المشهد السادس

(نفس المنظر في المشهد الأول ولكن الإضاءة نهارية، وعندما يرتفع الستار نرى فرجًا وعبيدًا جالسَين مع رجال آخرين يتحادثون، والواضح أنهم مشغولون بالجاسوس في الدكان.)

فرج (مشيرًا إلى الدكان) : هل تذكر إن كنا قد كممنا فمه … وربطناه؟
عبيد :
أذكر في آخر مرة
كان هنا مسعود … أخرجناه لكي يقضي حاجة.
فرج (يضحك) : تخشى أن يفسد دكانك.
عبيد : أبدًا! إذ إنَّا أحكمنا ربط يديه … ورجليه معًا.
فرج : لكنك لم تأتِ خلال الليل لتتأكد؟
عبيد : كان على مسعود أن يحمل عني بعض العبء.
فرج : تعني أنك نمت قرير العين وذاك الملعون بدكانك؟
عبيد : كان هنا مسعود طول الليل.
فرج :
زوَّغ من أم علية؟
سهر الليل هنا؟
يا للنكد الأزلي!
لا شك بأن المسكين ينام الآن بمنزله أو في المشغل!
وستأتي الآن لتلقي باللائمة علينا وتصيح وتصرخ.
عبيد :
لا تقلق من ناحية أم علية،
فأنا أعرف كيف أحاورها (يضحك) وألاغيها!
رجل ١ : لكن لم لا يتزوج مسعود تلك البنت؟
رجل ٢ : لمَ يهرب كالمسعور كأن بها عيبًا؟
فرج : بل فيها سر!
رجل ١ : المرأة تملك مالًا.
رجل ٢ : ولديها مشغل.
رجل ١ : منزلها لا بأس به.
فرج : لا تسَلُوا عن أشياء …
عبيد : إن تبدُ لكم ساءتكم.
رجل ١ : تقصد أن علية ليست حلوة؟
رجل ٢ : لكن البنت غنية.
رجل ١ :
لم لا تتكلم يا فرج الله؟
قل أنت عبيدٌ ما سر الأزمة؟

(فرج يتنحى بعبيد جانبًا ويتهامسان.)

فرج (يغمز لعبيد) : لا تسَلُوا عن أشياء …

(يضحك.)

(تدخل أم علية في هلع.)

أم علية :
هل عاد المتعوس من القصر؟
قد علتِ الشمس وصِرنا في الظهر.
عبيد : أهلًا يا أم علية.
فرج : ماذا تبغين الآن؟
أم علية : المنحوس المنكود.
عبيد (بمكر) : محمود؟
أم علية : بل مسعود.
فرج : أوَلم يذهب للمشغل بعد؟
أم علية :
بل ذهب إلى قصر السلطان
غافلني المتعوس وفر،
لم يترك إلا ورقة … وبخط يده
يقسم فيها أن سيعود قُبَيل الظهر.
عبيد :
لم يترك إلا ورقة؟
وبخط يده؟ لكن … لكن …
فرج : لكن مسعود لا يكتب … أقصد لا يقرأ.
عبيد : مسعود أمي يا أم علية.
فرج :
وإذن سيعيِّنه السلطان وزيرًا،
وسيحيا في رغد وهناء،
بل قد يتزوج من أهل القصر.
أم علية :
يتزوج؟ يا لليوم الأغبر!
وعلية بنتي … من يتزوجها؟
رجل ١ (يتقدم منها) : ما مهر علية يا ست الكل؟
أم علية (منزعجة) : ما شأنك أنت؟
رجل ١ :
أقصد أنك ذات جمال وخلق،
ولذلك فعلية مثلك،
وأنا لم أتأهل بعد.
أم علية :
فسدَت أخلاق العالم (تصرخ)
العالم ضلوا يا ناس،
مسعود يمضي للقصر وهذا النطع يريد علية!
لم تعُد الناس تخاف الله!
عبيد : قصد الرجل شريف يا ست الكل.
أم علية :
يا خيبة أملي فيك وفيهم
فوضت الأمر إلى الله.

(يدخل المنادي وخلفه الناس وهو يصيح.)

المنادي :
يا أهل البر انتبهوا!
أمر السلطان الأكبر سيف الدين
بمحاكمة الجاسوس التتري صِمْغار
علنًا بعد صلاة العصر؛
فلقد ثبتت تهمة قتل السلطان عليه
ولسوف تقام المشنقة هنا
بعد صلاة الظهر.

(يتحرك المنادي خارجًا.)

فرج :
كيف نحاكم من ثبتت تهمة قتل السلطان عليه؟
لم لا نشنقه فورًا يا ناس؟
أم علية :
لكن ماذا حدث لمسعود؟
أرجو أن يسلم لي،
كم أخشى أن يلحقه سوء.
عبيد :
بل ماذا حدث لمحمود؟
أرجو أن يأتي حتى يحكي ما شهد من الأحداث.
أم علية :
بل أنا ذاهبة له،
لا أقدر أن أصبر حتى يأتي،
وسنرجع منصورين بإذن الله!
فرج : فلتنتظري حتى يأتي الناس جميعًا.
أم علية :
ولماذا لا أذهب؟
سأواجه هذا السلطان
ماذا يا فرج اسمه؟
فرج :
لا أذكر يا أم علية،
ماذا يعني الاسم؟
عبيد :
علم الدين الباشقَردي؟ عز الدين الكُرجي؟
لا بل سيف الدين القشقار.
فرج : أحد القواد فحسب.
عبيد :
لا بل أحد القواد الأفذاذ!
اسألني فأنا حاربت معه
اسألني فأنا خضت الأهوال إلى جنبه
(يندمج في الخيال) في يوم الفزع الأكبر عدنا نركب مُهرَين
وعلى متن الريح ركضنا في صفَّين
(ينفعل) كشعاع الشمس أذاب سحاب الصيف الناصع.
أم علية (منزعجة جدًّا) : يا لهوي ماذا حدث … عبيد؟
فرج : يكفي هذا يا فارس فرسان الأرض.
عبيد :
لم تسمع ما حدث إذِ انثال الفرسان ورائي
والرعد يجلجل في الأجواء كأن الساعة قامت.
فرج :
ستقوم الساعة إن لم تسكت
(صارخًا) يكفي هذا ولننظر ما نفعل حتى يأتي محمود،
وأرى أن نُخرج هذا الجاسوس الآن … (يفحص قفل الدكان)
اسمع … اذهب أيقظ مسعود.
أم علية : مسعود؟ هل هو نائم؟
فرج : هو بالمنزل نائم.
أم علية : وإذن فلأذهب له.

(تخرج.)

عبيد :
لم يكن القفل هنا بالأمس،
هو وضع القفل ومعه المفتاح.

(الجميع يفحصون القفل على باب الدكان.)

فرج :
بل هذا ليس بقفل الدكان!
من أين أتى هذا القفل المحكَم؟

(أثناء انشغالهم في جانب المسرح يدخل شهبندر مع حُسْنة من الجانب الآخر.)

حُسْنة : هذا هو سوق القلعة.
شهبندر : فلأذهب للساحل حتى أخبر باقي الملَّاحين.
حُسْنة : لكن مولاتي أمرتني …
شهبندر (مقاطعًا) :
مولاتك مولاتك مولاتك!
أوَلم تتحرر نفسك من هذا القصر ومن فيه؟
نحن الآن بمأمن … نحن الآن بمصر لا بالقصر.
حُسْنة :
أعرف ذلك يا شهبندر،
أعرف ذلك خيرًا منك … لكن (تلمح فرجًا)
لكن (في دهشة وفرح) هذا فرج الحداد،
كان زميل أبي في الصنعة
أترى يذكرني الآن؟

(الجميع ينتبهون لوجود حُسْنة وشهبندر، فرج يفحص القفل وينظر من طرف عينه، يلتفت إليها.)

عبيد : من هذان؟

(يلتفت إليهما.)

شهبندر : أنا ملَّاح يا أسطى.
فرج : هذا عبيد وأنا … فرج الحداد.
شهبندر : أهلًا تشرفنا وأنا …
حُسْنة (مقاطعة) :
أنا حُسْنة يا فرج ألا تذكرني؟
أنا بنت صلاح الدين الحداد.
فرج (يفيق من المفاجأة) :
بنت الأستاذ؟ حُسْنة؟
لا يعقل … إني أحلم!
قولي … ماذا حدث؟ وكيف تركتِ القصر؟
عبيد : هل تعرفها يا فرج الله؟
فرج :
هي بنت صلاح الدين الأستاذ،
أمهر من دق السندان … يرحمه الله،
أخذوها تعمل في قصر السلطان لدى خاتون
بنت الملك الأكرم،
كانت طفلة … وهي الآن … يا جَلَّ الله …
هل هذا زوجك يا حُسْنة؟
حُسْنة :
هذا شهبندر … يشغله البحر عن الدنيا،
وعن الدنيا تشغله الحرب.
فرج : مع من تبحر يا ريس شهبندر؟
شهبندر : أبحر مع تاج الملَّاحين الريس عسكر.
عبيد :
الريس عسكر؟ إني أعرفه منذ سنين،
كان يقيم بباب الخلق … وله بيت في الدرب الأحمر.
شهبندر :
تعرفه؟ (فرحًا) قد أعطاني هذا البيت
أقصد أني ابتعته … حتى أتزوج فيه.
حُسْنة (غاضبة) : في المشمش.
شهبندر : حُسْنة ماذا تعنين؟
حُسْنة : أعني أنَّا لن نتزوج أبدًا!
شهبندر : هذا كلام غاضبة!
حُسْنة : لن أعرف الهناء طالما انشغلت بالتتار والصراع والحروب والدمار.
شهبندر :
وكيف ننسى أن ثَم غاصبًا يريد أن يجتاح مصر؟
احكم عبيد بيننا
لقد تركنا القصر عندما تأزمت أمور القصر،
والآن قد سمعنا في الطريق أن حاكم الديار قد قُتل
وأن جاسوس التتار قاتله.
حُسْنة :
أليس هذا يا عبيد من شئون الحاكمين؟
ماذا يضيرنا لو مات سلطان صغير أو قُتِل؟
شهبندر : ماذا يضيرنا؟
حُسْنة : قصدت أننا لا شيء في يدنا.
شهبندر :
كيف ونحن الناس؟
من يزرع الحقول غيرنا؟
من يصنع الثياب والسلاح غيرنا؟
حُسْنة :
لكننا لا شيء في يدنا،
الحكم في يد المماليك الكبار فوقنا.
عبيد :
صدقت يا بنيتي
فهم يحمون أرضنا وعرضنا،
وهم لنا درع الحياة.
شهبندر : لكنهم قد يخطئون!
عبيد : ونحن قد نخطئ!
فرج : من لا يخطئ ليس بإنسان.
عبيد : وبذاك قضى الرحمن!
فرج : لا تشغل بالك بأمور الدولة.
عبيد :
اذهب للريس عسكر فاستأذن
وارجع وتزوج حُسْنة.
فرج : ماذا يعنيك إذا كان السلطان هو الأكرم — يرحمه الله — أو كان الكرجي أو كان الأفرم؟
عبيد :
بل هو سيف الدين القشقار
مغوار لا حد لبطشه.
شهبندر (في يأس) :
أوَهذا سوق القلعة؟
من نصحتنا غازية مولاتك أن ننتظر به؟
حُسْنة : قالت إن لها أصحابًا.
عبيد : غازية بنت الباشقَردي؟
حُسْنة : تعرفها أنت؟
عبيد :
أعرفها؟ قد حِكت ثياب أبيها
وثياب حريم القصر مئات المرات.
شهبندر :
أفهذا هو سوق القلعة؟ (ثائرًا)
قد كنت أظن بأن السوق التهب لمقتل سلطان الدولة،
قد كنت أظن بأن الناس تموج تضج تثور تفور تمور …
فرج (مقاطعًا) :
مهلًا مهلًا
ماذا يعنينا من هذا أو ذاك؟
بل ماذا نعني نحن إلى الحكَّام؟
الحاكم يحيا في دنيا يصنعها بالسيف البتار،
وسواء كان الأكرم أو سيف الدين القشقار
فالسيف المصلت واحد.
شهبندر :
لكننا أهل البلد؟
وكل ما فيها يخصنا.
فرج :
يا صاحبي أفق،
على الأبواب من ديارنا تتار،
ونحن بين شقَّي الرحى
نتابع الذي يقوله الحكَّام
ونسمع الذي يحكونه عن التتار،
لكننا أسرى
لا نستطيع أن نصد صولة الكبار
أو أن نقول لا … حتى إلى الصغار.
عبيد : بالأمس مضى محمودٌ للحاكم يطلب بعض الأخشاب.
حُسْنة : مثل الجاسوس.
فرج : لا فالجاسوس هنا.
عبيد : أنا أحكي عن محمود النجار.
حُسْنة : والجاسوس تخفَّى في زي النجار.
فرج : هل يعقل أن يحدث هذا؟
عبيد : محمود ذهب بهيئته دون تَخفٍّ.
حُسْنة :
محمود؟ هل هو من يعلن عن نفسه
بعبارات لا تتغير؟
نجار من حي القلعة،
رجل من أهل الصنعة؟
فرج : هذا هو محمود النجار وتلك عبارته الخاصة.
عبيد : قول لا يخطئه إنسان!
شهبندر :
هل يعني ذاك بأن رجال القصر
ظنوه الجاسوس؟
حُسْنة : بل هذا هو ما حدث لمحمود.
فرج : أرأيته يا شهبندر؟
حُسْنة : بل إنني رأيته وسمعته.
فرج : محمود في خطرٍ داهم.
عبيد :
وعلينا أن ننقذه الآن
نشرح للسلطان الخطأ الفادح
ونعود به في الحال.
فرج : أتظن الأمر بهذا اليُسر؟
حُسْنة :
محمود محبوس في برج القلعة،
وأنا أعرف كل الحراس.
عبيد :
بل قد يحتاج الأمر إلى جمع الناس.
(إلى الرجال) يا أهل الصنعة!
(يلتفُّ الرجال حوله.)
محمود محبوس في برج القلعة،
ولسوف يواجه حُكم الموت إذا لم نمضِ إليه.

(حماسٌ شديد من الرجال.)

رجل ١ : لبيك عبيد.
رجل ٢ : وأنا ورجالي من خلفك.
رجل ١ : ومتى نمضي؟
فرج :
انتظروا حتى نتحقق،
لا بد من الرأي الصائب في هذا الأمر وإلا …
شهبندر :
رأي عبيد صائب،
والحل الأمثل أن نمضي فورًا؛
إذ إن السلطان إذا شاهد حشدًا
لم يملك إلا أن يرضخ.
رجل ١ : سأنادي كل رجال المخبز.
رجل ٢ : ولنتسلح بهراواتٍ ضخمة.
عبيد : وسآتي بالسيف البتار من الدكان.
فرج : من منا سيحادث ذاك السلطان؟
عبيد :
أنت الأكبر يا فرج فَقُدنا
وتكلمْ باسم الكل،
(يكون الرجال قد تجمعوا بأعداد غفيرة.)
يا أهل الصنعة!
يا فخر شباب البلد الأمجاد!
هل ترضون بأن يتكلم فرج باسم الكل؟
الجميع : طبعًا نرضى … نرضى طبعًا.
فرج :
سيكون دليلي شهبندر،
وكذلك حُسْنة … لكن …
أفلا نُخرج هذا الجاسوس الآخر من دكان عبيد؟
عبيد : نخرجه ونقدمه للسلطان … بدلًا من محمود.
حُسْنة :
بل هو جاسوس السلطان عبيد
مولاتي غازية قالت لي عنه،
فهو يزودها أيضًا بالأخبار
(تضحك) لا خوف إذن منه.
فرج : أخرجه إذن … هيا.
عبيد : ليس معي مفتاح القفل … من أين أتى مسعود به؟
فرج : أنا حدادٌ أكسره لك إن لم يفتح …

(يعالج القفل ويفتح الدكان فيجد مسعودًا مكممًا، يزيلون الكمامة والقيود.)

الجميع :
مسعود؟ مسعود؟
ماذا تعمل في هذا الدكان؟
مسعود : غافلني الملعون وقيدني ثم رماني وهرب.

(عبيد يدخل الدكان ويخرج بسيفه.)

عبيد : هذا هو سيفي البتار.
فرج :
لا بأس إذن … هيا يا مسعود بنا!
هيا يا شهبندر … هيا يا حُسْنة!
يا أيها الرجال هيا … ولن تمر ساعة من الزمانْ
حتى نواجه السلطان.
(إظلام)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤