الفصل العاشر

ضيوف مُهمُّون

على أي حال كان من الواضح أن نوغوتشي يعتقد أن ذلك الزواج سكن، في حين أن كازو، كما ذكرتُ قبل ذلك من قَبلُ تعتقد أنها عثَرت على مقبرتها. ولكن البشر لا يستطيعون الحياة داخل مقبرة.

كانت كازو تتلقَّى كل يوم من أيام الأسبوع تقارير داخل ستسوغوان من السكرتير فتعرف تفاصيل الحياة اليومية لنوغوتشي، وكان يدهشها في كل مرة معرفتها أن تلك الحياة فقيرة بدرجة كبيرة في الإثارة والتشويق. فمع كبر سنه إلا أن نوغوتشي ما زال يجتهد في الدراسة وتحصيل العلم.

«أمس من الساعة الثالثة بعد الظهر وحتى موعد نومه ظل يقرأ ويدرس في غرفة المكتب. وتناول وجبة العشاء كذلك في غرفة المكتب.»

– «إن ذلك يؤدي إلى نقص الحركة مما يقوده إلى الإصابة بالأمراض. يوم السبت القادم سأحرص أنا على أن أقول له ذلك.»

كانت كازو لديها نظرة دونية شديدة تجاه الحياة الفكرية. كان ذلك يعني كسلًا خطيرًا يسهل الوقوع فيه الرجل العبقري. ومع وجود ذلك، مع قولها للسكرتير: «سأحرص أنا على أن أقول له ذلك» كانت كازو سعيدة بأن من المؤكَّد أن زوجها ليس من نوع الرجال الذي يستمع إلى نصائحها المخلِصة.

وقعت في ذلك الوقت حادثة بسيطة في مطعم ستسوغوان.

كانت الليلة السابقة ليلة ينيرها القمر، ولكن يبدو أن لصًّا كان مختبئًا خلف ظل غابة الحديقة ينتظر هدوء المكان بعد خلود الناس للنوم. كانت شجرة السنديان العملاقة في الجبل الخلفي مكانًا مناسبًا للاختفاء. كانت غرف الولائم في تلك الليلة في أوجها، فدخل متسللًا وقتَمَا كانت البوابة خالية من الناس، وظل ساكنًا لساعات طويلة ينتظر. ولقد امتنع عن التدخين؛ لأن السجائر يرتفع منها الدخان ولكن وُجدت بقايا عِلك في مكانين أو ثلاثة. ومن ذلك الأمر تم التخمين أنه شاب صغير السن.

اختلس اللص النظر على غرفة كازو أولًا وبعد أن فتح النافذة بمقدار بوصتين أو ثلاث بوصات أعرض عن الدخول؛ ولذا لم يصل الأمر إلى أن تضطرب أنفاس المالكة النائمة. ورغم أن خزينة النقود كانت داخل الخزانة الموجودة هناك، فربما لم يكن يتخيل أن المرأة التي تنام على فراش يملأ الغرفة الصغيرة بأكملها هي مالكة المكان.

بعد ذلك تسلَّل اللص إلى الغرفة التي ينام بها خمس من العاملات، وداس على شيء طري بحذائه، فصدر صوت عالٍ فجأة ففرَّ اللص هاربًا دون أن يسرق شيئًا.

حدثت جلبة وضوضاء باستدعاء الشرطة في منتصف الليل، وظلَّت كازو مستيقِظة كما هي طوال الليل. وأثناء تمشِيَتها الصباحية المعتادة اكتشفت كازو العلكة السالفة الذكر عندما رأت ما يُشبه سِنَّة بيض بلون حي وزاهٍ في جذور شجرة السنديان الذي تسقط عليه أشعة شمس الصباح.

وقتها استحوذ على تفكير كازو بريبة توقُّف اللص عن الدخول إلى غرفتها بعد أن اختلس النظر عليها وهي نائمة. لقد كانت أثناء ذلك تغطُّ في النوم ولا تعلم شيئًا! وعند التفكير في ذلك فيما بَعد، تجد أنها تشعر بالطمأنينة وتشعر أيضًا بالرعب ثم مِسحة من السخط. فكَّرَت كازو للحظة وهي تشعر بدخول ريح الصباح الخريفي من فتحة الكيمونو تحت الإبط إلى أسفل ثديها، في احتمالية أن يكون اللص قد لمس جسدها وهي نائمة ثم أعرض عن ذلك. كلا، إن ذلك لا يُعقل حدوثه. ما من أي احتمال لقدرة اللص على فحص جسد كازو، فالغرفة كانت مظلِمة ولم تُفتَح النافذة إلا بمقدار بوصتين أو ثلاث بوصات فقط.

ولكن عندما تتنَّزه هكذا في الحديقة وحيدة وهواء الصباح الخريفي يهب عليها، تشعر كازو بأثر الذُّبول على جسدها نوعًا ما. كانت كازو تشتهر في الصيف بأنها حسَّاسة تجاه الحَر، فكانت عادتها في التغلُّب على الحَر أن تَعْرِض ليس فقط ثَديَيها بل وكذلك فَخِذيها مباشرة أمام هواء المروحة على مرأى من العاملات والأشخاص المقرَّبِين، ولكن كان ذلك مَبعثُه ثِقتُها في بَشرَتها وجسدها. ويهاجِمها قَلَق عندما تفكِّر في كيف سيكون الحال في صيف العام القادم؟ وترى أن ترهُّل جسدها بدأ على العكس بعد زواجها.

ووَقتَها نظرَت كازو تحتها فجأة فرأت ما يشبه أسنانًا آدمية متناثِرة بين جذور الأشجار. قرفَصت كازو ونظرت إليها بتمعُّن. كانت بقايا مَضْغ علكات كُوِّرت بعناية. ليس بين عامِلِي أو زبائن ستسوغوان من يمكن أن يمضغ عِلكًا، ولا يدخل أطفال الجيران الحديقة.

وعندها أدركت كازو قائلة: «إنه اللص» لم تشعر بالقذارة بقدر شعورها الواضح بالوقت الذي قَضاه هنا رجل يتخفَّى في وِحدة. بل لقد أحسَّت بنوع من أنواع اللطافة في تلك الوحدة. تخيَّلَت صَفَّ أسنان شابَّة ومتينة وفظَّة وغير متناسِقة هي التي مضغَت تلك العلكة. لا شك أن الشاب كان يمضغ الزمن، ويمضغ المجتمَع المطَّاطي البليد الذي لا يتقبَّل وُجوده، ويمضُغ القلق الذي سيحمله على عاتقه في المستقبل، تحت ضوء القمر الجميل الذي يتسرَّب من بين ظلال أوراق السنديان!

بفضل هذه الخيالات منطلِقة العنان، أصبح اللِّص الذي هرب دون أن يسرق شيئًا، صديقًا غير معروف لكازو. كان ذلك وجودًا لشاب يختبِئ تحت القمر، حتى وإن كان في منتهى القذارة إلا أن له نصف جناح.

«لِمَ لم يوقظني؟ إن كان في مأزق فيمكنني إعطاؤه ما يريد من مال. كان يكفي فقط أن ينطق بكلمة واحدة!»

لقد شعَرَت كازو أن ذلك اللِّص الشاب أكثر أعضاء المجتمع حميمية لها. كانت تلك المشاعر في الواقع جديدة وطازجة بالنسبة إلى السيدة زوجة يوكِن نوغوتشي.

… فكرت كازو في استدعاء الجنائني، ولكنها أعرضَت عن ذلك؛ لأنها عزَمَت على الصمت وعدم إبلاغ كائن من كان بأمر تلك العلكة التي يمكن أن تكون دليل إدانة. وبذلك اقتلعَت عشبة رطبة قريبة من جذور النبات، ولمستها بأصابعها ودفنت العلكة بحرص وحذَر بالغَين.

•••

تأنَّت كازو في إعلام زوجِها بحادثة اللص؛ لأنها فضَّلت الاتصال به بعد أن يستيقظ من نومه. وبعد أن أخبرته بالأمر كله في إيجاز، قالت كازو له ما يلي: «كان رجال الشرطة في منتهى الدِّقَّة والاحترام. لو حدث في الماضي أن دخل لص المطعم، فمن المؤكَّد أن تعاملهم كان سيختلف عن ذلك. كل ذلك بفضلك أنت.»

كان ذلك انطباعًا نابعًا من رغبتها فيه أكثر من كونه انطباعًا صادقًا. وثَمَّة سؤال كبير، أيُّهما ستعامله الشرطة باحترام وتقدير، مالكة مطعم يرتاده كبار أعضاء حزب المحافظِين الحاكم أم زوجة مستشار حزب الإصلاح المعارض؟

كان صوت نوغوتشي الذي تلقَّى خبر حادثة اللص، هادئًا وطبيعيًّا جدًّا. كان موقف سفير يتلقَّى تقريرًا من سكرتير سفارة شاب بحدوث عطب بسيارة السفارة.

«السبب هو عدم الاهتمام بإغلاق الأبواب جيدًا.»

كانت تلك هي أول كلمة تسرَّبَت من بين شفتيه، وكانت تلك خيانة لكازو التي تأمَّلَت منه إظهار الفرح لسلامتها. يبدو أن نوغوتشي فكَّر أن حادثة اللص تلك أَمْر شخصي يخص الأسرة.

استدعَى ذلك السلوك الذي كان نوغوتشي يعتبره عادلًا بلا محاباة وتراه كازو برودًا، في قلب كازو نوعَين من ردود الفعل؛ الأول: كان آلام توبيخها لمجرَّد عدم الاهتمام بغلق الأبواب وهي التي خاضَت تجارب الحياة وأدارت مطعمًا شهيرًا اعتمادًا على نفسها فقط، والثاني: هو الخوف من أن يكون قد اكتشف ببرود هياجها الشاعري العجيب منذ ليلة أمس. ولكن على الفور ألقَت كازو باللوم على الهاتف الذي سبَّب ذلك الغضب. كان نوغوتشي رجلًا تصبح نبرة كلامه روتينية باردة أكثر وأكثر عندما يتحدث في الهاتف حتى في الحالات التي يكون فيها حنونًا لو قابَلتَه على الطبيعة.

«إن عدم تحدُّث الزوجين معًا إلا من خلال الهاتف أمر سيئ … ولكن في الأصل أنا السبب في سير حياتنا على هذا المنوال.»

نظرت كازو إلى أظافرها وهي تتظاهَر بسماع حديث الطرف الآخر. ظهرَت بوضوح أَهلَّة بيضاء في جذور الأظافر وردية اللون التي دائمًا ما تبدو في صحة جيدة، ولكن ظهر خيط مثل الغيم الأفقي الأبيض في أظافر الوسطى والسبابة. «تلك علامة صناعة العديد من الكيمونو» … أحسَّت كازو فجأة بعدم جدوى امتلاكها الكثير من الكيمونو بالفعل. كان ذلك اضطرابًا قلبيًّا مفاجئًا وكأن جسدها يزول ذائبًا في الحال.

عندما أطلقَت عينيها وهي تضع سماعة الهاتف على أذنها رأت أشعة شمس الصباح تدخل في الغرف التي تفتَّحَت نوافذها، والعاملات ينظِفْنَها بحيوية وحماس. وتحت شمس الصباح تبرز الفراغات التي بين حصير التاتامي بارقة. تتراقص مُنفضة الغبار، الريش مُنتَعِشة في تلك اللحظة فوق نقوش الكُوَّة الشفافة من الخشب الأبيض … وتتألَّق خُصور العاملات الشابات السلسة والمتينة بارزة وسط أشعة شمس الصباح في حركات الوقوف والجلوس سواء في الغرف أو في الممرات.

احتَدَّ صوت نوغوتشي في الهاتف قليلًا وهو يقول: «كازو! هل تسمعين؟»

– «أجل.»

– «إن لدَيَّ أمرًا هامًّا. لقد جاءني اتصال منذ قليل. سيأتي اليوم ضيفان هامَّان ومن الضروري أن تكوني في استقبالهما.»

– «هل سيأتيان إلى هنا؟»

– «كلا، سيأتيان إلى البيت. أرجو أن تُجهِّزي طعامًا وتحضري أنت أيضًا.»

– «ولكن.»

كانت كازو على وشك أن تبلغه عددًا من أسماء الزبائن المهمِّين الذين قد حجزوا في تلك الليلة وأنها لا تستطيع تَرْك المطعم.

«ألا يجب أن تَعودي إلى البيت عندما أطلب منك ذلك؟»

– «ولكن من هما هذان الضيفان الهامان؟»

– «لا أستطيع ذِكر ذلك الآن في الهاتف.»

ثارت كازو ثورة غضب تجاه ذلك الإمعان في السِّرِّية.

«حقًّا! هل تقول إنك لا تستطيع ذِكْر أسماء الضيوف لزوجتك؟ إن كان الأمر كذلك فلا بأس.»

لم يستجب نوغوتشي لذلك، وقال بصوت هادئ جدًّا: «لا بأس. عُودي للبيت قبل الساعة الخامسة ومعك الطعام اللازم. وإن لم تفعلي ما أقوله فلن أغفر لك ذلك.»

وأغلق الهاتف بعد أن قال ذلك مباشرة.

ظلَّت كازو محبوسة لفترة في غرفتها الضيقة بسبب الغضب، ولكنها أدركَت أخيرًا أن هذه هي المرة الأولى التي يخلف فيها نوغوتشي التعهُّد بينهما على عدم عودتها للبيت إلا في عطلة نهاية الأسبوع. ولا بد أن هذين الضيفين في منتهى الأهمية بالنسبة إليه.

مدَّت كازو يدها إلى النافذة التي أخذت الشرطة البصمات من عليها في منتصف الليل، وجرَّبَت أن تفتحها بمقدار بوصتين أو ثلاث بوصات. سقطت زهور الأقحوان الصفراء الصغيرة التي تحت النافذة ودُهست ولا تعرف أَدهسها اللص أم الشرطة؟ إحدى الزهور دُفِنت في تربة الأرض اللينة وكأنها مُرصَّعة بها، وكان شَكْل الزهرة كما هو وكأنها تطريز دقيق بارع ولم تَتَّسِخ. وبرزَت بَتْلَات الزهرة الصفراء كل على حدة لأعلى وهي تُلوِّح جسدها قليلًا فوق الأرض.

ظهرت علامات النعاس الشديد على كازو فرقدت فوق حصير التاتامي تحت النافذة، ووجَّهَت عينيها اللتين امتزج بها الغضب والنعاس تجاه النافذة المفتوحة بمقدار بوصتين أو ثلاث بوصات. كانت سماء الصباح البعيدة تلمع في صفاء ووضوح. رسم بَلل العيون أمواجًا في السماء. لا حاجة لكيمونو ولو واحدًا. فكَّرَت كازو قائلة: إن ما أحتاجه الآن شيء آخَر. ونامَت وهي تفكِّر في ذلك.

•••

وقت الغروب، عادت كازو كما هو متوقَّع إلى «بيتها». وأوصت عاملات المطعم أن يبلغوا رسالة إلى الزبائن المهمِّين الحاجِزِين لذلك اليوم أنها عادت لبيتها بسبب ارتفاع درجة حرارتها، وجعلت العاملات اللائي عدن معها يحملن جبالًا من أطعمة ذلك اليوم.

كانت قائمة الطعام مكونة بداية من المقبِّلات؛ مثل: محار أحمر، جوز الجنكو بورق الصنوبر، جذور الزنبق كبيرة الأوراق المسلوق بالسكر، روبيان النمر الأحمر ملفوف بخيوط ذهبية، وكعكة الأرز المشوية بصوص الميسو، وحساء صُنع بالشلجم، وساشيمي من سمك قبيون على شكل خيوط رفيعة، وسمك مرجان أحمر شائك، وعش غراب الصنوبر، وربيان نهري، وبيض مقلي، وكستناء، وتشكيلة من المشويات؛ مثل: براعم الجنزبيل، ومسلوقات؛ مثل: نبات الأقحوان التاجي، وجذور البطاطا.

وعندما عادت كان مزاج نوغوتشي جيدًا على خلاف ما توقَّعَت وشرح لها تفصيل سبب عدم قدرته على إخبارها الأمر بالهاتف. قال لها نوغوتشي إن الضَّيْفَين هما أمين عام حزب الإصلاح، وأمين التنظيم، وهو يعرف على الأغلب ما سيطلبان منه، وهو طلب يجب عليه رفضه مَهما كان ومقابل رفضه يريد أن يقدم لهما وجبة عشاء فاخرة. من خلال حذر نوغوتشي العميق من أن يقول أمرًا على تلك الدرجة أثناء اتصال هاتفي لستسوغوان، عرفت كازو حساسية وضعها السياسي.

طرق الضَّيْفان باب منزل عائلة نوغوتشي مع انتهاء الغروب. كان وجهَا كيمورا أمين عام الحزب، وكوروساوا أمين التنظيم، معروفَين للجميع من خلال رسوم الكاريكاتور السياسي، وكانت كازو قد قابلَتهُما بالفعل في حفل الزفاف. يشبه كيمورا القسيس البروتستانتي في خموله ودماثة خلقه، ويشبه كوروساوا عُمال مناجم الفحم.

كان إلقاء سياسِيِي حزب الإصلاح تحية اعتيادية على كازو هكذا عند دخولهما البيت، مضحكًا لها بدرجة لا تستطيع تحمُّلها، وهي التي اعتادت على سياسيي حزب المحافظِين. كأنه كذب أو أمر خادع العيون. خاصة سلوك كيمورا الدمث المبتسِم كان عجيبا بالنسبة إلى كازو، يبدو حديثه وهيئته كأنه منظر شجرة عجوز هادئة عارية الأوراق تتناثر حولها أوراقها الساقطة بسبب رياح خفيفة تحت أشعة الشمس.

ألقى الضيفان على نوغوتشي التحية الواجبة تجاه من هو أقدم منهما في العمل السياسي. وكرَّرَا مرارًا رفض الجلوس في أفضل مقعد وأخيرًا قبل كيمورا أن يستند بظهره على عامود الزينة.

شعَرَت كازو أن بشرة الثلاثة رجال بما فيهم نوغوتشي تشترك في خاصية الافتقار إلى الرطوبة. وهي خاصية لبشرة رجال ابتعدوا عن امتلاك السلطة السياسية الفعلية لفترة طويلة مثل بشرة الرجال الذين لم يلمسوا النساء منذ زمن بعيد. ففي التحية المؤدَّبة وفي الابتسامة الدمثة تَكمُن ظلال زُهد قد أُجبروا عليه غصبًا، وبدا أن حياة الزهد تلك قد تجذرت في سلوك كيمورا الشبيه بسلوك أستاذ جامعة عجوز وفي براءة كوروساوا المتصنِّعة.

مدح كيمورا الطعام بأدب وسلوك راقٍ، واعتقدت كازو أن ذلك المديح فظٌّ وليس من قلبه. أظهر نوغوتشي بلا تغيير حساسية في سلوكه، وأظهر على وجهه امتعاضًا من مدح طعام لم تصنعه زوجته. أما كوروساوا، فكان يأكل صامتًا.

«أنا لا أملك قوة مطلقًا. إنكما تتوهمان فقط أنني مرشَّح قوي. لقد نسيني الناس حقًّا.»

مع تتابُع كئوس الخمر ظهر سُكْر نوغوتشي، في تكراره المفاجئ لهذه الكلمات. وفي كل مرة يظهر على وجهي كيمورا وكوروساوا خيبة أمل في وقت واحد مثل الآلة.

كانت كازو كما قال لها نوغوتشي باقية معهم لخدمتهم وصَبِّ الشراب لهم، ولكنها أدركت أخيرًا أن رفض نوغوتشي الذي كان يكرره كل خمس دقائق هذا يقوله وفي وعيه وجود كازو. صُدمت كازو من بلادة حسها. فيُفترض أن كازو رأت بوضوح منذ لقائها الأول بنوغوتشي خَجله الصارم العتيق الطراز. لا ريب أن هذا الرجل ربما يعتقد أن إبداء طموحه السياسي لشخص ما أمام زوجته وكأنه تمامًا مثل إظهار شبق جنسي.

وعلى الفور تَركَت كازو مقعدها بشكل غير لافت للأنظار، وعادت إلى غرفتها ونادَت الخادمة لتلقي عليها التعليمات، وبعد مغادرة الخادمة، بدأَت في ترتيب الغرفة لعدم وجود شيء آخر تفعله. كانت كازو تحتفظ في درج صغير بتلك الغرفة بالزينة التي يتزين بها نوغوتشي. أزرار الأكمام المستورَدة القديمة كلٌّ منها في علبة خاصة بها، وتشغل ثلاثة أدراج كاملة.

ولتمضية الوقت نثرت كازو تلك الأزرار فوق المكتب لتتأملها. أزرار من الذهب الخالص مُلصَق بها نيشان لعائلة ملكية في دولة صغيرة، وأخرى مطعَّمة بالجواهر، وثالثة على شكل زهرة أُقحوان من الذهب الخالص تبدو أنها مُهداة من القصر الإمبراطوري، ورابعة نُحتت من العاج على شكل الإله شيفا، … على الأغلب أنها جميعها هدايا ولكنها كانت تجمُّعًا نادرًا.

كانت تشبه مختارات من القواقع التُقِطَت من على شواطئ بحار متنوِّعة في الصيف وتمثِّل ذكريات البحار في الماضي، ولقد ذبل رسخ نوغوتشي التي يجب أن تُزيِّنه تلك الأزرار وضعف، ونشأت عليه بُقع جلدية، إلا أن القواقع كانت مكنونًا بها انعكاس غروب الماضي إلى ما لا نهاية. ضربت كازو بطرف أصبعها مثل لعبة «البلي»، وسمعت صوتًا باردًا لارتطامها ببعضها البعض وفكَّرت: ألا يمكن استخدامها كقطع في لعبة الشطرنج الياباني؟ تضع الأزرار التي عليها نيشان وحيد القرن للعائلة الملكية في الدولة الصغيرة بديلًا عن الملك وأزرار نيشان الأقحوان بديلًا عن الوزير، ولكنها فكَّرت أن ذلك إساءة تجاه الأقحوان، فما هو متوقَّع جعل الأقحوان ملكًا … فكرت كازو «من المؤكَّد أن هذا الرجل سيقبل العرض» فكَّرت وهي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على حاستها السياسية المباشرة. وعندها فارت داخلها ثورة مبهِجة. لا ريب أن الجدار المعرفي السميك الذي يتكون من المكتبة التي تفصل بينها وبين نوغوتشي، على وشك الانهيار قريبًا. ولا شك أنه سيأتي قريبًا اليوم الذي تبرهن فيه بنفسها على أن حياتهما معًا لم تَمُت بالفعل.

«من المؤكَّد أن هذا الرجل سيقبل العرض!»

تيقنت كازو على الفور من ذلك الأمر. سمعت صوت ضحكات نوغوتشي النادرة مختلطًا بصوت ضحكات الضيوف في الجانب الآخر من الممر. فتحَت كازو باب الغرفة خصوصًا، ونظرَت في ذلك الاتجاه. استمر الصوت الكئيب قليلًا، ذلك الصوت الذي يشبه السُّعال ذا الأمواج، في التسرب وسط الضوء المتساقِط من غرفة الضيوف.

•••

غادر الضَّيفان بعد ساعة تقريبًا من ذلك الوقت. وفي لمسة بارعة منها استدعَت كازو سيارة ليموزين فاخرة لكي توصلهم. ودَّعهم نوغوتشي عند باب البيت، وذهبَت كازو في وداعهم حتى البوابة الخارجية. دخل الليل وتجمَّع هواء بارد وفي عمق الغيوم الكثيفة التي تذهب وتجيء في السماء بدَا القمر وكأنه «دبوس» رسم غُرزًا في الحائط.

بدا وجه كيمورا أمين عام الحزب التي رأَته كازو تحت ضوء البوابة المعتِم، صغيرًا وكأنه وجه فأر. ومع أن الوجه كله كان صغيرًا ومتجمِّدًا، كان اللحم الذي يحيط بالفم فقط غنيًّا بخاصية التمدُّد المَرِن، ووقت حديثه بصوته المنخفض النبرة، كان ذلك اللحم، يطوف حول الكلمات الخارجة منه مع شاربه بلا ضرورة.

قبضَت كازو على كَتِف بذلته ودفعَته نحو السور فجأة وهمسَت في أذنه قائلة:

«حتى وإنْ كنتُ أدير ذلك المطعم، فلسوف تثق فيما أقوله، أليس كذلك؟»

– «بالطبع يا سيدتي.»

– «وافق زوجي على الترشح في انتخابات حاكم طوكيو؟»

– «كيف عرفتِ! هذا أمر مدهش. لم نحصل على إجابة فورية، ولكنه وعد بالرد خلال يومين على الأكثر.»

عقدَت كازو ذراعيها أمام صدرها فيما يشبه طفلة صغيرة. ومن خلال تلك الحركة التي تشبه إعادة ربط صِرة قماش انفكَّت ربطَتُها مَرة أخرى بإحكام، حملَت الفكرة التي خطرَت على ذهنها حتى وصلَت بها إلى طور الخطة.

«أرجو أن تستمر في الإلحاح على زوجي. وفيما يتعلَّق بالمال، سيبدو ذلك وقاحة، ولكن دع أمره لي. ولن أسبب أي إزعاج لحزب الإصلاح مطلقًا.»

وفيما يتعلق بغلق الطرف الآخر فمَه عمَّا حاوَل أن يقوله، كانت كازو تملك طريقة حديث سريعة وذات فاعلية حقيقية.

«ولكن أرجو أن يكون ذلك الأمر سرًّا بيننا لا يعلمه زوجي. أرجو أن تجعله في غاية السِّرِّية؛ لأن ذلك هو الشرط في أن أتولى ذلك الأمر.»

بعد أن قالت كل ذلك في سرعة خارقة، تحدَّثت كازو فجأة بصوت عالٍ مرح يُسمع جيدًا في مدخل البيت، وألقَت تحية اعتيادية منمَّقة وأدخلَت الضيَّفَين السيارة قائلة:

«يا للعار! تضع الحقيبة الثقيلة على ركبتيك! أما من حامل حقائب في حزب الإصلاح؟»

وصل هذا اللوم الأخير إلى أذن نوغوتشي عند مدخل البيت، مما جعل كازو تُوبَّخ توبيخًا لا داعي له فيما بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤