» العائش، وحامل الخاتم، مدير البيت «آمون» «سنموت» الذي أنجبه «رع مس»، والذي وضعته «حات نفرت».» وهكذا نجد في هذه العبارة اسم «سنموت» قد كُتِب بدون فاصل أو جملة إيضاحية، ممَّا يجعلنا نشعر أنه قد ربط اسمه باسم «حتشبسوت»، ولا شك في أن أيَّ فردٍ من شيعة «تحتمس الثالث» كان يعلِّق على ذلك النص بما يطيب للخصم، وبما تتطلبه عداوة الأحزاب وحب الانتقام، كلما وجد إلى ذلك سبيلًا، ولو في أتفه الأشياء وأحقرها. وفي هذا النقش يشعر الإنسان أن «سنموت» كان يمهِّد السبيلَ للاشتراك مع «حتشبسوت» في الملك.

(٩) مبانيها الدينية خارج طيبة

ومن المحتمل أن «سنموت» في أواخر أيامه قد كلَّفَتْه الملكة إصلاحَ المعابد، وبخاصة ما بقي مخرَّبًا منها منذ عهد الهكسوس، وكذلك بإقامة بعض المباني خارج طيبة.

  • معبد الإله «بخت»: وقد كان من أهم هذه المباني الدينية المعبدان اللذان حُفِرَا في الصخر على مقربة من «بني حسن»، وقد أُهدِي كلٌّ منهما للإلهة «بخت» التي تُمثَّل في صورة لبؤة.
  • المعبد الذي أقامته حتشبسوت في المكان المعروف ببطن البقرة: غير أن أحدهما قد أقامته بالاشتراك مع أخيها في أوائل حكمهما المشترك، وهو الذي يُسمَّى عند العامة «ببطن البقرة»، وهو مبعد صغير كشف عنه «الدكتور أحمد فخري»، ويقع على مسيرة خمس عشرة دقيقة من معبدها الكبير «سبيوس أرتميدوس»، وقد لخص الدكتور أحمد فخري ما جاء في نقوش هذا المحراب بما يأتي: يوجد في نفس الوادي الذي أُقِيم فيه معبد «سبيوس أرتميدوس» (أي: كهف أرتميدوس)؛ كهفٌ آخَر يُنسَب نحته للملكة «حتشبسوت» والفرعون «تحتمس الثالث»، ويُدعَى باسم «حت من»، والوادي يُسمَّى «ست»، وقد كان مقدَّسًا للإلهة «بخت»، ويشاهد على جدران واجهة الصخرة حول الكهف وعلى الجدران «حتشبسوت» التي مُحِيت صورها واسمها، والفرعون «تحتمس الثالث»، يقرِّبان للإلهة «بخت» والإله «خنوم» سيد حرور (الشيخ عبادة)، وإلى حتحور سيدة نفروس (بلنصورة)، وإلى الإله «حوراختي»، وقد تُرِكت صورة الأميرة «نفرو رع» التي نشاهدها تتبع والدتها دون أن يلحقها أذًى، ونجد اسمها في طغراء مسبوقًا بلقبين لها، ثانيهما لم تُعرَف به من قبلُ على الآثار التي كُشِفت لها حتى الآن، وهو لقب «يد الإله»، وهو في الواقع يشبه لقب الزوجة المقدَّسة الذي كان يُعَدُّ من ألقابها، وفي عهد «سيتي» الأول أُعِيدت الصور والطغراءات الملكية التي كانت قد مُحِيت من كهف «أرتميدوس» الكبير، أما في هذا المعبد الصغير فيظهر أنه لم يقم فيه بأي إصلاح من هذا النوع.
    وأما معبد «سبيوس أرتميدوس» فقد أقامته في أيام حكمها المنفرد، ويطلق عليه المصريون المحدثون «إصطبل عنتر»، وقد نُقِش على واجهة الصخر فوق المدخل ذي العمد متنٌ طويلٌ تعدِّد فيه «حتشبسوت» ما فعلته لهذا المعبد، وما قامت به من الأعمال الصالحات للآلهة، وكذلك تقصُّ علينا كيف أنها أعادت بناء المعابد التي هشمها أولئك الهكسوس الغزاة، وهاك نص ترجمة المتن حرفيًّا (راجع: J. E. A, Vol. XXXII. (1946) p. 45):
    الحياة «لحور» = صاحب الصفات القوية، وصاحب الإلهتين، ذو السنين السعيدة، حور الذهبي = المقدَّس المظاهر، الإلهة الطيبة سيدة الأرضين «ماعت كارع» بنت الشمس حتشبسوت … لقد أقامت هذا (؟) الأثر الخالد لتثبت اسمها مثل السماء، حتى تستطيع أن تحفر بمهارةٍ تواريخ سيادتها على إقليم تلك التي على الجبل (يُحتمَل أن يشير هنا إلى الإلهة «بخت» ربة هذا المعبد)، وعلى ما تضيء الشمس عليه فوق الصحراء (؟) ولهيبه منتشر على ظهر سلسلتي الجبال (الصحراء الشرقية والصحراء الغربية)، فهناك تنصب المواقد، وهناك امتدت المعابد لتكون متعةَ كل الآلهة، كل منهم في المعبد الذي يرغب فيه، وروحه (كا) جالسة على عرشه، ولقد فتحت … وسر بقاعات عمدهم، ولقد صنعت الحجرة الخفية، وهي الجزء الداخلي من البيت لتناهض حجرة إزالة أثر القدم (وإزالة أثر القدم شعيرة خاصة تقضي بإزالة كلِّ أثر للإنسان بعد الاحتفال بالوجبة المقدسة)، وكل إله قد صنع جسمه من ذهب «عامو»، وأعيادهم قد خلدت في أفواه الناس، ودورة العيد كلها تحدث في وقتها المعتاد، وذلك بالتمسُّك بالقواعد التي وضعتها بشدة، والشعائر لإقامتها على حسب ما عمله (إله الشمس) في الزمن الأزلي (؟) قد زيد فيها، وكان قلبي القدسي يبحث وراء (أهل) المستقبل، وقلب جلالة ملك الوجه القبلي والوجه البحري آخِذ في التفكير في طاعة مَن نطق بتبريك شجرة أشد٢١ (أي: شجرة اللبخ) إلى الأبد، أي الإله «آمون» رب ملايين السنين، ولقد عظمت الصدق الذي يحبه؛ لأني أعرف أنه يعيش عليه وأنه غذائي، وأني ألتهم لذته، وأني والصدق لحم واحد، وقد ربَّاني لأجعل شهرته قويةً في هذه الأرض … إله الوجود «خبري» الذي برأ كل كائن، والذي قدر «رع» وجوده عندما ذرأ الأقطار، وكانت كلها مجتمعة تحت إدارتي، فالأرض السوداء والأرض الحمراء كانتا في وجلٍ مني، وقوتي جعلت البلاد الأجنبية تنحني لي؛ لأن الصل الذي على جبيني يهدي لي كل البلاد.

    وبلاد «رشوات» (شبه جزيرة سيناء) و«أوو» (بلاد مجهولة) لم تَعُدْ مختفيةً بعد عن عين شخصي الفاخر، وبلاد «بنت» تفيض لي على الحقول، فأشجارها محملة بالمر الجديد، والطرق التي كانت مغلقةً على كلا الجانبين أصبحت الآن مطروقة، وجيشي الذي كان غير مُعَدٍّ قد أصبح يملك ثروةً منذ أن أشرقت ملكًا.

    ومعبد سيدة «القوصية» الذي كان قد صار إلى الخراب، قد التهمت الأرض محرابه العظيم، وأمست الأطفال ترقص على سقفه، وإلهة الثعبان أصبحت لا تخيف، والوضعيون اعتبروا … بمثابة انحراف، وأعيادها المقررة لم يحتفل بها، وإني قد قدستها وأعدت بناءها، وصنعت صورتها المقدسة من الذهب لتحفظ مدينتها في قارب الموكب الأرضي.

    أما الإلهة «بخت» العظيمة التي كانت ترود الوديان في وسط الشرق، والتي … الطرق التي غمرتها مياه المطر — إذا لم يكن هناك كاهن لصبِّ الماء — فقد جعلت معبدها جديرًا (؟) … لأجل تاسوعها، وأبوابه من خشب السنط المطعَّم بالنحاس لأجل أن يكون … في الوقت المناسب؛ وكان الكهنة قد عرفوا ميقاتها (يذكر بعد ذلك بعض الآلهة ممَّن عنيت الملكة بمعابدهم وقربانهم). والإله تحوت الذي أنجبه «رع» قد علَّمني … مائدة قربان من الفضة والذهب وصناديق كتان، وكل أنواع الأثاث قد وضعت في مكانها … والذي كان يدخل وجهًا لوجه قائد التاسوع المقدَّس هو الإله «آمون» كان جاهلًا بها، ولم يكن هناك واحد على علم تام ببيته؛ وذلك لأن والد الإله كان معدمًا (؟) … ناظرًا مع (؟) والده، وقد منح حاملو الإله ثاقب نظري الفخم، ولقد أقمت معبده العظيم من حجر عيان الأبيض (وبواباته) من مرمر «حتنوب»، وأبوابه من نحاس آسيا، والنقوش التي عليها صيغت من الذهب، وصارت مقدَّسة بوجود صاحب الريشتين العاليتين بينها (يقصد الإله مين)؛ ولقد فخمت هذا الأمجد في عيدين، وهما عيد تآلف الأرواح وعيد الإله «تحوت»، وهما اللذان قررتهما له من جديد، وقد كانا من قبلُ في فم الناس فقط … وقد ضاعفت له القربان، زيادة عمَّا كان مقرَّرًا من قبلُ، وذلك بأن جعلت قربانًا للآلهة الثمانية، أي للإله «خنوم» في صوره المختلفة، وللإلهة «حكت»، والإلهة «رننت»، و«مسخنت» التي اتخذت لتشكيل جسمي، وللإلهة «نحمت عاواي»،٢٢ والإلهة «نحمت كاو»، والإلهة «أزيت-أو-ناس-ب-تو» (مَن يقول الناس عنها إن السماء والأرض ملكها)، والإله «إمي»٢٣ وتيو (الذي بين المحنطين) والبلدان لذلك في عيد، مما يدل على أن ذلك كان غير معروف (من قبلي)، وكذلك الشرفات كانت لا تزال في حيِّز التصميم قد هيَّأتها وجعلتها بهجة، في حين تأمل! كنتُ أقدِّم بيوتًا لأصحابها، وكل إله قال في نفسه عني: إنه واحد سيخلد، والإله «آمون» جعله يظهر ملك الأبدية على عرش «حور».

    اسمعوا أنتم يا أيها المواطنون، ويا عامة الشعب مهما كان عددكم، لقد أنجزت هذه الأشياء بتدبير قلبي، ولم أغفل بوصفي إنسانًا نساءة، بل لقد قويت ما تداعى، ولقد رتقت ما تمزَّق، وذلك منذ أن كان الآسيويون في «أواريس» الشمال، ومعهم قبائل جائلة بينهم، هادمين ما كان قائمًا، وقد حكموا بدون رع، وإنه لم يعمل حسب الأمر الإلهي حتى عهد عظمتي، وإني ثابت المكانة على عروش «رع»، ولقد تنبئ بي لعهد مستقبل لأني ولدت فاتحًا، والآن لقد أتيت بوصفي وحيدة «حور» أقذف النار على أعدائي، ولقد نفيت ما تلعنه الآلهة، والأرض قد محت طابع أقدامهم، وهذه كانت القاعدة التي سار على هَدْيها والد آبائي، الذي جاء في أوقاته المحدودة، وهو الإله «رع»، ولن يحدث قط تخريب ما أمر به «آمون»، وإن أمري سيبقى ثابتًا كالجبال، وسيضيء قرص الشمس، ويرسل الأشعة على ألقاب شخصي الفاخر، وسيحلق صقري فوق العلم الملكي حتى الأبدية.

    هذا النص الذي تركته لنا الملكة «حتشبسوت» يكشف لنا بعضَ الشيء عن الحالة التي كانت عليها المعابد المصرية في العهد الذي تلا طرد الهكسوس من البلاد؛ إذ إنه على الرغم ممَّا قام به أسلافها من ملوك الأسرة الثامنة عشرة من أعمال التعمير والإصلاح، فإن كثيرًا من المعابد كان لا يزال مخرَّبًا تخريبًا تامًّا، وقد نهب ما كان بها من أدوات لإقامة الشعائر الدينية، ولم يَبْقَ منها قليل أو كثير، حتى إن معبد «القوصية» وهي آخِر بلدةٍ وصَلَ إليها الهكسوس في زحفهم على مصر الوسطى قد وجدته «حتشبسوت» مخرَّبًا، وأن الأرض قد التهمت معبدها المجيد وأصبح سقفه ملقًى على الأرض ترقص عليه الأطفال؛ ولذلك كان أول همِّ الملكة «حتشبسوت» أن تقيم معبد الإلهة «بخت» العظيمة، وتاسوعها، فنحتت لها معبدًا في الصخر يقاوم الدهر ويغالبه ترسل الشمس عليه أشعتها، ولقد أجادت أو أجاد «سنموت» في تنسيق حجره الداخلية، ونُقِش عليها صور آلهة تاسوعها بالذهب، وخلد أعيادهم، وتضاعفت القرابين عمَّا كانت عليه من قبلُ، وبعد أن قامت ببناء هذا المعبد، وتجديد أعياد الآلهة الذين كانوا في هذا الإقليم كما ذكر في هذا المتن، نجدها تحدِّث العالم في هذا النقش بأنها أعادت المواصلات بين مصر والبلدان الأخرى التي كانت قد انقطعت أسبابها بينهم، فتقول لنا: إن شبه جزيرة «سينا» لم تَعُدْ بعدُ خافيةً عن نظر جلالتي، وإن بلاد «بنت» تفيض على البلاد بأشجارها العطرية، وإن الطرق التي كانت مسدودةً في وجه المصريين شمالًا وجنوبًا قد فُتِحت، ثم تحدِّثنا «حتشبسوت» في نهاية المتن عن الأعمال التي قامت بها في طول البلاد وعرضها، وبخاصة فيما خربه الهكسوس كما سبقت الإشارة إليه عند الكلام على طردهم.

    والواقع أن هذه الملكة قد أقامت هذه المباني، ونفَّذت تلك الإصلاحات دعايةً لها كما ذكر في فاتحة هذا المتن؛ إذ يقول:

    لقد أقامت هذا الأثر الدائم لتثبت اسمها العظيم بقوة مثل السماء؛ حتى تستطيع أن تنقش بمهارة تواريخَ سيادتها على ذلك الإقليم … إلخ.

    والواقع أن «سنموت» كان لا يرى وسيلةً للدعاية لهذه الملكة الصديقة دون أن يلجأ إليها وينفذها، إرضاءً لها وتفانيًا في حبها، غير أن «حتشبسوت» لما رأت سلطان «سنموت» قد طغى على سلطانها، أخذت تقلب له ظهر المجن، ولكن الوثائق الرسمية تعوزنا في هذا الصدد، غير أنها على ما يظهر أخذت تستلُّ منه السلطة التي كانت في يده كما سيجيء بعدُ.

(١٠) الأميرة نفرو رع وسنموت

والواقع أن نجم سعده قد أخذ يأفل عندما فارقت الحياة الأميرة والزوجة المقدسة «نفرو رع» التي كان يقوم على تربيتها ويدير أملاكها، وباختفائها فقد أعظم ركن من أركان مجده، وقد كانت على قيد الحياة بطبيعة الحال عندما وضع حجر أساس معبد الدير البحري في السنة السابعة من عهد «حتشبسوت»، وكذلك كانت لا تزال حيةً تُرزَق في السنة الثالثة عشرة كما نعلم ذلك من نقش في محاجر «سينا»، وكانت تتمتع بالصحة عندما أقام «سنموت» قبره الأول، وأقام فيه تماثيله المحفوظة بمتحف «برلين» ومتحف «لندن» و«شيكاجو»، ولم تكن قد فارقت الحياة عندما كان محراب الدير البحري يزين بالنقوش،٢٤ غير أنها لم تظهر في باقي مناظر المعبد التي بُدِئ فيها حوالي العام السادس عشر من حكم والدتها، يضاف إلى ذلك أن «سنموت» لم يدع لنفسه أنه كان القائم على شئونها في نقوش قبره الجديد حوالي نفس التاريخ، أو على تمثاله المحفوظ الآن بمتحف القاهرة.٢٥

(١١) مريت رع حتشبسوت زوج تحتمس الثالث

وكانت الزوجة الثانية للفرعون «تحتمس الثالث» «مريت رع حتشبسوت» التي لُقِّبت الزوجة الملكية العظيمة، ووالدة وارث عرش الملك (أمنحتب الثاني)، وفضلًا عن ذلك فإنه إذا كانت «نفرو رع» قد واراها التراب فانتهت وصاية «سنموت» والقيام على تربيتها، فإن عهد حداثة «تحتمس الثالث» وقصر سنه أصبحت كذلك في خبر كان؛ إذ قد نَمَا وترعرع حتى صار كهلًا، قصير القامة قوي البنية، ممتلئًا نشاطًا نابليونيًّا متأججًا، كانت جذوته قد أخمدت حتى الآن، غير أن لهيبه سيندلع فيجعل العالم المعروف وقتئذٍ يحترق بناره، فقد كان الواجب أن يكون منذ زمنٍ بعيدٍ الحاكم المنفرد لمصر لولا قيام «حتشبسوت» في وجهه، وإنَّا لا نحتاج إلى شحذ مخيلتنا لنتصور ما كان يكنُّه من الحقد والبغضاء وحب الانتقام من هؤلاء الذين حرموه حقوقه الشرعية، أو نرى الخطر الذي كان لا بد أن يداهم «سنموت» حينما يتولى «تحتمس الثالث» الملك؛ وآخِر تاريخ لدينا عن حياة «سنموت» الحكومية هو ما وجدناه على قطعة الخزف المؤرخة بحوالي منتصف السنة السادسة عشرة من حكم «حتشبسوت». وإذا فرضنا أنه قد مضَتْ سنة أو سنتان أخريان قبل الانتهاء من نقوش معبد الدير البحري وتركيب آخِر الأبواب التي خبئت وراءها صوره، فإن في استطاعتنا أن نقول إنه عاش حتى السنة الثامنة عشرة، أي حوالي ١٤٨٣ق.م، وإذا كان هو الذي قام بآخِر أعمال أقامتها «حتشبسوت» في الكرنك، فإنه لا بد قد عاش حتى السنة التاسعة عشرة، ولا نظن أنه عاش بعد ذلك التاريخ؛ إذ لا يمكن أن يفلت من يد «تحتمس الثالث» الذي كاد صبره ينفد من رؤية هذا الرجل الذي أضاع عليه الملك نحو خمس عشرة سنة.

والأمر الذي لا نزاع فيه هو أنه قد سقط من عليائه، وقُضِي عليه قبل اختفاء سيدته من عرش الملك، وتلك الحقيقة يمكن استنباطها من القبر الذي أقامه في هذه السنة؛ إذ نجد في قبره الجديد أن صوره قد هُشِّمت في حين أن صور «حتشبسوت» قد بقيت لم تُمَسَّ بسوء؛ ولذلك أعتقد أن الملكة نفسها هي التي غدرت به أو أهملته عندما رأت أنه يسيطر على كل شيء في البلاد، كما يلمس من تصرُّفاتها معه بعد موت «نفرو رع».

(١٢) سنموت يُقِيم قبرًا ثانيًا لنفسه

وتدل شواهد الحال على أن قبره الذي حفره تحت معبد الدير البحري ليخفيه عن أنظار اللصوص لم يُدفَن فيه بعد وفاته، والقبر يُعَدُّ من التحف الأثرية النادرة المثال؛ إذ يصل إليه الإنسان بدرج طويل يبلغ طوله ما يربو على تسعة وتسعين مترًا، وهذا القبر كان يتألَّف من بعض حجر بعضها فوق بعض، ومتصلة بدرج منحدر، فعلى مدخل الحجرة الأولى عتب منقوش عليه الأمير والحاكم، والفم الوحيد، الذي يتكلَّم بسكون (أو بعبارة أخرى من سكوته بلاغة) وعظيم عظماء الملك، والرفيق المحبوب بعزة مدير بيت «آمون» «سنموت» المرحوم الخادم الصادق في حبه، والذي يفعل ما يلقى موافقة سيد الأرضين.

وبعد ذلك ينحدر الإنسان عدة درجات إلى أن يجد لوحتين مستديرتي النهاية، قد ثبتتا في الجدار على كلا جانبي المنحدر، وعلى إحداهما يوجد رسم تخطيطي بالمداد الأحمر لرأس صاحب المقبرة، وكتب عليها مدير بيت «آمون» «سنموت»، وعلى الرغم من أن هذه الصورة رسم تخطيطي على الطريقة المعتادة التقليدية، إلا أن المثال كان في مقدروه أن يقنع أبناء العصر الحالي بأن «سنموت» كان ذا وجه يلفت النظر بأنفه الأقنى، ووجهه المغضن الذي ينمُّ عن مزاج عصبي، وكانت تجاعيد محياه من الأوصاف التي عُرِف بها، كما يدل على ذلك رسم تخطيطي هزلي له عثر عليه اللورد «كارنرفون» و«كارتر» في مقبرة بهذه الجهة. والواقع أنه لم يتمَّ إلا نقش حجرة واحدة في مقبرته، ومع ذلك فإنه لا يزال باقيًا فيها، ممَّا يدل على أن يد النقاش لم تكد تنتهي منها إذ وجد على الجدران ما يدل على تواريخ التفتيش في أثناء سير العمل فيها.

(١٢-١) وصف محتويات القبر

وجدران هذه الحجرة الأربعة قد نُقِشت بدقة نقوشًا عمودية من الإشارات الهيروغليفية، تحتوي على فصول انتُخِبت من كتاب ما يوجد في العالم السفلي، وكتاب البوابات، وكتاب الموتى، وهي الكتب الدينية التي ترشد روح المتوفَّى في الحياة الآخرة عندما يسبح مع الشمس في سفينتها مخترقة محيط العالم السفلي، وتخترق في سياحتها «بوابات» جهنم المخيفة، أو حقول القربان، وقبالة باب هذه الحجرة لوحة رُسِمت على هيئة الباب الوهمي الذي تخرج منه روح «كا» «سنموت»، ثم تعود منه ثانية بعد أن تتنزه في عالم الدنيا كل يوم؛ ونجده كذلك مرسومًا مع إخوته وزوجه على هذه اللوحة، ونراه كذلك جالسًا يتحدَّث إلى والده ووالدته من نافذةٍ في أعلى اللوحة، وأخيرًا نراه كرَّةً ثالثة جالسًا وحده، وأمامه غداؤه في داخل الباب الواقع أعلى اللوحة.

على أن الدرة الثمينة في رسوم هذه الحجرة هو سقفها؛ إذ نرى فيها مصوَّرًا جغرافيًّا للسماء، وهو يُعَدُّ من أقدم المصوَّرات التي وصلَتْ إلينا وأحسنها، وقد رسمه مفتن من أمهر المفتنين الذين عاشوا في منتصف عهد الأسرة الثامنة عشرة؛ ففي وسط النصف الشمالي نشاهد مجموعةَ النجوم التي لها رأس ثور، وهي ما يُعرَف في عهدنا بالدب الأكبر، ومجموعة النجوم القطبية. وفي عرض السماء رُسِمت الأعياد الشهرية الاثنا عشر، كلٌّ منها في هيئته، بدورتها التي تقطعها في أربع وعشرين ساعة، وتحت ذلك نجد الأجرامَ السماوية الواقعة في شمالي السماء تمر في موكب. وقبالة هذه في جنوبي السماء، نشاهد نجمَ الجوزاء أو الجبار يلفت بعنادٍ وجهَه بعيدًا عن نجم الشِّعْرَى اليمانية التي تسعى وراء اقتناصه، وهي ترنو إليه بطرفها سنةً بعد سنةٍ دون جدوى، وفوقها نشاهد قائمةَ نجوم (الدكان)٢٦ وقد أُدخِل بينها اسمُ «حتشبسوت» بوصفها من الأجرام السماوية.
والواقع أنه مصوَّر جغرافي جميل للسماء أقدم من الذي عُثِر عليه في قبر «سيتي» الأول، ولا نزاع في أن كل مَن أراد أن يدرس علمَ الفلك عند قدماء المصريين لا يستطيع الاستغناءَ عن هذا المصوَّرِ الفذِّ، وقد برهَنَ الأستاذ ونلك على أن هذا القبر حُفِر حوالي السنة السادسة عشرة من عهد «حتشبسوت»،٢٧ على أن الأحوال التي قُضِي فيها على «سنموت» وعلى مجده، لا بد أن نتركها لخيال القارئ؛ لأن الآثار لم تحدِّثنا عنها حتى الآن بكلمة واحدة، غير أن الإنسان يمكنه أن يتصوَّر أنه على أثر وصول الأخبار بنهاية مدير البيت العظيم، صدرت الأوامر بسد قبره الجديد المتناهي في الفخامة، وهو الذي أراد أن يباهي به في الأبهة والسرية قبرَ سيدته وخليلته «حتشبسوت»، ولا يبعد أن تكون هي التي أمرت بذلك، وقد نفَّذَتْ هذه المؤامرة على جناح السرعة؛ إذ قد نزل العمَّال إلى حُجرة دفنه المزخرفة، وهشَّموا وجوهَ «سنموت» أينما وجدوها في المناظر التي على الجدران، ولم يَفُتْهم الرسمُ التخطيطي للرأس السالف الذكر؛ إذ أصابوه ببعض العطب، والظاهر أنه لم يكن لديهم وقتٌ للبحث عن اسم «سنموت» في النقوش، بل يُحتمَل أنه لم يكن واحدٌ منهم يعرف القراءة، أما طغراءات «حتشبسوت» فلم يمسُّوها بسوء. وأخيرًا جمع العمَّال بسرعة لبناتٍ وأحجارًا عند مدخل القبر، ومن ثَمَّ أخذوا يسدُّونه، غير أنهم لم يستمروا في عملهم طويلًا حتى النهاية، بل تركوا بناءَ سد الباب، وأخذوا يهيلون الترابَ والأوساخَ بما يكفي لسده.

(١٣) مصير سنموت

والظاهر أن «سنموت» كان يعلم علم اليقين أنه إذا ماتت «حتشبسوت» قبله، أو إذا غضبت عليه، فإنه لن يلقى أيَّ رحمةٍ على يد خلفها أو على يدها؛ وذلك لأنه أخذ احتياطًا غريبًا يحتال به على بقاء اسمه إذا أُزِيل من جدران قبره؛ لأن في ذلك يكون القضاء على شخصيته أو روحه في عالم الأرواح، فيمكن الإنسان أن يرى في قبره الذي بقي إلى الآن مخربًا كيف أنه أمر بكتابة اسمه في جهات متفرِّقة على واجهة الصخر، تحت طبقة الملاط التي وُضِعت على الجدران، فإذا أُزِيلت الرسوم التي على طبقة الجص، ظهر اسمه منقوشًا هناك مخفيًّا عن أعين أعدائه، ولكنه ظاهر للأرواح (راجع: Weigall, “Guide” p. 148).

على أن هذا المصير المؤلم لم يكن من نصيب «سنموت» وحده، بل كان النهاية المحتومة لعددٍ من كبار الرجال البارزين في عهد «حتشبسوت»، أو بعبارة أخرى رجال العصبة الذين آزروها وعزَّزوا ملكها، وسنتحدث عنهم فيما بعدُ.

fig30
شكل ٥: صورة سنموت (بالمداد الأحمر).

(١٤) مكانة الملكة حتشبسوت

ولا بد أن «حتشبسوت» قد مضَتْ أيام حكمها تحفها الأبهة، وتحيط بها العظمة، وتتقلب في أعطاف النعيم والمجد المؤثل، يلتفُّ حول عرشها ويشدُّ أزرها هؤلاء الرجال العظماء، الذين ذكرناهم فيما بعدُ، وذكرنا بعض ما قاموا به من عظائم المشروعات الضخمة التي جعلت اسمها في أفواه أبناء الأجيال التي تلت حتى عصرنا الحالي، وستبقى ذكراها ما دام التاريخ يتحدَّث عن عظماء الرجال والنساء، ولا بد أن شهرتها بطبيعة الحال كانت قد ذاعت في كل العالم المتمدين في عصرها، ولا أدل على ذلك ممَّا نشاهده على قطعة صغيرة من الرسوم الملوَّنة التي بقيت لنا من قبر «سنموت»؛ إذ نرى عليها صور مبعوثين من جزيرة «كريت» النائية يحملون للملكة هدايا، ويظهر أن نشاطها كان منتشرًا في كلِّ الجهات.

(١٥) آثار حتشبسوت في جهات القطر وخارجه

فنرى أنها قد أعادت فتح المناجم في «سرابة الخادم» في شبه جزيرة «سينا»؛ إذ قد عُثِر على بعض قِطَع الفخار الملوَّن في تلك الجهة باسمها، ويمكن أن نذكر عرضًا هنا أن كاتب أحد النقوش في ذلك المكان قد كان مرتبكًا في موضوع اشتراك «حتشبسوت» مع «تحتمس الثالث» في الحكم، حتى إنه كتب «ماعت كارع-تحتمس» بوصفها اسم فرعون واحد،٢٨ وفي «وادي مغارة» توجد لوحة مؤرَّخة بالسنة السادسة عشرة من حكمها، عليها رسم كلٍّ من «حتشبسوت» و«تحتمس الثالث»، الأولى ترتدي فوق ملابسها نوعًا من السجف، وفي «بوتو» من أعمال الدلتا وُجِد خاتم معبد «آمون» عليه اسمها،٢٩ وكُشِف في «العرابة المدفونة» عن بعض أواني المعبد عليها اسمها٣٠ كذلك، وفي مدينة «هابو» يوجد ما يدل على بعض أعمالها في هذه البقعة.

وفي الكرنك تركت لنا آثارًا عدة، من أهمها ما عثر عليه حديثًا المهندس «شفرييه» عندما كان يشتغل بإصلاح «البوابة» الثالثة؛ إذ قد وجد أن «أمنحتب الثالث» صاحب هذه «البوابة» قد أخذ معظم أحجار معبدٍ أقامته «حتشبسوت» في هذه البقعة، ووضعه في حشو هذه البوابة، وقد قُطِعت أحجاره من الجرانيت الأحمر المحبب، ونقوشه غاية في الدقة، وقد زُينت جدرانه الخارجية بأسماء مقاطعات القطر المصري، كلٌّ منها في صورة إله النيل، وفوق رأسه اسم الإشارة الدال على المقاطعة، وهذه القائمة تُعَدُّ من أهم القوائم التي عُثِر عليها حتى الآن.

وفي مدينة الكاب عُثِر على نقش لها هناك،٣١ وقد عثر «لبسيوس» على بوابةٍ عليها اسمها في «كوم أمبو»،٣٢ وفي «وادي حلفا» (بوهن) أقامت معبدًا عظيمًا.٣٣
وتوجد لها آثار عدة صغيرة كذلك، منها لوحة في «متحف اللوفر» مقدَّمة من «حتشبسوت» للملك «تحتمس الأول» والدها، وقد مُثِّل عليها جالسًا يتقبَّل القربان؛٣٤ كما توجد لوحة أخرى في «متحف الفاتيكان»، حيث نشاهد «حتشبسوت» تقدِّم القربان للإله «آمون»، ويُرَى «تحتمس الثالث» واقفًا خلفها،٣٥ وكذلك عُثِر على لوحة صغيرة نشاهد فيه الملكة ترضعها البقرة «حتحور» كما نشاهد في الدير البحري؛٣٦ إذ قد أقامت مقصورةً خاصة لعبادتها تُعَدُّ من تحف هذا المعبد، وترجع عبادة هذه البقرة إلى عهود قديمة، كما تكلَّمنا عنه فيما سلف في الجزء الثالث (راجع جزء ٣)، هذا وقد عُثِر لها على عدة تماثيل، بعضها موجود في المتاحف الأوروبية، وبخاصة من تماثيل «بو الهول» التي عُثِر عليها من بقايا التماثيل التي نصبت لها على الطريق المؤدِّي إلى معبد الدير البحري، رءوسها رءوس رجال ملتحون، وقد أصلح الأستاذ «ونلك» عددًا منها بعضه في متحف «متربو ليتان»، وبعضها في المتحف المصري، وخلافًا لذلك نجد رأسين محفوظين من هذه التماثيل في «برلين»، وكذلك رأس تمثال، وتمثال من غير رأس للملكة،٣٧ كما يوجد تمثالان آخَران لها في «ليدن»،٣٨ ويوجد للملكة تمثال مجاوب في «لاهاي».٣٩

(١٦) سبب تزيِّي حتشبسوت بزيِّ الرجال

ولا يفوتنا بهذه المناسبة أن نذكر هنا أن بعض المؤرخين ينسبون تزيِّي «حتشبسوت» بزيِّ الرجال إلى سبب خاص، فيقول الأستاذ «ويجول» في كتابه تاريخ مصر ما يأتي:

من المعلوم أن الملك «أحمس» الأول قد تزوَّجَ من امرأةٍ تُدعَى «أنحابي»، وقد رُزِق منها بنتًا تُسمَّى «أحمس حنت تامحو»، ومعنى «حنت تامحو» كما يقول «ويجل» سيدة قوم «التمحو»، وهم أهل «لوبيا»، ويستنتج من ذلك قوله: إنه من الجائز أن «أحمس» هذه كانت أميرة من «التمحو»، ولكنها لما كانت تُلقَّب «بالابنة الملكية» فيُحتمَل أن ملوك غرب الدلتا كان لهم ملك خاص في أوائل حكم «أحمس» الأول؛ إذ اقتبَسَ المؤرخ «يوسفس» عن «مانيتون» أن الثورة التي قامت على «الهكسوس» كان قد نظمها ملوك «طيبة»، أي ملوك الأسرة السابعة عشرة، وملوك آخَرون من أجزاء مصر، وأن والدة هذه الملكة «أحمس حنت تامحو» كانت بنت ملك من ملوك غربي الدلتا، وقد ذكر الأستاذ «نيوبري» في كتابه عن تاريخ مصر القديمة ص١١٠ أن الأميرة «أحمس حنت تامحو» هي أم الملكة الشهيرة «حتشبسوت» التي ميزت نفسها بالتزيي بزي الرجال، ولكن لباس نساء «التمحو» كان لا يمكن تمييزه من لباس الرجال، وعلى ذلك يمكن القول بأن «حتشبسوت» كانت في ذلك تقلد والدتها، وعلى الرغم مما يعتور ذلك من الشكوك فإنه يقال إنه كان يوجد ملك يحكم في غرب الدلتا في أوائل حكم «أحمس» الأول، وأن الأخير قد تزوَّجَ من ابنةٍ له تُدعَى «أنحابي» لأسباب سياسية، ومن الواضح على كل حال أن أحمس قد تخلص منه كما يدل على ذلك انفراده بالحكم، وكذلك تدل شواهد الأحوال على أن «أنحابي» قد توفيت قبل نهاية حكمه؛ إذ يقول الدكتور «أليوت سمث» أن تحنيط جسمها يرجع إلى طراز التحنيط الذي يُنسَب إلى أوائل عهد الأسرة الثامنة عشرة، وتدل موميتها على أنها كانت قوية البنية، عريضة المنكبين، صغيرة السن، عظيمة القدمين، بدينة، ويُحتمَل أنها قد ماتت بعد وضْعِ ابنتها «أحمس» مباشَرةً،٤٠ غير أن هذا الاستنباط في نسب «حتشبسوت» لا يخرج عن الظن والتخمين.

فالواقع أنه كان يوجد ملكتان في بداية الأسرة الثامنة عشرة: إحداهما تُسمَّى أحمس سيدة تامحو «أي: سيدة أرض الشمال»، والثانية تُسمَّى أحمس سيدة تمحو (بلاد تمحو أي: لوبيا)، ومن ثَمَّ يُلاحظ في النطق بالاسمين تورية ظاهرة.

وقد كان أول مَن فطن لوجود هاتين الملكتين الأثري «دارسي»، ثم جاء بعده الأستاذ «نيوبري» وقال إن اشتقاق هذين الاسمين من أصل واحد، أي إن «تامحو» «وتمحو» موحدين لفظًا ومعنًى، وهذا الزعم غير صحيح (راجع: Ancient Egypt, 1915 p. 99).

وحقيقة الأمر ما يأتي: عُثِر على مومية في خبيئة الدير البحري محفوظةً في تابوتٍ عارٍ عن النقوش، وقد كُتِب على صدرها بالخط الهيراطيقي ما يأتي: البنت الملكية والأخت الملكية والزوجة الملكية سيدة «تمحو». هذا وقد وُجِد على لفائف كتب عليها متن من كتاب الموتى نسب إلى هذه الملكة وهو: الابنة الملكية أحمس المسمَّاة سيدة تمحو المرحومة، وهي طفلة البنت الملكية المسماة «تنت حابي».

ومن جهة أخرى وُجِد تابوت من الخشب كُتِب على غطائه البنت الملكية والأخت الملكية أحمس سيدة «تامحو»، وقد قال الأثري دارسي في تفسير ذلك إنه قد حدث خطأ في وضع الغطاء على هذه المومية، ومن الجائز أن ذلك حدث في عصرنا أو في الأزمان القديمة، وأن هذا الغطاء هو لصاحبة التابوت الأول؛ على أن «مسبرو» يعتقد أنهما اسمان مختلفان، وموضوع بحثنا حتى الآن هو في أميرةٍ تُسمَّى أحمس سيدة «تامحو»، وقد وُجِد اسمها على قطعة صغيرة من الآثار في مجموعة بتري (History. of Egypt. II. p. 43.) هكذا: الأخت الملكية «أحمس سيدة تامحو». وكذلك وُجِد منقوشًا في مقبرة رجل يُدعَى «أمنمحات» الواقعة في «جبانة شيخ عبد القرنة» رقم ٥٣ من عهد «تحتمس الثالث»، وذلك على لوحةٍ رُسِم على جزئها الأعلى المتوفى وهو يقدِّم القربان إلى سيدتين جالستين، الأولى تُلقَّب البنت الملكية «أحمس» سيدة الأرض الشمالية (تامحو)، والثانية أمها وتُلقَّب: زوج الملك «أحمس أنحابي». يضاف إلى ذلك أنه قد عُثِر على لقب الأميرة الأولى فيما بعدُ في قبرين أحدهما قبر «خع يخت» في «دير المدينة» (رقم ٢)، ويرجع عهده للأسرة التاسعة عشرة أو العشرين. ويلاحظ أن المتوفَّى قد ظهر يقدِّم القرابين إلى صفين من ملوك الأسرة الثامنة عشرة الجالسين أمامه، ومن بينهم الزوجة الملكية العظيمة سيدة الشمال (تامحو)، وكذلك وُجِد اسمها مرةً أخرى بنفس الصورة في مقبرة «أنحر خعو» (مقبرة رقم ٢٩٩) التي يرجع عهدها إلى عصر رعمسيس الثاني، فنجد إذن من هذين النقشين أن الاسم موحد، ولا شك أن أحمس سيدة بلاد الشمال هي «أحمس» بنت أنحابي. وقد وُجِدت مومية «أنحابي» في تابوت امرأةٍ تُدعَى «رعي»، كما يُستنبَط ذلك من النص الهيراطيقي الذي وُجِد على لفائف المومية، وهو: الابنة الملكية والزوجة الملكية «أنحابي» العائشة. وقد وُجِد اسم هذه الملكة كما ذكر «مسبرو» على توابيت «رعمسيس الأول» و«سيتي الأول» و«رعمسيس الثاني»، ومن كل ما سبق نعلم الحقائق التالية؛ أولًا: نعلم أنه كانت توجد ملكة تُدعَى أحمس حنت تمحو (أي: سيدة بلاد التمحو)، ووالدتها تُدعَى تنت حابي. وثانيًا: توجد ملكة أخرى تُدعَى أحمس حنت تامحو (سيدة بلاد الشمال)، وتُسمَّى والدتها «أنحابي». وعلى ذلك يظهر أنه لا يمكن توحيد اسم الملكتين ولا اسم الأمين، مع وجود تورية في كلٍّ من اسمَيِ الابنتين والأمَّيْن.
ولا نزاع في أن أحمس سيدة بلاد الشمال ابنة «أنحابي» هي والدة الملكة «حتشبسوت» وابنة الفرعون «أحمس الأول» (راجع: Holscher, “Libyer und Agypter”, p. 51-52 & Chronique d’Egypte No. 31. Janvier 1941. p. 39–42).

وخلاصة القول إذن أنه ليس هناك أية صلة بين الملكة «أحمس حنت تامحو» وبين بلاد التمحو أي بلاد لوبيا، وبذلك يكون ما ظنَّه «ويجل» وغيره لا أساسَ له من الصحة، بل يجوز أن «أحمس حنت تمحو» التي يشير إليها «ويجول» هي بنت الملكة «تنت حابي» التي أشرنا إليها فيما سلف، ومن الجائز أنها بنت «أحمس الأول».

وأما تزييها بزي الرجال، فإنها فعلته لتُسمَّى ملكًا لا ملكة؛ إذ إن مصر كان لا يحكمها إلا الرجال، وقد ضربت لها المثل في ذلك الملكة «خنت كاوس» في عهد الأسرة الخامسة؛ إذ سمَّتْ نفسها على نقوشها ملك الوجه القبلي والبحري. وقد حافظت «حتشبسوت» على أن تكون مذكرًا لا مؤنثًا في نقوشها كذلك، فكان ضمير الغائب المذكور هو السائد في كل وثائقها، ولم يُعرَف لها غير تمثال واحد في زي النساء.

(١٧) آثار أخرى للملكة حتشبسوت

هذا وقد عُثِر على صندوقٍ نُقِش عليه طغراءات الملكة في خبيئة الدير البحري، ولكن لما كان اسم «آمون» قد مُحِي منه، فلا بد أن هذا القبر كان يمكن الوصول إليه في عهد «أخناتون»، ولم يكن وقتئذٍ في قبر الملكة، وعلى ذلك فقد ظنَّ البعض أن الكلية التي وُجِدت في هذا الصندوق كانت لملكة تُدعَى «ماعت كارع» من عهد الأسرة الواحدة والعشرين، على أنه قد تكون من الصدف السعيدة إذا كان هذا الصندوق قد استُعمِل ثانيةً بعد صنعه بعدة قرون، وتكون التي استعملته ملكة تحمل اسم ملكتنا «حتشبسوت»،٤١ ولدينا بعض آثارها الخاصة، منها إستركون من الحجر الجيري الأبيض، كُتِب عليها اسم «سات رع» مربية «حتشبسوت» الأولى، فنشاهدها تدعو لمليكتها بقربان ملكي بوصفها إلهة، وهذه المربية كانت تُعرَف باسم «ين» أيضًا،٤٢ وكذلك وُجِد تمثال لشخص يُدعَى «أنيبي» بالمتحف البريطاني يمدح الملكة «حتشبسوت» و«تحتمس الثالث»،٤٣ وقد عُثِر على بعض قِطَع من الآثار في مدفنها، وأهمها جزء من إناء منقوش عليه اسم الملكة، والكلمات التي تلي الاسم تدل على أنها قد توفيت عندما نُقِش هذا الإناء؛٤٤ ولذلك يُعتقَد أن بعض الأشياء وُجِدت بالقرب من قبرها يحتمل أنها كانت جزءًا من أثاثها الجنازي.
والواقع أن هذه الآثار تُعَدُّ ذات أهمية عظيمة،٤٥ ويحدثنا الأستاذ «بتري» عن هذه الأشياء حديثًا ممتعًا، وعن الملابسات التي أدَّتْ إلى كشفها نقلًا عن «جرفيل شستر» الذي أهداها للمتحف البريطاني؛ فيقول لنا: إن مستر «شستر» كان قد أخبره لصوص الآثار أنه توجد مجموعة من الآثار تحتوي على عرش ورقعة «ضامة»، وأحجار «ضامة» عدة، وقطعة من خرطوش من الخشب، وقد وُجِدت كلها مخبَّأة في إحدى الحجرات الجانبية لمعبد الفرعون «رعمسيس التاسع» تحت حجر غير مثبت يسد المكان، وقد أرشد أحدُ تجارِ آثارِ الأقصر المسترَ «شستر» إلى هذه البقعة، أما عن المكان فلا يمكننا إثباته أكثر من أنه كان في بداية تلك الناحية من الوادي التي تقع بالقرب من الصخرة خلف معبد «حتشبسوت»، وهي التي كان فيها قبرها.
على أن الآثار التي خبئت بهذه الكيفية تشعر بأن قبرها كان قد سُرِق في الأزمان القديمة، وحمل اللصوص معهم كلَّ ما خفَّ حمله من أشياء حتى يمكنهم أن ينقلوها إلى حيث شاءوا على مهل، بعد أن لفت نظر رجال الحراسة إلى ما حلَّ بقبر الملكة، ولا بد أن اللصوص قد دفنوا الأشياء التي ليس لها قيمة عظيمة في مقبرة «رعمسيس التاسع» التي كانت بدورها قد نُهِبت فعلًا وتُرِكت مفتوحة، وتقع عند فم الوادي، إلى أن يجدوا الوقت المناسب لنقلها، ويظهر أن القطع التي تتألف منها المجموعة كانت في الواقع مرتبطة، فجزء الطغراء المصنوع من الخشب لم يكن من السهل قراءة ما عليه من النقوش إلا لمَن عرف إشارات اسم الملكة، عن ظهر قلب، كما أن التاجر الذي باعها لم يكن يعرف الاسم، وعلى ذلك لم يحاول أحد في ذلك الوقت نسبة هذه الأشياء لهذه الملكة، غير أن قطع «الضامة» المصنوعة من الخشب التي كانت كلها في صور رءوس أسود هي من طراز قطعة «الضامة» الجميلة المصنوعة من حجر اليشب الذي يحمل اسم الملكة على الرأس والطوق،٤٦ وهذه القطعة محفوظة الآن في المتحف المصري، ولا يمكن أن تكون قد استُعمِلت نموذجًا للمقلدين الأحداث للآثار؛ وعلى ذلك نجد أن القطعة الموجودة بالمتحف تؤرِّخ لنا القِطَع التي توجد في مجموعتنا هذه وتؤكِّد أثريتها؛ وعلى ذلك يمكن القول بأن هذه القِطَع مرتبطةٌ بقطعة الطغراء التي وُجِد عليها اسم الملكة، وكذلك يُحتمَل كثيرًا أن رقعة الضامة هي التي كان عليها هذه القطع، ومن ثَمَّ لدينا دليل على صدق قصة هذه الآثار، هذا إلى أن أسلوب صناعة العرش المصنوع من خشب نادر مطعَّم بدقة بالسام (يُضاف إلى ذلك أن الصل الذي عليه مصنوع من نفس خشب الطغراء)، وشكله الدقيق الجميل المنظر يتفق مع ذوق صناعة العهد الأول من الأسرة الثامنة عشرة، ولا يوجد سبب يدعو إلى الشك في هذه القصة على حسب ما أمكننا أن نصل إليه في ظلِّ نظامٍ يسوده الإخفاء والسرية، فرضه قانون مصلحة الآثار المصرية.٤٧

والواقع أن ما يلفت النظر في هذه القصة الطريفة هو إلقاء اللوم على قانون الآثار المصرية، وعدم إلقاء أية مسئولية على جامعي الآثار من الإفرنج ممَّا يشجع اللصوص على الاستمرار في سرقة الآثار، وإخفاء مكان وجودها، وذلك ما يجعل قيمتها الأثرية تضيع، والمثال السابق الذكر أكبر دليل على ما ذكرناه.

(١٧-١) أشكال الجعارين في عهد حتشبسوت

وقد عُثِر لهذه الملكة على عدة جعارين ولوحات صغيرة، بعضها يحمل لقبها، وبعضها يحمل اسم العقاب والصل، غير أن أهم طائفة من جعارين هذه الملكة هي التي نجد عليها اسمها مع اسم ملك ممَّن سبقوها، فنجد من ذلك اسمها مع الملوك؛ «سنوسرت الثالث» و«سبك حتب» و«أمنحتب الأول» والثالث، وكذلك توجد جعارين تضمُّ اسمها، واسم تحتمس الثالث.٤٨
وقد كانت «حتشبسوت» أول مَن اخترع الجعارين التذكارية على ما نعلم، فقد وُجِد لها جعران يحمل العبارة التالية: «ماعت كارع» ذات الرائحة الذكية في أنف آلهة «طيبة». وهذه العبارة تشير إلى حملة «بنت» العظيمة التي كان أهم غرض لها إحضار أشجار العطور والروائح العطرية لمعبد الإله «آمون»، بل لأجل تأليه الملكة نفسها.٤٩ هذا وقد وُجِد لها جعران في الواحة البحرية كما أخبرني بذلك الدكتور أحمد فخري مدير آثار الصحاري.

(١٨) مصير حتشبسوت

ولكن ممَّا يُؤسَف له أننا لا نعلم مصيرَ مومية هذه الملكة كما ذكرنا، على أن الشيء المحقَّق أن «حتشبسوت» قد دُفِنت في مقبرتها التي أعَدَّتْها لنفسها ولوالدها، ولكن الغريب في ذلك أنها اختفت من مسرح التاريخ فجأةً؛ إذ نرى «تحتمس الثالث» يقود جيوشه إلى الحدود الشمالية لإخضاع الثورات التي قامت في أملاك الدولة في آسيا (راجع ما ذكرناه عند كلامنا على الهكسوس).

(١٩) تحتمس الأول وآثار حتشبسوت

ويُخَيَّل لي أن «تحتمس الثالث» لم يُظهِر حبَّ الانتقام مباشَرةً من «حتشبسوت» وآثارها في البلاد، بل لا بد أنه كان يساير الرأي العام الذي كان على ما يظهر لا يبغض «حتشبسوت»، وبخاصة إذا كانت هي التي أبعدت «سنموت» عن إدارة دفة الحكم، وبذلك كفَّرت عن أغلاطها معه أمام الشعب المصري، ومن المحتمل جدًّا أن «تحتمس الثالث» لم يَرَ أن مركزه كان بعيدًا عن الخطر لدرجةٍ تسمح له بمهاجمة أعمال سلفه بعنفٍ منذ بداية الأمر، بل ربما اتبع سياسة الانتظار، ثم الانقضاض.

وفي خرائب الكرنك نجد بقايا مقصورة جنازية قد أُهدِيت للملكة «حتشبسوت»، وقد عثر عليها «الجران»،٥٠ وفي النقوش التي على جدرانها قد مُثِّل الاحتفال بجنازتها، على أنه من المحتمل أن هذا المبنى قد أقامته «حتشبسوت» نفسها ليكون لها بعد وفاتها، كما نشاهد مثل هذه المناظر في قبور الأشراف، وربما أُقِيمت هذه المقصورة في وقت الاحتفال بعيدها الثلاثيني؛ لأنه في الواقع عيد يرمز به لإحياء الفرعون ثانيةً بعد حكم ثلاثين سنة، وتجديد جسده ليحكم مدة غيرها، وهذا العيد بلا نزاع عيد أوزيري الصبغة؛ وعلى أية حال فإنَّا نرى في المناظر التي على جدران هذه المقصورة، «تحتمس الثالث» يشترك في الاحتفال بدفنها، فيُرَى وهو يتقدَّمها في هيئة «أوزير» عابرًا النيل إلى الجبانة الغربية كأنه يسير في جنازتها، ومن المحتمل أن هذه المقصورة قد أُقِيمت بعد موتها مباشَرةً،٥١ ولكنَّا مع ذلك نرى بعد مدة لا يمكن تحديد مقدارِها على وجه التأكيد أن العمل كان يسير بجدٍّ ونشاط في معبد الدير البحري كرَّةً أخرى بعد ممات «حتشبسوت»، غير أنه في هذه المرة كان عمل تهديم لا عمل بناء، فهُشِّمت تماثيلها ومُحِي اسمها واسم من اشترك معها في إبعاد «تحتمس» عن أريكة الملك، ولا غرابةَ في ذلك إذا عرفنا أنه كان من الأمور التي تثير الحقد، وتوري نار البغضاء، أن يضطر شاب طموح في مقتبل العمر أن يعيش عيشة خمول مستمرة، وكذلك ممَّا لا شك فيه أن تقاليد البلاط لم يتراخَ في أمرها عندما تشبَّثَتِ الملكة بحقوقها بشدة في شيخوختها، ولم تسمح لهذا الملك الفتي بأية سلطة، ولا شك في أن «تحتمس» عندما رأى السنين تمرُّ سراعًا، وأنه قد دخل على الثلاثين دون أن يرخى له العنان، كل ذلك كان لا بد ممَّا يجعله ثائرًا هائجًا حتى أصبح يحقد على كل شيء خاص بهذه المرأة المُسِنَّة، غير أن كل شيء كان يأتي طوعًا لمَن ينتظر ويتأنى.

والواقع أن مصر قد نَمَتْ نموًّا عظيمًا في خلال العشرين عامًا التي قضتها البلاد في سلام، وبفضل تجارتها وحسن تدبير مواردها، واستغلال تربتها؛ ولذلك فإنه عندما ذهبت الملكة إلى السماء، وهي تربي على الخمسين، وكان تحتمس في السنة الأولى من العقد الرابع من سني حياته، عندما أخذ مقاليد الأمور في يده جميعًا، وجد أداة عظيمة في يدَيْه استطاع بها بعد بضعة أسابيع من تولِّيه العرشَ منفردًا أن يقذف بجيش عرمرم في ساحة القتال، في سلسلةٍ من الحملات ارتفعت مكانة مصر في نهايتها، وامتدَّ سلطانها وعظمتها، وعلى رأسها أول بطل فاتح في تاريخ العالم القديم، يغزو ويفتح بقوة لا تعرف الكلل، وجيش أصبح مدرَّبًا مثابرًا مدة تربي على الثمانية والعشرين ربيعًا.

(٢٠) عهد حتشبسوت كان عهد رخاء

وعلى ذلك فإن «تحتمس» الثالث مهما يكن رأيه في سلفه وسياستها السلمية، ومهما يكن رأينا في الطرق التي استعمل هو فيها موارد البلاد وخيراتها التي تركتها له، فإنه ممَّا لا جدالَ فيه أن العشرين عامًا التي جنحت فيها عن الحروب، وعملت على تنمية ثروة البلاد، كانت أكبر هدية قدَّمتها «حتشبسوت» لتحتمس الثالث الذي قلب لها ظهر المجن بعد موتها، على الرغم من تهيئتها له الفرصةَ للصعود إلى تلك المكانة السامية التي لم يسبقه إليها عاهل في الشرق القديم، بل في العالم المتمدين في عصره. وهكذا طُوِيت صحيفة هذه الملكة بعد أن حكمت إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر كما ذكر لنا «مانيتون»، أي في السنة الثانية والعشرين من حكم «تحتمس الثالث» الذي أنكر وجودها ملكة على البلاد، كما أُغفِلت مدة حكمها من القوائم الرسمية التي خلفها لنا المؤرخون المصريون، ولكن كل ذلك لم يُجْدِ نفعًا، وأنَّى لهم ذلك، والفرد العظيم لا يمكن القضاء عليه بطرق العنف والجبروت، فإذا حُووِل إخفاء أعماله من ناحية برزت نواحيه الأخرى الخالدة مناديةً بصوت عالٍ بعظمة لا يمكن محوها، بل تكتسح بقوتها ما أمامها من عوامل الشر، وتفيض بضوئها على العالم، وهكذا نجد «حتشبسوت» يزدهر اسمها ويسطع كلَّ يوم وعلى مر الدهور، بين أولئك العظماء الذين أسَّسوا مجد مصر، وهي إذن بذلك من النساء الخالدات التي لم يَقْوَ أعداؤها على القضاء على ما قامت به من جليل الأعمال.

(٢١) الموظفون والحياة في عهد «حتشبسوت»

(٢١-١) سنموت

لا نزاع في أن مهندس البناء «سنموت» يُعَدُّ أهمَّ شخصية في عهد الملكة «حتشبسوت»، وقد تكلَّمنا عن حياته الحكومية على وجه الإجمال فيما سبق. وقد كان هذا الرجل العظيم يحمل ألقابًا عدة متنوعة، غير أنه يشار إليه في النقوش في معظم الأحيان بوصفه مديرَ بيتِ الإله «آمون»؛ لأن هذه الوظيفة كانت على ما يظهر عمله الأصلي، وقد أقام لنفسه قبرين الأول في «جبانة شيخ عبد القرنة»، وقد خرب تخريبًا مريعًا على يد رجال «تحتمس الثالث» (راجع: Gardiner & Weigall, “Catalogue” No. 71)، ولا بد أنه كان من أجمل المقابر في هذه الجبانة إذا حكمنا بما تبقى لنا من رسوم سقفه الملون؛ إذ قد بقيت لنا قطعة من منظر استقبال الجزية الأجنبية، نشاهد فيها ثلاثة من أهل «كريت» يحملون أواني مزخرفة بأشكال تنمُّ عن الطراز المنواني الذي يضمُّ أشكالًا حلزونية ورءوسَ ثيران وزهيرات، ويتميَّز الرجال بخصرهم النحيل، وأحزمتهم العريضة، وحللهم المزركشة إلى حدٍّ بعيد، كما نشاهد في رسوم قصر «مينوس» في «كريت» مثل ذلك (Wreszinski “Atlas” Pl. 235)؛ وهذا شاهد عدل على مهارة الرسام المصري وحسن إبرازه للصورة الصادقة التعبير، وقد خلف «سنموت» عدة آثار، وهاك ألقابه كما نجدها على هذه الآثار التالية:
  • (١)
    يوجد له نقش على صخور أسوان دُوِّن عليه قطع مسلتين للملكة «حتشبسوت» وعليه الألقاب التالية: حامل خاتم الوجه البحري، والسمير العظيم الحب، ومدير البيت العظيم، والأمير الوراثي، وصاحب الحظوة العظيمة عند زوج الإله، ومدير البيت العظيم للابنة الملكية «نفرو رع» (Urk. IV. Pp. 396-7).
  • (٢)
    وله محراب حفر في الصخر في السلسلة الغربية، ويلحظ هنا أن «سنموت» قد مثل في حضرة الآلهة، غير أنه مثل بنفس حجمهم، وهذا حق كان يتمتع به الملوك وحدهم، ونجد له غير ما ذكر من الألقاب ما يأتي: المشرف على مخازن غلال «آمون»، والمشرف على القصر الخاص، ومدير كل وظيفة مقدسة (راجع: Ibid, p. 398).
  • (٣)

    أما النقوش التي على جدران قبره في «جبانة شيخ عبد القرنة» فقد هشمت كلها تقريبًا، وما بقي من ألقابه غير ما ذكرنا هي: «مدير أعمال … والمشرف على أعمال الفرعون، ومدير بيت «آمون»، والمشرف على حقول «آمون»».

  • (٤)
    وعلى عتب من قبره نجد: المشرف على حقول «آمون»، ومدير بيت زوج الإله «حتشبسوت»، والمشرف على إدارة الحكومة (Ibid. p. 400).
  • (٥)
    وعلى مخروط من الفخار نجد الألقاب التالية: كاهن «آمون» وسرحات (وهو اسم لقارب «آمون» المقدَّس)، والمشرف على ماشية «آمون» (راجع: Ibid, p. 403).
  • (٦)
    تمثال من الجرانيت الأسود «لسنموت» يُشاهَد فيه وهو محتضن الأميرة «نفرو رع»، وهو الآن في «برلين» (No. 2296)، وعليه الألقاب التالية غير ما ذكرنا: «النائب … جب، العظيم الحظوة عند رب الأرضين، والذي يمدحه الإله الطيب المشرف على مستأجري حقول «آمون»، والمشرف على عمال حقول «آمون»، ورئيس عمال «آمون»، والمشرف على إدارة الحكومة المزدوجة، فم كل بوتي (أي: من أهالي بوتو) الرئيس العظيم في بيت «نيت» مدير القاعة الواسعة في بيت الأمير (أي: عين شمس) (أي: قاعة العدل)» (راجع: Urk. IV. Pp. 404–406).
  • (٧)

    تمثال من حجر الكوارتسيت (الحجر الرملي الأحمر) وُجِد في معبد الإله «موت» بالكرنك، وهو الآن بالمتحف المصري (رقم ٥٧٩)، ويشمل الألقاب التالية الجديدة غير ما ذكرنا (١) محبوب الملكة (الصقرة) صاحبة الأرواح القوية، ومَن في قلب «حور» الظاهر في «طيبة»، والمشرف على البقرات الجميلة ملك «آمون»، ومدير البيت العظيم للملك، والسمير الوحيد، ومدير بيت النسيج للإله «آمون». ومن نقوش هذا التمثال نعلم أن «سنموت» كان موكلًا بكل المباني في «طيبة» و«أرمنت» و«الدير البحري» ومعبد «موت».

    ثم يقول لنا إنه عظيم العظماء في كل الأرض قاطبةً، والذي يسمع له بين الناس، والرسول الحقيقي، ومهدي الأرضين بلسانه، وكاهن «ماعت» (إلهة العدل)، ومدير القصر، والسمير، ومدير أعياد كل الآلهة، ومدير المديرين، ومدير أعمال بيت الفرعون، ومدير الصناع، والمشرف على كل كهنة «منتو» صاحب «أرمنت» ومرشد الناس، ورئيس الأرض قاطبةً، ورئيس طائفة الكهنة، والمشرف على بيوت الإلهة «نيت»، وحاجب ملك الوجه البحري لكل السمار، والمرافق للفرعون في كل البلاد الأجنبية، في الجنوب والشمال والشرق والغرب.

  • (٨)
    نقوش الدير البحري (Urk. IV. p. 416).
  • (٩)
    قطعة من تمثال من الجرانيت الرمادي عُثِر عليها في «إدفو» (A. S. Vol. IX. p. 106).
  • (١٠)
    ثلاثة أوانٍ من الحجر المصقول (Urk. IV. p. 416-7).
  • (١١)
    قطعة من الحجر مزخرفة من طيبة وعليها اسم موظف يُدعَى «توسي» Tws، ويحمل لقب المشرف على خضر آمون (؟) وقد كتب عليه لقب «سنموت» بوصفه مدير بيت «آمون» (راجع: Urk. IV. 417).
  • (١٢)

    تمثال من الجرانيت الرمادي «لسنموت» وهو ممسك بالأميرة «نفرو رع»، عُثِر عليه في خبيئة «الكرنك»، ويحمل لقب الأمير الوراثي، وحامل خاتم الوجه البحري، والسمير الوحيد، وكاتم السر في بيت «آمون» (معبد آمون)، ومرشد بلاد الشمال (الوجه البحري) وعماد القوم، والمشرف على مخازن غلال «آمون» في المدينة الجنوبية «طيبة»، والمشرف على عمال حقول «آمون» في … والمشرف على عبيد «آمون»، ونائب الفرعون في بيت «جب»، والمشرف على ثيران «آمون» في «الكرنك»، ومدير بيت «آمون».

  • (١٣)
    تمثال من الجرانيت الأحمر «لسنموت» والأميرة «نفرو رع» من خبيئة الكرنك، وهو الآن بالمتحف المصري رقم (No. 42115).
  • (١٤)
    تمثال آخَر من الجرانيت الأسود من نفس المكان له وللأميرة «نفرو رع» (No. 42116)، وعلى ذلك يمكن تلخيص ألقابه قبل اعتلاء حتشبسوت الملك وبعده ممَّا ذكرنا من الآثار وغيرها فيما يلي:

ألقاب سنموت قبل اعتلاء حتشبسوت العرش

(١) مدير البيت العظيم. (٢) مدير البيت العظيم للزوجة الملكية. (٣) مدير بيت رب الأرضين. (٤) مدير البيت العظيم للزوجة الملكية «حتشبسوت». (٥) مدير القصر الخاص. (٦) مدير البيت العظيم للابنة الملكية «نفرو رع». (٧) مربي الابنة الملكية (نفرو رع). (٨) مدير كل المباني الملكية. (٩) المشرف على بيتي الفضة، والمشرف على بيتي الذهب، والمشرف على الأختام. (١٠) المشرف على مخازن غلال «آمون». (١١) المشرف على حقول «آمون». (١٢) المشرف على أراضي «آمون». (١٣) المشرف على ثيران «آمون». (١٤) رئيس عبيد «آمون». (١٥) المشرف على بيت «آمون» وسرحات (المركب المقدسة). (١٦) المشرف على مخازن غلال «آمون» (وسرحات). (١٧) … آمون وسرحات. (١٨) الأمير الوراثي المشرف على كهنة «منتو» في «أرمنت».

ألقابه بعد اعتلاء حتشبسوت العرش

(١) مدير بيت آمون. (٢) مدير البيت. (٣) المدير العظيم للبيت (الملكي). (٤) المدير العظيم لبيت آمون. (٥) المدير العظيم لبيت الملك. (٦) الوالد المربي الكبير للبنت الملكية سيدة الأرضين والزوجة المقدسة «نفرو رع». (٧) المشرف على إدارة الأرضين (؟). (٨) مدير كل أعمال الفرعون. (٩) المشرف على أراضي آمون. (١٠) المشرف على حقول آمون. (١١) رئيس فلاحي آمون. (١٢) المشرف على الأرض المنزرعة للإله آمون. (١٣) المشرف على بقرات آمون. (١٤) المشرف على ثيران آمون. (١٥) المشرف على مخازن غلال آمون في المدينة الجنوبية (طيبة). (١٦) المشرف على مزارع آمون في «من إست». (١٧) المشرف على ثيران آمون في معبد الكرنك. (١٨) المشرف على أعمال الإله آمون. (١٩) المشرف على مخازن غلال الإله آمون. (٢٠) كاهن الإله آمون للسفينة «وسرحات». (٢١) المشرف على كهنة الإله منتو في «أرمنت». (٢٢) المشرف على إدارة آمون.

قطع الاستراكا المخطوطة التي وُجِدت في مقبرة سنموت وأهميتها التاريخية

كان من أعظم الكشوف الأثرية التي أماط اللثام عنها الأستاذ «ونلوك» أثناء تنظيف مقبرة «سنموت» مستشار الملكة «حتشبسوت»، وأكبر شخصية في عهدها كما ذكرنا؛ مجموعة قطع الفخار المكتوبة باللغة المصرية القديمة، وكلها خاصة بطوائف العمال والرسَّامين الذين وكل إليهم أمر حفر مقبرته وتزيينها؛ وقد دلَّ فحص نقوش هذه المجموعة على أنها تكشف لنا عن ناحيةٍ من نواحي الحياة الاجتماعية، وهي حياة طائفة العمال الذين عملوا في خدمة رجل من عظماء الدولة وأشهرها في خلال الأسرة الثامنة عشرة.

وتشمل هذه المجموعة نحو خمسين ومائة قطعة من الخزف، يرى فيما دون عليها كل من المؤرخ والقارئ العادي على السواء كل البيانات الضرورية لسير العمل في هذه المقبرة، وسنورد هنا مقدمة قصيرة مفيدة تحدِّثنا عن ظروف هذا الكشف، وكذلك تُظهِر لنا كيف أن أنواع المجاميع التي كُشِف عنها من هذه «الاستراكا» المختلفة، يمكن ربطها بأوجه نشاط الصناع المكلَّفين بنحت المقبرة.

فقد كان الكتَّاب المكلَّفون بالعمل يجمعون كلَّ يوم أثناء حفر المقبرة قِطَع «الاستراكا» المستوية السطح، ممَّا تراكم من الحفر، ويرسمون عليها تصميم الحجرات الجنازية التي لم تكن قد حُفِرت بعدُ، وكذلك كانوا يرسمون رسومات تخطيطية «كروكي» تمهيدًا للقيام بالعمل في نقوش القبر، فينظمون المتون الدينية والجنازية التي كان لا بد منها لتُحلَّى بها الحجرات، وكذلك كانوا يقدمون تقارير مختصرة عن حالة العمل، كما كانوا يدونون القوائم الخاصة بأسماء العمال، وأخرى للجرايات أو الأشياء التي تسلَّموها أو ورَّدوها.

ويلفت النظر أن بعض هذه القطع من «الاستراكا» التي وُجِدت حول المقبرة كان قد استعملها التلاميذ الذين جاءوا ليدرسوا بأشراف الكتبة الذين نصبوا للقيام بالأعمال الكتابية في القبر، لكتابة تمارينهم التي كانت تنتخب من المتون الأدبية والدينية الشهيرة، كما نجد قطعًا نقشها أفراد لمجرد التسلية واللهو وقت ملاحظتهم سير العمل، فنشاهد من بينها من وقت لآخر رسمًا تخطيطيًّا لحيوان وأشياء أخرى على حسب مزاج الرسام وهوايته. هذه نظرة عامة على ما تحتوي هذه «الاستراكا»، والواقع أن هذه القطع يمكن تصنيفها عدة مجاميع، وهي:

الاستراكا التي رُسِم عليها أشكال ليست من طراز ممتاز كلها، ويظهر أن رساميها كانوا بدائيين أو هواة وحسب، وتنحصر فائدة ما جاء عليها في أنها مسودات ورسم تمهيدي للوحات التي كانت تتألف منها نقوش مقصورة القبر الجنازية؛ فمثلًا نجد على أحدها رسمًا تخطيطيًّا لرءوس رجال يمكن الإنسان أن يتعرف فيها ملامح «سنموت»، ومن بينها وُجِد رسم رأس بالحبر الأسود، ويُشاهَد فيه أنه رُسِم على حسب قانون النسب المتبع عند المصريين؛ وكذلك نجد رسومًا تخطيطية أخرى كثيرة لمناظر مركبة مثل منظر الأسرة ومناظر دينية وأكوامًا مكدَّسة من القرابين، ولا بد أنها كانت تُرسَم على الجدران بحجم أكبر، ويكفي أن نذكر هنا تصميمين مختصرين، وهما يدلان بلا شك على مشروع تنظيم جزء من دهاليز القبر وحجراته، فقد وجدت إشارات تدل على مقاييس الأبعاد لهذه المباني.

وفي مجموعة ثانية نجد المتون ونشاهد طائفةً لا بأس بها تشمل رسومًا تحضيرية للنقوش العظيمة التي كان لا بد منها لكمال زينة القبر، ومعظم هذه النقوش قد دُوِّن بالهيروغليفية التخطيطية، وقد كُتِب في سطور عمودية أو أفقية على حسب ما تقتضيه طبيعة الرسوم التي معها، ويُلاحَظ هنا أحيانًا أن الرسم الأولي لا يقدِّم لنا إلا بداية السطور، ممَّا يدل على أن هذه القِطَع لم تكن إلا توجيهات مباشِرة لتزيين المزار الجنازي، والغرض منها رغبة الرسَّام في أن يحسب حسابه مقدَّمًا عن الطريقة التي يجب أن يُوزَّع بها المتن حتى يملأ به سطح الجدار الذي تحت تصرُّفه.

وبجانب هذه الاستراكا المكتوبة بالخط الهيروغليفي وُجِدت أخرى خُطَّتْ بالهيراطيقية وتشمل متونًا دينية وجنازية، ونظن أنَّ كثيرًا من هذه الاستراكا كانت تحتوي على المسودات الابتدائية للمتون التي انتخبها الكتَّاب لنقشها على جدران المزار، فقد وجد فعلًا متن جنازي على الجدران وما يقابله على قطع «استراكا». ومن بين «الاستراكا» الغريبة المكتوبة بالهيروغليفة واحدة منها (رقم ٥٧)، وتحتوي على المتن الذي يفسر عادةً في مناظر أخرى بلوحة الصيد في المستنقعات، أما الاستراكا الخاصة بالأعمال التي نُفِّذت في القبر فتُعَدُّ أكثر أهميةً أيضًا؛ إذ نجد الكَتَبَة الذين كانوا يديرون العمل يوميًّا يدوِّنون تقارير مختصرة عن سير العمل، وهي التي تُعَدُّ لتُكتَب في يوميات الأعمال بلا شك، وعلى الرغم من أن أعمال الحفر لم تنتج لنا إلا عددًا صغيرًا من هذه الوثائق، فقد كانت كافيةً لإعطائنا فكرةً عن تنظيم الأعمال ولتوضيح مدة سير العمليات، فنجد مثلًا على إحدى الاستراكا (رقم ٦٢) أن حفر المقبرة قد بدأ في السنة السابعة من حكم تحتمس الثالث، وعلى قطعة أخرى (رقم ٨٠) نعرف من المتن أن العمال كانوا ما زالوا مشتغلين فيه في السنة الحادية عشرة. وهاك ما جاء على الاستراكون الأولى (رقم ٦٢): «السنة السابعة، الشهر الرابع من فصل الشتاء، اليوم الثاني، بداية العمل في المقبرة في هذا اليوم: أحد عشر بناءً حفروا عمقًا كبيرًا في ستة قضب عرضًا بجانب ذراع واحد في الداخل.» وفضلًا عن التقارير اليومية يوجد كذلك قوائم بأسماء المأكولات والمشروبات وتعدادها، والغريب أن مجاميع الوثائق المختلفة من هذه الاستراكا تقدِّم لنا معلومات يظهر أنها خاصة بطوائف كثيرة كانت تقوم بأعمال مميزة، فمثلًا نجد بعض الاستراكا تشير إلى أن بعض العمال قد انتخبوا من الرجال التابعين لموظفين كبار في وقت معين.

وفي الاستراكون (رقم ٨٣) نجد التكوين التالي: الرئيس الأعلى الملكي (ربما يكون هذا هو «سنموت») واحد وعشرون رجلًا، الوزير، سبعة رجال، مدينة نفروس، ثلاثة وعشرون رجلًا. وكذلك ذُكِر على الاستراكون (رقم ٨٥) أن الكاهن الأعظم لسفينة «وسرحات» المسمَّى «سني من» الذي يمكن أن يكون أخا «سنموت» قد قدم ثلاثة عشر بنَّاءً؛ ويظهر أنهم كانوا من المذنبين الذين يقومون بالعمل سخرةً.

وعلى حسب ما جاء في مجموعة الاستراكا (رقم ٦٣–٧٤)٥٢ يُفهَم أن الجزء الأعظم من العمل في هذه المقبرة كان يقوم به طائفة من العمَّال مؤلَّفة من خمسة أو ستة أشخاص، منهم أربعة بنَّائين أو قاطعي أحجار، وهم: «تتي» Tety، و«حابي حرسا أف» Hapy-her Sa ef، و«سني نفر» Seny Nefer، و«بشاو» Beshaou، وقد كلفوا نحت المقبرة وصقل الجدران، وكذلك الكاتبان «أي أم حتب» Ii em Hetep و«أموتون»، وكانا يعملان في تلوين الجدران والزينة، وفضلًا عن ذلك كان هناك حاملون لحمل المياه وعجانون للجص (المونة). ويمكن الإنسان أن يذهب إلى أن هذه الطائفة من العمال كانت تحت إدارة موظف يقوم بوضع التقارير، على أن المعلومات التي يستقيها من قطع الاستراكا هذه تكون ذا فائدة عظمى لو وضع عليها تواريخها بصفة كاملة؛ ولكن مما يُؤسَف له جد الأسف أن الكاتب كان يكتب التاريخ مبينًا الفصل والشهر واليوم، مغفلًا ذِكْر السنة، ومن بين هذه القِطَع التي لها علاقة غير مباشرة بالصنف الأخير الذي ذكرناه قطعةٌ تثير الضحك، ويظهر أن كاتبها كان ميَّالًا للتنكيت (ورقهما ٧٨)، وقد جاء عليها: لقد حضرتُ إلى هذه المقبرة لأجل أن أفتِّشَ على الذين يعملون في نحت الأحجار من جهة، وفي يدي شظية من الحجر الصلب لأكتب عليها أسماءهم، ولكن القطع التي تحت تصرُّفي عديدة جدًّا أكثر من ثمار شجر البرسا.
ونعود بعدُ إلى الاستراكا المكتوب عليها بالخط الهيراطيقي، فنجد بعضها تحتوي على نقوش دينية (١٣٢–١٤١)، وكانت كمتن تُنقَل منه المتون التي تُنقَش على جدران المقبرة كأنشودة الصل التي على الاستراكا (رقم ١٤٠)، وقد ذُكِر «سنموت» في عنوانها. أما البعض الآخَر فكانت أدبية (١٤٢–١٥٢)، وتتميز عن السالفة بأنها ليس لها غرض جنازي قط، بل كانت مجرد قطع من الشظيات كتب عليها التلاميذُ الذين كانوا يتلقَّون دروسهم على يد الكتَّاب المكلَّفين بتسيير العمل في المقبرة، كما كانت العادة المتبعة، وربما يُعزَى ذلك إلى كثرة قطع الاستراكا عند حفر مثل هذه المقبرة الضخمة؛ إذ كان الكاتب ينتهز هذه الفرصة ويدعو تلاميذه لتلقِّي الدروس في هذه الجهة، على أن هذه التمارين يمكن معرفتها ممَّا تحتويه من كتابات رديئة، وما عليها من محو وإثبات، وممَّا هو جدير بالذكر هنا أن المتون المصرية الكلاسيكية، أيْ متون العهد الإقطاعي الأول، كانت هي النماذج التي يسير القوم على هديها في عهد «تحتمس الثالث»، كما كانت نماذج احتذاها كتَّاب عهد الرعامسة في الأوساط العلمية، وأهمها قصة سنوهيت (١٤٠)، وذم الحرف (١٤٧-١٤٨)، وتعاليم «أمنمحاب الأول» (١٤٢-١٤٣)، وعلى الرغم من أن هذه قليلة، فإنه يجب علينا ألَّا نهملها، فهي أصح نقلًا وأجمل خطًّا بكثير من التي عُثِر عليها فيما بعدُ في عهد الرعامسة (راجع: W. C. HAYES, Ostraka und Name Stones from the Tomb of Sen-Mût (No. 71) at Thebes (The Metropolitan Museum Egyptian Expedition Vol. XV.) New York. 1942).

(٢١-٢) سن من

وهو شقيق «سنموت» السالف الذكر، غير أنه لم يكن واسع الشهرة مثل أخيه، ومع ذلك كان يحمل ألقابًا عظيمة، فكان يُلقَّب «الأمير الوراثي»، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والمشرف المربي العظيم للابنة الملكية (راجع: Urk. IV. p. 48). أما في قبره في «جبانة شيخ عبد القرنة» فكان يحمل الألقاب التالية: الكاهن المطهر لمقبرة «أحمس الأول»، ومربي زوج الملك «نفرو رع»، ومربي زوج الملك «حتشبسوت»، ومدير بيت بنت الملك (Urk. IV. p. 418). وقد عُثِر على تمثال له في مقبرته، وعليه لقب مدير البيت، ومربي الزوج الإلهية، ثم الأمير الوراثي والحاكم وكاهن «آمون»، وأخيرًا لقب الذي يقترب من شخص الإله (الفرعون) (راجع: Davies, p. S. B. A, Vol. XXXV. p. 283. ff. Pl. LII, LIII).

(٢١-٣) حبو سنب

يُحتمَل أن «حبو سنب» هذا كان أكبر شخصية في عهد «حتشبسوت»؛ لأنه كان يحمل لقب الوزير، غير أن «سنموت» قد غطى عليه بما كان له من حظوة لدى الملكة؛ فمن قبره «بجبانة شيخ عبد القرنة» نعرف أنه كان يحمل الألقاب التالية: الأمير الوراثي، وحامل خاتم الوجه البحري، والسمير العظيم الحب، والقاضي والكاهن الأول للإله «آمون»، والمرتل الثالث للإله «آمون»، والمرتل الثالث للإله «آمون» في معبد الكرنك، ومدير كل الأشغال الملكية، والمشرف على كل كهنة الوجه القبلي والوجه البحري (Urk. IV. p. 487–789). وقد نحت محرابًا للإله في السلسلة الغربية، وقد ذكر عليه ألقابه التي ذكرناها، وكذلك الألقاب التالية: «القاضي الممدوح من إلهه المحلي، وفم ملك الوجه القبلي وأذنا ملك الوجه البحري، والفم الذي يهدئ كل البلاد قاطبة» (Ibid. 485)، ولكن ألقابه التي تُعَدُّ أهمَّ ممَّا سبق توجد على تمثالٍ له من الجرانيت محفوظ الآن «بمتحف اللوفر»، وهي كما يأتي (راجع: Urk. IV. p. 471–7).

رئيس مقاطعات الجنوب العظيم، والكاهن الأعظم «سم» لمحراب «حت بنو» (أي: محراب المقاطعة السابعة لمصر العليا)، وعمدة المدينة، والوزير المشرف على المعابد … والمشرف على كل وظائف بيت «آمون»، وحاسب أبقار «آمون»، والسمير الوحيد، وفم ملك الوجه القبلي وأذنا ملك الوجه البحري، والذي في قلب الإله الطيب، والكاهن الأول للإله «آمون».

أما الدور الذي لعبه «حبو سنب» في حملة بلاد «بنت» فقد تكلَّمنا عنه، ويحدِّثنا على تمثاله الذي في متحف اللوفر عن النشاط الذي قام به هذا الوزير في عهد الملكة «حتشبسوت» ومن قبلها «تحتمس الثاني» (راجع: Breasted, A. R. II. § 389).

الملك الطيب «عا خبر رع» (تحتمس الثاني) … ويقول: ولقد نصبني لأقوم بالعمل في مقبرته المنحوتة في الصخر، وذلك لسمو تصميماتي، وقد عيَّنني سيدي الملك «تحتمس الثاني» رئيسًا في «الكرنك» في بيت «آمون» في كل …

والنقوش التي على هذا التمثال مهشمة، غير أنه يمكننا أن نفهم منها أن هذا الوزير قد كُلِّف إقامة قربان جنازية للإله «آمون رع» على حساب الفرعون، فكان مكلَّفًا عمل باب عظيم مغشى بالذهب والفضة والنحاس الأسود، على أن يُكتَب الاسم العظيم بالسام؛ وكذلك قام بعمل محاريب من الأبانوس مغشاة بالذهب وموائد قربان عدة من الذهب والفضة واللازورد والأواني والقلائد، وأقام معبدًا من الحجر الجيري الأبيض يُسمَّى «تحتمس الثاني» مقدس الآثار …

ومما يجب التنويه عنه هنا أن ذِكْر «تحتمس الثاني» في النقوش محض اختلاق؛ وذلك لأن النقش كان في الأصل للملكة «حتشبسوت»، ولكنه مُحِي في عهد «تحتمس الثالث» ووُضِع مكانه اسم والده كما يُشاهَد ذلك في كثيرٍ من الآثار، وقد كان نصيب مقبرة «حبو سنب» في «جبانة شيخ عبد القرنة» هو نفس نصيب مقبرتي «سنموت»، ولا يزال فيها بعض بقايا لمناظر ملوَّنة توضِّح لنا بعضَ الصناعات والحِرَف، وهي تدل على الفن الرفيع في الصناعة كما يحدِّثنا «حبو سنب» نفسه في نقوشه (راجع: Porter and Moss, “Bibliography”, I. p. 96).

ولا نزاع في أن «حبو سنب» كان يُعَدُّ أقوى شخصية في حزب «حتشبسوت»؛ لأنه فضلًا عن كونه الوزير الأول والقابض على زمام المالية، فإنه كان الكاهن الأكبر للإله «آمون»، والمشرف على كهنة الوجهين القبلي والبحري، وبذلك نراه جمع في شخصه كلَّ الوظائف الإدارية ووظائف الكهانة في جميع البلاد. والواقع أن هذه كانت خطوة لجمع كلِّ طائفة الكهنة تحت سلطان الكاهن الأول للإله «آمون»، وهذا دليل آخَر على سيادة الإله «آمون» على كل الآلهة المصرية قاطبةً.

(٢١-٤) حبو

وكان والد «حبو سنب» يُدعَى «حبو»، وقد أقام له ابنه لوحة جنازية نعلم منها أنه كان يحمل الألقاب التالية: المرتل الثالث للإله «آمون» في «الكرنك»، والقاضي الذي يمدحه رب مدينته. وقد جاء على هذه اللوحة كذلك ذِكْر اسم أخ «حبو سنب» ويُدعَى «سا» «آمون»، وكان يُلقَّب الخازن الأول المقدس لمالية «آمون» (راجع: Urk. IV. p. 469–71).

(٢١-٥) تحوتي المشرف على خزانة حتشبسوت

وقد كان «تحوتي» أحد الذين ناصروا الملكة «حتشبسوت» بكلِّ ما لديهم من قوة؛ ولذلك فإن قبره قد حاق به من التخريب والتلف ما نال قبورَ كلِّ مَن كان حول «حتشبسوت»؛ غير أن التلف الذي أصاب قبره كان منصبًّا على اسم الملكة، وما يتصل به من ألقاب، وقد خلف «تحوتي» هذا «إنني» في الإشراف على بيتي الفضة وبيتي الذهب، وهذه الوظيفة قد أهَّلَتْه للإشراف على القيام بعمل عدة آثار من المعادن الكريمة، فهو الذي أنجز عمل غطاءي مسلتي «حتشبسوت» العظيمتين، وكذلك هو الذي أشرف بشخصه على كيل الذهب ووزنه، والمعادن الثمينة الأخرى التي وردت من حملة الملكة إلى بلاد «بنت»، وهذا العمل قد خلد له في نقوش الدير البحري ومناظره (Naville, “Dier el Bahari”, Vol. III. p. 79).
ومنظر الدير البحري قد رسم مزدوجًا، ففي أحد الرسمين يشاهد «تحوتي» الموظف يسجل الكيل للملكة، والثاني يُشاهَد فيه الإله «تحوتي» يقوم بنفس العمل للإله «آمون»، ومن اللوحة التي في قبره نعلم أنه كان يحمل الألقاب التالية: الأمير الوراثي، وحامل خاتم الوجه البحري، والكاتب، والمشرف على الخزانة، والسمير الوحيد، والمقرَّب الممتاز عند سيد رب الأرضين، والممدوح من الإله الطيب، مدير المباني، والمشرف على بيتي الفضة، والمشرف على بيتي الذهب، والمشرف على ثيران «آمون»، وحامل خاتم مالية الملك (راجع: Urk. IV. p. 420 ff).

ما أنجزه من الأعمال

يقول: «لقد عملت بوصفي رئيسًا مصدرًا التعليمات، وأرشد الصنَّاع في عملهم عند بناء السفينة العظيمة (لأجل عيد) بداية الفيضان (المسماة) «عظيمة في حضرة آمون»، وكانت موشاة بالذهب من أحسن ما وُجِد في الصحراء، وقد أضاءت الأرض بأشعتها (وكذلك أردت عمل) محراب لأفق الإله، وكذلك عرشه العظيم من السام (وأدرت العمل في) «زسر زسرو» (اسم معبد الدير البحري)، وهو معبد عشرات آلاف السنين (بوابته العظيمة مصنوعة من النحاس الأسود وأشكالها مرصعة بالسام)، وكذلك المعبد المسمَّى «مضيئًا على الأفق» عرش آمون العظيم الذي هو أفقه في الغرب، وكل أبوابه من خشب الأرز الحقيقي المغشى بالبرنز، ومعبد آمون الذي هو أفقه الدائم الأبدي، ورقعته موشاة بالذهب والفضة، حتى إن جمالها كان مثل أفق السماء، وكذلك أشرف على عمل محراب عظيم من أبنوس بلاد النوبة، والسلم الذي تحته عالٍ ومتَّسِع من المرمر الحر من محاجر حتشبسوت، و(عمل) جوسق للإله موشى بالذهب والفضة، حتى إنه ينير وجوه الناظرين بلألائه.»

وكذلك أشرفت على عمل الأبواب العظيمة العالية الواسعة في معبد الكرنك، وقد غشيت بالنحاس والبرنز، وأشكاله المرصعة كانت من السام، وعمل قلائد فاخرة وتعاويذ كبيرة (لتمثال الآلهة) من السام، وكل الأحجار الغالية، وعمل المسلتين العظيمتين اللتين يبلغ طولهما ١٠٨ أذرع (ربما يقصد أن طول كل واحدة منها ٥٤ ذراعًا) موشاتين بالسام، وهما اللتان ملأتا الأرضين ببهائهما (وأشرفت على عمل) بوابة فاخرة اسمها «ذعر آمون»، وصنعت من النحاس من قطعة واحدة وعلى الجهة المقابلة أيضًا، وعلى عمل موائد قربان كثيرة للإله «آمون في الكرنك» مصنوعة من السام الذي لا يُحصَى، ومن كل حجر ثمين، وعلى عمل عرش عظيم ومحراب مصنوع من الجرانيت الذي دعامته مثل عمد السماء وصنعه أبدي، والآن قد أهديت كل طرائف البلدان وجزيتها، وأحسن ما في تحف أرض بنت للإله «آمون» رب الكرنك، وكنت أنا الذي عملت قوائمها؛ لأني كنت ممتازًا في نظر الفرعون، وقد عرف أني إنسان يفعل ما يقول كتوم الأسرار، وقد نصبتني الملكة مرشدًا في القصر عالمة بأني عالم في عملي. وقد أمرني جلالتها أن أكيل السام من أحسن ما تنتجه الصحراء في وسط قاعة العمد الخاصة بالأعياد، وقد كلته بمكيال «حقت» لأجل الإله «آمون» في البلاد كلها، وقد بلغ حسابه «حقت» (أي: نحو بوشل) … وكل هذه الأشياء حدثت وليس فيها كذب. وكنت يَقِظًا وكان لبُّي ممتازًا في رأي مليكي، حتى إنه أصبح في استطاعتي أن أرتاح (بعد الموت) في الصحراء العالية الخاصة بالمنعمين الذين في الجبانة، وحتى تبقى ذكراي على الأرض، وحتى يعيش روحي مع (أوزير) رب الأبدية، وحتى لا يصدها الحراس الذين يحرسون أبواب العالم السفلي، وحتى تستطيع أن تخرج عند مناجاة أولئك الذين يصنعون القرابين أمام قبري في الجبانة، وحتى يغزر طعامها، وحتى يكون عندها الماء، وحتى تنهل ماء النهر الحي.
والنقوش التي على جدران معبد «الدير البحري» التي تصوِّر لنا نشاط «تحوتي» يوجد ما يؤكِّد صحة ما جاء فيها من الوثائق التي تركها لنا على جدران قبره إذ يقول (راجع: Breasted, A. R. II. §. 377): «تأمَّلْ! إن كل الطرائف، وكل الجزية من الأراضي كلها وأحسن عجائب بلاد «بنت» قد قُدِّمت «لآمون» رب «الكرنك»، لحياة وسعادة وصحة الملكة «باعت كارع» (حتشبسوت) (معطاة الحياة والثبات والصحة)، وإنه (أي: آمون) قد منحها الأرضين؛ لأنه يعلم أنه (أي: الملك) كان سيقدِّمها (الطرائف والجزية) له. والآن كنت أنا الذي حسبتها؛ وذلك لأني كنت ممتاز جدًّا في قلبه … وقد بصر بأني إنسان أعلم ما يقال، مخفيًا كلامي فيما يخص قصره، وقد نصبني مديرًا للقصر، عالمًا بأني كنت مدربًا في العمل، ولقد حافظت (؟) على بيتي الفضة، وكل الأحجار الثمينة في معبد «الكرنك»، وهي (الخزانة) التي كانت مفعمة بالجزية حتى سقفها، ولم يحدث مثل ذلك في زمن الأجداد، وقد أمرني جلالته أن أضع … (ميزانًا؟) من السام من أحسن ما تنتجه الأرض العالية (أي: جبال النوبة) في داخل قاعة الأعياد؛ التي تكال فيها (أي: الجزية) بالحقت، لأجل «آمون» أمام وجه الأرض جميعًا.
قائمة بذلك: ثمانٍ وثمانون ونصف حقت من السام (أي: بوشل) أي ما يساوي: اثنين وتسعين وخمسمائة وثمانية آلاف دبن ونصف، لأجل حياة وسعادة وصحة الملك «ماعت كارع» (حتشبسوت) معطاة الحياة مخلدة، ولقد تسلمت رغفانًا من التي تُقدَّم للإله «آمون رع» رب «الكرنك». وكل هذه الأشياء قد حدثت لي حقًّا، وليس فيها مين ولا كذب فقد فعلتها، ولقد كنت يَقِظًا، وكان قلبي مخلصًا لسيدي حتى يمكنني أن آوي إلى الأرض العالية للمنعمين الذين في الجبانة» (راجع: Urk. IV. p. 426).
أهمية هذه الوثيقة: ولا نزاع في أنه من الأشياء الهامة تاريخيًّا أن يجد الإنسان وثائق ملكية رسمية، ووثائق خاصة يؤكِّد بعضها بعضًا، على أن هذه ليست الحالة الوحيدة، فسنرى وثائق من هذا النوع من عهد «تحتمس الثالث»، على أن ذلك يُظهِر لنا من جهة أخرى أن جزءًا كبيرًا من ترجمة حياة عظماء القوم يمكن الاعتماد عليه إلى حدٍّ ما، على الرغم ممَّا يحتويه من أسلوب منمق وألفاظ ضخمة.

(٢١-٦) أمنحوتب المدير العظيم للبيت

ومن كبار الموظفين الذين كانوا يعملون على تحقيق أطماع «حتشبسوت» ومقاصدها «أمنحتب»، الذي نحت لنفسه قبرًا في «جبانة شيخ عبد القرنة» رقم ٧٣، وقد ظلَّ هذا القبر لا يُعرَف اسمُ صاحبه حتى عهد قريب؛ وذلك لأن رجال «تحتمس الثالث» كانوا قد محوا اسمه من كل أجزاء المقبرة على إثر وفاة «حتشبسوت» وتولِّي «تحتمس» العرشَ، غير أنه عُمِل مجهودٌ جديدٌ في رسم المقبرة رقم ٧٣، وقد عُرِف في النهاية أن صاحبها هو «أمنحتب» (راجع: Porter & Moss, “Bibliography”. I, p. 100)، وألقابه كما يأتي: الأمير الوراثي، والسمير الذي يقترب من أعضاء الإله (أي: المخلص له) ورئيس كل البلاد، والمقرب العظيم لدى رب الأرضين، ومدير كل الأعمال الخاصة بالمسلتين العظيمتين لبيت «آمون»، ومدير البيت العظيم، وشجاع الفرعون، والذي يهدِّئ بفمه كلَّ الأرض قاطبةً، وعظيم العظماء في كل الأرض جميعًا، ومدير البيت العظيم للفرعون، والمشرف على ثيران «آمون»، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد (Urk. IV. p. 456–62).

مناظر قبره الباقية

ولا يزال على جدران قبره عدة مناظر تشير إلى علاقة «أمنحتب» بالملكة، ومناظر أخرى من حياته اليومية، منها منظر يُشاهَد فيه مقدِّمًا للملكة قلادتين ثمينتين، كما يُرَى خلف «أمنحتب» قِطَع فنية ثمينة، منها: عمد من الأبنوس ومموهة بالذهب، ومرصعة باللازورد، وعربات عظيمة مصنوعة من خشب السنط المجلوب من بلاد «كوش» مصفحة بالذهب، وأقواس وكنانات من الفضة والذهب (؟) وتمثال للملكة في صورة «بو الهول» من الحجر الأسود، وتمثال للإله «آمون» من المرمر. وكذلك نشاهد المتوفى أمام مسلتين عظيمتين، وقد جاء في النقوش أنه هو الأمير الوراثي الذي يدير العمل، وقد أقام هاتين المسلتين العظيمتين في بيت «آمون» (Urk. IV. p. 461). ويُرَى كذلك منظر يتسلَّم فيه المتوفى أزهارًا، وفي آخَر يصطاد السمك والطيور.

(٢١-٧) دوانحح

تقع مقبرة هذا العظيم في «جبانة شيخ عبد القرنة» (رقم ١٢٥)، والظاهر أنه لم يحِقْ به غضبُ المخربين وسخطهم في عهد «تحتمس الثالث»، كما أصاب قبور غيره من موظفي «حتشبسوت»؛ إذ قد بقي لنا بعض مناظر طريفة. وتدل ألقابه على أنه كان من أصحاب الحظوة العظيمة؛ إذ كان يتقلَّد الوظائف التالية (راجع: Urk. IV. p. 451): الحاجب الأول، والحاجب الأول لكلتا الأرضين، ومدير أعمال الفرعون، والمشرف على كل الصناعات الملكية، والمشرف على إدارة «آمون»، والمشرف على مخازن غلال الآلهة الطيبة … إلخ، كما كان يحمل الألقاب الفخرية الآتية: الأمير الوراثي، والسمير العظيم الحب، والسمير الوحيد.
ومن أهم المناظر التي تُشاهَد في مزار قبره منظرُ الصنَّاع وهم يقيمون عمودَ بوابةٍ، وكذلك وهم يضعون بابًا وهميًّا وصندوقًا كما تدل على ذلك النقوش، وهذه الأشياء كانت تُعمل للإله «آمون» (راجع: Wreszinski, “Atlas”, Pl. 341. & Pl. 342; Urk. IV. p. 453-4).

(٢١-٨) نب آمون كاتب الحسابات الملكية في حضرة الفرعون

لدينا موظفان من عهد «حتشبسوت» بهذا الاسم، وهما «نب آمون» كاتب الحسابات الملكية في حضرة الفرعون، والمشرف على الغلال، وقد اغتُصِب قبره في عهد الأسرة العشرين، ومن أهم المناظر التي بقيت لنا فيه منظر تمثالين للفرعون «أمنحتب الأول» والملكة «نفرتاري» (راجع: Prisse, “L’Art Egyptien” II)، وقبره في «جبانة شيخ عبد القرنة» (رقم ٦٥) (راجع: Gardiner & Weigall, “Catalogue”, No. 65).

(٢١-٩) نب آمون الثاني كاتب حساب الحبوب

وقبره في «الخوخة» على الضفة اليمنى من النيل «بطيبة»، ولم تنتشر مناظره بعدُ ويُلقَّب صاحبه بالكاتب حاسب الحبوب في مخازن القربان المقدسة للإله «آمون» (راجع: Ibid No. 179).

(٢١-١٠) آمون أمحب ويُسمَّى محو أيضًا

وُجِد ضمن التماثيل التي كُشِف عنها في خبيئة «الكرنك» تمثالٌ لموظَّف يُدعَى «آمون أم حب»، وهو الآن بالمتحف المصري (راجع: Legrain, “Statues”, No 42112).

ويحمل الألقاب التالية: خادم الكاهن الأول للإله «آمون» (حبو سنب)، ومدير بيت الكاهن الأول؛ وذلك يدل على عظم مكانة الكاهن الأكبر للإله «آمون»، فقد كان له موظفون خاصون به، كما كان للفرعون.

(٢١-١١) بو أم رع

كانت مقبرة «بو أم رع» من أهم المقابر التي كُشِف عنها في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وقد عمل في عهد كلٍّ من «حتشبسوت» والفرعون «تحتمس الثالث»، وأهم وظيفة كان يشغلها في كلا العهدين هي وظيفة مهندس بناء، وإن كان لا يحمل هذا اللقب صراحةً، وقد أبقى عليه الفرعون «تحتمس الثالث»؛ لأنه كان أخاه من الرضاعة؛ فقد كانت «نفر أعح» والدة «بو أم رع» مرضعةً للفرعون «تحتمس الثالث»، أما والده «بويا» فقد كان يحمل لقب «الكاتب الملكي»، وكذلك كان يُلقَّب بالقاضي، أما ألقاب «بو أم رع» الأخرى فهي: الأمير الوراثي، والفم الذي يهدئ كل الأرض قاطبة، وحامل خاتم الوجه البحري، والكاهن الثاني للإله «آمون»، والمقرب من الفرعون في كل الأشغال، والمشرف على الثيران، والمشرف على حقول «آمون» والد الإله ومحبوبه (راجع: Urk. IV. p. 521).

وقد كُشِف لهذا العظيم عن تمثال في معبد الإله «آمون» «بالكرنك»، وقد جاء عليه نقوش عن بعض ما كلَّفَتْه الإشرافَ على إنجازه الملكةُ «حتشبسوت»، وهاك النص حرفيًّا: الأمير الوراثي، والسيد، ومهدئ الأرض جميعها، والذي يملأ قلب الملك في كل عمل، والذي ينادي بكل عمل فاخر، حامل خاتم ملك الوجه البحري، والكاهن الثاني «لآمون» «بو أم رع» يقول: لقد فتشت عن محراب عظيم من الأبنوس المغشى بالسام من قبل ملكة الوجه القبلي والوجه البحري «ماعت كارع» (حتشبسوت) لأمها «موت» سيدة «أشرو»، وأشرفت على إقامة باب مصنوع من الحجر الجيري الأبيض المستخرج من «عن» بوساطة ملكة الوجه القبلي والوجه البحري «ماعت كارع» لأمها «موت» سيدة «إشرو»، ولقد أنقذت مقبرة «بو أم رع» المقامة في «الخوخة» (بالعساسيف رقم ٣٩) من عبث رجال «تحتمس»؛ وذلك لاتصاله به كما ذكرنا.

ويشمل هذا القبر عدة مناظر تمثِّل لنا نواحي من حياته الحكومية ونشاطه، وقد تحدَّثنا عن بعضها مثل منظر المسلتين، ومن أهم المناظر منظر «بو أم رع» وهو يستقبل وفودَ رؤساء البلاد الأجنبية، وهم يحملون الجزيةَ إلى مصر، وكاتبه أمامه يحصي ما يقدِّمونه، فنشاهد فوق صورة «بو أم رع»: «تسلم جزية محصول مستنقعات آسيا وطريق «حور» (وأنف حور) وجزية الأراضي الجنوبية، والواحات الشمالية، مقدَّمة للملك لمعبد «آمون» رب تيجان الأرضين، والمشرف على الكرنك على يد الأمير الوراثي، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد الحب … المرتل الأول … «بو أم رع» صادق القول.»

والمنظر قُسِّم ثلاثة صفوف بعضها فوق بعض، ففي الصف الأعلى نشاهد الآسيويين يحملون جزيتهم، وقد نُقِش فوقهم: «جزية نهاية بلاد آسيا»، والصف الثاني يُرَى فيه أناس من الشرق الأقصى للدلتا على حدود آسيا، وقد نُقِش فوقهم: «تسجيل جزية «وتت حور»»، ثم نشاهد أحد أولئك الرجال «رئيس البساتين للقربان المقدس للإله آمون» وبجانبه نجد مائدتين محمَّلتين بالقرابين (راجع: Urk. IV. p. 523)، أما الصف الأسفل فنشاهد فيه رجال من الواحات، وقد كُتِب عنهم: «تسجيل جزية إقليم الواحات رؤساء الواحات الجنوبية والشمالية»، وفي أحد المناظر نراه يراقب كيل غنائم الحرب التي كسبها «تحتمس الثالث»: «مراقبة كيل الأكوام العظيمة من البخور (صمغ عنتي)، وسن الفيل والأبنوس والسام من بلاد «عمو» وكل نباتات حلوة … والأسرى الأحياء الذين أحضرهم جلالته من انتصاراته.»

كما نشاهده يفتش عن الآثار والأشياء الثمينة التي أهداها الفرعون لمعبد «آمون»: «التفتيش عن الآثار العظيمة الفاخرة التي عملها ملك الوجه القبلي والوجه البحري رب الأرضين «منخر رع» لولده «آمون» في «الكرنك» من الفضة والذهب، وكل الأحجار الكريمة الغالية بوساطة الأمير الوراثي، محبوب الإله «بو أم رع».»

وفي منظر آخَر نرى توريد الذهب إلى خزائن الإله «آمون» (راجع: Wreszinski, “Atlas”, Pl. 149) حيث نشاهد كاتب خزائن الإله الأول والثاني يزنان ستة وثلاثين ألفًا واثنين وتسعين وستمائة دبن (أي: ما يساوي ٣٣٣٩ كيلوجرامًا من الذهب)، ويقول الذين أحضروه وهم واقفون في خضوع: «إن الجبال قد فتحت أيديها بالذهب لأجل آثار «آمون» لحياة وصحة وعافية الفرعون.»
وفي أسفل هذا المنظر منظر آخَر يُشاهَد فيه كيل الذهب أمام كاتب خزانة الإله الأول والثاني، وفيه ممثِّلو الدول التي كانت تخضع أو تصادق مصر وهم يقدِّمون الذهب الذي كان يُكال بمكيال، وبلغ عدد كيله سبعة وثمانين ونصف مكيال، وهؤلاء يمثِّلون: سوريا، وخيتا، وكريت، ولوبيا. وكذلك تشاهد مناظر صنع العربات والسروج، والأسلحة، والنجارة، وصناعة الحدادة، والمجوهرات، والمحاريب، وصناعة الأواني (راجع: Ibid Pl. 151–4).

(٢١-١٢) نحسي

لقد ذكرنا فيما سبق أن «نحسي» هذا قد لعب دورًا هامًّا في الحملة التي أرسلتها الملكة «حتشبسوت» إلى بلاد «بنت»، وقد كان يحمل لقب حامل خاتم ملك الوجه البحري أو المشرف على الخاتم، ممَّا يدل على أن حامل هذا اللقب كان يوكل إليه قيادة الرحلات كما ذُكِر ذلك في (الجزء الثالث)، هذا فضلًا عن أنه كان يحمل لقب الشرف «الأمير الوراثي»، وفي المنظر الذي يمثِّل عودة الحملة سالمةً نشاهد أن «نحسي» كان أحد ثلاثة العظماء الذين ظهروا أمام «حتشبسوت»، وهي على عرشها (راجع: Naville, “Deir el Bahari”, Vol. III. p. 85-6).

وقد قيل عن «نحسي»: «تأمَّلْ! لقد صدر الأمر من صاحبة الجلالة إلى الحاكم الوراثي، وحامل خاتم الوجه البحري، والسمير الوحيد، والمشرف على خاتم «نحسي»؛ أن يسير بالجيش إلى «بنت».»

وهذا ممَّا يفسِّر لنا أهميةَ الدور الذي لعبه في هذه الحملة، وفي محراب منحوت من الصخر في «السلسة الغربية» قد ذكر لقبه «المشرف على الختم».

وممَّا يُلحظ أن اسمه قد مُحِي من النقوش التي على معبد «الدير البحري»، مثله في ذلك كمثل «سنموت» وغيره؛ ولذلك يجب أن نفهم أنه كان في خدمة «تحتمس» عندما كان مشتركًا مع «حتشبسوت» في الملك (راجع: Urk. IV. p. 419).
١  راجع: Urkunden IV. p. 61 ff.
٢  راجع: Breasted, A. R. II, § 143.
٣  راجع: L. D. III. Pl. 47.
٤  راجع: Sethe, “Das Hatshepsut Problem”, p. 1. ff.
٥  راجع: Breasted, A. R. Vol II, § 217 ff.
٦  راجع: Winlock, “Excavations at Dier el Bahri”, p. 114.
٧  راجع: Ibid. p. 214.
٨  راجع: Ibid p. 212.
٩  راجع: Naville, “Dier el Bahari”, III. Pls. 69–86, Breasted, A. R. II. § 246.
١٠  راجع: Naville, “Un dernier mot sur la Succession des Thoutmes”, A. Z. XXXVII, p. 52.
١١  راجع: Baikie, “A History of Egypt”, Vol. II, p. 74.
١٢  راجع: Davis, “Excavations at Biban el Moluk”, The Tomb of Hatshepsut, p. 106.
١٣  راجع: Weigall, “History”, II, p. 321.
١٤  راجع: Winlock. “Dier el Bahari”, P 149.
١٥  راجع: Engelbach, “The Problem of the Obelisks”, p. 48.
١٦  راجع: Breasted, A. R., II. § 304–321.
١٧  راجع: Ibid § 304.
١٨  راجع: Piehl, “Inscriptions Hieroglyphiques Recueilles en Europe et én Egypte”, p. 129.
١٩  راجع: Winlock, “Excavations at Dier el Bahri”, p. 149.
٢٠  راجع: Winlock, ibid, p. 105.
٢١  هذه الجملة تشير إلى خرافة تقول إن إله الشمس أو الإله «تحوت» أو آلهة الكتابة، كتب بالنيابة عن نفسه اسم الملك على أوراق شجرة إشد الكريمة، التي كانت في قصر «الفنكس» في «عين شمس»؛ وبذلك تضمن له ملايين السنين للأعياد الثلاثينية. ولا نزاع في أنه كان يعتقد أن هذا قد عمل للإله «رع» نفسه في بادئ الأمر، الذي يمكن أن يقال بأنه افتتح مهرجان هذه الشجرة، ويُحتمَل أن شجرة «عين شمس» الحالية هي صدًى لذكريات هذه الشجرة.
٢٢  إلهة، وهي رفيقة الإله «تحوت» في الأشمونين (معنى الاسم) التي تخلص المنهوب.
٢٣  اسم للإله أنوبيس (؟).
٢٤  راجع: Gauthier, L. R. II. p. 250.
٢٥  راجع: Gauthier, L. R. II. p. 250.
٢٦  معنى كلمة دكان عشرة أيام، وكانت السنة مقسَّمةً عند المصريين إلى ٣٦ «دكانًا».
٢٧  راجع: Winlock, “Excavations at Dier el Bahri”, p. 141.
٢٨  راجع: Gardiner and Peet, “Sinai”. Pl. LX. No. 186.
٢٩  راجع: Mariette, “Abydos” No. 1468.
٣٠  راجع: L. D. III. Pl. 27.
٣١  راجع: Rosellini, “Mon. Storici”. III, I. 130.
٣٢  راجع: L. D. III, Pl. 28.
٣٣  راجع: Maciver and Woolley, “Buhen”, Pl. 10.
٣٤  راجع: Lepsius, Auswahl. XI.
٣٥  راجع: Champollion, “Notices”, II, 700-1.
٣٦  راجع: Grant collection. Petrie, “History”, II, p. 91.
٣٧  راجع: L. D. III, Pl. 25.
٣٨  راجع: A. Z, XIII. p. 25.
٣٩  راجع: Wiedemann. p. S. B. A. Vol. VII. p. 183.
٤٠  راجع: Weigall, “History,” Vol. II, p. 246.
٤١  راجع: Maspero, “Momies Royales”, p. 584.
٤٢  راجع: p. S. B. A. IX. p. 183.
٤٣  راجع: Lepsius, Auswahl. Pl. XI.
٤٤  راجع: Davis “The Tomb of Hatshepsut”, p. 109, 5.
٤٥  راجع: Rec. Trav. X. p. 126.
٤٦  راجع: Macgregor Collection. 2965.
٤٧  راجع: Petrie, “History”, Vol. II, p. 93.
٤٨  راجع: Ibid. p. 94.
٤٩  راجع: A. S. XXXIX. p. 113.
٥٠  راجع: Legrain and Naville, “Annales du Musee Guimet”, XXX.
٥١  راجع: Weigall, “History”, Vol. II, p. 339.
٥٢  الأرقام هنا تشير إلى مقال الأثري «هايس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤