المشهد الثاني

(قصر السلطان. الساحة الوسطى في القصر إلى اليمين. وفي الوسط بابٌ ضخم يتحول إلى عرش الحاكم فيما بعد. وإلى اليسار غرفة يسودها الظلام. في آخرها شباكٌ مغلَق. الأضواء خافتة توحي بقرب طلوع الفجر. عندما يرتفع الستار تخرج حُسْنة (وهي الوصيفة) من غرفة النوم وتتمطَّى وتتثاءب وعندئذٍ يسرع إليها حارس ويُسِر إليها أمرًا فتومئ إليه فيخرج ثم يدخل على الفور شهبندر وهو شاب في ملابس الملَّاحين.)

شهبندر (في توترٍ شديد) : حُسْنة! حُسْنة!
حُسْنة :
بل قل صباحَ الخير أولًا،
لم يَطلُع النهار بعدْ!
شهبندر :
ما زلت أعيش بليل الأمسْ،
آهٍ يا حُسْنة.
حُسْنة :
ماذا عندك يا شهبندر؟
كيف تركتَ الملَّاحين … في هذي الساعة؟
شهبندر :
خطرٌ محدِقْ،
سرٌّ لا يعلمه غيري
(يهمس) جاسوسٌ في قصر السلطانْ.
حُسْنة (في خيبة أمل) : كنت أظنكَ جئتَ لأمرٍ آخر.
شهبندر :
أرجوكِ استمعي يا حُسْنة
أحلامي … أحلامك … كل غرامٍ عشناه
كل كلامٍ قُلناه … أمسى مثل سراب الهاجرة الخادعْ،
لن تقلع أي سفينة … لن نجني ثمن الصبرْ.
حُسْنة (في غضب) :
ألهذا جئتَ؟
إن كنتَ سلوتَ حبيبتك فلا داعيَ للأعذارْ.
شهبندر :
ما زلتُ أحبكِ يا حُسْنة،
لكني الآن أسير الهم،
في قصر السلطان اليومْ
جاسوسٌ تَترِي!
حُسْنة (ساخرة) : جاسوسٌ واحدْ؟
شهبندر : تترِيٌّ يا حُسْنة.
حُسْنة : جواسيس التتار كثيرْ.
شهبندر :
لكنَّ هذا يختلفْ.
(تنصرف عنه مغضبة فيلاحقها.)
أرجوكِ استمعي يا حُسْنة
الرجل أتى من فترةْ … وتخفَّى كي يخدع بعض الملَّاحين،
صادَقهم واستمعَ إليهم … وبما علِم وأخبرْ
أغرق سفن الأخشابْ.
حُسْنة (تقترب منه في ود) : لكنك لم تنسَ حبيبتك الحُلوةْ؟
شهبندر (في دهشة) :
أنساكْ؟ ولماذا جئتُ إليكِ إذنْ؟
لا يوجد في قلبي إلاكِ ولكنْ …
حُسْنة : لا تذكُر لكنْ …
شهبندر : حُسْنة!
حُسْنة :
سأُطمئنكَ إذنْ
لا يخفى شيء في هذا القصر عن العين اليقظة،
عيني لا تغفل وأنا … أعرف كل الأسرارْ.
لا تقلقْ! اسمع مني ما أحكي.
يعرف سلطان القصر بأمر الجاسوسْ،
وبأن الرجل تخفَّى في عدة أزياءْ؛
زيِّ الملَّاح لدَيكم والنجارِ هنا.
شهبندر : هنا؟
حُسْنة :
أقصد في البندر لا في البحر،
يُحْكِم لهجة أهل البلد وملبَس أهل البلدِ
ويزعم أن له صنعة،
وسيأتي هذا القصرَ على هيئة نجارْ
يطلب بعض الأخشابْ.
شهبندر : أتعرفون هذا كله ولا تحركون ساكنًا؟
حُسْنة :
الكل في القصر على استعدادْ،
لكنهم لا يعرفون موعد الوصول؛
لذا فكل حارس لدَيه أمر أن يمهِّد السبيل لهْ
حتى يرى الذي يريده
ويلتقي بحاكم البلاد.
شهبندر : تبغون أن يعرف كل شيءْ.
حُسْنة : نعمْ.
شهبندر : هذا سَفهْ!
حُسْنة :
بل سوف يعرف الذي نريد أن يَعرفهْ
حتى يوصِّل الذي نريد أن نوصِّلهْ
كأنه مرسالْ.
شهبندر :
سَفهٌ سَفهْ!
أغفلتمْ ما لا يمكن إغفالهْ
فالجاسوس هو التتري الأكبر صِمْغارْ،
ولدَيه حمامٌ زاجلُ ووسائل عِلمٍ عصرية
وجيوشٌ لا حد لقوَّتها تنتظر الأمرْ،
قد أغرق سفن الأخشابْ
في لمحة عينْ،
والآن يجيء إلى هذا القصرْ!
إن يُتركْ ضاع النصرْ
أو يُقتلْ ضاعتْ مصرْ.
حُسْنة : نعرف ذلك!
شهبندر :
لا يعرف أحدٌ شيئًا،
صِمْغارٌ ليس الجاسوس المأجور،
وهو يُمنِّي النفس بأحلام التتر الكبرى
أرضٌ تمتد من النيل الكوثر لمنابع دجلة.
حُسْنة : ونحيط بذلك علمًا يا شهبندر.
شهبندر : ولا تحركون ساكنًا؟
حُسْنة (تقترب في دلال) :
شهبندر لِم تشغل نفسك بشئون الدولة؟
أَوَليس لدَينا ما نهتم به غير حروب التتر؟
(في ألم) قد شابت رأسي وأنا أنتظر وصولكْ
وأخاف رحيلكْ
ساعات اليوم طويلة
وهموم الليل ثقيلة.
شهبندر (متأثرًا بكلامها) :
حبيبتي يا فتنة العيون
إني أراكِ في تموُّج المياه في النسيمِ
في اصطخاب البحر والسكون،
وأرقب اليوم الذي تَمْضين فيه من هنا
معي،
لكننا أبناء هذا البلد
لا نملك الكثير … هذا إن ملكْنا أي شيء،
ونستحيل أحيانًا قواربًا تلهو بها الأمواجْ.

(يُضاء النور في الغرفة المغلقة. وترفع الأميرة الستار عنها فنرى الأميرة تتمطَّى.)

الأميرة (صوت من الغرفة) : ها هو ذا … أسمع صوته.
حُسْنة (في حرج وقلق وتوتر) : مولاتي تصحو … هيا يا شهبندر.
شهبندر (يهمس إليها) : هل آتي عند الظهر؟
حُسْنة (تومئ موافقة) : هيا … هيا.

(يخرج شهبندر.)

الأميرة (وهي تنظر من النافذة) :
ها هو يهبط كالأمل الهائم
يغشى وجه الصبح الحالم
حُسْنة (تتجه إليها) : صباح الخير مولاتي.
الأميرة :
صمتًا صمتًا
فالآن سنسمع ألحانه
(عزفُ نايٍ بعيد يتلاشى رويدًا.)
ها هو ذا
أسمعتِ الناي الربَّاني.
حُسْنة : بل كان غناء الكروان.
الأميرة : كان حبيبي يُنشِد للصبح المُشرقْ.
حُسْنة : مولاتي تحلم.
الأميرة : بل أسمع وأرى مثلكْ.
حُسْنة : مولاتي تتخيل ما لا يوجَد في دُنيانا.
الأميرة :
مع أول خيطٍ في الفجر الفضي
ألمح فارسيَ المغوار
ممتطيًا متْن جوادِه،
وبيده سيفٌ بتارْ،
تومض عيناه ببرق الحب،
وبجنبَيه قلبٌ فوَّارْ.
حُسْنة (ساخرة) : يتنزه — بسلامته — في الفجرية؟
الأميرة :
في غبش الصبح يطوف حبيبي بالآفاقْ
ينسج من نور الشمس الأشعارْ،
يجمع من فوق الكلأ اللؤلؤْ،
ومن البستان رحيق الأزهار!
وعلى كل جبينٍ ينثر حبَّات العرقِ الساخنْ
كي تورق في الوادي الأشجارْ.
حُسْنة :
مولاتي تحيا في زمنٍ ولَّى،
لا يوجَد في دنيانا فرسانُ الأشعارْ.
الأميرة :
بل هم في كل مكان،
وحبيبي يتخفى عن عين الزمن الغدارْ
يتدلَّى حينًا من طرْف سحابة
أو يخرج من دكان النجار!
حُسْنة :
مولاتي لا تعرف فرسان اليوم،
(تمثِّل ضاحكة) فرسان اليوم لهم بأسٌ جبارْ
يتطاير من أعيُنهم شررٌ من نارْ.
الأميرة :
لكن حبيبي مثل الماء الرقراقْ،
دفَّاق الصبوة كالنبْع الجاري،
سيَّال الروح رحيمًا
وعطوفًا ووفيًّا وكريمًا
مثل النيل المِغداقْ.
حُسْنة : هيهات إذن! لن تجدي ذاك الفارسْ.
الأميرة :
بل هو موجود
أعرفه خيرًا من نفسي،
أعرف عينَيه السوداوَين
وملامحه الخشنة،
وهو أمامي وورائي
يتسربل في أرديةٍ من نسْج يدَيهْ.
حُسْنة : ماذا؟ خياطٌ غلبانْ؟
الأميرة : أو يحمل سيفًا من صُنع يدَيهْ.
حُسْنة : حدادٌ عدْمانْ؟
الأميرة : أو يصنع من خشب الزان أثاثًا.
حُسْنة : نجارٌ كحيانْ؟
الأميرة : بل يتخفى كيلا يعرفه الناسْ.
حُسْنة (بخبث) : لكنْ مولاتي تعرفه؟
الأميرة : أعرفه بعلاماتٍ سبعْ.
حُسْنة : إحداها فيه فقط … أم كل السبعة؟
الأميرة : كل السبعة.
حُسْنة : هل لي أن أعرفها؟
الأميرة :
هو مصريٌّ يا حُسْنة،
يتحدث لغة المصريين،
يتزيا بالزي المصري.
حُسْنة : كذا كذا؟ الفارس يلبس جلبابًا؟
الأميرة : وغطاء الرأس الطاقية.
حُسْنة : أهو إذنْ فلَّاحْ؟
الأميرة : بل من أهل الصنعة.
حُسْنة : حداد أو خياط أو نجارْ؟
الأميرة : وهو صريح لا يكذبْ.
حُسْنة : تلك علاماتٌ خمسْ.
الأميرة : أذكرتُ الشارب واللحيةْ؟
حُسْنة : أله لحيةْ؟
الأميرة :
كلا فهو حليق اللحية،
وله في يده اليمنى شامة
يحسبها الجاهل نُدبة،
لكن الشامة من أثَر العمل الدائبْ،
وهو إذا أخفاها في كمِّهْ
لاحت في يده اليسرى.
حُسْنة :
مولاتي … هذا لُغز الألغازْ
كم قلتِ الفارس والشهمَ المغوار،
والآن تقولين الحائك والنجارْ؟
هل نبحث عن فارسك المُعْلَم
في الأسواق وفي الحارات؟
الأميرة : بل سوف يأتيني هنا.
حُسْنة : في القصر؟ محالٌ مولاتي.
الأميرة : يأتيني في موعده لا يتأخرْ.
حُسْنة : مولاتي جُنَّت … جُنَّت مولاتي!
الأميرة : بل وصل الآنْ.

(يدخل حارس. يتردد ثم يحادث حُسْنة.)

الحارس : نجارٌ بالباب يريد لقاء الحاكم.
حُسْنة (تفيق فجأة) : نجارٌ طبعًا … أدخله إلى الإيوانْ.
الأميرة : وصل حبيبي!
(إظلام)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤