الفصل التاسع عشر

قبل الوليمة

اتَّفق نوغوتشي وكازو على الطلاق وإزالة اسم عائلة نوغوتشي من اسمها. ثم جمعَت كازو أغراضها وعادَت إلى ستسوغوان. وعندما انتشر ذلك الخبر بين الناس، توافَد عمال وموظفو ستسوغوان الذين تشتَّتوا بعد إغلاقه هنا وهناك، واحدًا بعد الآخر يطلبون العودة للعمل مما جعل كازو تذرف دموعها فرحًا.

كان المطعم من الداخل في فوضى عارمة، ولكن كانت الحديقة الأكثر بشاعة. اصطحَب الجنائني الأصلي عددًا من تلاميذه الشباب، وطلب منها أن يُقدِّموا لها خدمة مجانية على سبيل الهدية بإعادة افتتاح المطعم. وتعهَّد لها أن يجعلوا الحديقة كما كانت عليه في السابق بأسرع وقت.

كلما عثرت كازو على وقت فارغ كانت تذهب إلى الحديقة وتفرح بتأمُّلِها في آخر أيام عمل الجنائني وهو يقطع الحشائش التي طالت ويُقلِّم أغصان الأشجار. ينعق البوم في المساء، وفي النهار يُرى الصقر الذي اعتاد على العيش بين أغصان شجر الصنوبر في صحة جيدة. وعندما تُقطع الحشائش وتقع، تهرب طيور الحجل مُتَّجِهة إلى عمق الحديقة. أنبتَت ثمار شجر الزعرور البنفسجية اللون التي أطالت أغصانها، ولكن لا تزال زهورها الصيفية البيضاء الذابلة متبقِّيًا بعضها، ويبقى عطرها وكأنه كان وهمًا. كانت أوراق شجر الأزالية في ذروة احمرارها. وأعطى ذلك ظلًّا خلابًا لمدخل بوابة تشوجاكو العتيقة.

لم تعتقد كازو وهي تتأمَّل جمال الحديقة يعود تدريجيًّا مع الأيام، أن الحديقة التي برزت وكأنها كتابة سرية تُستعاد مجددًا بالحرارة، هي نفسها التي كانت في الماضي. تبدو الحديقة وكأنها شبيهة بما كانت عليه في الماضي، ولكنها تختَلِف عن تلك الحديقة التي كانت كازو تحفظها في قلبها مثل خارطة سرية لكنز وتستعيدها من الذاكرة وتمسكها في يديها. لقد فُقدت بالفعل تلك الحديقة الغناء الباهرة التي كانت تعرف كل ركن من أركانها وكل جزء منها معرفة تامة. لقد فُقد التناغم الذي كان متناسقًا في روعة كاملة مع مشاعر قلب كازو حيث كانت كل شجرة وكل صخرة في المكان الذي يجب أن تكون فيه.

قُطِعت الحشائش وسُوِّيت بعضها مع بعض بارتفاع منخفِض. وقُلمت أغصان الأشجار التي كانت قد نبَتَت بعشوائية، لتصبح السماء أكثر إشراقًا. وبالتزامن مع ذلك، برز وجه الحديقة تدريجيًّا كأنه يستيقظ من نومه ببطء، يستيقظ من حلم غامض، فبدَا جميلًا. ولكن لم تكن ملامح ذلك الوجه من العالم الذي تعرفه هي بالفعل حتى وإن كانت شبيهة به.

في أحد الأيام أمطَرَت السماء فأخذ الجنائني راحة من العمل، وعند الغروب انزاحت الغيوم، وتلألأ ماء البِركة والجزيرة التي داخلها والخيزران الكثيف المزروع في تلك الجزيرة بأشعة الشمس. وتناثرت بشدة أشعة قلِقَة حول البِركة، وأخذَت كازو تتأمَّل الحديقة التي أظهرت فرحة غريبة لم تعهدها كازو من قبل. وكذلك في صباح يوم من الأيام، غطَّى الضباب الحديقة، وبدَا الصنوبر الذي بسط أغصانه وسط الضباب وكأنه محاط بذاكرة غير سارة.

في ذلك الوقت وصل رد يامازاكي على الرسالة الطويلة التي كتبتها كازو له.

خرجت كازو إلى الحديقة في الصباح بنيَّة أن تقرأ الرد في الحديقة الدافئة التي تبقى منها بقايا من نهايات الخريف.

تتألَّق البِركة الواقعة جنوب شرق الحديقة في ضوء الشمس، وتعلو خضرة بلون غامق رزين لشجرة شرابة الراعي عملاقة في المنتصف تحيط بها أشجار صنوبر وشوفان وبلوط ونبق مهيبة وعتيقة، وكأنها قمة حقيقية للغابة التي في الخلفية. كانت المشكاة الحجرية التي تُعَد النقطة المحورية للمنظر الواسع الممتد للنجيلة الخضراء هي الوحيدة التي استفادت أثناء إغلاق ستسوغوان، فنالت على العكس لونًا عتيقًا موحشًا ثم بعد أن قُصت الحشائش التي حولها بعناية كبيرة، أصبحت أكثر بروزًا وحيوية. كانت السماء صافية ذلك اليوم، ويظهر سحاب سِمْحَاقي من بين قمم الأشجار.

انتفَشَت الحديقة التي طُويت وصغرت جدًّا، مثل زهرة ورقية في ماء وأصبحت حديقة ضخمة غَناء مليئة بالألغاز والأحاجي السحرية. وتعيش في تلك الحديقة طيور ونباتات طبيعية وفطرية في هدوء، وبها الكثير مما لا تعرفه كازو، فاليوم مثلًا عادت من الحديقة ومعها نبات بري وتعتني به شيئًا فشيئًا ثم تطحنه في الهاون الصغير المخصص لطحن الأعشاب، … ثم تجرب أن تسحقها بين كفيها وبين أصابعها كما تفعل مع الأعشاب الطبية، ولا تنتهي المواد الأولية المجهولة والطازجة مما يُعطي كازو وفرة بلا حدود.

مشَت كازو وسط الخطوط المقلمة التي صنعتها أشعة الشمس المتسربة من بين أغصان الأشجار، وجلست على الأريكة التي في منتصف الطريق تقرأ رسالة يامازاكي.

•••

«شكرا لكِ على رسالتكِ لدعوتي وليمة الاحتفال بإعادة فتح ستسوغوان. ربما لا يحق لي أن أرسل إليك تهنئة بهذه المناسبة، ولكني سأترك للحظات موقفي وأعرب عن تهانِيَّ القلبية لكِ. وأنا أُقدِّر جيدًا عدم الحديث في رسالتك لي ولو قليلًا عن الحادث المحزن الذي حدث من فترة، بل تحدثتِ فقط عن مراحل ترتيبات الحديقة استعدادًا لإعادة افتتاح المطعم.

لقد تحطمتْ في الأعوام الأخيرة ثقتك في معرفتك بالبشر، وتبدَّل القلق براحة القلب، حصلتِ على معرفة أليمة جديدة بديلًا عن السعادة، وعندما حاولتِ الحب تعلمتِ التمييز، وإذا حاولتِ أن تبدئي تجدين النهاية، وعندما تعتقدين أنها النهاية تجدينها مجرد بداية، … وأنا أشعر تجاه نيلك قلقًا هادئًا الآن بعد تضحيتِك بالعديد من الأشياء بالاحترام والتقدير لكِ أكثر من التعاطف.

أفكرُ، أن تلك الانتخابات لو لم تكن حدثت، ربما كنتِ حصلتِ على السعادة، وربما أصبح نوغوتشي سعيدًا. ولكن إذا فكرتُ في الأمر الآن، فإن الانتخابات قضتْ تمامًا على السعادة الزائفة، وربما لا يمكن القول إن الانتخابات كانت أمرًا تعسًا بالمعني الحقيقي للكلمة خاصة في أنها جعلت كلًّا منكما يُظهر عُري الآخر. لقد تلطختُ في أوحال السياسة لعهد طويل من الزمن، بل ربما كنتُ على العكس أعشق تلك الأوحال، ولكن في السياسة تغسل عكارة الأوحال الإنسان، وينمي النفاق إنسانية المرء أكثر من الصدق المزعزع، وعلى العكس تُعيد الأعمال الشريرة في غفلة من الزمن للثقة الضعيفة قوتها، … بالضبط مثلما يُلقى بالملابس المغسولة داخل آلة التجفيف ذات قوة الطرد المركزي التي تفصل الماء، فلا يمكن رؤية القميص أو الملابس الداخلية التي ألقيتِ بها توًّا بسبب أنها وسط دوران شديد السرعة، والذي نطلق عليه نحن في أيامنا العادية إنسانية البشر، تختفي على الفور ولا يمكن رؤيتها في وسط دوامة الحياة، كنت أعشق ذلك التأثير شديد العنف. وهو أمر ليس بالضرورة تنقية أو تنظيفًا، ولكنها تجعلكِ تنسين ما يجب نسيانه، وتفقدين ما يجب فقدانه، إنها تؤدي بنا إلى نوع من السُّكرة غير العضوية. ولهذا كله لا أقدرُ على ترك العمل بالسياسة حتى نهاية عمري مَهما حدث لي من فشل ومَهما لاقيتُ من أهوال.

ولكنكِ أنتِ كما هو متوقَّع يجب عليكِ العودة إلى نشاطك الإنساني ودمائكِ الدافئة. وكذلك يجب على السيد نوغوتشي أن يعود إلى المثالية النبيلة والعدالة الجميلة. وسيبدو الكلام قاسيًا، ولكن عند النظر إلى الأمر بعين طرفٍ ثالث، فلقد استقر كلٌّ في موضعه اللائق به، وعاد كل طائر إلى عشه.

على ما يبدو أن شتاء هذا العام دافئ كثيرًا، ولكن أرجو منكِ الانتباه إلى صحتكِ. فأنت ستبدئين ذلك العمل المُضنِي بعد إرهاق شديد الوطء جسمانيًّا ونفسيًّا؛ لذا ربما تنسين نفسك بسبب الانشغال في العمل، ولكن أرجو منك أن تعتني بجسدكِ بقدر الإمكان.

حسنًا سيسعدني من كل قلبي أن أحضر ليلة حفل إعادة الافتتاح.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤