الفصل الثاني

نادي كاغِن

أبلغ أحد الوزراء كازو أنه يريد إقامة اجتماع نادي كاغِن الدوري هذا العام في مطعم ستسوغوان. وهو نادٍ من نوادي الطبقة العليا يضم سفراء كانوا متزامِنِين في فترة العمل في الماضي، ويقيمون اجتماعهم مرة واحدة في السابع من نوفمبر من كل عام. ولكنهم حتى ذلك الوقت لم يُسعفهم حَظُّهم بمكان جيد لإقامة الاجتماع؛ لذا قام الوزير بالتوسط لديها من أجل ذلك.

قال الوزير لها: «إنهم جميعًا من الطبقة العليا المثقَّفة الذين تَقاعَدوا عن العمل.» ثم أضاف: «ثمة شخص واحد فقط لا يقدر على التقاعد بأي حال. أنتِ أيضًا تعرفينه بلا شك. العجوز نوغوتشي. ذلك الرجل الشهير الذي شغل منصبًا وزارِيًّا في الماضي عدة مرات. هذا الرجل لسببٍ ما أصبح في فترة نائبًا برلمانيًّا لحزب الإصلاح، ولكنه هذه المرة خسر في الانتخابات.»

كان هذا أثناء حفل في الحديقة تحت رعاية ذلك الوزير؛ ولذا لم تستطع كازو معرفة تفاصيل أكثر من ذلك. في ذلك اليوم كانت حديقة ستسوغوان ممتلئة بعدد كبير من الأجانب رجالًا ونساءً، بما يشبه أن تُغِير أسراب من الطيور العملاقة المزعجة المتنوعة الألوان على الحديقة بديلًا عن مجموعات العصافير الرقيقة التي تأتي في المعتاد.

ومع اقتراب يوم السابع من نوفمبر، كانت كازو قد نَوَت على نية ما في قَلْبها. إذا كان الزبائن من هذا النوع، يجب أولًا أن تبدي احترامًا عميقًا لهم. فمن هو ملء السمع والبصر في المجتمَع الآن معتاد على المزاح السمج ويمكن أن يَتقبَّله بصدر رحب، وعلى العكس يمكن أن يعتبره شائقًا، ولكن بالنسبة إلى مَن كان في دائرة الضوء ثم تَقاعَد واعتزل العمل العام، ربما يكون نفس المزاح سببًا لجرح كرامته. ومن الأفضل عند صحبة هؤلاء العجائز الاقتصار على لعب دور المستمِع لهم، ثم مداهنتهم بحديث رقيق الحاشية يجعلهم يَظنُّون أن سُلطاتهم السابقة عادت لتتفتَّح زهورها من جديد في هذه الجلسة.

كانت قائمة طعام ستسوغوان في ذلك اليوم كما يلي:

الحساء:

رَوْب الصنوبر، طوفو فول الصويا بالسمسم، وحساء الميسو الأبيض.

الساشيمي:

شرائح السبيط الحي مع بقدونس صيني وخل الأترج.

الطبق الرئيس:

سالمون مع حساء القواقع الحمراء، وخل الأترج، والفلفل الأخضر الحلو.

المقبِّلات:

طائر سمان مشوي بالصوص، استاكوزا، محار، لفت مخلل مع جذور عرق السوس.

المسلوق:

بط بصوص النشا المحلَّى مع جذور البامبو.

السمك المطبوخ:

قطعتا شبوط ودنيس مشوي بالملح وخل الأترج.

الطبق الأخير:

كعكة بعجينة ذرة ونبات السرخس مع برقوق مخلل.

ارتدت كازو كيمونو من طراز إيدو بلون كُحْلِي ولفَّت حول خَصرها حزامًا عتيقًا مصنوعًا من قماش قرمزي بتصميم زهرة أقحوان ماسِيَّة الشكل وزَيَّنت ماسة سوداء كبيرة الحجم رباط الحزام القرمزي اللون. تجعل طريقة اختيار الكيمونو هكذا جسدها الوافر ممشوق القوام ويساعد في جَعْلِها تبدو نحيفة.

كان ذلك اليوم مُشْمسًا ودافئًا، وبعد غروب الشمس وقبل ظهور القمر في السماء أتى السيد يوكِن نوغوتشي وزير الخارجية الأسبق بمعية هيساتومو تاماكي سفير اليابان الأسبق في ألمانيا. مقارنة بتاماكي ذي الجسم الضخم المهيب، كان نوغوتشي نحيفًا وبَدا متواضع الهيئة نوعًا ما. لكن كانت عيناه تحت الشعر الفِضِّي حادَّتَين في صفاء، ووسط سُفراء اليابان السابقين في أوروبا الذين تَجمَّعوا زُرافات عَرفَت كازو سبب أنه الوحيد الذي لم يتقاعد من تألُّق عينيه تلك التي تبدو مثالية.

كان الحفل صاخبًا اجتماعيًّا، ولكن كانت الأحاديث التي تدور كلها تتعلق بالماضي. وكان تاماكي هو أكثرهم حديثًا.

أقيم الحفل في قاعة المكتبة المتوسِّطة بمبنى الضيافة، وكان تاماكي يجلس مستنِدًا على أحد الأعمدة على الحد الفاصل بين النافذة التي تُشبِه كأس الزهرة المصبوغة باللاكيه الأسود ولوحة الفاصل رائعة الجمال. كان القاطع به رسمة لزوجَي طاووس بألوان شديدة البَهْرَجة مع زهور الفاونيا البيضاء، ورُسم في الخلفية مياه جبلية على طراز لوحات جنوب الصين، في اندماج غريب مع طراز من عصر الإقطاعيين.

وكان تاماكي يرتدي ملابس مصنوعة في لندن، ويضع في جيب صدرية البذلة ساعة جيب بسلسلة ذهبية من النادر رؤيتها في الوقت الحاضر. فوالده الذي كان سفيرًا في ألمانيا كما المتوقَّع تَسلَّمها من إمبراطور ألمانيا القيصر فيلهام الثاني وكانت تلك الساعة كثيرًا ما تُسيِّر له الأمور الصعبة حتى في عصر ألمانيا الهتلرية.

كان تاماكي وسيمًا، بليغ اللغة فصيح اللسان، وكان دبلوماسيًّا من النبلاء يفخر بأنه على عِلم وافر بمعيشة وعواطف الطبقات الشعبية، ولكن اهتمامه الآن يَتخطَّى العصر الحاضر تمامًا. لم يمثل حفل استقبال يجتمع فيه خمسمائة أو ألف شخص، في ذهنه إلا بريقَ ثُريَّا في الماضي.

«آه كلما تذكرتُ الأمر أُصاب بالرعب. ولكنها في الواقع حكاية شائقة.» بهذا التقديم الخالي من المتعة قدَّم تاماكي لحكايته بطريقة الحاكم الإقطاعي. «لقد جذبني السيد ماتسوياما مستشار السفارة عنوة وجعلني أركب قطار الأنفاق معه؛ لأنني لم أركب قطارًا ولو مرة واحدة بعد أن أصبحت سفيرًا. كنا في العربة الثانية، لا بل كانت الثالثة من الخلف. وبعد أن رَكِبْنا، كان الازدحام قليلًا، وعندما نظرتُ أمامي، رأيتُ غورينغ.»

وعند هذا الحد نظر تاماكي لكي يرى ردَّ فعل المستمعِين، ولكنهم جميعًا وكأنهم سمعوا تلك الحكاية عشرات المرات، فلم يُبدِ أحد أي ردة فعل. ولكن كازو فقط قالت ما يلي موافِقة على كلامه:

«أليس ذلك رجلًا رفيع المنصب وقتها؟ لو قلنا اليابان فهو مثل كيوماسا كاتو. هل كان يركب قطار الأنفاق؟»

«بالطبع. إنه غورينغ الذي كان يسقط أي طائر في السماء. كان يركب قطار الأنفاق مُتنكِّرًا في ملابس العمال الواسعة، ويلف ذراعيه حول خصر فتاة صغيرة الحجم جميلة جمالًا يبهر الأنظار في السادسة أو السابعة عشرة من العمر. لقد اعتقدتُ أنني أخطأت النظر فَدلكتُ عيني ولكنه كان غورينغ ذاته بلا جدال. فلقد كنتُ أراه كل يوم تقريبًا في الحفلات الرسمية. وعلى العكس أنا الذي تَوتَّرتُ وكان هو رابط الجأش. كانت المرأة على ما أعتقد بائعة هوى، ولكنني للأسف لستُ خبيرًا في هذا المجال.»

«لَكنَّك لا تبدو كما تقول.»

«في الواقع كانت فتاة حسنة الوجه، ولكن كانت مساحيق الوجه كثيفة وخاصة أحمر الشفاه، وكان العامِل غورينغ يعبث بشحمة أذنها ويُداعبها في ظهرها وكأن شيئًا لم يكن. وعندما نظرتُ بجانبي رأيتُ عيني ماتسوياما على وسعهما من الدهشة، ولكن بعد محطتين تقريبًا نزل غورينغ والفتاة … حسنًا، لم يعد أمامنا نحن الذين بَقينا شيء. وبعد ذلك التصقَتْ برأسي صورة غورينغ في قطار الأنفاق ولم تبرح من ذهني. ولكن في الليلة التالية كان ثمة دعوة لحفل يقيمه غورينغ. اقتربتُ أنا وماتسوياما من بعضنا البعض وأخذْنَا نتأمَّل. كما هو متوقَّع إنه هو الرجل الذي رأيناه في اليوم السابق دون أي اختلاف.» وأخيرًا لم أعد أستطيع كبح جماح الفضول، ونسيتُ دون وعي مكانتي كسفير، فوجهت إليه السؤال التالي:

«لقد ركبنا أمس قطار الأنفاق من أجل التعرف على أحوال الشعب. وأعتقد أنها وسيلة ذات فائدة كبيرة، فهل تفعلون ذلك أحيانًا؟»

وعندها ابتسم غورينغ ابتسامة خفيفة وأجاب بردٍّ ذي معنًى عميق.

«نحن بالفعل مع الشعب دائمًا. نحن جزء من الشعب؛ ولذا ما من ضرورة لي لكي أركب قطار الأنفاق.»

قال السفير السابق تاماكي رد غورينغ ذلك بلغة ألمانية موجزة، ثم أتبعها على الفور بترجمتها باللغة اليابانية.

كان السفراء خلافًا لما يُشاع غير دبلوماسِيِّين بالمرة ولا يُنصِتون لأحاديث الآخرِين. ولقد انتظر السفير السابق لدى إسبانيا انتهاء حديث السفير تاماكي وكأنه لا يصبر على الانتظار، فبدأ يحكي عن حياته في عاصمة جمهورية الدومينيكان الجميلة سانت دومينغو عندما كان قُنصلًا فيها. طريق التنزُّه تحت غابات النخيل المحاذية لشاطئ البحر، منظر غروب البحر الكاريبي الذي يشبه الاحتراق، بشرة بنات الجزيرة الهجين السمراء التي تعكس شمس الغروب … نسي العجوز نفسه وأخذ يصف تلك الأشياء بالتفاصيل، ولكن سَحب منه السفير تاماكي الثَّرثار البساط ووجَّه دَفَّة الحديث إلى لقائه مع ديترتش في شبابه. فبالنسبة إلى تاماكي ما من قيمة لبنت جميلة مجهولة، وأن ثمة ضرورة لأسماء العظماء والأسماء التي تَلْمَع مثل الذهب لكي تُجمِّل الحديث.

كانت كازو تَستَاء من تَطايُر الكلمات الأجنبية المتنوعة في حديث الضيوف وبصفة خاصة قولهم الجملة الأهم من حديثهم الفاحش بلغة أجنبية دائمًا، ولكنها مع ذلك تَولَّد عندها فضول تجاه بيئة الدبلوماسيِّين الذين لا يظهرون في مطعمها إلا نادرًا. فقد كان الجميع بالفعل «مُتقاعِدِين من الطبقة العليا في المجتمع»، وحتى وإن كانوا فقراء اليوم إلا أنهم من العُصبة التي لمست بأصابعها المجد الحقيقي في الماضي ولو لمرة. والمحزِن أن تلك الذاكرة تستمر طوال العمر تصبغ أصابعهم بالتبر.

كان يوكِن نوغوتشي فقط هو الذي يلفت الأنظار من بينهم. كان في وجهه الرجولي براءة تلقائية لا تخبو دائمًا، وما مِن تفاخُر أو مَيل نحو الأناقة في مَظهره بخلاف الآخرِين. يَبرُز فوق عينيه الحادَّتَين الصافيتين حاجبان كأنهما بَقايا اندفاع ريشة رسام، تنبعج ملامح الوجه المهيبة تلك كل منها على حدة، واحدة بعد أخرى، مما يزيد من تنافُرِها مع جسده النحيف. وعلاوة على ذلك لم ينسَ نوغوتشي الابتسام، وعلامة على حماية نفسه دائمًا، لا يومئ موافقًا إلا في النادر. جَذَب ذلك التميُّز عَين كازو حتى وإن لم ترغب في ذلك، ولكن الذي لفت نظر كازو في أول لقاء لها به من النظرة الأولى هو اتساخ ضئيل جدًّا خلف ياقة قميصه الأبيض.

«يا للهول! هل يرتدي وزير سابق مثل هذا القميص؟ أما من أحد يعتني به؟»

أثار ذلك اهتمامها فأخذَتْ تنظر إلى ياقة قمصان باقي الضيوف من دون أن تثير الانتباه. كانت ياقات العجائز الأَنيقِين تتألق جميعها ناصعة البياض، وتقبض بصرامة على بشرتهم الذابلة.

كان نوغوتشي هو الوحيد الذي لم يتحدَّث عن الماضي. قبل أن يعود إلى وظيفته بوزارة الخارجية، تولَّى منصب سفير في دولة صغيرة، ولكن كانت تلك الحياة الباذخة بعيدة تمامًا عن اهتمامه. وربما كان عدم حديثه عن الماضي دليلًا على أنه الوحيد بينهم الذي لم يَمُت بعد.

بدأ السفير تاماكي الحديث مرة أخرى عن إحدى حفلات الماضي الليلية. كان حفلًا ليليًّا بالغ الفخامة أقامه القصر الملكي، تجمَّع تحت أضواء الثريا العظيمة، النبلاء من الأسر الملكية في أنحاء أوروبا. وكان ذلك الحفل يُعد معرضًا للأوسمة والنياشين والجواهر من جميع أنحاء أوروبا، وتحت انعكاسات المجوهرات الكثيفة العدد شحبت خدود النبيلات العجائز المليئة بالتجاعيد والبُقع مثل ورود بيضاء ذابلة.

ثم بعد ذلك تَطرَّق الحديث إلى الأوبرا في الماضي. فبدأ أحدهم يشرح بحماس روعة مشهد التمرد في أوبرا «لوسيا» لمغنية الأوبرا أمليتا غالي غورتشي. فأَصر شخص آخر على أن أمليتا تَخطَّت ذروة عطائها؛ ولذلك فإن دور لوسيا الذي شاهده هو للمغنية توتي دال مونتي أفضل بكثير.

وأخيرًا تحدث نوغوتشي قليل الكلام.

«لنتوقف عن الحديث عن الماضي. إننا ما زلنا شبابًا.»

قال نوغوتشي ذلك بمرح ولكن كانت نبْرَته بها اندفاع قوة جامحة فصَمَت الجمع تمامًا.

غزَت تلك الكلمة قلب كازو تمامًا. والأصل في مثل هذه الحالة أن تقول مالكة المطعم قولًا غبيًّا تنقذ به الموقف وتنهي الصمت، ولكن لشدة صواب كلمة نوغوتشي ولأنها تولَّت عنها قول ما كانت تحس به حقًّا، لدرجة نسيانها لموقفها وما يجب عليها فعله.

قالت كازو لنفسها: «إن هذا الرجل يستطيع قول ما يصعب قوله بطريقة رائعة».

وبكلمته تلك شحب بَهاء المكان، مثل مجمرة فحم رُشت بالماء، فلم ينبعث منها إلا الرماد الأسود الرطب. سعل عجوز من الحاضرين فمَرَّ صوت البلغم المؤلم الطويل الذي تَبِع السُّعَال بين صمت الجميع وهو يجر أذياله. ويُفهم من لون أعينهم جميعًا أنهم فَكَّروا للحظة في المستقبل، أي في الموت.

في تلك اللحظة انتشرت في الحديقة إضاءة القمر الباهرة. لفتت كازو انتباه الجميع إلى هذا الظهور المتأخر للقمر؛ ولأن خمر الساكي قد دار عليهم كثيرًا، فلم يُبدِ الرجال خوفًا من البرد وطلبوا أن يأخذوا جولة في الحديقة التي لم يتسنَّ لهم رؤيتها أثناء النهار. أصدرت كازو أوامرها إلى العاملات لِيُجهِّزن القناديل. وحتى العجوز الذي سعل وَضَع قناعًا أبيض كبيرًا على وجهه وخرج معهم خوفًا من أن يُترك وحيدًا.

كانت أعمدة قاعة المكتبة الوسطى دقيقة ورقيقة، وصُنعت حافة الدرابزين التي تصل إلى الحديقة صناعة رشيقة مع المعبد العتيق. حملت العاملات القناديل وأضَأْن المنطقة المحيطة بأقدام الضيوف حيث بحث كل منهم عن قبقاب الحديقة فوق عتبة المطعم الحجرية؛ لأن القمر الذي ظهر فوق الجزء الشرقي من السطح، جعل تلك المنطقة في ظلام حالك.

كان لا بأس من بقائهم فوق النجيلة الواسعة، ولكن عندما قال تاماكي لنذهب إلى الطريق التي خلف البركة، ندمت كازو على أنها لفتت انتباههم إلى قمر شهر نوفمبر. سقطت ظلال خمسة من الضيوف على النجيلة فبدت مضمحِلَّة جدًّا وكأن الهواجس تنتابها.

«إن هذا المكان خطر. انتبه إلى موضع قدمك.»

كلما حذَّرتْهم كازو بذلك القول، عانَد الضيوف الذين لا يعجبهم أن يُعامَلوا معاملة العجائز، وأرادوا الذهاب إلى طريق المنحَدَر باتجاه الغابة. هناك كانت ظلال القمر المتسرِّبة في منتهى الجمال، وأي شخص يخرج للتنزُّه ومُشاهدة القمر، ويأتي إلى البركة، يريد الذهاب إلى الطريق الخلفي للبركة وسط الأشجار.

اجتهدَت العاملات تحت إمرة كازو في إنارة ما يمكن أن يُسبِّب سهولة الانزلاق مثل الصخور الخطرة، وقِطَع الأشجار، والطحالب سهلة الانزلاق، وأخَبَرْن بها الضيوف بكل وُدٍّ ودماثة خُلق.

قالت كازو وهي تلف كُمَّي الكيمونو حول صدرها:

«إن الليل أصبح باردًا. مع أن اليوم كان دافئًا في النهار.»

كان نوغوتشي وقتها بجوارها، وبَدَا الزفير الذي يخرج من تحت شاربه أبيض تحت ضوء القمر. ولم يحاول أن يوافِقَها على كلامها بسهولة.

سارت كازو في المقدمة؛ لكي تَدلَّهُم على الطريق، وبدون وعي سبَقَتْهم أكثر من اللازم. تحرَّكت قناديل الناس خلْفَها بنشاط بالِغ تحت ظلال الغابة التي تحيط بالبركة، فانعكست أضواء تلك القناديل مع القمر على سطح البركة في منظر ممتع. وفي لمح البصر أصبحَتْ كازو نفسها مثل الأطفال أكثر استثارة من الرجال المتقاعدِين من الطبقة العليا. فصرخت بصوت عالٍ من الجهة المقابلة من البركة.

«إنه منظر جميل. انظروا إلى البِركة! انظروا إلى البركة!»

برزت ابتسامة على وجه نوغوتشي ثم قال لها:

«إنك تُصدِرِين صوتًا بكل هذا العلو! وكأنك طفلة صغيرة.»

انتهت نزهة الحديقة بسلام، وبعد أن عاد الجميع إلى المكتبة الوسطى، حدثت الكارثة.

زادت كازو من قوة المدفأة التي تعمل بالغاز بسبب حِرصها الكبير، وتجمَّع حول النار العجائز الذين بردت أجسامهم من ليل الخارج، كلٌّ مسترخٍ بالشكل الذي يهواه. وجاءت الفاكهة، ومعها الحلوى والشاي؛ ولأن تاماكي أصبح قليل الكلام، قلَّت الحيوية والضوضاء إلى النصف تقريبًا، وعندما جاء الوقت لكي يستعد الجميع للرحيل، ذهب تاماكي إلى المرحاض. وعندما نهض الجميع للرحيل أخيرًا، انتبَهوا إلى أن تاماكي لم يَعُد من المرحاض بَعْد. وقرر الجميع الانتظار قليلًا حتى يعود. ولكن كان الصمت في المكان ثقيلًا ولا يُطاق، وأصبح الخمسة رجال وكأنهم لديهم موضوع لا يريدون الحديث عنه.

وأخيرًا وقَعَت الأحاديث على تحدُّث كل واحد منهم على حدة عن حالته الصحية، وبدأ كل منهم يشتكي من كثرة البلغم، أو مَرَض المعِدة أو الضغط المنخفِض. وظل نوغوتشي بوجه متجهِّم لا يريد الاشتراك في مثل هذا الحديث.

نهض نوغوتشي وقال بنبرة هادئة:

«سأذهب لأتفقَّد الوضع.»

وكأن كازو حصلت على تلك الكلمة شجاعة النهوض، سبَقَته لكي ترشده إلى المكان. هرعت كازو مسرعة في الممَرِّ الذي صُقل ونُظِّف بعناية بالِغة. وعثَرَا على السفير تاماكي فاقدًا وعيه داخل المرحاض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤