الشاعر في السوق

الأدب صناعة، وإذا كانت صناعة الأدب تختلف عن سائر الصناعات من بعض الوجوه، فهي تشبهها من وجوه أخرى: تشبهها من جهة أن محاصيلها، ونعني «المصنوعات» الأدبية لا بد أن تطرح للبيع في أسواقها الخاصة، أو بالأقل أن تعرض على الجمهور وتقدَّم إليه خالصة بلا مقابل، اللهم إلا رضاه وتحبيذه واستحسانه، وليس هذا بالثمن البخس عند كثيرين.

هل تعرفون شاعرًا يكد قريحته ليلَ نهارَ، فينظم قصيدة عصماء فلا يهمه بعد ذلك إلا أن يتغنى بأبياتها في خلواته، راضيًا ناعم البال؟ أو خطيبًا يجهد ذهنه ساعات طوالًا، فيؤلف خطبة بليغة، فلا يهمه بعد ذلك إلا أن يحملها معه في «الترام» إلى ساحل «شوران» حيث يلقيها على تلك الأمواج الزاخرة كالجماهير، سعيد النفس باصطفاق الماء، مستغنيًا به عن تصفيق الأيدي؟ أو كاتبًا رواية يقضي الأيام باحثًا متفكرًا متخيلًا، فيدبج قصة ممتعة شائقة، فلا يهمه بعد ذلك إلا أن يمضي بدفتره إلى غابة الصنوبر؛ ليتلو على مسامع أشجارها وكل أوراقها آذان، ما كتب، فيخيل إليه أنها تتحرك طربًا، أو تبسط أغصانها لمصافحته، أو تقوم على ساقها من فرط الإعجاب به؟

إذا كنتم تعرفون هذا الكتاب وذاك الخطيب وذلك الشاعر فدلوني عليهم، ولا تنسوا أن كل قصيدة عند ناظمها عصماء، وكل خطبة عند صاحبها بليغة، وكل قصة عند مؤلفها ممتعة شائقة، والله أعلم.

•••

كان لي صديق من الشعراء١ كنت أدعوه «شاعري» ويدعوني «راويته»؛ لأنه — رحمه الله — كان إذا نظم القصيدة أو بيتين منها لا يقر له قرار، ولا يرتاح باله حتى يُسمعني القصيدة أو البيتين «أولًا بأول» قبل أن ينشدها في الحفلة، أو ينشرها في الصحيفة، وكثيرًا ما كان يجيئني في ساعة متأخرة من الليل، فيوقظني وأهلي النيام، بحجة أن «عليه بيضة» كما يقول العامة، ويجب أن يبيضها. فكنت أقول له: حسن! لقد «بيَّضتها» … نراك بخير!

وفي يوم من الأيام تقدم نحوي كالمغضب مهرولًا، فقال لي دون سلام: أين أنت؟ أنا في طلبك منذ أمس. انتهت القصيدة ولم أجدك … لم أجد واحدًا من إخواننا، كأنكم اختفيتم بين الأرض والسماء. لقد ضقت ذرعًا … كدت أموت. هل تعلم ماذا صنعت؟ لم أظفر في بيتنا إلا بجدتي العجوز «على البركة»، فأنشدتها القصيدة من أولها إلى آخرها دون شفقة، فكانت تُهَوِّم عند كل بيت ورأسها على صدرها، ولكني لم أقطع الحديث إلى النهاية، ثم سألتها رأيها: «كيف؟ يا جدتي»، فأجابت: «رح! الله يرضى عليك»، ولكن ما لنا ولهذا … اسمع الآن.

وقد سمعت، سمعت وأنا أفكر في الحيزبون الجليلة التي لم تفهم من ذلك الكلام إلا أن حفيدها «عالم … يقرأ ويكتب»، وفي ذلك الشاعر الخِنْذيذ الذي ينشد الجمهور، ممثلًا في جدته الوَسْنَى، قصيدته العصماء.

•••

إذن فالأدب صناعة مثل كل الصناعات، يتوجه أهلها إلى الجمهور ابتغاء مرضاته، ويعرضون عليه «بضاعتهم» رجاء أن يتقبلها قبولًا حسنًا، أن يقبل عليها، أن تنفق في السوق. وإذن فلا مناص للأديب — سواء الشاعر على أنواع شعره، أم الناثر على أنواع نثره — من أن يعرف حاجة الجمهور وطلبه؛ ليكفي تلك الحاجة ويلبي هذا الطلب: إن للناموس الاقتصادي المشهور شأنه هنا.

ولكن أي جمهور؟ هل يوجد جمهور واحد أم جماهير مختلفة؟ إن المسافة بين الذين لا يفهمون إلا قصة «أبي زيد الهلالي» وأمثالها، وبين الذين تسمو نفوسهم إلى «لزوميات» المعري وأشباهها؛ إن المسافة بين هؤلاء وأولئك لبعيدة، جد بعيدة، وليس أدعى إلى الضحك ولا أبلغ في الهجنة من أن نشهد «أبا زيد الهلالي» بحجة أنه بطل صنديد، وقَرْم عنيد، ومدجج بالحديد؛ هاجمًا على أبي العلاء الأعمى المسكين، ولسان حاله يقول: «مت! لا حاجة بنا إليك!»

ولا أحسب «أبا زيد» هذا، مهما كثر عديده، قادرًا ذات يوم، على قتل المعري، كما أن المعري لن يوفق إلى نسخ آية «أبي زيد» كل التوفيق. بيد أن الأدب في كل أمة وكل عصر يظل، بين أهل اليمين وأهل الشمال متجاذبًا؛ كلٌّ يشد إلى ناحيته، ويعمل على شاكلته.

وإذا كانت الآثار الأدبية بضاعة معروضة في السوق، معرضة لأن تنفق أو تكسد، فليس من الواجب أن تكون بأجمعها بضاعة مزجاة أو رديئة، وإن تكن الرداءة في هذا «الصنف» على الأغلب، شرطًا في رواجها أو «عدم وقوفها»، بلغة السوق …

١٩٢٧
١  عمر حمد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤