الفصل الأول

ستسوغوان

أَفلَت مطعم ستسوغوان من أية أضرار ناتجة عن الحرب؛ لأنه لحُسن الحظ يقع على تلة عالية في منطقة كوايشيكاوا كثيفة التعرُّجات بطوكيو. فلم تُصَب بأذى الحديقة الشهيرة التي على نسق مدرسة كوبوريئنشو ذات السمعة العريقة التي تصل مساحتها إلى عشرة آلاف متر مربع، ولا أيضًا بوابة تشوجاكو التي نُقِلَت من أحد معابد كيوتو الشهيرة، ولا المدخل وحجرة الضيوف اللتان نُقِلَتا كما هما من معبد بوذي قديم في مدينة نارا، ولا القاعة الكبرى التي أُنشِئت فيما بعد.

في خضمِّ الجلبة التي حدثت بسبب ضريبة الأملاك بعد الحرب، انتقل مبنى ستسوغوان من يد مالكه الأصلي فنان صناعة الشاي ورجل الأعمال الشهير، إلى يد مالكةٍ جميلةٍ وذات نشاط وحيوية، فتحوَّل على الفور إلى مطعم ذي شهرة عريضة.

تلك المالكة اسمها كازو فوكوزاوا. كانت كازو ذات براءة ريفية مع مظهر رائع الجمال، وكانت تفيض قوةً وحماسًا على الدوام. يخجل الشخص الذي يَتحرَّك قلبه بهمَّة وحماس من تعقيدات نفسه، عندما يرى كازو، وعلى الأرجح يَتشجَّع الشخص الذي ارتخت قواه المعنوية عندما يرى كازو، أو على العكس يحس بشعور الانسحاق التام. تستطيع تلك المرأة التي جمعت في جسد واحد من خلال نعمة سماوية ما، الجسارة الرجولِيَّة مع الحماس النسائي الأعمى؛ الذهاب إلى أبعد مدًى أكثر من أي رجل.

كانت صفات كازو الشخصية مَرِحة بشوشة في كل سكناتها وحركاتها، وكانت ذاتها لا تعرف الخُنوع أو الاستسلام، فأعطى لها ذلك مَظهرًا جميلًا بسيطًا. وكانت كازو منذ شبابها تُفضِّل أن تُحِب على أن تُحَب. تُخفي براءتها الريفية كَمِّيَّة فرْض نفسها على غيرها القليلة، وربَّت النوايا الشريرةُ المتنوِّعة للمحيطِين بها من التافهِين، لديها قلبًا أكثر تلقائية وليس به أي جموح.

تملك كازو منذ زمنٍ بعيد عددًا من الأصدقاء الرجال بدون تعقيدات غرامية. وعلى العكس كان السياسي غينكي ناغاياما المحرِّك الخفيِّ لحزب المحافظِين صديقًا جديدًا نسبيًّا بالنسبة لها، وكان يكنُّ لكازو التي تصغُره بعشرين عامًا حبًّا كأختٍ صغرى له.

وكان يقول دائمًا:

«إنها امرأة رائعة نادرة المثال. من المؤَكَّد أنها ستفعل الأعاجيب قريبًا. بل وإن قيل لها أن تفعل ما تَقْلِب به اليابان رأسًا على عَقِب، على الأرجح ستفعل. إذا وُصِف الرجل بأنه بطل مِغوار، فالمرأة تُوصَف بالفاعلة. إذا وُجد رجلٌ يستطيع أن يستخرج من تلك المرأة مشاعر الحب، من المؤكد أن تلك المرأة في ذلك الوقت بالذات ستنفجر.»

عندما سمعَت كلمات غينكي تلك من شخص آخر لم تشعر بالاستياء مطلقًا، ولكنها قالت له في وجهه ما يلي:

«إنك يا سيد غينكي لست الشخص الذي يستطيع استخراج عاطفة الحب من قلبي. فلن يفيد معي أن تأتي إليَّ وأنت ممتلِئ بثقة شديدة في النفس. أنت لديك حُسْن نظر بالناس، ولكنه لا ينفع كوسيلة لاستمالة النساء.»

قال السياسي العجوز بنبرة حديث مُنفِّرة:

«لا نية لديَّ مُطلقًا في استمالتك. إن وصل الأمر إلى محاولة استمالتكِ فتلك نهايتي.»

ومع زيادة شعبية مطعم ستسوغوان، أنفقت كازو مبالغ كبيرة في الاعتناء بالحديقة. وثمة بِرْكة جنوبية شرقية تقع على الواجهة الجنوبية تمامًا لغرفة الضيوف المسمَّاة غرفة المكتبة الصغرى، وتصبح تلك البِركة أهم منظر في الحديقة أثناء حفلات مشاهدة القمر. تحيط الحديقة أشجار عملاقة عتيقة من النادر رؤية أشجار شبيهة لها في أنحاء طوكيو. تقف أشجار الصنوبر والكستناء والدردار والقسطل شامخة، وتختفي وجوه المباني المدنية الحديثة فلا تُشوِّه مَنظر السماء الزرقاء التي يمكن التَّلصُّص إليها من بين تلك الأشجار. يسكن زوج من الحدأة منذ زمن طويل على أغصان الصنوبر العالية. ويزور الحديقة جميع أنواع الطيور من وقت لآخر. ولكن بصفة خاصة في مواسم هجرة الطيور، لا تُقارن كثرة وضوضاء الطيور التي تنزل لتقف على الأرض تلتقط الحشرات من فوق حشائش النجيل الرحبة، وحبات ثمار الناندين بأي شيء آخر.

تخرج كازو كل صباح للنزهة في الحديقة، وفي كل مرة تعطي للجنائني تنبيهات ما. تكون تنبيهاتها أحيانًا صائبة، وأحيانًا لا تكون. فقط مجرد أنها تعطيه تنبيهات أصبح أحد مهماتها اليومية، وجزءًا لا يَتجزَّأ من حالتها المعنوية المرتفِعة؛ ولذلك كان الجنائني العجوز الخبير على العكس لا يعارضها.

تمشي كازو في الحديقة، وكانت تلك فرصتها في التفكير بصمت وفي متعة كاملة بأنها عزباء وبمفردها. فهي تقضي أغلب اليوم إما تتحدث أو تُغنِّي، ولا تسمح لها ظروف العمل أن تكون بمفردها، ومهما كانت معتادة على التعامل مع الزبائن إلا أن ذلك يُجهدها. كانت نزهة الصباح هي الدليل على سكينة القلب الذي لا تقوم فيه الرغبة في الوقوع في الغرام.

لن يُعكِّر الحب صَفْو حياتي بعد الآن … كان هذا هو اليقين الذي شعرت به بنشوة وهي تنظر إلى أشعة الشمس المهيبة المتسلِّلة من بين الأشجار التي علق بها الضباب، والتي تجعل الطحالب الخضراء في الطريق أمامها، تلمع في روعة. لقد مر وقت طويل منذ ابتعدت كازو عن الحب. ولقد أصبح آخر حب لها في ذاكرة بعيدة. وأصبح لا يمكن زعزعة شعور الأمان التي تحس به تجاه خطر المشاعر المتنوعة.

كانت نزهة الصباح تلك، قصيدة شعر آمنة لكازو. وبالرغم من تخطيها الخمسين من العمر إلا أن جمال جسدها المحتفظ ببشرة خلابة وعيون متألِّقة، يخلب بلا شك قلب كل من يراها تتنزه هكذا كل صباح في الحديقة الرحبة، ويجعله يُمَنِّي نفسه بقصة حب. ولكن كانت كازو نفسها تعلم أكثر من أي شخص آخر بانتهاء القصة وموت الشِّعر. بالطبع كازو نفسها تشعر داخلها بقوة جامحة لا تُقاوَم، وفي نفس الوقت تعرف جيدًا أن تلك القوة انثَنَت بالفعل وسُيْطِر عليها ولن تستطيع التخلص تمامًا من القيود.

هذه الحديقة الرحبة الغنَّاء، وتلك المباني المحيطة، وحساب البنك، والسَّنَدات المالية، والأسهُم، وزبائنها من كبار رجال عالم المال والاقتصاد ذوي السُّلْطَة والقوة، كان كل ذلك كافيًا ليعطي كازو حياة آمِنة في شيخوختها. إذا وصلت لتلك الحالة فما من قلق لديها أو خوف من أن يكرهها الناس أو يُطلِقوا حولها الشائعات من خَلْف ظهرها. إن جذورها ضاربة بعمق في هذا المجتمَع، وتحظى باحترام الجميع، وتنغمس في الهوايات الراقية تمامًا، وتستطيع في نهاية الأمر إيجاد الشخص المناسب لِيخلُفها في إدارة المطعم ثم تقضي عُمرها المتبقِّي بدون أية نواقص وهي تذهب في رحلات ترفيهية وتُوزِّع هدايا التهنئة في المناسَبات الاجتماعية.

تَسبَّب امتداد تلك الأفكار داخل قلب كازو، في تباطؤها عن الحركة، فجلست فوق الأريكة التي بجوار بوابة الحديقة، وتأمَّلَت بعمق الأرض المكشوفة المليئة بالفطريات الخضراء، وتأمَّلَت كذلك أشعة شمس الصباح المتساقِطة هناك، وحركات الطيور الدقيقة.

عندما تكون كازو في الحديقة فهي لا تسمع مُطلَقًا تردُّد صدى القطارات ولا أبواق السيارات. يصبح العالم لوحة صامتة. لا تَعرف كازو سَبب اختفاء عاطفة حُب وصَلَت مَرَّة لأوج اشتعالها دون أن تترك أي أثر. لا تعرف إلى أين يذهب حب اخترق قلبها لِمَرَّة بشكل مؤكَّد، ثم تَركَها ورحل. بعد تراكُم خبرات متنوعة يكبر الإنسان حتى لدرجة أن يعتقد أن نموه ذلك نوع من الكذب. إن الإنسان عبارة عن مجرى ماء مُغطًّى تمر به أشياء عديدة، بل يُعتقد أنها مجرد طريق مرصوفة بالأحجار في تقاطع تَمرُّ عليه أنواع متعدِّدة من السيارات التي تترك كل منها آثار عَجلاتها على الطريق. يَبْلى مجرى الماء المغلق وتتآكل الطريق المُعبَّدة. ولكن كان ذلك التقاطع لمرةٍ هو تَقاطُع في يوم المهرجان.

لم تخُض كازو تجربة الحب الأعمى منذ وقت طويل. يبدو كل شيء مثل هذه الحديقة في أشعة شمس الصباح، واضحًا جليًّا بلا أي غموض، كل شيء يُرى جيدًا مع حواف لا تحتمل اللبس، فما من شيء واحد في هذا الكون مبهمًا. بل وتعتقد أنها يمكنها النظر بوضوح إلى كل ما داخل البشر. فما من أشياء كثيرة تثير لديها الدهشة. إن قيل إن الإنسان يخون أصدقاءه من أَجْل مصلحته الشخصية فهذا أمر يحدث كثيرًا، ولو سمعت أن فلانًا فَشِل في تجارته بسبب امرأة، فهذا أمر كثير الحدوث. ولكن الأمر المؤكَّد أنها هي فقط لا يمكن أن يحدث لها ذلك.

عندما يأتي أحد لاستشارة كازو في مسألة عاطفية، تعطيه بلباقة إرشادات جيدة وصائبة. إن علم النفس الإنساني مُقسَّم بشكل مُنتظِم إلى عشرات الأدراج، ومَهْمَا كانت الأسئلة صعبة وعويصة كانت الإجابات تخرج بمجرَّد تجميع خلطة من عدة عواطف. وما من شيء في حياة الإنسان أعقد من ذلك؛ فهي تتكون من عدد محدَّد من التكتيكات، وهي تُمثِّل لاعبًا مخضرَمًا محترِفًا اعتزل اللعب وهو في موقف أنه يستطيع إعطاء أي شخص نصائح مثالية مُؤكَّدة. ولذلك كانت بالطبع تحتقر «الزمن». هل يمكن للإنسان مَهْمَا رغب في التجديد، أن يكون استثناءً لقواعد الشَّغَف الموجودة منذ قديم الأزل؟

كثيرًا ما تقول كازو: «إن شباب هذه الأيام تختلف ملابسه فقط ولكن لا يختلف جوهره عن الماضي. يظن الشباب خطأً أن تجربته الأولى هي كذلك تجربة المجتمع الأولى. إن أي انحراف هو نفسه كما كان في الماضي، ولكن لم تَعُد عين المجتمع تثير ضجة مثل الماضي؛ ولذا يتجه الانحراف إلى أن يكون أكبر وأكثر جذبًا لعيون الناس.»

كان ذلك رأيًا بسيطًا وعاديًّا، ولكن عندما يخرج من فم كازو يكتسب قوة وإقناعًا.

أخرجت كازو وهي جالسة سجائر من جيبها ثم دخَّنَتها بتلذذ. ارتفع ذلك الدخان مع أشعة الصباح، ثقيلًا لامعًا مثل حرير مزدوج لعدم وجود رياح. كانت متعة ذلك الطَّعم بها اعتداد بالنفس لمعيشة مريحة لا تعرفها المرأة المتزوجة بالتأكيد. كانت صحة كازو الجسدية جيدة لدرجة أنها لا تتذكر قط أنها شعرت برداءة طعم السجائر التي تُدخِّنها في الصباح مَهما بالغت في الشراب في الليلة السابقة.

كانت مناظر الحديقة الكاملة محفورة في قلب كازو حتى لو لم تكن تراها من مكانها إلا أن ذاكرتها تحتفظ بكل ركن من أركانها كما لو كانت تحفظ راحة يدها. شجرة السنديان العملاقة ذات اللون الأخضر الداكن التي تَتمركَز في منتصف الحديقة، وتجمع أوراقها الصغيرة السميكة ذات البريق، العنب الجبلي المتدَلِّي حول أشجار الجبل الخلفي، … ثم المناظر التي تُرى من قاعة المكتبة، قناديل مشاهدة الثلوج المَهيبة في المدخل الرئيس مع برج المراقبة ذي حشائش النجيل الرحبة، الخيزران الكثيف في الجزيرة الوسطى التي وُضع بها برج الباغودا الخماسي القديم. وأية زرعة نباتات مهما صغرت في الحديقة، حتى أصغر زهرة، لم تَتفتَّح أو تنبت عن طريق الصدفة.

أحست كازو أثناء تدخين السجائر، أن منظر تلك الحديقة المُفصَّل هذا، غَطَّى تمامًا على ذكريات عديدة ومتنوعة لديها. إن كازو تواجه الآن الناس والمجتمع مثلما تواجه هذه الحديقة الآن. ليس هذا فقط. بل إنها تمتلك كل ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤