الفصل الثاني

أبو الملكة وأمها

إن أبا الملكة فكتوريا ولقبه دوق كنت هو الابن الرابع من أبناء الملك جورج الثالث، وكان طويل القامة جميل المنظر طلق المُحيَّا لين العريكة فصيحًا في الإنكليزية والفرنسوية، ميَّالًا إلى حزب الأحرار، ولم يكن هذا الحزب مقرَّبًا إلى بلاط أبيه، فاختار أن يكون جنديًّا وهو في الثامنة عشرة من عمره، فأُرسل إلى هنوفر حيث درس الفنون الحربية، وكان المال المقطوع له قليلًا جدًّا لا يقوم بنفقاته، فاضطر أن يستدين وعاد إلى إنكلترا من غير أمر أبيه فسخط عليه وأقصاه وبعث به إلى جبل طارق قائدًا لحاميته، وكانت الحامية على غاية من فساد الآداب، فلما رأت منه اللين والتؤدة تمردت عليه فأُرسِلت إلى كندا بأميركا، وأرسل معها إلى تلك البلاد فأقام فيها إلى سنة ١٧٩٤، وحضر بعض المعارك في جزائر الهند الغربية، وعاد إلى بلاد الإنكليز سنة ١٨٠٠ وجُعل حاكمًا على جبل طارق، وكانت حاميته قد شقت عصا الطاعة فرأى أن سبب ذلك السُّكْر؛ فأخمد ثورتها وقاصَّ زعماءها، ومنع باعة المُسكرات من بيعها فأخلدت إلى السكينة.

وكان كريمًا مِبذالًا فاشترك في أكثر الجمعيات الخيرية التي كانت في عصره، ورأس في سنة واحدة اثنتين وسبعين جلسة من جلساتها، وكان محبًّا للعلم والتعليم وهو أول من أنشأ مدرسة لتعليم الجنود، ولكرمه وبذله وسعيه في مصالح الناس كان يُقصد من كل فجٍّ فلا يخيِّب طالبًا، قيل إنه كان عائدًا مرة من ألمانيا إلى إنكلترا فأصابه الدوار واشتد عليه ورآه أحد المسافرين على تلك الحالة، فقال لأحد خدمه قل لمولاك إن معي دواء يريحه من ألم الدوار، فلما قال له ذلك قال: مَن هذا الرجل الذي همه أمري وأراد تخفيف كربي؟ فقيل له هو رجل ذاهب إلى إنكلترا في طلب الرزق. فقال: قولوا له أن يوافيني إلى قصر الملك بعد وصوله، فوافاه إلى هناك فسعى له في منصب يليق به.

fig1
شكل ٢-١: الأميرة تشارلت.

هذا من قبيل دوق كنت أبي الملكة فكتوريا، أما أمها فاسمها فكتوريا أيضًا وهي ابنة دوق ألماني وأخت البرنس ليوبولد زوج الأميرة تشارلت الذي صار ملكًا لبلاد البلجيك سنة ١٨٣١، وُلدت سنة ١٧٨٦ واقترنت بأمير ألماني فمات عنها سنة ١٨١٤ ولها منه ولدان صبي اسمه تشارلس وابنة اسمها فيودورا.

ورآها دوق كنت وهو يفتش عن زوجة فأعجبه حسنها ورائع أدبها، فاقترن بها في الخامس عشر من شهر يوليو (تموز) سنة ١٨١٨ وهو موقن أن المُلك يصل إليه وينتقل إلى نسله؛ لأنه كان أقوى من إخوته بِنيَةً، وأجود منهم صحة، ولما علم أنها حامل أسرع بها إلى البلاد الإنكليزية؛ لكي تلد فيها ويكون المولود إنكليزيًّا مولدًا فولدت له الملكة فكتوريا في الرابع والعشرين من شهر مايو (أيار) سنة ١٨١٩، وفرح بولادتها فرحًا عظيمًا، وكان ينظر إليها مُعجبًا ويقول: اعتنوا بها فإنها ستكون ملكة إنكلترا يومًا ما. ولما جاء الشتاء انتقل بها إلى سواحل ديفونشير؛ لأنها أقل بردًا من مدينة لندن فقضى البرد عليه؛ وذلك أنه ذهب يومًا في طريق كثير الثلج وعاد وحذاؤه مبلل، وفيما هو ذاهب إلى غرفته رأى ابنته مع المُرضِع فوقف يلعب مع الابنة إلى أن أصابته قشعريرة من تبلل حذائه وبرد رجليه، وتبع القشعريرة التهاب في رئتيه قضى عليه في عشرة أيام، فحزنت عليه زوجته والبلاد الإنكليزية حزنًا شديدًا، وأوصى قبل وفاته أن تكون زوجته وصية على ابنته فقامت بحق الوصاية أحسن قيام كما سيجيء، وتركت بلادها وأهلها لكي تربِّي ابنتها في البلاد الإنكليزية على الأخلاق الإنكليزية، وقد ربتها حتى يكون غرضها الأول أن تسلك مع شعبها سلوكًا يجعله أمينًا لها مقيمًا على ولائها، ونجحت فيما توخَّته النجاح التام، فشكرتها الأمة الإنكليزية وأحبتها العائلة المالكة ورأت بعينيها نجاح عملها وتوفيق الله له، وهذا هو السرور الأكبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤