الفصل الرابع عشر

الانتخابات أخيرًا

استقال حاكم المحافظة من منصبه في أواخر شهر يوليو، وأُعلن في الحال عن إجراء الانتخابات. وسُمح بإجراء الحملة الانتخابية الرسمية لمدة خمسة عشر يومًا منذ ذلك الوقت وحتى العاشر من أغسطس موعد التصويت. كان صيف ذلك العام شديد القيظ. اجتهدَت كازو مرة أخرى في أخذ قرضٍ ثانٍ بضمان ستسوغوان، فجمَعَت ثلاثين مليون ين. ثم افتُتح مكتب الحملة الانتخابية في الطابق الثاني لبناية «س» في حي يوراكوتشو.

وفي صباح يوم الإعلان الانتخابي الذي انتظراه طويلًا، تشاجر نوغوتشي وكازو مرة أخرى لدى مغادرَته البيت لإلقاء الخطاب الأول له في الحملة؛ فقد اقتنَت كازو من قبل قماشًا راقيًا ماركة جون كوبر وعانَت من أجل أن تجعل زَوجَها يسمح لِلحائِك أن يأخذ مقاساته. ولكن كَرِه نوغوتشي ارتداء تلك البذلة. وكان ينوي إلقاء أولى خُطبِه أمام الجماهير مرتديًا بذلة من الكتان إنجليزية الصنع اصفرَّ لونها بسبب مرور الزمن.

«سأخوض الانتخابات بصفتي الإنسان المسمَّى يوكِن نوغوتشي، وليس بصفتي مرتديًا ملابس راقية، أنا لن أرتدي هذا الشيء.»

بدَا لها أن تحت ذلك القرار الطفولي رعب ضيق الأفق بشكل مريع. ولكن مَن في مستمعيه سيُخمِّن عندما يرى البذلة الجديدة للرجل العجوز أن زوجته هي من أجبرَته عليها؟ حتى يامازاكي قال لها: «إنه يعاندكِ فقط يا سيدتي، لا تقلقي بشأنه، فقط اجعلي الحائك يصنع البذلة بنفس مقاسات البذلة القديمة.»

لم يكن من صفات كازو الاعتماد كثيرًا على مساعدة السماء وقت الحاجة، ولكن في ذلك الصباح استيقظَت في الرابعة صباحًا وأشعلت شمعة أمام المذبح البوذي. لقد قرَّرت أن تكسب زوجة نوغوتشي السابقة إلى صفها وتجعلها تتعاوَن من أَجْل إنجاح نوغوتشي. تسلل من الحديقة بعوضٌ يبدو أنه ضَلَّ طريقه في ظلام الفجر وحامَ حول كفَّي كازو الملتصقَتَين أمامها.

تحدَّث قلب كازو إلى زوجة نوغوتشي الراحلة بنبرة صوت خالية من الإيمان:

«حسنًا، لنضع نحن النساء أيدينا معًا، لنتعاون من أجل إنجاح رجلنا بأي طريقة.»

بكت كازو قليلًا عندما أَحسَّت أن صداقة رائعة لم تعرفها في حياتها قَطُّ بين امرأتين على وشك أن تتحقق أمام أعينها سريعًا.

«أنتِ امرأة صالحة. امرأة صالحة حقًّا. أنا على يقين أنكِ لو كنتِ على قيد الحياة لأصبحنا صديقتين بالتأكيد!»

لسَع البعوض جسد كازو الغنِي هنا وهناك بكثرة. وتحمَّلَت آلام اللَّسع؛ لأنها اعتقدت أن ذلك يساعد بشكل ما في انتصار نوغوتشي. وهكذا ظلَّت كازو لفترة طويلة تتحدَّث مع الراحلة ساداكو نوغوتشي.

وأثناء ذلك سقط في الحديقة مع شروق الشمس أول شعاع عنيف ليوم صيفي. وبسبب كثرة الأشجار في الحديقة، كانت أوراقها تُخفي أشعة الشمس المتسلِّلة، فتبدو وكأنها مقطوعات ورقية طُبعت فوق الظلال في منتصف الحديقة. التفتَت كازو للخلف إلى انعكاس بياض صخور الحديقة فوق كتفيها، فأحسَّت كأن شمس الصباح تلك طائر كركي هبط من السماء، وأحسَّت كأن ذلك الشكل يمثِّل أجنحة الكركي المفرودة. ولم يكن ما قالته لنوغوتشي في إحدى المرات مازحة إن طائر الكركي يطير فوق الحديقة كذبًا. ولكنها قرَّرَت ألا تخبر نوغوتشي بذلك الأمر خوفًا من توبيخه، وهي تَعُد ذلك بشارة طيبة.

أخيرًا استيقظ نوغوتشي، وتناولَا وجبة الإفطار بلا كلام دون تغيير كما اعتادَا دائمًا.

أخيرًا تكلَّمَت كازو وقالت:

«ألا تتناول بيضًا نيئًا؟»

رفض نوغوتشي رفضًا قاطعًا بقوله:

«ليس هذا يوم رياضة بالمدرسة الابتدائية.»

كان لدى نوغوتشي غرور عظيم يتمثَّل في عدم تأثُّره العاطفي، وعلى الأرجح أنه تعلَّمه من الإنجليز، ولكنه كان يختلف عنهم بانعدام مهارة الضحكات الباردة وروح الفكاهة التي تدعم ذلك الموقف.

يتعمد نوغوتشي أن يبدو غاضبًا من أجل أن يُظهِر للجميع أنه محتفِظ بهدوئه النفسي.

جاء يامازاكي، ثم جاء بعده أعضاء الحملة الانتخابية. أخرَجَت كازو طِبقًا للخطة المُعَدَّة سلفًا، البذلة الصيفية الجديدة ووردة بيضاء من داخل صندوق الملابس أمام يامازاكي.

ألقى نوغوتشي نظرة سريعة على صندوق الملابس ثم قال:

«ما هذا؟ لن أرتدي مثل هذه الملابس.»

بكَت كازو مع أنها قد عزمَت على عدم الانفعال، وقالت له إنها تريد أن يتفهَّم مقصدها، مما جعل نوغوتشي يزداد عنادًا ولكن تَدخَّل يامازاكي سريعًا بينهما وهدَّأ الموقف. وأخيرًا مرَّر نوغوتشي ذراعيه في كمي البذلة الجديدة على كُرْه منه، ولكنه رفَض بعناد وضع الوردة في عُرْوَة البذلة.

جاء وقت مغادرة البيت، وودَّعه الجميع حتى البوابة، وعندها تأثَّرت كازو تجاه قميص نوغوتشي الناصع البياض وبذلته الجديدة، فمدَّت يديها تلقائيًّا لتعدل الياقة التي لم تكن بحاجة لأن تعدلها، فما كان من نوغوتشي ذي الحساسية الزائدة إلا أن قبض على يد كازو اليمنى بصرامة وهو يحرص على ألا ينتبه له أحد. كانت حركة بدرجة يُفسِّرها حتى الشخص القوي الملاحظة على أنها تعبير عن مشاعر حب مُتحفِّظة. ثم قال نوغوتشي بصوت خفيض:

«كُفِّي عن تلك الأفعال الصبيانية، فإنها لا تليق!»

وخطَفَت قبضة نوغوتشي الشيء الذي كان يختفي جيدًا في راحة يد كازو اليمني، بعد صراع خاطف بين أصابعهما، بسبب أصابعه الحادة القاسية. وكان ذلك الشيء أحجارًا من أَجْل طقس طق الشرار لجلب الحظِّ السعيد. لم تستطع كازو كبح جماح رغبتها في أن يغادر زوجها البيت أمام الجميع مودعًا بشرارة طق الأحجار، مع عِلمها التام بكراهية زوجها لذلك؛ لذا أَخفَت في يدها الأحجار. ولكن خَمَّن نوغوتشي أنها تُخفي الأحجار في يدها.

وبعد أن ركب نوغوتشي السيارة أعطى الأحجار إلى يامازاكي بصمت. أُخذ يامازاكي على حين غرة ولكنه على الفور استنتج الأمر. وسبَّب تدحرج الأحجار في جيبه إزعاجًا له طوال ذلك اليوم الحافل بالعمل.

•••

ذهب نوغوتشي إلى مقر المحافظة وقدم أوراق ترشحه، وتسلم وشاح دعاية مكتوبًا عليه اسمه، ثم ذهب مباشرة إلى مكان إلقاء خطبة على الجماهير أمام بوابة «ياييس» لمحطة طوكيو المركزية للقطارات. انعكست أشعة شمس الساعة التاسعة صباحًا الصيفية على الأقمصة البيضاء للجماهير التي تجمَّعَت في الساحة. حمل الكثير منهم مِرْوحة يدوية فوق رأسه. نزل نوغوتشي من السيارة، واستقبلَه بتبجيل كبار مسئولي نقابة العمال والمؤسَّسات المؤيِّدة له المنتظِرون قدومه بالقُرْب من سيارة الدعاية الانتخابية المخصَّصة لإلقاء الخطبة. صعد نوغوتشي فوق مُؤخِّرة سيارة الدعاية، وألقى تحية بملامح جافة:

«أنا يوكِن نوغوتشي، مرشح حزب الإصلاح لانتخابات حاكم طوكيو.»

ثم أثناء ترديده لأمثلة عديدة للسياسات المثالية التي يُؤمن بها بنبرة صوت رتيبة لا لون لها ولا طعم، تَعطَّل مكبِّر الصوت فجأة. استمر نوغوتشي في إلقاء خطابه دون أن ينتبه إلى تعطُّل مكبِّر الصوت، وفي تلك اللحظة، بدأ في الركن المقابِل من الساحة خطاب المرشَّح المنافِس غِن توبيتا، وأطلَق مكبِّر صوته العالي الجودة صوتًا واضحًا، فسيطر الصوت الذي ينتقد نوغوتشي وحزب الإصلاح على آذان الصفوف الأمامية من مَستمِعي نوغوتشي أنفسهم؛ ولأن إصلاح مكبِّر الصوت على الفور بدَا مستحيلًا، فقد تقرر العودة مؤقتًا إلى مَقرِّ الحملة الانتخابية، ثم الذهاب بعد ذلك للدعاية الانتخابية في حي كوتو. ويجب القول إنها كانت بداية غير موفَّقة مُطلقًا.

خابت آمال مؤيِّدي نوغوتشي من الشباب لخطابه الأول هذا، ووصل إلى سمع يامازاكي الموجود في مَقرِّ الحملة الانتخابية الحوار التالي:

«ألا يستطيع الرجل العجوز أن يتحدث بنبرة بها قليل من الحيوية؟»

– «إن الإلغاء الفوري لسباقات الخيول والدرَّاجات أمر جيد وصحيح، ولكن الدعوة له في أول خطاب عمل غير جيد.»

على الجانب الآخَر كانت خُطب كازو تجسيدًا للحيوية تُثير عاصفة من الإعجاب والتصفيق في كل مكان تذهب إليه لدى الجماهير التي جاءت لتستمتع. وأخيرًا ألقت كازو خطبة طويلة عريضة على مدى ثلاثين دقيقة في الساحة التي أمام محطة شيبويا، تحت شمس الغروب القاسية، وهي تضع تحت قدميها دلوًا ممتلئًا عن آخره بالثلج وتمسح وجهها من وقت لآخر بمنديل ملفوف داخله قطع الثلج؛ ولأنها كانت تتحدث بطبقة صوت عالية وقد ألصقت مُكبِّر الصوت بفمها أكثر من اللازم، فلم يُسمع صوتُها جيدًا، ولكن استمتَعَت الجماهير بتلك الحالة من الحماس وكأنها بائع متجوِّل يُبدِع في عَرْض بضاعته. ذكرَت كازو حادثة خطابه لجلالة الإمبراطور فقالت ما يلي:

«أتحدث بصفتي زوجة يوكِن نوغوتشي، أتحدث إليكم بصفتي زوجة له، ولكن نوغوتشي صمَت عن أمر ذلك الخطاب ولم يخبر حتى أنا زوجته به، إلى هذا الحد هو رجل لا يَتفاخَر بإنجازاته، عندما علمتُ بتلك الحقيقة بلغَت دهشتي أقصاها. فالجميع ومن ضمنهم أنا مع اعتذاري لكم نقضي هذه الأيام الآن في دعة وأمان، ولكن هذا الأمر بفضل نوغوتشي بقدرٍ ما، عندما علمت ذلك دُهشتُ للغاية، إن نوغوتشي دائمًا داعية سلام …»

ظل الشباب في شيبويا يقاطعونها بالقول:

«لا تتبجَّحي بذلك! لا تتفاخري!»

وكانت كازو ترُد في كل مرة على المقاطعِين بالقول:

«أجل أنا أتفاخر بذلك، اسمحوا لي أن أتفاخر به. أنا زوجة نوغوتشي أضمن لكم أنكم إن انتخبتم نوغوتشي فلن تَندموا بأي حال.»

فتثير عاصفة من التشجيع والتصفيق. ظلَّت كازو تدور وتلف حول نفس المواضيع في أحاديث لا يُعرف متى تنتهي ولم تستجِب لتنبيهات المعنِيِّين بضرورة الانتهاء، فانتزع مُنظِّم شابٌّ أصابته الحيرة مكبِّر الصوت من أمام كازو. كشف وجه كازو الذي أزالت الثلوج مساحيقه، عن بشرتها الطبيعية الصحية البيضاء المميِّزة لمواليد بلاد الثلوج الباردة. ولكن في تلك اللحظة احمر الوجه كله، فانكشفَت أمام الجماهير تلك التعبيرات الغاضبة العنيفة التي كانت حتى ذلك الحين لا يَعتاد عليها إلا عاملات ستسوغوان ويامازاكي. صرَخت كازو وهي تدهس أرضية سيارة الدعاية الانتخابية مُحدِثة جلبة طاغية قائلة:

«ماذا كنتَ تنوي بأخْذ مكبر الصوت؟ هل تنوي قتل نوغوتشي؟»

اندهش المنظِّم الشاب، وأعاد مكبِّر الصوت على الفور، واستمرَّت كازو مرة أخرى في الحديث لمدة عشر دقائق أخرى.

كانت لحظة ثورة غضب كازو، بالنسبة إلى الجماهير لحظة لا مثيل لها للمشاهدة. عندما تغيَّر ذلك الوجه أمام هذا الجمع الغفير من الناس وظهر واضحًا وقد احمر بشمس الغروب وتألَّق تحت قطرات الثلج، بُهِتَت الجماهير للحظات وسادَ الصمت. لقد أحسُّوا وكأنهم رأوا جسدها عاريًا.

•••

ولكن اقتصرت خطبة كازو المطوَّلة على اليوم الأول فقط. فقد انزعجت قيادات الحملة الانتخابية وطالبَت كازو من خلال يامازاكي، أن تصبح الخطبة بعدها عبارة عن ورقة واحدة فقط تحتوي على ٤٠٠ حرف، ولا تستغرق من الوقت إلا دقيقة واحدة. وكذلك أيضًا وُضعت قيود على اندفاع مشاعرها وعواطفها الشخصية التي تتدفق كما يحلو لها. بسبب الخوف من أن يؤدِّي ترك ذلك الشلال يتدفق بسهولة إلى انهيار الإصلاح السياسي لطوكيو، بل وانهيار الديموقراطية ذاتها.

زار كوساكاري رئيس اللجنة المركزية، وكيمورا الأمين العام، وكوروساوا المدير التنفيذي أنحاء العاصمة لإلقاء خُطب التأييد طبقًا لجدول الزيارات الذي وضعته قيادة الحملة الانتخابية، أي يامازاكي بنفسه. ومشى نوغوتشي يُلقي الخطبة تلو الخطبة، فيدور في صباح كل يوم يُلقيها في الأماكن الهامة من العاصمة، وبعد الظهر في مكان ثابت وليلًا في مناظَرات مع المتنافسِين وأماكن الترفيه. وطلب التأييد حتى من عمال اليومية وزعماء صيَّادِي الأسماك. ودائمًا ما تسير سيارة جواسيس للمنافسِين تختبئ عن الأنظار خلف سيارة الدعاية الانتخابية الخاصة بنوغوتشي التي تجوب أنحاء العاصمة هكذا، ومن جهة أخرى كانت سيارة تجسُّس حزب الإصلاح أيضًا تسير خلف سيارة غِن توبيتا.

وتنطلق كازو بسيارة الدعاية الانتخابية طوال اليوم إلى الأماكن التي غاب عنها زوجها ومعها الدلو الذي وضعت فيه كميات كبيرة من قطع الثلج.

وفي صباح اليوم الثالث من الحملة الانتخابية، صعَدت كازو لإلقاء خطبتها لمدة دقيقة بعد عدد من المؤيِّدِين في منتصف مُنحدَر كاغورازاكا، وعندها ملأ الرعب قلب كازو لرؤيتها وجه رجل في بداية الشيخوخة وسط ثلاثين أو أربعين فردًا من جموع المستمعِين.

كانت شمس الصيف تنير سطح طريق المنحدر بوضوح. كانت أغلب الوجوه التي تنظر عاليًا تجاه من يخطب من المؤيِّدِين فوق سيارة الدعاية، لمسنِّين وربَّات بيوت عائدات من التبضُّع وأطفال وطلاب، بينما كان الموظَّفون قليلِين. ومع أن سيارة الدعاية الانتخابية تقف في الظل إلا أن الجماهير فاضت حتى أشعة الشمس، فوضع بعضهم منديلًا على وجهه ليحميه من الشمس. كان حزب الإصلاح يجد في كل مكان يذهب إليه مُستمعِين بوجوه صبوحة وبريئة. وكان انعكاس قمصان الصيف النظيفة البيضاء يعمق من ذلك الإحساس أكثر وأكثر. ففي أغلب الأحيان كانت تجتمع تحت سيارة الدعاية الانتخابية الأذرع والصدور التي لفحتها أشعة الشمس وتبدو عامةً صحية طبيعية من العمل في الخارج، وصفوف الأسنان البيضاء الضاحكة تحت قُبَّعة القش، والزغب اللامع في خدود التلميذات التي بلا مساحيق تجميل. تعشق كازو مثل هذه الجماهير.

ولكن كان الرجل إياه يقف في وسط تلك الجماهير مرتديًا قميصًا فضفاضًا قذرًا مفتوح الياقة، ويلمع في صدره مَشبكان لأقلام حبر، ويحمل عند صدره هذا بيديه الاثنتين حقيبة قديمة مُطوِيَّة، ويمسك بسيجارة بين أصابعه التي تحمل الحقيبة، كاشفًا رأسه القصير الشعر الذي اختلط به الشيب عاريًا بلا قبعة تحت أشعة الشمس، ويمتلئ وجهه بتجاعيد كثيرة بسبب شدة أشعة الشمس فبدا كأنه يضحك. لم تعرفه كازو في التوِّ والحال بسبب تغييره لشعر رأسه جاعلًا منه رأسًا حليقًا بطول خمسة مليمترات. كان وجهه عاديًّا ولكنه كبر في السن وذبل فجعله هذا يبدو مُقزِّزًا مثل وجه رجل وسيم انحدر به الحال.

وعندما قالت نفس جملتها التي تبدأ بها حديثها دائمًا: «إنني زوجة يوكِن نوغوتشي» أحست كازو أن ذلك الرجل نظر إليها عاليًا وهو يبتسم بسخرية.

وبعد أن أنهت كازو خطبتها على مدار دقيقة، وحيَّت الطلاب المؤيِّدِين على استماعهم في هدوء، بدأَت الجموع تتفرَّق، وأخذَت سيارة الدعاية وضع الاستعداد للتحرُّك إلى المكان التالي، رأت كازو ذلك الرجل السالف الذكر يدق بيده على هيكل السيارة الجانبي.

كان الرجل يصيح وعلى وجهه ابتسامة ساخرة قائلًا:

«سيدتي! سيدتي!»

وأسنانه الصفراء التي صبغها النيكوتين بارزة.

نزلت كازو مسرعة من السيارة واقتربت من الرجل، وقلبها يخفق خفقانًا غير طبيعي تحت منشفة العرق التي تضعها فوق صدر الكيمونو. قالت كازو بصوتٍ عالٍ متعمدة:

«لم نلتقِ من زمن، إنها صدفة عجيبة حقًّا. ولكن لقد رأيتني في موقف لا أُحسد عليه.»

ومع أنها تحفظ اسم الرجل — توتسوكا — ولكنها بذكائها لم تنطق به. ومن أجل ألا يكتشف قلقها، حدَّقت عينيها وكأنها لا تستطيع تحمل شدة أشعة الشمس. فرأَت قطارًا يمر فوق النفق تحت خط السكك الحديدية أسفل المنحدر. وكانت الشمس تُذيب الغيوم القليلة في السماء وتجعلها مبهمة وغامضة.

سألته كازو بصوت منخفض:

«ماذا تريد؟»

قال الرجل:

– «هناك أمر أريد الحديث معك بشأنه.»

نادَت كازو على من فوق السيارة بصوت مرح قائلة:

«لقد قابلت شخصًا أعرفه، وسوف أتحدث معه قليلًا، أرجو منكم أخذ راحة قصيرة.»

ثم دخلَت كازو إلى محل بيع المثلجات، على الجنب المقابل من الطريق وهي تحث توتسوكا على مرافقتها. كانت ستائر الشيش الزجاجية الخضراء والبيضاء على باب المحل فقط هي الزاهية أما داخل المحل فقد كان مظلمًا بشدة وتصطف به مقاعد قديمة. وبمجرَّد أن دخلت المحل قالت للعامل بصوت عالٍ:

«اذهب بعشرين من الثلج مع حبوب الفاصولياء الحمراء بالسُّكَّر إلى سيارة الدعاية. على الفور. ثم إلينا باثنين. لا مانع أن تُؤخِّرَنا نحن، ولكن اذهب بما تصنعه إليهم فورًا.»

جلس الاثنان على مائدة معتِمَة أسفل التقويم المعلَّق على الحائط. كانت المائدة متروكة كما هي مبللة بما سكبه الزبائن الذين كانوا يجلسون عليها قبلهما. تخيَّلت كازو أمرًا مستحيلًا وهو صورة التقويم الذي فوق رأسها هي صورة نوغوتشي فرفعَت عينيها لتنظر إليها. فلم تجد إلا صورة ملونة لممثلة سينمائية ترتدي رداء سباحة أصفر وعوامة منقطة.

«ماذا تريد؟»

كرَّرت كازو سؤالها مرة أخرى مدفوعة برغبتها في تعجُّل الإحساس بالطمأنينة.

«لا داعي للاستعجال. كانت خطبة رائعة، أنتِ تبدعين تحت حرارة الشمس الحارقة. أنا منذ زمن بعيد وأنا متأكِّد من أنك ستصبحين امرأة عظيمة.»

قالت كازو ذلك بنبرة عنيفة للرجل الذي تقابله بعد غياب ثلاثين عامًا:

«أسرِع بقول ما تريد، المال؟»

كانت عيناها فقط تبرقان بلا كسل ولا كلل تراقبان كل حركة من حركات توتسوكا. وكان صرير طحن الثلج يستمر بلا انقطاع في عمق المحل.

«كلا البتة! إنني فقط في الآونة الأخيرة أشتغل بتأليف الكتب …»

قال توتسوكا ذلك وهو يزحف بأصابع يده الطويلة على الحقيبة المطوية، وفتحها بعد أن ظل يعبث في عجلة على جلد مقدمتها. كانت الحقيبة مكدسة بأوراق مثنية. أدخل توتسوكا وجهه في الحقيبة، وظل يبحث داخلها عن شيء مستغرقًا وقتًا طويلًا بلا داعي. أنارت أشعة الشمس التي انعكست على بلاط أرضية مدخل المحل الرموش الطويلة طولًا عجيبًا لتوتسوكا منكس الرأس. فتذكرت كازو أن ذلك الرجل كان يفخر في شبابه برموشه الطويلة تلك. وهي الآن تلمع في لون رمادي، وتقبع فوق العيون المحاطة بالتجاعيد في منظر شاعري لم يتغير.

«ها هو، انظري!»

أخرج توتسوكا كُتيبًا رفيعًا ووضعه بعشوائية فوق الطاولة. وعندما نظرت كازو إليه رأت أنه كُتب عليه:

«سيرة حياة زوجة يوكِن نوغوتشي

تأليف صياد عابث.»

تصفَّحَت كازو الكُتيِّب بيد ترتعش بشدة. عُنوِنَ كل فصل بعنوان مثير وظهر توتسوكا نفسه باسمه الحقيقي في الجزء الذي يتكلَّم عن الفترة التي عاشت فيها كازو معه في بيت واحد بعد وصولها إلى طوكيو ببضع سنوات، مع وصف نفسه بأنه رجل وسيم ساذج، وأن كازو امرأة في غاية الشبق. ولكنه كتب مثلًا: «لو قابلت كازو طريقين أحدهما الحب والآخر الطموح تختار طريق الطموح بكل تأكيد وتتخلَّى عن الحب». ثم وصف الكُتَيِّب مسيرة حياتها بعد ذلك وهو يخترق غرف النوم واحدة بعد أخرى، وكأن كازو بائعة هوى داسَت على العديد من الرجال لكي تصل إلى المرتبة الاجتماعية التي وصلَتها الآن. ثم تصفَّحَت كازو الفصل الأخير سريعًا وقرأته فعرفت كازو الهدف من كتابة الكُتَيِّب. فذُكر أن نوغوتشي طيب القلب مثل الملائكة وأن كازو امرأة شريرة خدَعَته لكي تنال لقب زوجة حاكم العاصمة.

همست كازو بدون أن تدمع عيناها قائلة:

«يا له من كذب صريح!»

– «حسنًا. أنا وأنت فقط من يعرف أهذا كذب أم صدق.»

أحست كازو بتشابه بين طريقة كلام توتسوكا وهو يُظهر أسنانه القذرة مرة أخرى، وبين طريقة ابتزاز ممثِّلِي المسرح الحديث العتيقة مما أعطاها انطباعًا بإمكانية التقليل منها. وعندها تمكَّنَت كازو أخيرًا من إيجاد مُتَّسع لرؤية وجه الرجل. وعندما نظرت إليه بإمعان خفض توتسوكا رموشه. وعرفت كازو وقتها أن ذلك الرجل أيضًا يتملكه الخوف.

جيء بالمثلجات.

قالت كازو له بصوت متعجرف:

«تفضل.»

غطَّى الرجل جبل الثلج بيده ودفعه بالملعقة وقرب وجهه لكيلا يسكب منه شيئًا وهو يأكل. وقد امتلأت أظافره التي طالت بوسخ أسود.

سألته كازو وكأنها تطعنه:

«بكم تنوي بيعه؟»

– «إيه؟»

رفع توتسوكا وجهه من بين الثلج في عجلة، ولكن بدت عيناه هاتان بريئتين وكأنهما لجرو. ثم بعد ذلك أخرج قطعة من الورق وأخذ يحسب بشكل مبالغ فيه. وقال ما معناه ثلاثة آلاف نسخة بسعر ثلاثمائة ين لكل نسخة، المجموع تسعمائة ألف ين، وبإضافة النثريات فهو يريد مليون ين.

«حسنًا. تعال إلى البيت في الساعة العاشرة من صباح الغد. وإن نقصت نسخة واحدة عن الثلاثة آلاف نسخة لن أُسلِّمَك المال. على كل حال إن أحضرت الثلاثة آلاف نسخة سأسلمك المال في الحال مقابل النسخ.»

•••

في صباح اليوم التالي، أرسلَت كازو أحدهم لسحب المال من البنك، وانتظرت هي توتسوكا، ثم سلَّمَته له حسب الاتفاق، وقرَّرَت أن تحرق الثلاثة آلاف نسخة من الكتيب حينما تستقر الأمور، فألقَت بها في الخزانة بعد أن أحكمت تغليفها بصرامة. في صباح ذلك اليوم أخذت كازو راحة من إلقاء الخطب في الحملة الانتخابية بحجة سوء حالتها الصحية، وكتمت الأمر تمامًا حتى تجاه يامازاكي.

ولكن بعد عدة أيام، ورغم كافة الوعود، وُزع ذلك الكتيب المريب مجانًا على الأشخاص ذوي الحيثية داخل العاصمة بلا استثناء. وقُدرت النسخ الموزعة بمئات الآلاف.

قال يامازاكي:

«لقد بدأ أخيرًا الهجوم بالقنابل العشوائية.»

وعندما أعطى كازو نسخة من ذلك الكتيب، تغير لون وجهها بمجرد رؤية الغلاف فقط، فعرف أنها تعلم عن الأمر من قبل. فأخبرته كازو بما حدث بكل صدق.

«خسارة فادحة. إن المليون ين مبلغ ثمين الآن. لماذا لم تطلبي منِّي النصيحة؟ من المعروف أن مثل هذا الشخص سيفعل ما فعله سواء حصل منك على المال أم لا. وبالتأكيد حزب المحافظين هو من وراء هذا الأمر.»

على الفور برز وجه غينكي ناغاياما على ذهن كازو ولكنها سكتت ولم تتكلم. ثم تابع يامازاكي حديثه:

«الأمر المقلِق أن ذلك الكتيب المريب وُزِّع بأعداد كبيرة على سيدات المجتمع في الأحياء الراقية من طوكيو. إن الهدف الواضح من طريقة كتابته تلك هي مناشدة الأخلاق المتحيِّزة للبرجوازية الصغيرة. وبهذا هناك قلق من أصوات الأحياء الراقية … ولكن لن يسبب ذلك الأمر قلقًا كبيرًا في النتيجة النهائية.»

كان موقف نوغوتشي تجاه ذلك الكُتَيِّب المريب عظيمًا حقًّا. بالطبع قرأ نوغوتشي محتوى الكُتَيِّب ولكنه لم يُلَمِّح لها بكلمة عنه. وأَحسَّت كازو التي كانت غارقة في حالة نفسية سيئة ومجروحة جرحًا شديدًا أن رجولة زوجها من خلال صَمتِه هذا عبارة عن طوق نجاة عملاق صامت يطفو بها في بحر مظلم.

•••

لم يكن لدى يامازاكي مُتَّسَع من الوقت لكي يقابل نوغوتشي أو كازو. ومثلما يُخطئ الممثِّل على خشبة المسرح فينسى تعليمات المخرِج كان هذا ما يحدث بالضبط مع نوغوتشي على أرض الواقع؛ حيث ينسى أثناء اهتياجه بسهولة ما علَّمَه له يامازاكي على مدى وقت طويل. فمع أنه علَّمه ألا يغضب مطلَقًا تجاه صيحات الاستهجان، كان نوغوتشي كثيرًا ما يفقد اتِّزَانه وهدوءه. في منطقة كيتشيوجي ظَلَّ حوالي عشرون فردًا من المعارِضِين والمؤيِّدِين يطلقون الاعتراضات، وأخيرًا فقد نوغوتشي صبره تجاه صيحات الاستهجان اللَّحُوحة فرد عليهم قائلًا: «أنتم أيها الشباب لا تفهمون» فصاحوا فيه غاضِبِين بكلمة «عجوز بائس». ووتر أعصاب المقرَّبِين من نوغوتشي ارتكاب مرشَّح حزب الإصلاح هذا أخطاء قاتلة في أقواله عندما يتحمَّس في إلقاء الخُطب، بل إنه لا يدرك ذلك بنفسه. فقد قال نوغوتشي بوضوح ثلاث مرات على الأقل «إنه دستور الإمبراطورية الحالي». ومن العجيب أن الجمهور نفسه ليس فقط لم ينتبه على الأغلب لمثل هذا الخطأ، بل كانت تلك الخُطب الجافَّة التي بلا معنى التي يلقيها نوغوتشي تحظى بسمعة جيدة بين كبار السن الملتزِمِين. وعندما سمع يامازاكي مثل هذه الأخبار، عرف أن اليابانيين لم يفقدِوا صفتهم المميزة التي تثق بالشخص الذي ليس لديه لباقة في الحديث.

كانت تقع أحداث متنوِّعة كبيرة وصغيرة بمعدَّل حادثة كل دقيقة تقريبًا في جميع الدوائر الانتخابية. وقد بُحَّ صوت يامازاكي من إعطاء تعليماته وأوامره بالهاتف تجاه كل منها على حدة.

«ثمة دلائل على حدوث عمليات بيع أصوات في دائرة «أ» الانتخابية بحي سوغينامي. ويبدو أن هناك كميات مهولة من الأموال تُضخ.»

– «يجب على شعبة مراقبة بيع الأصوات الحصول على أدلة وإبلاغ الشرطة.»

– «لقد نُزعت كل بوسترات نوغوتشي في حي بونكيو ولصق فوقها بوسترات توبيتا.»

– «حسنًا. ألصقوا فوقها مرة أخرى. سأرسل لكم بوسترات جديدة في الحال.»

– «لقد لُصقت بوسترات دعاية مريبة في ليلة واحدة من مدينة «أ» إلى مدينة «ب» في الدائرة الانتخابية لسانتاما. فهناك حوالي ثلاثة آلاف بوستر، عليها صورة لشيطانة دميمة الوجه ويبدو أنهم يقصدون السيدة زوجة نوغوتشي.»

«أبلغوا الشرطة فورًا.»

كان يامازاكي ليس لديه أية ثقة في شُرطة حكومة حزب المحافظِين، ولكن لم يسبق أن ذهب شباب الحزب يوميًّا إلى أقسام الشرطة بهذه السعادة. كانت الشرطة في موقِف شُكر تجاه من يأتي إليها لإبلاغها بمخالفات انتخابية، وبدا أن أعضاء حزب الإصلاح قد صاروا زبائن دائمِين لدى الشرطة.

•••

أصبحت الغرْغَرة بمحلول حمض البوريك من عادة نوغوتشي في الصباح قبل مغادرة البيت وفي الليل قبل النوم، من أجل إراحة الحنجرة التي تسوء حالتها بمرور الأيام.

وفي الليل يدخل الحمَّام ويسترخي في حوض الماء الساخن ويستدعي مُدلِّكًا لعضلات جسمه. ويسترخي الجسد أخيرًا بالتدليك. ثم يجلس نوغوتشي على السرير ويضع منشفة فوق صدر المنامة ويتغرغر بالإبريق النحاسي التي تعطيه له كازو.

كان ذلك من الطقوس التي تبعث على الكآبة ولا تشبه ضجيج النهار، ولكن كانت كازو التي تعطيه الإبريق تشعر بسعادة أن ذلك اليوم قد انتهى أخيرًا.

كان نوغوتشي يكره الناموسية الغربية الطراز التي تلتصق بالسرير مباشرة، وبديلًا عنها يدلي ناموسية في كامل الغرفة مصنوعة من قماش الكتان الأبيض، ولكن ما من ريح تهز طرف تلك الناموسية. ويُترك الباب الزجاجي الذي يُطلُّ على الحديقة مفتوحًا على مصراعيه طوال الوقت. ويعم نور المصباح الكهربائي الذي بجوار الوسادة في كامل الناموسية مبرزًا تجاعيد الكتان الأبيض المخيفة، ويجعل المرء يشعر كأنه داخل معبد شديد البياض. ترفع كازو الإبريق النحاسي عاليًا جدًّا وهي تستند بركبة المنامة فوق حصير التاتامي.

أثناء صوت غرغرة نوغوتشي الطويل، كانت أحيانًا تستمع إلى صوت حشرة زيز ليلية تَطِنُّ بعد اصطدامها بأغصان شجرة في الحديقة، كان يُسْمَع كصوت إبرة حادًّا يتردد في ظلام الليل، ولكنه في النهاية يُمتص بشكل مؤكَّد داخل سكون الليل. إن تلك المنطقة هادئة حقًّا في الليل. في بعض الأحيان يُسمع من بعيد صوت وقوف سيارة ثم صوت سكران، ولكن يزول الصوت سريعًا مع زمجرة عجلات السيارة التي تسرع بالرحيل.

كانت كازو تعشق وَضْعَها وهي تفعل ذلك. فمع كونها مُرهَقة إرهاقًا لا يَقلُّ عن إرهاق زوجها، إلا أنها تنسى إرهاقها عندما تُفكِّر أنها بوضعها هذا تبدو وكأنها راهبة عذراء وهَبَت نفسها في محراب معبد شنتو. كان وضعها ذلك هو بحق التضحية بالنفس التي يمكن أن تضحيها علانية، ولا تُمانِع أن يتناثر الرَّذاذ على وجهها أثناء غرغرة زوجها.

لم تكن كازو تسمح لأحد أن يُدلِّك لها عضلات كتفها المتكلِّس بشدة أمام زوجها. ولحسن الحظ أن صوتها أحباله الصوتية قوية، ومَهما أكثرَت من الخُطب أمام الناخبِين لا يُبحُّ صوتها ولا يذبل.

عندما نظرت لأعلى رأت نوغوتشي يمسك الكوب بيد المنامة اليمنى، ويضع اليد اليسرى خلفه داخل الغطاء، ويغرغر بعناية وهو يلوي جسده التواء كبيرًا. وأحيانًا ما يميل عنقه يمينًا ويسارًا، ليدحرج الماء داخل فمه بالكامل. تُنير الإضاءة تجاعيد حنجرته النحيفة تلك التي تبدو وكأنها تلوثت بالسخام. يرتفع الصوت بعنفوان ثم يرتاح من المعاناة ويُكرِّر ذلك أكثر من مرة.

وبلغت النشوة مبلغها من كازو تجاه تلك المعاناة. وأحسَّت أثناء تأمُّلها وكأنها تتَّحِد هي أيضًا مع لا منطقية جهود زوجها المُسِن المُضْنِية. وأحسَّت أن صوت غرغرة زوجها الذي يُرغِي ويزبد هو بحق الدليل المؤكد على أن زوجها حي يعيش أمام عينيها، وأنها كذلك حية تعيش بدون أن تشعر في تلك المعيشة بمللٍ ولا بخمول.

وأخيرًا انتهت الغرغرة الثالثة، وقرب نوغوتشي فمه الذي يحتوي على الماء من الإبريق. وأفرغه هناك بصوت مَهيب، وثقل قليل الإبريق النحاسي الذي فوق يدي كازو. تنهد نوغوتشي. وكان وجهه أثناء التنهيد قد احمر قليلًا.

وعندها قال نوغوتشي لكازو ما لم يقله من قبل أثناء تلك العادة اليومية التي أصبحت خمس مرات في اليوم. فقد قال ما يلي وهو يمد يده بالكوب الذي في يده:

«ما رأيك؟ ألا تجربين أنت أيضًا الغرغرة؟»

شكَّت كازو في أذنها. إن كازو لا تؤلمها حنجرتها ما لم تقم بنشاط رياضي، وبالتالي لا حاجة لها للغرغرة. لا جدال أن عرض زوجها لها بالغرغرة، هو اعتراف صامت منه بالجهد البدني اليومي الذي تبذله كازو أكثر من مجرد المراعاة والاهتمام بها.

عندما فكَّرت بهذا التفكير أحسَّت كازو فجأة بسعادة تضرب قلبها، وحملقت طويلًا في عيني زوجها الذي لا يضحك مُطلَقًا، وأخذَت من يده تلك الكوب باحترام بالغ.

•••

أجمعَت الجرائد والمجلات والراديو والتلفزيون في الأسبوع الأول على تقدُّم نوغوتشي. ولكن بعد دخول الأسبوع الثاني بدأ الانهيار من المنطقة الراقية في طوكيو. من المفترَض أن المنطقة الراقية من طوكيو هي الموطن الأصلي لأنصار حزب الإصلاح. بالطبع كان الكُتَيِّب المريب له تأثير كبير ولكن منذ البداية كانت خطة حزب الإصلاح تميل إلى إهمال تلك المنطقة بسبب الاطمئنان لها.

فكَّرَت كازو بسبب طبيعتها التي تمتاز بالجلد والصلابة أنه لم يَفُت الوقت بعد؛ ولذا أوقفَت سيارة الدعاية الانتخابية هنا وهناك في المناطق السكنية للأحياء الراقية. لقد خَلَت بيوت الأغنياء من سكانها الذين ذهبوا إلى المصايف؛ ولذا استهدفت كازو مناطق حي سيتاغايا وتلك المحاذِية لخط قطار طويوكو التي يكثر فيها الموظفون؛ لأنها لم تكن القاعدة الأساسية لحزب الإصلاح.

وقفَت سيارة الدعاية عند مَدخل حديقة عامة صغيرة تحت ظلال أشجار كثيفة. ويصل إليهم بلا انقطاع صيحات الأطفال وأصوات اللعب بالمياه من خلال مسبح للأطفال داخل الحديقة. وعلى الفور تجمَّع الناس في أرض فضاء بين مدخل الحديقة ومزلقان خط السكك الحديدية انتظارا لخطبة كازو. ولكن بخلاف المناطق الشعبية والقرى الريفية، فشباب خدمة التوصيل للمنازل الذين أَوقَفوا درَّاجاتهم واستنَدوا على الأرض بقدم واحدة، يستمعون كانت وجوههم تمتلئ بسخرية غير بريئة نوعًا ما. ليس هذا فقط، بل كان الناس يتناقلون الشائعات بينهم وهم ينظرون إلى كازو من حين لآخر.

وعندما أوشك وقت بداية خطبتها، قالت للمنظِّمِين حولها بعد أن احتار تفكيرها:

«ماذا أنا فاعلة! إن الجميع يتَنقَّلون الشائعات حولي.»

كان أحد المنظِّمِين متوسِّطي العمر يعلم أن كازو في حالة رعب مُتوَهَّمة بسبب الكُتَيِّب المريب، فقال لها ما يلي بلا تعمد:

«ماذا تقولين؟ أنت مخطئة. ألقِ خطبتك بلا تردُّد. إن حضور هذا العدد دليل نجاح.»

تقدَّمَت كازو وانحنت برأسها أمام الميكروفون كالعادة.

«إنني زوجة يوكِن نوغوتشي مرشَّح حزب الإصلاح لمنصب حاكم طوكيو.»

وقتها وصل إلى أذن كازو بالتأكيد صوت ضحك اثنين أو ثلاثة من المستمِعِين. تحدثت كازو بانهماك بوجه متجمِّد. ولكن اليوم لم يقل أحد من المنظِّمِين لها شيئًا حتى بعد انقضاء الوقت المحدَّد. كلما زادت كازو من حديثها تناثرت كلماتها فوق رءوس المستمعِين بلا فائدة كالرمال.

تولَّد ذلك الانطباع لدى كازو بسبب الرعب؛ ولذلك ومع إلقائها الخطبة بحماس شديد، كان جزء من ذهنها يَتخيَّل مَنظرها المنعكِس في عيون الجماهير. إنها الصورة التي رسمها ذلك الكُتَيِّب القبيح كما هي، فتاة ريفية فقيرة تستخدم جسدها لكي ترتقي اجتماعيًّا. وظنَّت كازو أن أحد الكهول ينظر عاليًا على طرف ردائها.

«أُف! أين هي الاشتراكية؟ ألا يقولون إن تلك المرأة تُوقع في حبائلها الرجال باستخدام وسائل لا تعرف الخجل ولا الحياء؟ لا شك أن داخل جسدها شيء بارد يجعله لا ينسى الطموح مَهما اشتعل. تُرى أين ذلك الجزء البارد داخلها؟ هل هي مؤخرتها الباردة؟»

كانت عيون عدد من الطالبات الموجَّهة عاليًا تجاه كازو، كأنَّها تتأمل وحشًا مخيفًا.

اشتعَلَت خدود كازو من الخجل وهي تخطب، وتوهَّمَت أنها تسمع كلمات مثل: غرفة نوم، علاقات سرية، مُداعَبة جنسية، إغواء أُنثوي، تَحدٍّ، فجور … بدت لها تلك الجواهر المتعفِّنة التي تتناثر هنا وهناك داخل ذلك الكُتَيِّب، تَلمَع على أفواه المحتشِدِين. كانت الكلمات التي تخرج من فم كازو مثل «إصلاح هيئة البريد»، و«التعامل الإيجابي مع مشكلة البطالة»، تسقط على سطح الأرض مثل سِرب نمل مُجنَّح فَقَد أجنحته. بينما تُرى كلمات الناس الملونة بلون مثل اللحم الحي على أطراف شفاه الناس، كقطرات حمراء تعكس أشعة الشمس دفعة واحدة. كان الجميع يمضغون لحم جسد كازو وينظرون إليها عاليًا بعيون ناعسة راضية؛ المُسنِّين الذين يَتنزَّهون مُتَّكئِين على عصيانهم، والسيدات اللائي يتظاهَرْن بالفضيلة، والفتيات الشابَّات اللائي يرتدين ملابس البحر عاريات الأكتاف، وشباب خدمة التوصيل للمنازل.

كان الطقس شديد الحرارة حتى في الظل. ولكن كازو استمرت في التحدُّث تاركة العرق البارد يبلل كل أنحاء جسمها بدون مسح وجهها بالمنديل المحتوي على الثلج. وتحس أن عيون الناس تخلع الكيمونو عنها قطعة بعد قطعة وتنظر إلى جسدها العاري. تتسلط العيون على عنقها، ثم تَبتلِع الصدر، وتصل حتى البطن. وظنَّت كازو أن مخالب لا تُرى نُقعت في عرقها لتنزع بشرتها بالكامل عنها.

قادت تلك المعاناة التي لا تستحقها قَلْب كازو التي تقف فوق سيارة الدعاية وحيدة، تدريجيًّا إلى نشوة سُكْر مثل شهيدة. تدق أجراس المزلقان الذي أمام عينيها وتسقط الألواح الخشبية العرضية بالأبيض والأسود تحت سماء زرقاء براقة، ثم مَرَّت من أمام عينيها عدد من عربات قطار الضواحي مع هدير مهتز. كوَّنت وجوه البشر من كل النوافذ سلسلة لا نهائية من العيون التي تُحملِق فيها باهتمام بالغ. وأخيرًا رفعت كازو أنظارها لأعلى إلى السماء الزرقاء وكأنها امرأة تُعدَم حرقًا. ترتفع إلى كبد السماء في هيبة غيوم معقدة غامقة متراكمة فوق أسطح بيوت ضواحي طوكيو المنخفضة.

انتهت الخطبة. حملت سيارة الدعاية كازو إلى المكان التالي شبه فاقدة الوعي.

•••

وتصادف في ذلك الوقت أن بدأت انتخابات أعضاء المجالس البلدية للأحياء. وبالتزامن مع ذلك امتلك حزب المحافظين ثلاثة آلاف مكبر صوت، لا تتوقف ثلاثة آلاف مكبر صوت عن الهجوم على نوغوتشي في كل ركن من أركان طوكيو. في حين كان أقصى عدد من المرشحين يمكن لحزب الإصلاح تقديمه؛ أربعمائة شخص. أي أربعمائة مكبِّر صوت على الأكثر.

وبالإضافة إلى ذلك تدفَّقَت على حزب المحافظِين كميات ضخمة من الأموال. تدفقت الأموال كأنها طوفان يفيض بعد أن يدمر السدود.

وعلى جانِب آخَر أوشكت أموال كازو على النفاد. وفشَلَت محاولات الحزب في إيجاد التمويل المناسب في اللحظات الأخيرة. وفي يوم الثامن من أغسطس عرَفَت كازو أن كل شيء ينهار محدثًا أصوات مهولة. فلم تكن هناك جريدة واحدة تتنبأ بفوز نوغوتشي.

وكان يوم التاسع من أغسطس اليوم السابق على التصويت، يومًا كئيبًا وكأن موسم المطر قد عاد مرة أخرى، استمرَّت الأمطار في الهطول طوال اليوم وكانت الرطوبة عالية جدًّا. وكانت آخر وسيلة لدى يامازاكي هي عمل قائمة بأسماء وأرقام خمسين ألف شخص من دفتر دليل الهاتف المرتَّب حسب المهنة، وقرر إرسال برقية باسم كوساكاري رئيس اللجنة المركزية للحزب محتواها:

«نوغوتشي في خطر! الرجاء الدعم والمساندة.»

وفي صباح التاسع من أغسطس حملها إلى نقابة مُوظَّفِي البريد. وطلب منهم التفرغ لإرسال تلك البرقيات وعدم الالتفات إلى البرقيات الأخرى المجمَّعة. واستجاب رئيس لجنة نقابة موظَّفِي البريد لذلك برحابة صدر.

ولكن في عصر يوم التاسع من أغسطس، حزب المحافظين الذي شم تلك الأخبار سريعًا حاول مقاومة ذلك بإرسال برقيات مُضادَّة، ولكن رفض مكتب البريد المركزي ذلك الطلب. وعلى الفور حَرَّك مُؤيِّدُو توبيتا وزير البريد على الفور، وبهذا الشَّكْل صدر أمر إداري من الجهة التنفيذية على أرض الواقع، وفي نفس تلك الليلة أرسل حزب المحافظِين ضِعف عدد برقيات حزب الإصلاح أي مائة ألف برقية.

في الساعة الرابعة من العصر جاءت مكالمة هاتفية ليامازاكي الذي كان في بيت نوغوتشي على الدوام. كان بيت نوغوتشي يزدحم بالصحفيين ومراسِلي الإذاعة والتلفزيون، اخترق يامازاكي أمواج تلك الجموع ووصل إلى مكان الهاتف. كان صوت مكتب الحملة الانتخابية في غاية الاهتياج والإثارة.

«مصيبة كبرى. لقد جاءت مكالمات هاتفية للمكتب في وقت واحد من ستة أحياء هي فوكاكاوا وشيبويا وشينجوكو وسوغينامي وكيتشيوجي، أن الأحياء الست تلك يُوزع فيها منشورات لا حصر لها. منشورات بعنوان «يوكِن نوغوتشي فقد الوعي» ومنشورات أخرى بعنوان «يوكِن نوغوتشي يحتضر». بائعو الأعداد الخاصة من الصحف يَدقُّون الأجراس، ويجوبون الأحياء سيرًا على الأقدام يوزعونها مجانًا.»

أخبر يامازاكي مراسِلي الصحف ووسائل الإعلام محتوى تلك المكالمة التي لا يمكن تَقبُّلها. صرخت كازو التي سمعت تلك الحكاية من خلف المراسِلِين، صراخًا عاليًا وهرَعَت إلى غرفتها. تبعها يامازاكي مسرِعًا. انهارت كازو في منتصَف الغرفة وهي تبكي. كانت الغرفة معتمة قليلًا بسبب سقوط الأمطار، وكان منظرًا كئيبًا لا يمكن وصفه بالكلمات.

رَبَّت يامازاكي على ظهرها لمواساتها. وعندها لوت كازو جسدها فجأة، وبتعبيرات وجه تقطَّعَت إلى أشلاء من الدموع والغضب أمسكت بطرف بدلة يامازاكي وأخذت تهزها:

«أرجوك أمسك بالمجرم الذي فعل ذلك. اقبض عليه فورًا. يا له من عمل قذر! لا أصدق أنهم يستخدمون تلك الوسيلة القذرة في النهاية بهذا الشكل … بهذا إن هُزمنا في الانتخابات ليس أمامي إلا الموت. لقد فقدتُ كل ما أملك. إن هُزمنا في الانتخابات … سيكون ذلك المجرم قد قتلني. هيا، أسرع! اذهب الآن واقبض عليه … هيا.»

وأثناء تكرارها لكلمة هيا عدة مرات، فقد صوتها قوته تدريجيًّا، وانبطحت كازو على الأرض وأصبَحَت لا تستطيع النطق. اعتمد يامازاكي على الخادمة المقرَّبة لكي ترعى كازو، وشق طريقه في الممر الذي يضج بضوضاء الناس، وعاد إلى مكان الهاتف.

وفي التاسعة مساء هدأ كل شيء تمامًا. وسجل التلفزيون والراديو مع نوغوتشي وكازو التسجيلات المتوقَّع عرضُها في اليوم التالي. فهم يسجلون انطباع المحافِظ وزوجته في حالة الفوز في الليلة السابقة قبل ظهور النتيجة تحسبًا للأمور.

كان هناك شعور بعدم واقعية مُرعِب لذلك التسجيل المريب الذي يشبه عرضًا فنيًّا لتقليد الشخصيات الشهيرة. كان نوغوتشي يجيب على الأسئلة بإيجاز شديد، وتحدَّث عن طموحه بنبرة صريحة ليس بها متعة أو إثارة، ولكن كان جفاف كلماته التي بلا معنى، لم يسبق أن سمع لها من أحد بهذا القبول.

«أين زوجة سعادة المحافظ؟»

عندما سأل المذيع هذا السؤال، ظهرت كازو لحسن الحظ، فجأة في غرفة الاستقبال. كانت في حالة هادئة بوجه بشوش قد وضعَت عليه مساحيق خفيفة واستبدلت بملابسها ملابس عظيمة مُعدَّة لاستقبال الضيوف؛ أي إنها كانت بلا عيوب.

بعد أن ودَّعت رجال الصحافة والإعلام جميعًا، قالت كازو ليامازاكي من خلفه ما يلي وكانت تلك هي أول مرة يستمع فيها يامازاكي لنبرة ضعف من كازو:

«تُرى أمسموح لي قول ذلك يا سيد يامازاكي؟ إنني أشعر بعد كل هذا أننا سنُهزم …»

استدار يامازاكي للخلف ولكنه لم يجد ما يَردُّ به عليها. ولكن بدون انتظار الرد، في الممر المظلِم المشبع بحرارة رطبة في ليلة صيف ممطرة، لمع وجه كازو فجأة وكأنه يعكس إضاءة داخلية فيه، ثم قالت ما يلي بصوت شبه حالم:

«ولكن الأمر على ما يرام، أليس كذلك؟ من المؤكَّد أننا سنفوز.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤