الفصل الخامس عشر

يوم الوعد

انعكست أمطار اليوم السابق، ليكون العاشر من أغسطس يومًا صحوًا بلا أي أثر للمطر ويكون يومًا رائعًا للتصويت. استيقظَت كازو مبكرًا ووضعَت زهورًا في النافذة البارزة لغرفة الاستقبال. فقد صفَّت في قاعدة ماء امتلأت بماء منعش، خمس من زهرات اللوتس المختلفة الحجم على طراز أداتشي التي تعلَّمَتها في الماضي البعيد. جعَلَها هذا العمل البسيط تعرق عرقًا كثيرًا.

بعد انتهائها من إعداد الزهور، سكن قلب كازو في هدوء من خلال هدوء وسلام الماء الرائق. تُبرِز تلك الزهور الصَّلْدَة مثل المنحوتات، لون الشفق فوق الماء، وانعكس لون ظهر البَتلَات القرمزي اللامع الجميل على سطح الماء دامجًا هناك ظله الجميل. شعرت كازو أثناء تأمُّلها للزهور التي أعدَّتها بنفسها بإمعان، كأنها تتنبأ بشيء ما. فكرت كازو أثناء إعداد تلك الزهور التي حققت طرازًا مثالي: ألا يمكن أن تحتوي على إشارات لقدرها؟

لقد استنفدت كازو كل ثروتها وكل قواها. وعملت بأقصى ما تصل إليه طاقة البشر، وتحملت ما لا طاقة لبشر به من مذلة وإرهاق. ويعلم الجميع أن كازو أحسنت النضال. لم يسبق لها منذ ميلادها أن استخدمَت كازو روحها الحماسية حتى النهاية بهذه الدرجة من الاستمرارية وهذه الدرجة من الفاعلية. ولم يكن يدعم قلبها كل يوم بإصرار إلا يقين لاعقلي بأنها تستطيع بكل تأكيد تحقيق ما تعزم على تحقيقه في قلبها. يطفو مثل هذا اليقين في الهواء في الأيام العادية. ولكنه في الأشهر القليلة الماضية كان قد تمركز وثبت في الأرض، وأصحبت كازو لا تقدر على الحياة بدونه.

… نظرت كازو إلى زهور اللوتس بحذر وريبة.

فبدا لها الماء وكأنه يرمز للجماهير التي بلا عدد وهي على وشك التوجه إلى صناديق الاقتراع في كل حي من أحياء طوكيو. وكان اللوتس بزهره المتفتح هو نوغوتشي نفسه. يغمر الماء الزهور في أعماقه، وتحيط فقاقيع الماء بالدبابيس داخلها واحدًا واحدًا. وبدا أن مطمح ذلك الماء التوجُّه إلى اللوتس وأن وجوده هو فقط لكي يعكس ظل اللوتس.

وفي ذلك الوقت انعكس ظل طائر على النافذة المفتوحة دائمًا، ورُكلت ورقة من غصن عليل من أغصان ممتدة حتى حافَّة النافذة، فسقَطَت في المنتصف تمامًا من قاعدة الماء. بعد أن انزلقت في الهواء وكأنها زلاجة جليد. لم يتأثَّر الماء أو يضطرب على الأغلب، ولكن ورقة الشجر التي عادت متقلِّصة بلون الياقوت طَفَت بوضوح فوق سطح الماء. وبدت قبيحة المنظر مثل حشرة تكوم جسدُها حول نفسه.

إن لم تكن كازو تحاول قراءة الطالع المشئوم، لكانتِ التقطت تلك الورقة العليلة ببساطة، ولكن أن تحوم الغيوم حول قلب كازو بسبب ورقة الشجر تلك، جعلها تندم أشد الندم على حيرة مشاعرها التي قادتها إلى قراءة طالع عديم الجدوى.

أسقطت كازو جسمها فوق المقعد، وجعَلَت مِرْوَحة اليد ألعوبة في يدها وظلَّت على ذلك الحال لفترة من الزمن. يقبع جهاز التلفزيون أمام ناظريها. من المفترَض أن ينقل ذلك الصندوق البِنِّي الذي شَحب لونه تطورات الاقتراع تباعًا، ولكنه ما زال في تلك اللحظات خاويًا لا يعكس شيئًا، بل يستقبل بميل أشعة شمس الصباح.

•••

بعد أن دخلت كازو لأخْذ حمام الصباح بعد زوجها نوغوتشي، وضعت مساحيق الوجه بعناية بالغة، وبدلت بملابسها رداء النصر الذي صُنع لها خصوصًا لذلك اليوم. وبلا أية مبالاة لأفعال الناس، بل الأحرى القول أحيانًا بتعمُّد عدم إظهار أية مبالاة للناس تعمُّدًا زائدًا عن الحد بعد تلك الشهور والأيام من الحركة والنشاط، كان رداء النصر يشد من عضد كازو. صُنع الكيمونو من حرير شاشي بلون فضي وصُبغ عليه منظر اصطياد طائر غاق بلون أسود لامع، ومَشاعل تشع لهيبًا بلون قرمزي غامق. ولفت الكيمونو بحزام من ديباج حريري مطرز بتصميم عُمل بخيوط فضية لقمر في وقت المحاق يتوسَّط غيومًا رفيعة على خلفية بلون أرزق فاتح ويُغلق الحزام بقفل من الألماس.

كان من المنتظَر أن يجعل ذلك المنظر المبهرج مزاج نوغوتشي زوجها سيئًا، ولكن أرادت كازو بأي شكل الذهاب إلى لجنة التصويت بالزينة التي ترضاها نفسها. وعلى أي حال بعد انتهاء المعركة الانتخابية الطويلة التي غطَّتها فيها الأتربة والعَرق، وفي اليوم الذي لم يتأكد فيه أي شيء بعد، كان من الضروري لكازو أن تُعبِّر عن تقديرها لجسدها تقديرًا كافيًا بإطلاق العنان لما يريده قَلبُها.

وعندما ذهبت إلى حجرة المعيشة لكي تساعد زوجها في إنهاء استعداداته للخروج، ملأ منظر نوغوتشي الذي كان واقفًا هناك قَلْب كازو بالسعادة. كان قد انتهى بالفعل من تغيير ملابسه، وكان يرتدي البذلة إياها التي ارتداها لأول مرة يوم تسجيل نفسه مرشَّحًا لمنصب حاكم طوكيو واختار بنفسه من بين البذلات الثلاث التي أعدَّتها له كازو وحرصت على كَيِّها جيدًا.

وكما هي عادته لم يُظهر لها نوغوتشي أي نوع من الابتسام، ولكن مشاعره تلك وعدم اعتراضه على ملابس كازو ولو بكلمة، لمس مشاعر كازو بعمق. جلَسَا متجاوِرَين في صمت مُطبِق داخل السيارة التي توجهوا بها إلى مَقر التصويت، تأمَّلَت كازو مناظر المحلات التي انعكست عليها أشعة الشمس في الصباح المتبَقِّي به سخونة حَرِّ الصيف. ذلك التأثر الذي شعرت به لهذه الدرجة جعلتها تشعر أن تتقبل أي شيء حتى الهزيمة.

… كانت تلك اللحظة على الأرجح، هي التي تَواصَل فيها قَلْب هذين الزوجين اللذَين يحمل كل منهما شخصية قوية تجاه الآخر لأعلى درجات التواصل، ولكن شعور كازو بالسعادة وهي تنصب عليها فلاشات آلات تصوير الجرائد وأخبار السينما داخل مقر التصويت في المدرسة الابتدائية حتى وضعها لصوتها في الصندوق بعد زوجها ظلَّت محتفظة بصفائها دون نقطة غيم واحدة.

•••

تَقرَّر فتح الصناديق في اليوم التالي. ونشرت الطبعات الصباحية من الجرائد توقُّعات وُزِّعت بعدالة تامة، فأحد المحلِّلِين توقَّع فوز توبيتا، والثاني توقع فوز نوغوتشي، أما الثالث فلم يقل أيهما سيفوز بل قال إنه من المتوقَّع على كل الأحوال أن يُحسم الأمر من خلال الحكم بالفيديو؛ حيث سيكون الفارق بين الاثنين ضئيلًا بأن تكون أنف أحدِهما في المقدمة. كانت مشاعر كازو منذ الصباح في حالة هياج يقترب من الجنون. كان التوقع المؤكَّد بالفوز جعَل قلبها مهتاجًا، وفي نفس الوقت كانت الخسارة تعني لها انهيار العالَم. بدأ فَتْح الصناديق في الساعة الثامنة من الصباح، وفي الساعة الحادية عشرة أُذيع أول خبر عاجل. جلس الزوجان في غرفة المعيشة أمام التلفزيون. كان أول تقرير يحتوي على أصوات منطقة سانتاما، والدوائر النائية من أحياء العاصمة.

لم تستطع كازو السيطرة على خفَقَان قَلبِها، وهمَس فمُها بكلمات تشبه الهذيان.

«إنها سانتاما! إنها سانتاما!»

برز أمام أعين كازو أحد القناديل الورقية في ليلة المهرجان الشعبي. وكذلك سواد الجبل الذي بدا أنه يقترب من المنطقة مع اشتعال القنديل. ثم التصفيق الحار الذي تردَّد صداه في بطن الجبل. وبشرة ربَّات البيوت الريفية التي لفحتها أشعة الشمس، وعيونهن الممتلئة بما يشبه الفضول، والابتسامات الوَدودة التي تبرز فوق أسنانهن الذهبية … غرَزَت كازو أظافر أصابعها في مسند المقعد، وبسبب التوتر أصبح كل جزء من جسدها يسخن فجأة ويبرد فجأة كما يَعنُّ له، وأخيرًا لم تَعُدْ تحتمل الصمت فقالت:

«أن تكون سانتاما هي الأولى في الفرز، لا بد وأن هذا فأل حسن؛ لأن فَوْزَنا مؤكَّد.»

لم يجبها نوغوتشي بشيء.

ظهر على شاشة التلفزيون لوحة الخبر العاجل، وتردَّد صدى المذيع الذي قرأ اللوحة.

«يوكِن نوغوتشي ٨٠٢٢٥۷ صوتًا

غِن توبيا ٢۷۷٠٨١ صوتًا.»

شحَب وجه كازو وانسحبَت منه الدماء، ولكن أصبحَت وكأن إرادتها المجنونة التي تملي عليها ألا تفقد الأمل قد صفَّحَت صدرها بصفيحة فولاذية.

•••

عند الساعة الثانية من ظهيرة ذلك اليوم تأكَّد فوز غِن توبيتا. تخطَّت الأصوات التي حصل عليها توبيتا المليون وستمائة ألف صوت، متفوقًا بما يقارب مائتي ألف صوت. وفاز حزب المحافظِين في أوساكا كذلك. وأعلن المذيع قائلًا: «نجحَت قوى المحافظِين في الحفاظ على استراتيجيتها بامتلاك حُكم المدينتين الكبيرتين.»

ارتابت كازو من قدرَتِها على بقائها هادئة تجاه تلك النتيجة الظالمة. إنه فوز بالمكائد والأموال. فمنذ اليوم الذي بدأت فيه أموالهم تنفد، قبل الانتخابات بأيام، تدفَّقَت الأموال في جانب حزب المحافظِين بدرجة مرعِبة مثل الفيضان بعد انهيار السد. تدفَّق المال بكميات مَهولة في أرجاء المدينة جاعلًا من الفاسدِين وشديدِي الفقر عبيدًا له. تألَّق المال وقتها مثل الشمس المتسرِّبة من بين الغيوم. شمس شريرة ومشئومة. وفي لَمْح البصر جعَلَت النباتات التي تمتد أوراقها المسمومة تنمو، وتمتد الأعشاب المتسلِّقة في كل مكان، باسطة مجساتها المنفرة هنا وهناك في المدينة باتجاه سماء الصيف الزرقاء.

استمَعَت كازو دون أن تذرف دمعة واحدة، إلى اقتراح زوجها بالذهاب لمقر حزب الإصلاح.

•••

في ذلك اليوم لم يستطع سوئتشي يامازاكي لقاءهما؛ لأنه عندما وصل إلى مقر الحزب كانا قد غادرَا بالفعل.

تغلغَل الإحساس الواقعي الذي يسبب الخدر بتلك الهزيمة تدريجيًّا في نفس يامازاكي أثناء ما كان منشغلًا في ترتيب أوضاع لجنة الحملة الانتخابية بعد نهاية الانتخابات. وفي الأصل لم تكن خسارة الانتخابات أمرًا غير متوقَّع بالكامل. على الأقل لقد توقَّع هو ذلك داخل قلبه بوضوح قبل التصويت بيوم. ولكن هناك دائمًا فرصة الحظ السعيد بنسبة بسيطة. وأحيانًا تزحزح الأصوات العائمة في المدن الكبيرة التي لم تأخذ قرارها قبل التصويت النتيجة لاتجاهات غير متوقَّعة تمامًا. لقد تَصارَع مرات عديدة مع مشاعر الاعتماد على ذلك الحظ السعيد ومشاعر اليأس من النتيجة كخبير ومحترِف، ولكن يغطي قلبه الآن ضباب مُوحِش ومُنفِّر.

ولكن يامازاكي تعوَّد منذ شبابه على أن تتذَوَّق قوى الإصلاح في اليابان طعم زوال الوهم، بل يمكن القول إن رِهانه دائمًا على زوال الوهم، كان يعني في الماضي استمرار رهانه على شبابه بلا انقطاع. يملك هذا الخبير الذي لا يُقهر المُحنَّك حقًّا في الصراع الانتخابي أحد أنواع الشغف المازوشي. وفي النهاية لم تُصِبه الدهشة لوجود الفساد في الانتخابات أو الفوز بقوة المال. فمن الطبيعي رؤية أحجار صغيرة أو روث الجياد على الطريق.

كحقيقة واقعة، ربما من الأصح القول إن يامازاكي بسبب برود قلبه الحقيقي، كان يعشق تلك المحرقة التي تُسمى الانتخابات والتي يُلقى إليها بالنفيس الغالي، والوضيع التافه كوقود في مساواة كاملة. لقد كان يعشق المشاعر العنيفة من فرح وغَضب ومتعة وحزن المرتبطة بمصالح المتجمِّعِين حول السياسة. يعشق قوة الاندفاع غير المتوقَّعة تلك التي تقود الناس إلى المبالَغة في العواطف المتأجِّجَة بغَضِّ النظر عن قبولها أو نَفيِها. يعشق تلك الحرارة التي تتميَّز بها السياسة، ذلك اللهيب المشتعل الحقيقي للانتخابات، مَهما كانت هناك حيل وألاعيب في الخفاء.

يعشق امتلاء قلبه الفارغ بمثل تلك الأشياء، وإملاء خواء قلبه بمشاعر الإثارة لعدد كبير من الناس من ذوي نفس التوجه، ثم في النهاية إصباغ مشاعره بنفس اللون.

ولذا إن تحدَّثنا بجفاء فقد كان هناك شيء من التعمُّد نوعًا ما في تحرُّك قلب يامازاكي الذي أُحِيط بضباب ثقيل بعد أن وقعت الهزيمة. كان ذلك الرجل المستمتع بزوال الوهم يعشق قليلًا مشاعر ومنظر البطولة والمأساة عند الهزيمة.

•••

كان يامازاكي في ذلك المساء يفكِّر داخل التاكسي المتَّجِه إلى بيت نوغوتشي في حي شيينا، في الدور الذي يجب عليه لعبه منذ هذه اللحظة، دور الإنسان عميق الشعور. هذا هو العمل الوحيد الباقي له لكي يفعله، ولم يكن في يده حيلة أخرى.

منذ دخوله من البوابة، أحس يامازاكي بكل حواسِّه بزخم المنزِل تعيس الحظ. اصطفَّت سيارات الجرائد في طابور طويل أمام المنزل، وكثُرَت حركة الداخِلِين والخارِجِين، ولكن علامات إخفاء الناس لاندفاع مشاعرهم بحرِّيَّة جعَلَته يُقارنها بملامح المُعزِّين في الجنائز. يشعر الجميع عند عودتهم وبعد أن يخرجوا من البوابة ويمشوا مسافة قصيرة أن حملًا ثقيلًا انزاح عن أكتافهم، ويطلقون الضحكات كأنهم بُعثوا من الموت للحياة مرة أخرى.

فاض طوفان الناس حتى ممرات المنزل. أخذ يامازاكي نظرة على قاعة الاستقبال فألقى بتحية سريعة بعينيه إلى نوغوتشي الجالس على مقعده في عمق القاعة، محاطًا بحشد من مراسِلي الصحف. وصل إليه من الممر صوت انتحاب يعلو تدريجيًّا. استدار للخلف فرأى كازو تبكي وهي تتبادل الأحضان بوجه مطأطئ مع ممثِّلي الجمعيات النسائية المؤيِّدة لزوجها.

ثم نادى أحدهم على كازو فأسرعت بمسح دموعها وذهبت إلى قاعة الاستقبال، ثم تعود وتذرف دموعها، فيدعوها آخر. لم تعد علبة مساحيق الوجه الصغيرة تكفي لإصلاح الوجه. أخذها يامازاكي وذهب بها إلى غرفة مكتب زوجها، ثم قال لها: «يجب عليكِ يا سيدتي أن تستريحي من الآن.»

جلست كازو فوق سجادة الغرفة مُنهارة. واستندَت بإحدى يديها على الأرض ومسحت باليد الأخرى على عنقها ببطء. ظل وجهها كما هو ينظر عاليًا إليه بدون حركة واستمرَّت الدموع تتدفق بلا مشاعر من العين المفتوحة باتساعها كما تتدفق المياه من شقوق مزهرية.

بعد الساعة العاشرة مساء غادر كل من له علاقة بالصحافة دون أن يتبَقَّى أحد، فتَنزَّلَت وحدة حقيقية على البيت. وعندما قابَل بوضوح تلك الوحدة القاسية وجهًا لوجه، أدرك يامازاكي للمرة الأولى حقيقة أن تلك الوحدة بالذات ما كان يخشاه هو وعائلة نوغوتشي معًا ويكرهها بشدة وتألُّم.

أعطى البخور الطارد للبعوض للجو ملامح مراسم ليلة العزاء. أحاط بنوغوتشي وزوجته عدد قليل جدًّا من المقرَّبِين فقط، وتناوَلوا معًا بيرة مع طعام بسيط شبه صامِتِين. ثم رحلوا واحدًا بعد آخر، وكان كل منهم حريصًا على ألا يلفت الانتباه لمغادرته. واستبقى الزوجان آخِرَهم يامازاكي عندما حاوَل الذهاب. كان الوقت قد جاوز الحادية عشرة مساء.

انعزل الزوجان بمَعِيَّة يامازاكي في غرفة كازو ذات الحصيرات الثمانية من التاتامي. قال نوغوتشي وهو لا يوجِّه حديثه لا إلى يامازاكي وبالطبع ولا حتى إلى كازو زوجته:

«لقد أتعَبتُكم معي … حسنًا سأستبدل بالذلة زي الكيمونو الياباني.»

وعندما كاد نوغوتشي أن يصفق بيديه كما هي عادته، مَنعَته كازو، وأخرجت من صندوق الملابس الذي بلا غطاء ملابس كانت قد أعدَّتَها سلفًا، وساعدته على تغيير ملابسه سريعًا.

قال نوغوتشي ما يلي وهو يأخذ من يد زوجته حزام الخصر:

«أنت خاصَّة تعبتِ كثيرًا. يجب أن تستريحي.»

كان نوغوتشي يبكي مولِّيًا ظهره لها، وكانت تلك هي أول مرة يرى يامازاكي فيها دموعه. وضع يامازاكي يديه فوق التاتامي وانحنى بعمق وقال:

«لا يمكنني التحجُّج بأي سبب لتقصيري.»

وعندما رأيت كازو دموع زوجها انهارت بالبكاء دون أن تحاول السيطرة على دموعها.

ليس من الواضح ما هو سبب دعوة الزَّوجين ليامازاكي لذلك المكان خصوصًا. فلا يُعتقد أن ثمة ضرورة لدى الزوجين لوجود شاهد غريب يرى تعريتهما لمشاعرهما المتبادَلة تلك. أو ربما كان الأمر ببساطة أن الزوجين فكَّرَا مع أن يامازاكي يعتبر من أقرب المقرَّبِين. ومن أجل أن يُكفآه بقدرٍ ما على ما بذل من جهد وتعب حتى الآن فكَّرَا أن يُظهِرَا حجم الثقة التي يعطيانها له، وبالنسبة إلى الزوجين اللذين فَقدَا بالفعل موضعهما الرسمي فلم يكن أمامهما إلا مثل هذا الموقف الشخصي. أو ربما كان ثقل ثقة الزوجين في يامازاكي والتأمل فيه خيرًا بالضبط مثل كفتي ميزان حوَتَا نفس القدر من الثقل، وبدون أن ينطق الاثنان بكلمة كانا يعتمدان عليه وربما فكَّرَا أنه سينقذهما بقدر ما من الوحدة القاسية الذي كان محتَّمًا على الزوجين أن يواجهاها.

وبعد ذلك كانت الكلمات التي قالها نوغوتشي لزوجته بعد أن استراح في الرداء الياباني التقليدي، تمتلئ بشدة بالأداء المسرحي الشرقي. فما من شخص أبعد من نوغوتشي عن الأداء المسرحي، وكان بصفة خاصة في الحياة العامة على هذا المنوال، ولكن في المرحلة التي يبوح بها بمشاعره الحقيقية كما يفعل الآن بشكل حميمي خاص، كان على ما يبدو أن قلبه يطفو عليه خيال مشاعر بطولية عتيقة. كانت تأسره على العكس روح الأشعار الصينية القديمة عندما يعتقد أن تلك حقيقة قلبه ومشاعره العارية. عندما سمع يامازاكي بجواره كلمات نوغوتشي التالية، طفَا على ذهنه قصيدة الشاعر الصيني طاو يوان مينغ بعنوان «قاموس العودة للديار» أو قصيدة الشاعر بو جويي بعنوان «٤٥».

لم يكن يتحمل عدم تَذكُّر بيت الشعر الذي يقول:

«لربما في الربيع القادم أبني
كوخًا من القش بسفح
جبلٍ يشبه جبلَ لوشان.»

ولكن كلمات نوغوتشي كانت في الحقيقة أكثر ابتذالًا. قال وهو يتجنب النظر إلى عيني كازو بنبرة تلعثم متخشبة:

«سأعتزل العمل السياسي. لن أعمل بالسياسة ثانية فيما بقي من حياتي. كنت أملك العديد من المثاليات، ولكن كان ذلك بعد أن أحقق الفوز. لقد أتعبتكِ معي كثيرًا. أتعبتكِ معي حقًّا، ولكن علينا أن نعيش معًا في تواضُع فقط على مرتَّب التقاعد في ركن من العالم. دَعِينَا نعيش جَدًّا وجَدَّة كَبرَا في السن.»

أجابت كازو بالإيجاب قائلة: «نعم» بشكل معتذر وهي تنظر لأسفل كما هي وقد تدَّلى رأسها بعمق.

تعجَّب يامازاكي من حالته تلك التي تخشَّبَت. كان دائمًا ثمة شيء مريب في التأثر العنيف لكازو. تلك القوة الحيوية التي لا تعرف التوقف في مكان واحد، تتصل من هنا إلى هناك، الحزن يصبح زُنبُركًا لفرحة لا يمكن توقُّعها، وكذلك تصبح تلك الفرحة نبوءة لليأس. كانت هيئة كازو المنكفئة على نفسها تمتلئ بكرب وغم، وتُظهر خلفيتها الباكية ذلك حزامًا بتطريز زهرة جرس صينية حانية، ولكنه يُعطي كذلك شعورًا يشبه هواءً ساخنًا مظلمًا يندفع أحيانًا من جسم كازو التي يُفترض أنها أومأت بتلقائية.

وعندما حان رحيل يامازاكي، شكره نوغوتشي بعناية، وقال إنه يستأذن؛ لأنه مرهق حقًّا. وخرجت كازو لوداعه حتى المدخل وهي تمسح دموعها.

انعطفا عند الممر، وبدَا المدخل أمامهما. جذبت كازو طرف بذلة يامازاكي لتُوقِفه. تحت الإضاءة المعتمة لمصباح الممر، تألَّقَت عيناها اللتان كانتا تبكيان حتى وقت قليلًا مضى في حيوية. بعد أن مسحت أغلب دموعها دون أن تهتم بانهيار مساحيق وجهها، امتزج ظِل الإضاءة المتدلي تحت العينين وتحت الأنف مع خطوط مسحوق الوجه الأبيض الذي سقط منهارًا، مما أعطى للوجه شكلًا غريبًا مثل وجوه ممثلي الكابوكي. رغم عدم تغير ملامح وجهها إلا أنه بدَا وكأنه من فصيلة السِّنَورِيَّات التي على وشك الانقضاض على فريستها من خلال الأسنان اللامعة عند طرف الفم المفتوح قليلًا، وأشعة العين البراقة. ثم تردد في رهبة صدى صوتها الخافت خفوتًا شديدًا.

«تبا لهم، لقد هزمني رئيس الوزراء ساييكي، وغينكي ناغاياما بالمال والشائعات الزائفة. بالإضافة إلى توبيتا الحقير! إنني أريد قتْلَه. إنني أريد قتلهم جميعًا! اسمع يا سيد يامازاكي! أما من وسيلة الآن لإسقاط توبيتا في الوحل؟ ألا تملك ما يمكن أن يوقعه في أزمة؟ لا بد وأن لديه الكثير من الأعمال المنافية للقانون. أما من وسيلة ننتقم بها منه؟ يُفترض أنك أنت الوحيد القادر على ذلك … بل هذا هو واجبك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤