المشهد الرابع

(نفس المنظر، يدخل السلطان والحاشية ومن ورائهم محمود النجار في صحبة حارسَين.)

السلطان (إلى الحراس) :
دعونا وحدنا! هيا!
(ينصرف الحراس.)
تعالَ ولا تخَف صِمْغارْ!
محمود : صِمْغارْ؟
السلطان (يضحك) : لم تسمع اسمك من قبل؟
محمود : اسمي محمود يا مولاي!
السلطان : أمَّا صِمْغار التتري فلا تعرفه يا … محمود؟
محمود :
إني نجار من حي القلعة،
مصري من أهل الصنعة،
وطلبتُ لقاء السلطان لكي …
السلطان (يضحك) : تطلب بعض الأخشاب؟
محمود :
مولاي حصيف لا تخفى الأشياء عليه،
وهو كريم لن يبخل بالأخشاب على نجارٍ مسكين!
السلطان :
إني أكره هذي اللعبة يا صِمْغارْ!
لكن ما دمتَ تصر فلا بأس،
لِتكُن محمودًا ما دُمتَ تحب الأسماء العربية.
محمود :
مولاي لدَيكم في حوش القصر الأكبر
أخشاب السرو الشامية
ألواح لا حصر لها … تنفع لجهاز عليَّة.
السلطان (يضحك ضحكًا شديدًا) :
تنفع … لجهاز عليَّة؟
ما أعجب ما تتقن لهجتنا المصرية.
محمود : إن سمح الحاكم لي منه … بقليل.
السلطان : فستصنع فُرشًا تركية؟
محمود :
القوم لدَينا ينتظرون رُجوعي،
ويريدون نتيجة مسعاي،
ينتظرون الأخبارْ.
السلطان :
حقًّا؟ القوم لدَيكم؟ (فرحًا)
ينتظرون الأخبار؟
(يضحك) ستوافيهم بالأخبار!
هيا … أقبل … سأكاشفك بفكري الآن!
أنا أعرف كم يشتاق «القوم لدَيكم» للسِّلم!
كم يكره كل «القوم لدَيكم» أهوال الحرب.
محمود :
أنا لا أجد الأخشاب،
وعُبَيد لا يجد معدات التطريز،
أما فرج الحداد …
السلطان (مقاطعًا) :
ألديكم خياطون وحدادون؟
(يضحك) طبعًا طبعًا
إذ كيف تُعدِّون دروعكمُ وسيوفكمُ؟
لكن أبشِر … قد آن أوانُ السِّلم.
محمود : ألن تحاربوا التتار بعد اليوم؟
السلطان : اسمع يا صِمْغار …
محمود : اسمي محمود.
السلطان :
ليكن يا أسطى محمود،
أنا لا أبغي إلا السِّلم،
لا أقبل أن يُسفَك دم أبناء بلادي عبثًا،
لا أرضى لهم الموت بلا معنى،
تلك الأهوال المتوالية البلهاءْ
ما معناها؟
لا أخفي عنك فداحة حزني لفداحة ما حل بنا.
محمود :
تقصد في آخر غزوة؟
أو آخر موقعة في الشام؟
السلطان :
قد لا تعلم أنا أخفَينا الكارثة عن الناسْ،
أوهَمْناهم أنَّا أحرَزْنا النصرْ.
محمود :
وبعثتم شاعركم يتغنَّى بالأمجاد الموهومة،
أعلم ذلك … بل قلتُ لهم ذلك.
السلطان (منزعجًا) : قلتَ لمن؟
محمود : للقوم لدَينا … فرج وعبيد.
السلطان (يضحك) : آه … فرج وعبيد … لا بأس.
محمود : إخفاء النكسة بعد النكسة.
السلطان :
لا قِبَل لنا بتتارٍ ديدنهم طعنٌ ودمار،
نبغوا في فن الحرب وبلغوا الغاية في الوحشية
(يهمس) ولديهم أسلحةٌ سرِّية،
تعرف ما أعني،
أشياء تتفجر في أسوار المدن الشمَّاء
فتُدمِّرها … تجعل عاليَها سافلها.
محمود : أتراك تعني المنجنيق إذنْ؟
السلطان :
بل إن للتتار من سلاح البَر ما لم نعهدِ،
وهم عتاة بارعون سفاكون للدماءْ.
محمود :
لكنكمُ أهل ضراوة،
وتمرستم منذ الصغر بكل فنون الحرب،
وحذِقْتم ألوان الضرب،
أحْكَمْتم فن الكر وقَذْف الرمح،
لو صدق العزم لدَيكم وتوحدْتُم صفًّا لسحَقتُموهم،
وإذن لا قِبَل لجيش التتر بكم.
السلطان (يتصور أن الجاسوس يراوغ) : بل لا قِبَل لأهل البَر بهم.
محمود :
أهل البَر؟ ما شأن التتر بأهل البَر؟
أوَلستم أنتم من يحمي البَر؟
السلطان :
إنك لم تفهم قصدي،
الحرب جهازٌ بشَري يمتص جهودًا بشرية.
محمود : لا أدرك مرماك.
السلطان :
هل تعرف كم يتكلف رجلٌ واحدْ
كي يُصبح جنديًّا في جيش السلطان؟
آلاف الدينارات!
هل تعرف من يدفعها؟
أهل النيل البسطاء!
نفقات الحرب الباهظة الخرقاء
تثقل كاهل أبناء الوادي،
وأنا لا أقبل أن أُرهقهم
يكفي ما نِلْناه بشَنِّ الحملات الرعناء،
إذ عانى كل الناس وعانَينا
بينا ما زال التتر على الأبواب
يبغون السِّلم … وبيدهم غصن الزيتون.
محمود :
هل تعني أن السعد على الأبواب؟
وبأن نوايا التتر لدَيكم معروفة؟
السلطان (يحاول انتزاع سر من الجاسوس) :
أوَليسوا حقًّا يبغون السلم؟
أعرف أنك نجار من حي القلعة يا صِمْغار،
أقصد يا محمود! … لكنك لا بد عليم بالأسرار.
محمود : أنا لا أعرف إلا ما تتناقله الأخبار.
السلطان : لكن التتر يريدون السلم … كما أعلم.
محمود : أنا لا أتصور أن التتر سترضى بالشام.
السلطان : لا تتصور؟
محمود :
أو تقبل أن تكتفيَ بعكا أو حيفا،
وأمامهمُ يمتد النيل.
السلطان : لكنهمُ قد عرضوا السلم!
محمود :
السلم بأي شروط يا مولاي؟
أفلا تخشى أن تمتد مطامعهم للنيل؟
في ظني … (يتردد) هذا ظنٌّ ولقد يخطئ ظني.

(يتوقف عن الحديث.)

السلطان (يحثه على الكلام) :
ظنك ماذا؟ ماذا في ظنك؟
قل!
محمود :
أنك إن لم تخرج يا مولاي إليهم
جاءوك هنا.
السلطان :
جاءوني؟ (يتمالك نفسه وتخطر له فكرة)
لم لا؟ قطعًا سوف يجيئون،
لكن كالأصحاب وكالأحباب.
محمود : تقصد إن أبرمتَ سلامًا معهم؟
السلطان :
بل إن صاهرتُ مليكهم الأكبر،
أو حين أصاهره إن شاء الله.
محمود :
أتُصاهر ملِك التتر الأكبر حقًّا يا مولاي؟
عجبًا لم أسمع عن هذا من قبل.
السلطان : ما رأيك فيه إذن؟
محمود :
رأيي لا قيمة له،
فأنا نجار لا تعنيني إلا الأخشاب.
السلطان : صَدَّقتُك قلنا! … لكن كيف ترى الفكرة؟
محمود : أخشى ألا تقدر يا مولاي.
السلطان (غاضبًا) : ألَّا أقدر؟
محمود :
أعني … أفلا تخشى الأعوان؟
أفلا تخشى ألسنة الناس؟
السلطان :
ما شأن الناس بما يفعله السلطان؟
للناس هموم تشغلهم … مثل الأخشاب!
ولسوف تظل هموم الناس،
ماذا يعنيهم لو نلتُ عروسًا أخرى؟
(يهمس) هذا لو علموا أني نلت عروسًا أخرى!
أما الأعوان فما يعنيني أيُّ الأعوان؟
الكل يدبر في صمت لهلاك الآخر،
والكل يشي لي بالكل،
فالمغنم في مصر كبير،
والمال السائب يُغري بالسرقة.
محمود :
أفلن يهتموا حقًّا؟
لن يغضب رجل أو رجلان؟
أفلا تخشى أن تُعزل أو تُقتل؟
السلطان :
العزل لا أخشاه؛
إذ ليس في الديار ماكر بمثل فطنتي،
ولست في هذا فريدًا؛
فكل حاكمٍ فطِن … وكل حاكمٍ مكير.
محمود : أوَلستَ تخشى القتل؟
السلطان :
يا صاحبي!
لا يُعزَل الحُكَّام في بلادنا بل يُقتَلون،
وكل حاكم يرى في سيفه كفَنَه.
محمود : فإن فشلتَ في اقتناء هذه العروس؟
السلطان :
لقد خطبتُها يا صاحبي سرًّا،
ودفعتُ مهرها.
محمود : ثمن السلام؟
السلطان : فليكن.
محمود : لا أدري ما سيقول القوم إذا عرفوا.
السلطان :
ستُفتح الأبواب بيننا وبينهم
ستُعزَف الألحان كل يوم
وتلتقي موائد الأعراس عندنا
(مترددًا ويرمقه بطرف عينه.)
وعندكم.
محمود : تعني سنأخذ الأخشاب؟
السلطان (يكون قد نسي أنه نجار) : أية أخشاب؟
محمود :
ما جئتُ أطالب به،
فأنا نجار …
السلطان (مقاطعًا وقد تذكر) :
من حي القلعة!
رجل من أهل الصنعة!
(يضحك ضحكًا شديدًا.)
فلتبلغ هذا الخبر إلى قومك
والدها يعرف،
لكن الباقين يتوقون إلى معرفة نوايانا.
محمود : لم أك أتصور!
السلطان (في حزم) :
والآن تصورت؟
اسمع يا صِمْغار … (يضحك) أو يا محمود!
هذا عهد سلام أقطعه ومحال أن أُخلف،
أبلِغهم هذا … والآن سأمضي لشئون الدولة.

(يخرج السلطان.)

محمود (وحده على المسرح) :
ما معنى هذا الإصرار على تسميتي صِمْغار؟
صِمْغار اسمٌ تتري،
بل هو من خلفاء الملك الراحل هولاكو،
كيف يظن بأني صِمْغارُ إذن؟
أفلا ينطق حالي؟
أفلا يشهد أني مصري؟
كيف اختلط الأمر على هذا الداهية الأكبر؟
التفسير الأوحد أنهمُ كانوا ينتظرون قدومه
أو أبلَغهم مَن أبلَغهم بتخفِّيه
في زي ابن البلد المصري!
إن كان كذلك فأنا في خطرٍ داهم؛
إذ قد يصل أخونا صِمْغار
فتدور الدائرة عليَّ ويُفصَل رأسي عن جسدي
الحل الأمثل أن أخرج من هذا القصر
فأعودَ إلى فرجٍ وعبيد.

(يهمُّ بالخروج فيفاجأ بالأميرة.)

الأميرة : الفارس المغوار!

(محمود يتلفت حوله فلا يرى أحدًا.)

الأميرة : وعلى يده اليُمنى شامة!

(محمود في حرجٍ شديد يُخفي يده اليمنى.)

الأميرة :
إن أخفاها في كمه
ظهرَت في يده اليسرى.
محمود : عمَّن تتحدث مولاتي؟
الأميرة :
من موج البحر خرجْت،
وعلى الآفاق مشيْت،
حتى جئت إليَّ على موعدْ.
محمود : أنا يا مولاتي؟
الأميرة :
الفارس ذو الصوت الصادح في غبش الصبح،
حمَلَت أنغامَ الناي الأنسام،
وأتتني بك أطرافُ غَمام.
محمود :
أنا يا مولاتي نجار من حي القلعة،
رجل من أهل الصنعة.
الأميرة : تتخفى حتى لا يعرفك الناس.
محمود :
أبدًا يا مولاتي … أنا لا أتخفى،
بل أنا محمود النجار.
الأميرة :
أوَلم تكشف لك حبَّات الرمل عن القدَر المكتوب
ورسوك هذا اليوم على شط المحبوب؟
محمود : مولاتي أنا لا أسمع إلا صوت العقل.
الأميرة :
والعقل يقول بأنك جئتَ إليَّ،
وستمضي بي من هذا القصر إلى جنة أحلامك،
إني أنتظرك من سنواتٍ ضَلَّت في بحر زمانك،
واليوم رسوتُ وإياك على شطِّ رمالك،
خُذني يا محمود وطِرْ بي.
محمود :
مولاتي … أنا لست الفارس أقسم لك،
بل مهما اشتطَّت أحلامي
لا أطمع في مثل جمالك.
الأميرة :
بل إني لك،
بجمالي … وبمالي … ومماليكي.
محمود : مولاتي أنا لا أطمع إلا في بعض الأخشاب.
الأميرة : أخشاب العالم مِلك يدَيك.
محمود : لا أبغي إلا أخشاب العفش.
الأميرة :
عفش العرس؟ عرسي وزفافي لك؟
لا تحمِل همًّا … فلقد أعددتُ العُدة،
وأثاث المنزل في قَصري عند البِركة.
محمود :
يا مولاتي! أقصِد عُرس عليَّة … وزكيَّة،
أقصد أعراس الشعب.
الأميرة :
في يوم زواجي بك … سنُزوج كل الفتيات
وستُفتَح أبواب المخزن كي يأخذ كل عريسٍ ما يبغي.
محمود : من أخشاب السلطان؟
الأميرة :
هل هذا مهرُك يا محمود؟
إن كان حقيقًا بك
أفصِح عن نفسك.
محمود : يا مولاتي أنا لست سوى نجار …
الأميرة (ساخرة) :
من حي القلعة؟
رجل من أهل الصنعة؟
محمود : أقسم …
الأميرة (مقاطعة) :
لا تقسم،
حتى لو كنت النجار فأنت نصيبي
قدَري … دُنياي ومَحياي.
محمود :
لكن زواجي منكِ مُحال،
الهوة شاسعة بين النجار وبنتِ الأمراء.
الأميرة :
بل لا أعرف معنى الهوَّة،
الهوة يا محمود هنا في هذا القصر.
محمود : مولاتي لا يرضيها قصر السلطان؟
الأميرة :
أحلم بمكانٍ كان أبي يتحدث عنه
بستان لا تُسمَع فيه طبول الحرب،
وبلَيلٍ ساجٍ يحلم فيه البدر،
ونهارٍ يزخر بدبيب الناس.
محمود : حلم من أحلام اليقظة.
الأميرة :
بل هو ما سوف نحققه يا محمود معًا
(تقبل عليه) لا تعجب يا محمود فعندي ما تبغي،
أنا ملك يمينك … خذني معك إلى الجنة.
محمود : يا ليت الجنة مِلك يميني فأقدمها لك.
الأميرة : بل أي مكانٍ يحوينا صِنو الجنة.

(تمسكه بحنان فيمسك يدها ويقبلها.)

(يدخل علم الدين وعز الدين وحُسْنة.)

حُسْنة (مصعوقة) : مولاتي.
علم الدين : صِمْغار تزوج خاتون!
محمود (يفيق من استغراقه) : اسمُكِ خاتون؟
الأميرة : بل هو زوجي منذ زمان يا علم الدين!
حُسْنة : مولاتي هذا جاسوس تتري!
محمود (ما زال في دهشته) : اسمك خاتون؟
الأميرة (تفيق لأول مرة) : اسمك صِمْغار؟
محمود :
اسمي محمودٌ يا ناس!
ومُحال أن أصبح جاسوسًا،
إني جئتُ لبعض الأخشاب ولم أتزوج أحدًا.
الأميرة : تتنكر لزواجي منك؟
محمود :
أتنكر كيف؟ يا للوقعة!
هل حصل زواج حتى أنكره؟
علم الدين : إنَّا شاهَدْنا.
عز الدين : ورأَيْنا.
حُسْنة : وسمِعْنا.
محمود : لكني لم أتزوج بعد.
الأميرة :
لا تأبه يا محمود لهم،
لستُ ابنة أحد منهم
وسأمضي معك إلى آخر أطراف الدنيا،
هيا.

(يدخل سيف الدين فيجفل الجميع.)

سيف الدين (داخلًا) :
ما هذا الهذر عن الجاسوس التتري؟
(لا أحد يرد.)
هل هو هذا المصري؟
محمود :
اسمي محمود يا مولاي،
نجار من حي القلعة،
رجل من أهل الصنعة،
ظنوني جاسوسًا ويريدون زواجي من تلك المرأة.
سيف الدين :
تلك المرأة يا جاسوس سليلة عز ومكارم،
وأنا خاطبها من زمن ودفعتُ المهر إلى المرحوم
والدها السلطان الأكرم.
الأميرة (تحاول الاعتراض) : لا … بل لا … إني …
سيف الدين (صائحًا) :
صمتًا
(إلى حُسْنة) هيا يا جارية أعدي ما يلزم
فسنمضي قبل صلاة الظهر.
حُسْنة : سمعًا يا مولاي وطاعة.
الأميرة : لكني …
سيف الدين :
صمتًا
هيا يا جاسوس بنا،
قد آن أوان حسابك.
(إظلام)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤