المشهد الثامن

(ساحة القصر، فرج يقف وخلفه عبيد وحُسْنة وبعض الرجال، وأمامهم يقف سيف الدين ومحمود، حراس ومماليك في كل مكان.)

سيف الدين : من أنتم؟ ماذا تبغون؟

(هرج ومرج ولغط ثم يسكتهم فرج ويتقدم من سيف الدين.)

فرج :
إنَّا لا نعرف من أنت ولكنا نسأل عن محمود!
محمود النجار … هذا!

(ويشير إليه.)

سيف الدين :
مبلغ علمي أن الشخص الواقف بين يدينا
جاسوسٌ تتري يُدعى صِمْغار.
فرج :
بل هو محمود النجار،
لا يجهله أحدٌ منا،
ولتسأل من شئتَ من الناس.

(هرج ومرج ولغط.)

عبيد :
ولماذا لا يتكلم محمود بنفسه؟
انطق يا محمود تكلم … قل لهمُ من أنت.
محمود : لو يسمح لي مولاي.
حُسْنة (إلى عبيد وفرج) : هذا سيف الدين القشقار.
عبيد (ثائرًا) : حتى لو كان السلطان.

(هرج ومرج ولغط.)

فرج (يحاول تهدئة عبيد) :
اسكت أنت
أنا أتكلم باسم جميع الناس،
قولوا يا ناس … أوَليس الواقف ذاك
محمود النجار؟ (الجميع يقولون: محمود … محمود …)
سيف الدين :
أيًّا كان الواقف ذاك
فلقد علم من الأسرار
ما يجعلني أبقيه إلى جنبي في هذا القصر،
لا تخشوا شيئًا فأنا لن أؤذيه،
بل سأصونه.
فرج : ماذا تعني؟
سيف الدين : قد يتقلد منصب حكم … مثل الحكَّام.
فرج : مثل الحكَّام؟
سيف الدين : بل يقدر أن يسمو فوق الحكَّام.

(تدخل أم علية مهرولة مع مسعود.)

أم علية :
ها هو مسعود يا محمود
هل جئتَ بخشب العفش؟
إنَّا حددنا موعد كتب كتاب البنت.
محمود : أوَهذا حق يا مسعود؟
مسعود :
لمَ لا؟ عُد معنا الآن،
فلقد أحضرتُ جميع رجال المشغل،
وانضم إلينا كل النسَّاجين وكل الغزَّالين
وجميع الصبَّاغين
هيا يا محمود بنا.
محمود : ومتى يوم الفرح الموعود؟
مسعود :
عند انتهاء العفش طبعًا،
لكن كتب كتابنا يومَ الخميس.
محمود : يوم الخميس غدًا؟
مسعود : كتب الكتاب فقط.
محمود : أما الدخلة؟!
مسعود : ما شأنك بالدخلة يا محمود؟
أم علية (تزغرد) : يا فرحة أم علية.
محمود (إلى سيف الدين) :
أفهمتَ إذن يا مولاي؟
سيُزَفُّ المسعود غدًا لخيال في رأس البنت المسكينة.
فرج (منزعجًا) :
ماذا تقصد يا محمود؟
أوَلم نحلف ألا نفشيَ هذا السر؟
محمود :
بعض الأسرار لها عمر محدود،
وهي تعيش كمثل الوهم بلا جسد محسوس
أطيافًا كدخان الصيف،
أو كضباب في غبش الصبح المقرور
وكذلك يا مولاي … سر شجاعتك المكنون!
سيف الدين : صمتًا (في حيرة وضيق) لا أدري ماذا حل بكم!
محمود :
غازيةٌ تعجب ماذا حل بمحمود،
وكذلك سيف الدين … يسأل ما حل بنا!
سيف الدين : صمتًا قلت وإلا …

(يدخل شهبندر مهرولًا مع بعض الرجال.)

شهبندر : جاء الملَّاحون لإنقاذ النجار.
حُسْنة : هذا شهبندر يا محمود.
شهبندر :
لم أذهب للساحل
إلا لاستئذان الريس عسكر
(يقترب من حُسْنة) حتى نتزوج يا حُسْنة،
لكن الملَّاحين انتفضوا لسماع الخبر الفادح،
وأصر الكل على أن ينقذ محمود النجار.
حُسْنة (في سعادةٍ غامرة) : نتزوج حقًّا يا شهبندر؟
شهبندر :
بالباب حبيبةَ قلبي ألف محارب،
بل ضاقت بهم الساحات الكبرى،
أما النُّوتيَّة … فبأيديهم شعلاتٌ متقدة،
ويُصرِّون على إحراق القصر بمن فيه
إن لم يخرج محمود إليهم.
حُسْنة : نتزوج في منزلنا بالدرب الأحمر؟
فرج : هيا يا محمود إذن.

(يتحرك محمود ناحية فرج فيستوقفه سيف الدين.)

سيف الدين (يغيِّر لهجته) :
اصبر لحظة!
لم يفهم بعض الناس هنا مرماي،
إن كان النجار بريئًا من قتل السلطان
أطلقْناه،
ولذلك سوف نحاكمه ونبرئه علنًا
حتى تسقط تهمة جاسوسيته والقتل
(يبتسم) وأنا لا شك لدَي بأن الرجل بريء
لكن لا بد من الحكم عليه بما يُرضي الله
فإذا كان بريئًا لم يذنب …
شهبندر (مقاطعًا) :
من سيحاكم من يا سلطان؟
نحن لدَينا القوة ولدينا من يقضي في الأمر.
سيف الدين :
أتهددني … يا مصري؟
أتُراك نسيت مكانك ونسيت مكاني؟
شهبندر : مطلبنا يا مولاي يسير.
فرج : أطلِق محمودًا وسنمضي.
شهبندر : لن يرضى أحد أن يمثُل محمود في محكمة لا نعرف قاضيها.
سيف الدين : هذا عصيانٌ يا … فلَّاح!
شهبندر :
العصيان على ظهر البحر جريمة،
لكنا في البر … وأنا ملَّاحٌ فلاح
أملك أن أعصي من لا طاعة له!
الطاعة يا مولاي السلطان
واجبة للحاكم إن بايعه الناس،
وبدون البيعة لا طاعة لك.
سيف الدين (ثائرًا) : يا حُرَّاس.
شهبندر (يضحك) :
لن يسمع أحد صوتك يا مولاي
فرجالي قد حبسوا كل مماليكك
ومماليك الأمراء … في مخفرهم،
(يتنمر) ورجال البحر أشدَّاء
إن صِحتُ بهم هجموا بل دكوا القصر على من فيه.

(يدخل علم الدين وعز الدين وخاتون.)

سيف الدين (تخونه شجاعته) : أدركني يا عز الدين!
علم الدين :
بل لا تقلق يا مولاي!
قُتِلَت غازية الخائنة بمحبسها؛
إذ كانت تتآمر لهلاك السلطان.
سيف الدين : ولماذا جئتَ بخاتون؟
علم الدين : دع لي يا مولاي أمور الدولة هذا اليوم.
شهبندر :
هيا يا محمود بنا،
لا شأن لنا بأمور القصر.
علم الدين (في لهجةٍ خطابية) :
فليذهب محمود!
يا أهل البر!
قد أمر السلطان بإخراج الخشب المخزون،
وتكرَّم وتعطَّف وتنازل فعفا
عن كل الأقوال وكل الأفعال المهترئة
من محمود … أو من شهبندر
أو من أيٍّ منكم،
ها قد جاءت خاتون عروس السلطان
(لا أحد يرد، همهمات بين المصريين.)
لم لا أسمع تصفيقًا؟ لم لا أسمع آيات الشكر؟
أين الشاعر يا عز الدين؟ هيا احتفلوا برجوع النجار إليكم
احتفلوا بزوال الغمة
وزواج السلطان القائم سيف الدين … من خاتون!
أين الشاعر يا عز الدين؟ هيا … هذا وقت الفرحة والأفراح
(لا أحد يرد فيثور.)
هيا قلت لكم … هيا!
محمود :
أترى يا علم الدين؟ لم تعد الناس تصدق،
لا شك بأنك أمهر مَن ناب عن السلطان
أيًّا كان السلطان … كنتَ النائب،
ولسوف تظل تنوب عن الحاكم
وتدبر خطط النصر وأوهامه
حتى آخر عمرك،
لكنك يا علم الدين … لا تعرف أهل البر،
لم يأتِ أولئك وبيدهم شعلات النار الموقدة الحمراء
كي يحتفلوا،
بل قد فاض الكَيل بهم
الفرح محالٌ يا علم الدين
فرَحُ امِّ علية … إذ لا توجد في الدار علية
واهًا لكِ يا أم علية … هل يقدر أحد أن يوقظها؟
فرج : اسكت يا محمود.
عبيد : نحن تعاهدنا يا محمود.
محمود :
وتعاهد معنا مسعود ألا نفشي سر البنت المسكينة،
لكنْ أم علية تعرف،
وعليها أن تقبل ما تعرف لا أن تلهث خلف سراب.
أم علية (منهارة) : ماذا تعني يا محمود؟
محمود : أعني أنك ما زلتِ صغيرة.
أم علية (تبكي) : وعلية يا محمود؟
محمود :
لا توجد في الدار علية،
لكن من يدري!
أفلا يمكن أن تأتيَ في الغد أو بعد الغد؟
هذا محتوم يا أصحاب؛
إذ إنَّا فتَّحْنا أعيننا،
أما خاتون المسكينة
فلسوف تظل حبيسة وهم الفارس ذي اللون الأسمر.
علم الدين :
إنَّا أطلقناك فعد يا محمود،
هيا … وأمرْنا بالأخشاب بأن …
محمود :
لن تجدي أخشابك في تضميد جراح الناس؛
إذ إن جراحهمُ أعمق!
ومصائبهم تكمن في عيشهمُ في هذا العصر.
علم الدين :
قلتُ لك اغرب عن وجهي!
عُد للسوق وخُذ أصحابك.
محمود : ويظل على رأس الدولة هذا الثالوث الأحمق؟
علم الدين : محمود تعقَّل.

(يدخل صِمْغار الجاسوس التتري في زي نجارٍ مصري.)

صِمْغار :
أين السلطان أنا عاوزه،
إني نجارٌ مصري وأُجيد العربية
(يضحك محمود وتضحك حُسْنة.)
أين السلطان؟ ورُّوني أين السلطان؟
محمود : سلطان البر قضى يا سيد صِمْغار.
صِمْغار : قضى ماذا؟ قل لي؟
محمود : سلطان البر قضى نحبه.
صِمْغار (حائرًا) : قضى ماذا؟ لكن أين يكون الآن؟
محمود : في القبر يحاسبه ملَك أو ملَكان.
صِمْغار : ملِك ويحاسبه ملكان؟
محمود : اسمع يا صِمْغار … قد جئتَ إلينا بعد فوات الموعد فاسكُت.
صِمْغار :
صِمْغار؟ صِمْغار؟ من صِمْغار؟
إني نجار وأجيد اللغة العربية.
محمود :
قل للتتار إن سلطان البلاد قد قُتل،
وقل لهم: القاتل الأثيم يحكم الديار،
وقل لهم: الحاكم الجديد خائر القوى ضعيف واهنٌ سفِيه،
خذوه يا حراس من هنا فلن يزيد عِلمه عمَّا سمع!
(يأخذه الحراس بين دهشة الأمراء.)
والآن سوف أحكي يا عُبيد ما سمعْت.
سيف الدين : صمتًا! هذا أكثر مما يحتمل الإنسان.
محمود : الواقع أن القاتل لم يبرح هذا القصر.
سيف الدين (صارخًا) : صمتًا!
محمود :
ولستَ أنت سيف الدين … لا،
فلستَ تستطيع حمل السيف!
لكن خادمك المطيع عزَّ الدين …
عز الدين (مقاطعًا) : يكفي هذا يا محمود.
محمود :
أحلامك البلهاء يا عبيد تبتدي هنا … وتنتهي هنا!
هل خضتَ أهوال الحروب في معية السلطان … سيف الدين؟
نازلتَ فرسان التتار في معية الكماة من أمثاله؟
إن كنت تعرف الذي عرفتُه ما قلتَ يا عبيد كلمة كهذه
من ساعة أو بعض ساعة.
عز الدين : ماذا تبغي يا محمود؟ … اسكت.
محمود :
جاءتني في السجن امرأة،
وحكت لي قصة ذاك المارد،
قصة مفتول العضلات المتباهي سيف الدين،
وحكَت لي لحظة أن واجه سلطان الدولة يرحمه الله،
بل كيف ارتعد وكيف بكى … كان يواجه وهمًا أضناه،
وتخاذل ساعده الأيمن والسلطان يقهقه،
حين تقدَّم عز الدين فعاجله بالخنجر.
سيف الدين (صائحًا) : هذا كذبٌ فاضح.

(يتقدم منه فيتراجع.)

محمود :
هذا هو مَن ملأ الدنيا بضجيجٍ لا يهدأ
عن حرب التتر وأهوال الروع.
سيف الدين (منهارًا) : غازيةٌ كذَّابة.
محمود :
إن الذي تصدَّى للتتار يا عُبيد هم جنودنا المجالدون الصامدون،
أما الذي تراه ها هنا فرعديدٌ مُسالم،
مثل الذي سبقه،
هذا يريد السِّلم والأمان،
وذاك ينشد السلامة،
إن انتصارنا على التتار يبتدي هنا وينتهي هنا،
بل أي حرب ذات أضراس وطحن تبتدي هنا.
علم الدين : لن أسمح للمصري بهذا اللغْو.
محمود :
ألهذا أغمدتَ الخنجر في صدر امرأةٍ عزلاء؟
لم تقدر أن تتحمل كلمة حقٍّ من مصرية؟
ولماذا قُتِلَت غازية المصرية قل لي؟
أتُراها خانتكم حين أحبَّت هذا الوطن الغالي؟
علم الدين : لن أقبل أن تَعرِض لاسمي.
محمود :
ولماذا يا مَن تطمع في السلطان
وتحيا كالدِّيدان … ذليلًا ترقص للسلطان
كيما تلدغه إن سنحَت فرصة.
علم الدين :
مولاي هذا الغِر قد تطاول!
ولم يعد في وسعنا إلا الرجوع عن غفراننا.
محمود :
غفرانكم … أسطورة القرون!
لا يغفر الذنوب إلا الله فافتحوا عيونكم.
سيف الدين : فليُقتل فورًا.
محمود :
لا بأس، بشرطٍ واحد؛
أن تقتلني أنت.

(هرج ومرج ولغط يتقدم شهبندر.)

محمود :
لا تقلق يا شهبندر
فلدَيَّ ذراعٌ صلبة … وسألقي في قلب الرجل الرعب.
خاتون : البطل المغوار!
محمود :
واهًا لكِ يا خاتون!
ليتكِ ما جئتِ ولا رُمتِ الفارس ذا اللون الأسمر.

(علم الدين يتهامس مع سيف الدين.)

شهبندر : لن نقبل أن يُؤذَى محمود.
فرج : ولسوف يعود إلينا.
عبيد :
بل دعني أتصدَّى للرعديد
وسأبني جيشًا لا آخر له.
محمود : لن تبنيَ شيئًا حتى يتهدَّم هذا الصرح!
عز الدين (صائحًا) :
تُرى نسيتُم أيها الرعاع أنكم بحضرة السلطان؟
إني باسمك يا مولاي … أقتل هذا الوغد الكافر
(يطعن محمود، على الفور يخرج شهبندر.)
أما أنتم فلكم في الدولة ألف حساب،
والجاهل من يجهل قوة هذا الخنجر.
محمود (وهو يغالب الألم) :
لقد طعنتَ شعبًا كاملًا يا أيها الأثيم،
لقد طعنتَ هؤلاء الناس … ولن يُولِّيَ النهار حتى يعرف التتار
أننا وُلِدنا من جديد.

(يعود شهبندر لاهثًا.)

شهبندر :
قد أشعل النُّوتية الضرام في المداخل،
النار في كل مكان.

(هرج ومرج.)

محمود :
امضوا أنتم ودعوني (في ألم)
النار عذاب لا يملكه إلا القهار.
شهبندر : ألسنة اللهب التهمَت مخزن أسلحة السلطان ومخزن أخشابه!
محمود (في سكرات الموت.) :
لا تخش على الأخشاب (يبتسم بسمةً مريرة)
فغدًا تأتي سفن الأخشاب محملة
بقيادة شهبندر،
وغدًا يخرج جيش المصريين إلى بر الشام؛
ليرد غزاة التتر ويُعليَ شأن الإسلام.

(يتهاوى ويلفظ أنفاسه.)

شهبندر (في ألم) :
هذا وعدٌ أقطعه يا محمود على نفسي،
ولسوف يحارب في الصف عبيد وفرج،
ولسوف يحارب مسعود،
ولسوف يحارب كل رجال البر،
حتى إن حملوا أسلحة من خشب الموسكي.
(في خلفية المسرح ألسنة النار تملأ الدنيا بلونٍ أحمر.)
(إلى المماليك) أما أنتم فلديكم لا شك جحور كالفئران،
فليهرب من يرجو منكم عَيش الفئران
(هرج ومرج في صفوف المماليك.)
أما إن سقط القصر عليكم،
أو كان دخان النار كثيفًا
فاختنق البعض ومات البعض من الهلع الأكبر
أو كنتم للنار وقودًا فاستعرَت منكم وبكم فالعاقبة سواء في أعيننا،
لن نبكيَ سيف الدين وعلمَ الدين وعزَّ الدين،
بل لن نبكيَ خاتونَ المسكينة،
فالقصر سواء في أعيننا،
أما صِمْغار فسوف يعود بأخبار لم يتوقعها،
هيا يا حُسْنة
(يتقدم ممسكًا يدها إلى مقدمة المسرح.)
في لهب الليل سيولد صبح الغد
وغدًا تصحو القاهرة على أنغام المَولِدْ.

(تعلو ألسنة النيران ويملأ المسرح دخانٌ كثيف، بينما يثبت الممثلون في أماكنهم ويهبط الستار.)

(ستار الختام)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤