الفصل السادس عشر

أوركيد/برتقال/غرفة النوم

يميل الأشخاص قَليلو الكلام — ونوغوتشي منهم — إلى إعطاء أهمية قصوى للكلمة التي يقولها مرة. إن كانت عهدًا على نفسه فقط فلا مناحة، ولكنه لا يرتاب أن الآخرين كذلك سينفذون كلمته. كان يفترض أن ما فكر في أنه يجب أن يحدث ونطق به من الطبيعي أن يجده قد حدث. ولذلك عندما قرَّر في ليلة هزيمته، أن هذه المرة بالذات سيعيشان حياة «جَد وجَدَّة» متواضعة فقط على مُرتَّب التقاعد، وبعد أن نطق بذلك، فقد ظن نوغوتشي أن تلك هي نية كازو بالضبط.

ومن المؤكَّد أن كازو قالت وقتها «نعم»، ولكن أثناء انشغالها من صباح اليوم التالي في ترتيب ما بعد الهزيمة ودورانها لتقديم الشكر للمؤيِّدِين، انتبهت إلى الظلام والثقل اللذين يتضمنان في كلمة واحدة محتواها «نعم» واللذَين لا يمكن التعبير عنهما بالكلمات. كانت تلك علامة على الموافَقة على الدفن معه في نفس القبر. وكانت تلك رغبة كازو من البداية. ولكن تلك الكلمة لم تكن إلا الموافقة على الطريق الضيقة المليئة بالعشب الرطب والمؤدية مباشرة إلى القبر.

كان ما زال هناك العديد من الأمور التي ينشغلان بها. فقد بدأت انتخابات مجلس المستشارِين في البرلمان، وطُلب من نوغوتشي وكذلك من كازو إلقاء خطب لتأييد المرشَّحِين. وشعر الاثنان بلذة الكرم المشرق في مساعدة الآخَرِين. وقد أنتج المزاح الذي امتازت به خطب نوغوتشي سعة في خطب كازو مما جعل عمَلَهما أفضل مما كانا عليه عندما يخطبان في الجماهير من أجلِهِما شخصيًّا. وفي كل مرة يتناولان فيها طعام العشاء كان الزوجان يتبادلان الفخر برد فعل المستمعِين لخطبتهما في ذلك اليوم وهو أمر لم يحدث غالبًا أثناء نشاطهما في الدعاية الانتخابية له.

لقد كانت طريقة تفكير نوغوتشي التي يفضلها في الآونة الأخيرة هي أنه اكتشف سعادة خالصة هادئة بديلًا عن فقدانه كل ما يمكن فَقْدُه مادِّيًّا واجتماعيًّا. كان ذلك شعورًا نفسيًّا بسيطًا وشاعريًّا للغاية، وربما كان طبيعيًّا بالنسبة إلى سن نوغوتشي، ولكنه لم يكن طبيعيًّا البتة بالنسبة إلى سن كازو. ليس هذا فقط، بل لقد كان نوغوتشي يبالغ في هذا الشعور من وقت لآخر. في أحد الأيام، عند عودته من المقر الرئيسي لحزب الإصلاح، اشترى أصيص زرع به زهرة الدندربيون.

قالت كازو التي خرجت لاستقباله:

«يا للعجب أتحمل بنفسك أصيص الزرع؟ إن كان بائع الورود يرفض توصيلها بنفسه لو كنت اتصلت بالهاتف لأرسلتُ إحدى الخادمات تحملها حتى هنا.»

كانت نبرة الشكوى في الكلمات التي قالتها قبل أن تتعرف جيدًا على نوع الزهرة، أكثر وضوحًا من الحنان، مما جعل نوغوتشي يستاء فجأة. وبعد أن حملت كازو الأصيص عرفت الزهرة لأول مرة. كانت تلك الزهرة التي شرحَها لها نوغوتشي باستفاضة عندما كانا يتناولان طعام الغداء في مطعم «سيه يوكِن».

ولكن هذا الاكتشاف أعطى كازو شعورًا معقَّدًا. لقد أثر عاطفيًّا على كازو بعمق إظهاره لما في قلبه بارتدائه البدلة التي صنعَتها له كازو يوم التصويت على الانتخابات. ولكن لم تصبح زهرة السحلبية هذه المرة التأثر الثاني؛ وذلك لأن كازو شعرت هذه المرة أن يد العجوز الذابلة بتلك الخدعة التي تحاول بها جذب كازو تجاهها، تحاول عنوة أن تربط بين زهرة السحلبية الأوربية التي صُبغت باللون الأحمر القاني، الزهرة المجففة التي شحب لونها في الذاكرة، وتلك الزهرة اليانعة من نفس النوع التي أمام عينها. واعتقدَت كازو أن مغازَلة هذا العجوز المعجَب بنفسه تلك تَربِط ذكريات الماضي بسهولة مع المستقبَل، وتضع السحلبية الذابلة التي في الذاكرة مع السحلبية الحية في صف واحد، ثم تحاول بتلك الطريقة حبس كازو بوضعها داخل إكليل زهور شنيع مضفر بعناية بالغة.

ظلت كازو لعدة ساعات تتظاهر بعدم الاهتمام مع إيقاظها لحاسة الحذر، ولكنها لم تنسَ أن تقول وهي تدخل غرفة النوم ما يلي:

«تلك الزهرة، ماذا كان اسمها؟ لقد ذكرتَ لي اسمها في مطعم سيه يوكِن أليس كذلك؟»

بعد أن توقَّف السعال لفترة قبل خلوده للنوم، أحدث نوغوتشي صوتًا ضخمًا وجافًّا وهو يتقلَّب بشكل كبير على جنبه داخل الفراش المصنوع من الكتان، وقالت الرأس ذات الشعر الأبيض التي أَوْلَت قفاها تجاه كازو بمشاعر منزعجة:

«الدندربيون.»

•••

جاء شهر سبتمبر.

لأول مرة تستدعي كازو يامازاكي في الخارج. وضربَت له موعدًا في محل «سينبكيا» المتخصِّص في الفواكه في البلوك الثامن من حي غينزا.

مشَت كازو في صخب وضوضاء حي غينزا بعد غياب مرتدية كيمونو من حرير رقيق بطراز سامكومون. يمشي الشباب الذين عادوا لِتوِّهم من المصايف ببشرهم التي اسمرَّت من الشمس في جماعات. تذكَّرَت كازو شعور الإثارة غير معلوم السبب عندما كانت تنظر في السابق من نافذة قاعة الطابق الخامس لأسفل لسكان حي غينزا. ولكن الجموع الآن مجرد جموع ليس بينهم وبين كازو أية علاقة. ما من أحد تعرَّف عليها رغم تلك الخطب العديدة التي قامت بها في الأماكن العامة.

«هؤلاء من ذهبوا إلى المصيف أثناء ما كان العرق يسيل مني أنهارًا في الانتخابات.»

مع إنها فكَّرت هكذا إلا أن ذلك لم يمنعها من الإحساس أن كل جهودها كانت بلا جدوى، وأنها منفصِلة عن الجماهير. يسير الناس كل على حِدة في الاتجاه الذي يحلو له وسط أشعة الشمس الحارة بملابسهم الزاهية، وقد فُقِد تمامًا التواصل المتبادل بينهم.

أخيرًا وصلَت كازو إلى المحل الذي وضعته هدفًا لسيرها، ونظرت إلى صفوف الفواكه الاستوائية النادرة وأوراق نباتات الزينة البراقة. وعندها نظرت إليها إحدى السيدات متوسِّطة العمر ترتدي بذلة بيضاء وقبَّعة بيضاء. ثَبَّتت كازو كذلك نظرها على ذلك الوجه لفترة. لقد رأت من قبل تلك الحواجب الرفيعة المرسومة. أجل، إنها مدام تاماكي.

بعد تحية الغياب الطويل قالت مدام تاماكي ما يلي على الفور:

«أعتذر لك عن الإزعاج الذي سبَّبْناه لكم في تلك المرة.»

سمعَت كازو ذلك كأنه تعبير عن كراهية عميقة الجذور. كان الاثنان يقفان أمام رفوف برتقال سانكيست، وكانت الأرملة تتحدث وهي تفرد مرة بعد مرة ورق التغليف الأحمر المطبوع عليه حروف دقيقة باللغة الإنجليزية، وتختبر بيدها الفاكهة التي تنوي شراءها.

«هل ذهبتِ إلى مكان ما هذا الصيف؟»

– «لا.»

أجابت كازو بهذا الشكل في قليل من الغضب.

«لقد عدتُ أول أمس من كارويزاوا. إن طوكيو ما زالت حارة.»

– «حقًّا إن الحر ما زال متبقيًا.»

وعند هذا الحد أخيرًا انتبهت مدام تاماكي إلى معنى غضب كازو.

«آه، وقت الانتخابات كنتُ في طوكيو. بالطبع أعطيتُ صوتي للسيد نوغوتشي، إن هزيمته أمر مؤسِف حقًّا. لقد أسفتُ له كما لو أنها هزيمة شخصية لي أنا.»

– «أشكرك على ذلك كثيرًا.»

كان من الواضح بشدة أن كازو تكذب في التعبير عن شكرها هذا. أخيرًا اختارت مدام تاماكي ثلاث برتقالات.

«لقد طال الغلاء حاليًّا حتى أسعار البرتقال. رغم أن هذا يعتبر في أمريكا مجرد قمامة.»

مع قول مدام تاماكي ذلك أظهرَت شجاعة معاكِسة للعجرفة وتعمَّدَت أن تطلب من البائعة أن تُغلِّف لها ثلاث برتقالات فقط أمام أعين كازو. نظرَت كازو داخل المحل الخالي من الزبائن مخافة أن يكون يامازاكي قد أتى مبكرًا عن الموعد. ولكن لم تجد إلا عدة مراوح دائرة وقد وضعت فوق عدد من الطاولات.

«لقد كان زوجي يحب البرتقال ولذلك أضعه من وقت لآخر أمام مذبح العائلة في البيت. بمناسبة ذكر زوجي، لقد كان هو الملاك الذي ربط بينك وبين السيد نوغوتشي مع أنه مات دون أن يعرف.»

– «يجب عليَّ أنا أيضًا أن أقدِّم لروحه عطايا من البرتقال.»

– «لم أكن أقصد ذلك المعنى وأنا أذكر هذا الأمر.»

لم تعرف كازو لماذا ظهرت وقتها بتلك الوقاحة. ولكن كانت كازو على أي حال دعت فجأة البائعة بمِرْوحتها المصنوعة من خشب الصندل، وأمرَتها أن تصنع صندوقًا للهدايا يحتوي على دستين من البرتقال. تغير لون وجه مدام تاماكي، وبعيون متشنِّجة مسحَت العرق من على خدودها بمنديلها المطوِي المطرَّز الحواف، وظلَّت تنظر بغِل إلى كازو.

رصَّت البائعة دستين من البرتقال في صندوق كبير وزيَّنَته بورق تغليف جميل ورابطة بلون وردي وأثناء ذلك خيَّم الصمت على المرأتين. كانت كازو تتعامل مع المروحة بتأنٍّ وهي تشم رائحة الفاكهة الغنية التي طغت على رائحة خشب الصندل، تتذوَّق ذلك الصمت وهي تراه منعشًا ممتعًا. كانت كازو تَكرَه المرأة التي أمامها من أعماق قلبها. تكرهها بكل قواها. وهكذا أصبحت متعة ذلك الصمت طاردة للقلق طردًا لا مثيل مؤخرًا.

وبدَت مدام تاماكي وكأنها جاسوس محاصَر. وبدَت حساباتها واضحة تمامًا لكازو مما أمتع الأخيرة أكثر وأكثر. في حالة انتهاء إعداد صندوق الهدية كانت مدام تاماكي تفكِّر لو كانت تنوي إرساله لشخص آخر غيرها، فهي سوف تشعر بالخجل لاستباقها الأحداث، وفي حالة أنها تنوي تقديمها كعطية لروح السفير تاماكي فسيجب عليها الخجل أكثر، كانت تلك حساباتها. وهنا لم تستطع النظر مباشرة إلى البائعة وهي تبالغ في ربط الهدية.

وأخيرًا تلاقَت عينَا مدام تاماكي مع عيني كازو. كانت عينَا مدام تاماكي تقول «شبع بعد جوع!» بينما كانت عينا كازو تقول: «أيتها الكاذبة! من المؤكَّد أن تلك المرأة ستعود إلى منزلها لتأكل البرتقالات الثلاث واحدة بعد أخرى وهي في غاية البخل عليها.»

«حسنًا، أستأذن في الرحيل. لقد سَعدتُ حقًّا بلقائك. من المؤكَّد أنه سيكون لديكما وقت فراغ فأرجو أن تأتي مع السيد زوجك لزيارتي.»

– «إلى اللقاء. تلك ستكون حملًا زائدًا عليكِ؛ لذا سأوصي بتوصيلها لبيتك. أرجو منك وضعها عطايا لزوجك الراحل.»

أشارت كازو بالمروحة إلى صندوق البرتقال الذي كان قد اكتمل تغليفه لِتوِّه.

«ماذا؟ … ماذا قلتِ؟ … كلا، حسنًا.»

نثرت مدام تاماكي همسات مبهمة بلا معنى ثم تأبَّطَت اللفة الصغيرة وولَّت هاربة إلى الطريق الذي لمع في شمس العصاري. بقي منظر سِن كعب الحذاء الأبيض من الخلف في مُقلتي كازو مما زاد من متعتها أكثر وأكثر. بدَت لها مثل ثعلب أبيض هارب.

دخل يامازاكي بدلًا منها وهو بنفس القلق والتملْمُل الذي كان عليه وقت الانتخابات.

«ما هذا التأخير؟»

قالت كازو ذلك وهي تسير تجاه الردهة بصوت ممتلئ بالمتعة من أعماق قلبها.

هدأت جالسة على المقعد ثم طلبت شرابًا مثلجًا. سألتها البائعة عن عنوان إرسال الصندوق. قالت لها كازو اسم تاماكي وجعلَتها تحضر دليل الهاتف وتبحث عن العنوان.

قال يامازاكي لها:

«يُفترض أن العلاقات الصاخبة ممنوعة، أليس كذلك؟»

– «لا تقل ذلك أرجوك. فهذا أيضًا ترويح عن النفس. فلقد أكثرت من قول: «من فضلكم! أرجوكم» للناس.»

ولأن يامازاكي لم يستطع أن يفهم معنى ذلك أظهر على وجهه ملامح مبهَمة ثم غطاه بمنشفة اليد.

سألته كازو بشكل غير متعمد:

«ماذا حدث لمطعم ستسوغوان؟»

– «الأمر معقد.»

– «أما من وسيلة للحيلولة دون تقسيمه؟»

– «على الأرجح لا مَفرَّ؛ فالأمر يتغير كثيرًا بعد مبلغ الأربعين أو الخمسين مليون ين … لقد استشرتُ عددًا كبير من شركات العقارات، وكان خلاصة رأيهم جميعًا هي نفسها. إذا تم البيع على هذا النوع فأقصى رقم هو مائة مليون وحتى مع هذا لن نجد مشترِيًا بسهولة. بسبب تلك الحديقة وذلك المعمار المهيب.»

– «هل تعني أن ذلك يشمل المنقولات؟»

– «بالتأكيد. ولكن إذا تم تقسيمها وبيعها قطعة بقطعة بمساحة خمسمائة أو ألف متر مربع فالمكان في منطقة متميِّزة وعلى أقل تقدير يمكن تحصيل مائة وأربعين أو مائة وخمسين مليونًا.»

– «إذن أنت رأيك النهائي بيعها مقسمة؟»

– «ما من حل آخر للأسف الشديد.»

– «يبدو أننا لن نستطيع حتى قول للأسف الشديد أو غيره.»

– «لأن المباني والحديقة من درجة التراث الوطني ولكن.»

تابع يامازاكي كلامه بعد أن ألقى نظرة على وجه كازو:

– «أجل هناك فكرة! ألا يمكن إعادة افتتاح المطعم مرة أخرى؟»

– «هذا أمر مستحيل. فالمبنى والحديقة موضوعان قيد الرهن ثلاث مرات بإجمالي قروض تصل إلى خمسة وثمانين مليونًا، وثمة قرض بسبعة ملايين برهن كل المنقولات … لذلك هو مبلغ لا يمكن تسديده بسهولة حتى مع افتراض أن المطعم أعاد شعبيته ثانية. لم يمر على إغلاق المطعم إلا أربعة أشهر فقط، ولكن الناس الآن تنسى سريعًا، وفوق ذلك هناك ما لم أحدثك عنه وهو أن أثناء غيابي اختُلِس من المطعم ثلاثة ملايين ين. إن المثل الذي يقول نحلة تقرص وجهًا باكيًا يصف وضعي هذا … على أي حال إعادة الافتتاح أمر مستحيل. ولقد تعهدتُ تعهدًا صريحًا لنوغوتشي ببيع ستسوغوان. وكما ترى طلبتُ منكَ السعي من أجل بيعه.»

لم يكن لدى يامازاكي أية فرصة للنقض أو الاعتراض بسبب نبرة حديثها المهيبة.

سألها يامازاكي بعد أن شرب عصير العنب المثلج دفعة واحدة:

«لماذا طلبتِ لقائي اليوم؟»

– «ما من شيء محدد. فقد كنت أريد سماع رأيك في بيع ستسوغوان بالتقسيم، وكذلك للترويح عن النفس قليلًا، فكرتُ أن نذهب معًا لمشاهدة عرض سينمائي.»

– «هل الأستاذ نوغوتشي في البيت؟»

– «لا. لقد خرج اليوم إلى اجتماع في مدرسة ثانوية أو شيء من هذا القبيل. فقد كره ألا يذهب لكيلا يعتقد أحد أنه يخجل من سقوطه في الانتخابات … وأنا كذلك أخبرته أن ثمة حفل فنون تقليدية لصديقة قديمة، وأخذتُ منه الإذن بالخروج. وللحذر سوف أقوم بإرسال هدية باسمي إلى غرفة استراحتها في الحفل.»

– «هل هذا هو البرتقال؟»

– «نعم هو كذلك.»

– «أنت يا سيدتي لا يفلت منك خطأ.»

نظر الاثنان لبعضهما البعض وضحِكَا. ثم بعد ذلك عادا إلى الحديث عن الأمور الإدارية، وتحول الحديث إلى تصفية الأعمال التي حطمت قلب نوغوتشي منذ الشهر الماضي. لقد قرر نوغوتشي بيع بيته وكل أملاكه المنقولة تمامًا لتسديد ديونه، والانتقال إلى منزل صغير بالإيجار، وقرر بالفعل بيتًا في مكان عميق الحشائش في منطقة كوغانيه، ولكن ثروة نوغوتشي المنقولة لا يمكن الاستهانة بها، ومن المفترض أن تُباع مع البيت بمبلغ يصل إلى خمسة أو ستة عشر مليونًا. ثم تقرر أن يكون مطعم ستسوغوان المغلق حاليًّا هو مكان مزاد بيع المنقولات، وتم بالفعل نقل الكتب الغربية النادرة والتحف واللوحات والمخطوطات إلى ستسوغوان.

«المزاد بعد غد، أليس كذلك؟»

– «بلى. نرجو ألا يكون يومًا ممطرًا.»

– «لماذا؟»

– «لأنه يجب استخدام الحديقة كذلك. أنت يا سيد يامازاكي تعرف ذلك.»

طلب الاثنان النسخة المسائية من الجرائد واختارا الفيلم الذي يجب أن يذهبا لمشاهدته. المشاهدة هي للترويح عن النفس؛ لذا يجب أن يكون فيلمًا هزليًّا ممتعًا. ولكن رغم قول ذلك فقد كانت كازو تكره الأفلام الكوميدية.

وضعَت كازو وجهها فوق الجريدة المسائية التي بُسطت أمامهما، حتى كادت خدودهما تتلامس، وكان يامازاكي يتأمل تحركات أصبعها الرقيق الأبيض الذي ترتدي فيه الخاتم تتابع الحروف المطبوعة بمشاعر ثقيلة وكئيبة، وهو يسأل نفسه: «تُرى ما الذي أمثله أنا بالنسبة إلى تلك المرأة؟» إن كازو أمام الرجل الذي لا تحبه فقط تصبح امرأة لعوبًا مشاعرها طبيعية، مسترخية في راحة، وتلقائية وأنانية بل لدرجة أن تفوح منها رائحة الريف البكر، ولكن أمام رجل تحبه، تختفي «الطبيعة التلقائية» منها. إن يامازاكي يرى بالتأكيد كازو التي لا يعرفها نوغوتشي. ولكن ما من سبب يجعل يامازاكي يشعر أن ذلك امتياز محمود.

… وأثناء ذلك، تعب الاثنان من عملية اختيار الفيلم.

«لقد ذهبت رغبتي في الذهاب إلى السينما بالفعل.»

– «ما من سبب للذهاب بدون الرغبة في ذلك. في الأغلب بهذا الحال الترويح عن النفس عنوة لن يؤدي الغرض منه. فالآن الوضع أفضل، لأن الانشغال يمكن أن يُلهي، ولكن قريبًا سيأتي فراغ التي لن ينفع معه شيء. الفراغ الذي يجعلك تكرهين حتى تحريك أصبع واحد من أصابعك.»

هكذا قال خبير الانتخابات.

•••

انعقد مزاد بيع مقتنيات بيت نوغوتشي بعد يومين منذ الصباح في ستسوغوان. قام نوغوتشي ببيع كل شيء وأي شيء فلم يُبقِ على شيء.

رُصَّ الأثاث الضخم فوق حشائش الحديقة بعد فرش سجادة من اللَّبَّاد فوق الحشائش. كانت قوة أشعة الشمس ذلك اليوم بارزة، وكأن الصيف قد عاد مرة أخرى. جَذَب زوجَا الأسِرَّة المتماثلان فوق العشب أنظار الناس. كانَا السريرَين اللذَين بات عليهما الزوجان نوغوتشي في الليلة السابقة، يغطيهما مَفرَشَا سرير مصنوعان من قماش دمشقي فاخر، ولكن كانت نظرات الزبائن المريبة تعطيهما شعورًا مأساويًّا.

كان زَوجَا الأسِرَّة منفصلَيْن عن باقي الأثاث ووُضِعَا في المنتصف. وكان بريق القماش الدمشقي مريبًا للغاية وقد انصبَّت عليه أشعة شمس بداية الخريف القوية. وبدت السماء الزرقاء من بين قمم أشجار الصنوبر والكستناء والميس الصيني العالية، ولكن كان زَوجَا الأسِرَّة اللذان أَخذَا حيِّزا معتبرًا من مساحة المكان وسط الحديقة التي امتدَّت فيها الحشائش والأعشاب لدرجة موحشة؛ مثار اهتمام الناس ونظراتهم.

قال أحد الزبائن بعفوية:

«إنه مفيد جدًّا. كان يجب أن يوضع في هذا المكان على الدوام.»

وعندما حل الغروب سقطَت ظلال أغصان الأشجار فوق السريرين وأحاطت بهما أصوات حشرات الزيز الليلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤